إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} .

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: إن الإسلام دين الله القويم، والناسخ لما قبله من الأديان، فهو لم يجعل لأحد فضلاً على أحد إلا بالتقوى، وبما خص الله به بعض الأفراد من الخصائص، وذلك وفق الحكمة الإلهية، ولقد راعى وأعطى الإسلام كل ذي حق حقه، وأولى النساء بالعناية، ففي القرآن الكريم سورة سميت باسم امرأة ، وهي سورة مريم، والمجادلة والممتحنة، بل إنّ في القرآن سورة أطلق عليها اسم /سورة النساء.

 وقال نبي الإنسانية، وهادي البشرية، ومحطم الوثنية، :" إنما النساء شقائق الرجال".
وفي السنة المطهرة كتباً وأبواباً في ذكر النساء وما يتعلق بهن من أحكام، وما لهن من حقوق وواجبات، وما عليهن من حقوق وواجبات.
كل هذا يدل على عناية الإسلام بالمرأة، ورفعاً لقدرها، وصوناً لكرامتها وعرضها وعفتها.

ومن هذه الحقوق التي اعتنى بها الإسلام حق المرأة في الميراث، فهي له حق من الميراث، من زوجها، ومن أبيها وأمها، وممن تستحق الميراث منهم من أقاربها؛ بدليل قوله تعالى: {للرجال نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أكثر نصيباً مفروضاً}.

وقال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ }.
والآيات في ذلك كثيرة.

فالأنثى في الإسلام ثرت من القعار والدار، ومن المال النقدي والعيني، ومن المنقول والثابت، و لا فرق بينها وبين الرجل في وجوب إعطائها ما لها من الحقوق المالية وغير ذلك.
أيها الناس: إن مما يندى له الجبين، وتبكي القلوب قيل العيون، أن نرى كثيراً من المسلمين اليوم حرموا المرأة من حقها في الميراث، فلم يعطوها ما أعطاها الله من الحقوق، بل ربما زعم بعضهم أنه لو أعطاها حقها لكان عيباً على أفراد عشيرته وقبيلته، ولربما منعها حقها في هذا الأمر، وربما دعاها وحفزها وأرشدها إلى ما ليس لها، وهذا ما ينطبق على من يتكلون بألسنتنا، ومن بني جلدتنا، ويعيشون معنا، ويأكلون مما نأكل، ويشربون مما نشرب، من العلمانيين أصحاب الشهوات، الذين يريدون إقحام المرأة في العمل السياسي والوظيفي، واختلاطها بهم في جميع المؤسسات والمقرات والتجمعات، فهم يريدون هتك عرضها، وقتل حيائها، وإيقاعها فيما وقعت فيها تلك المرأة الغربية الفاجرة العاهرة، التي تعيش في شقاء ونكد وضيق، بل فهي تعيش  بلا حماية، بل إن الحيوان يعيش في وضع أفضل منها؛ لأن هناك أموال ومؤسسات وجمعيات توقف عليها، أما النساء فإذا مات أزواجهن أو طلقن فلا من يقف معهن ولا من يؤويهن.

 أما عند نحن المسلمين فهي تعيش مكرمة معظمة، وهي صغيرة يقوم الأب والأم برعايتها وكفالتها وتعليمها، وأما بعد بلوغها فيقوم الزوج برعايتها وكفايتها، وأما وهي أم فالابن كذلك يقوم بكفالتها وحمايتها، بل إن الإسلام حث المسلمين على رعاية الأرملة، وجعل كفالتها من الجهاد في سبيل الله.
فالمرأة في الإسلام بنتاً ، وهي أماً، وهي ربة بيت، وهي مجاهدة، و هي عالمة، وهي داعية.

عباد الله: إن حرمان الإناث من الميراث، بأي حجة أو بأي صورة يعد صفة من صفات الجاهلية الأولى، فقد جاء أن سبب نزول قوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} في أوس بن ثابت الأنصاري، توفي وترك امرأة يقال لها: أم كجة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما: سويد وعرفجة فأخذ ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئاً، وكانوا في الجاهلية لا يرثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكراً، ويقولون: لا يُعطى إلا من قاتل على ظهور الخيول، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة، فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهما فقالا: يا رسول الله! ولدها لا يركب فرساً، ولا يحمل كلاً، ولا يتكأ عدواً، فقال عليه الصلاة والسلام: " انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهنّ" فأنزل الله هذه الآية رداً عليهم، وإبطالاً لقولهم، وتصرفاتهم بجهلهم، فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار، لعدم تصرفهم والنظر في مصالحهم، فعكسوا الحكم، وأبطلوا الحكمة، فضلوا بأهوائهم، وأخطئوا في آرائهم وتصرفاتهم1.

 وقد جاء أن مناسبة تعقيب الآي السابقة بها: أنهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشداء بالأموال، وحرمان الضعفاء، وإبقاءهم عالة على أشدائهم، حتى يكونوا في مقادتهم، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم، وكان أكبر العائلة يحرم إخوته من الميراث معه، فكان أولئك بضعفهم يصبرون على الحرمان، ويقنعون بالعيش في ظلال أقاربهم؛ لأنهم إن نازعوهم أطردوهم وحرموهم، فصاروا عالة على الناس.

وأخص بذلك النساء فإنهن يجدن ضعفاً من أنفسهن، ويخشين عار الضيعة، ويتقين انحراف الأزواج، فيتخذن رضي أوليائهن، عدة لهن من حوادث الدهر، فلما أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيباً مما ترك الولدان والأقربون 2.

عباد الله: إن إيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم مما ترك الوالدان والأقربون، وذكر النساء هناك، أي في قوله تعالى: { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } (7) سورة النساء . تمهيداً لشرع الميراث، وقد تأيد ذلك بقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى } (8) سورة النساء، فإن ذلك يناسب الميراث، ولا يناسب إيتاء أموال اليتامى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم  من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً حمدا، والشكر له شكراً شكرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً  عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:

عباد الله: لا شك ولاريب أن من أهم شرائع الإسلام شريعة الميراث، فقد كان العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصية لعظماء القبائل، ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والود، ٍوكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض ما لهم بلا وصية تصرف لأبناء الميت  المذكور،  فإن لم يكن له ذكور فقد حكى أنهم يصرفونه إلى عصبته من إخوة وأبناء عم، ولا تعطى بناته شيئاً، أما الزوجات فكن مورثات لا وارثات.

وكانوا في الجاهلية لا يرثون بالنبوة إلا إذا كان الأبناء ذكوراً، فلا ميراث للنساء؛ لأنهم كانوا يقولون إنما يرث أموالنا من طاعن بالرمح، وضرب بالسيف، فإن لم تكن الأبناء الذكور ورث أقرب العصبة الأب، ثم الأخ ثم العم وهكذا.. فلما جاء الإسلام لم يقع في مكة تغيير الأحكام الميراث بين المسلمين لتعذر تنفيذ ما يخالف أحكام سكانها، ثم لما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكة صار التوريث بالهجرة، فالمهاجر يرث المهاجر وبالحلف، وبالمعاهدة، وبالأخوة التي آخاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، ونزل في ذلك قوله تعالى: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} الآية..

 وشرع الله وجوب الوصية للوالدين، والأقربين بآية سورة البقرة.
ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناءهم مؤمنين، فشرع الله الميراث بالقرابة، وجعل للنساء حظوظاً في ذلك، فأتم الكلمة، وأسبغ النعمة، وأومأ إلى حكمة الميراث، وصرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها.
عباد الله: لقد أشارت الآية الكريمة: ((ممّا قلّ منه أو كثر)) لتعميم ما ترك الوالدان والأقربون، وتنصيص على أن الحق متعلق بكل جزء من المال، حتى لا يستأثر بعضهم بشيء، وقد كان الرجل في الجاهلية يعطي أبناءه من ماله على قدر ميله كما أوصى نزار بن معَّد ابن عدنان لأبنائه: مضر، وربيعة، وإياد، وأنمار، فجعل لمضر الحمراء كلّها، وجعل لربيعة الفرس، وجعل لأياد الخادم، وجعل لأنمار الحمار، ووكلهم في إلحاق بقية ماله بهاته الأصناف إلى الأفعى الجرهمي في نجران، فانصرفوا إليه، فقسم بينهم، وهذا الذي أرسل المثل، إن العصا من العُصَيَّة.
وقوله: {نصيباً مفروضاً} أي مفروضاً من الله3.

اللهم! أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك واختم لنا في الشهادة في سبيلك، وارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وفي الآخرة جنة ونعيماً.
اللهم! اكشف الغمة، وأعل الهمة، وأدم علنيا النعمة، وانصر الأمة.
اللهم! وفقنا لتحكيم كتابك، وسنة نبيك، والعمل بهما في كل صغيرة وكبيرة.
ربنا! أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا! آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى صحابته الراشدين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

1- انظر الجامع للقرطبي 5/46.
2- التحرير والتنوير 4/247-248.
3 - انظر التحرير والتنوير 4/248-249.

المراجع

موسوعة امام المسجد

التصانيف

المعرفة