بيير جوزيف برودون Pierre Joseph Proudhon منظّر اشتراكي فرنسي ولد في مدينة بيزانسون بفرنسة في أسرة فقيرة، وقد استطاع في دراسته الأولية أن يحقق تفوقاً ملحوظاً، واضطرته الصعوبات المالية وهو في التاسعة عشرة من عمره إلى التخلي عن الدراسة الجامعية، وصار عاملاً في الطباعة. وقد أتاحت له هذه المهنة مجالاً واسعاً لتثقيف نفسه واكتساب اطّلاع واسع. قام بين سنتي 1829 و1834م بجولة في فرنسة، وأسس مع اثنين من أصدقائه مطبعة، ونشر كتاباً عام 1837م «دراسة في القواعد العامة» استحق عليه منحة من أكاديمية بيزانسون أتاحت له استكمال دراسته الجامعية في باريس. ودخل النشاط السياسي عام 1840م بمذكرته «ما الملكية؟» التي لم تسترعِ الانتباه في البداية مع تأكيده أن «الملكية هي السرقة»، وهي عبارة استخدمها بريسودي وأرفيل قبله بستين عاماً. ولم يكن برودون في أعماقه شيوعياً، بل كان يكتفي بأن يحل محل الملكية نوع من الحيازة المؤقتة، وقد أتبع مذكرته تلك مذكرة أخرى «إنذار إلى المالكين» أثارت اهتمام القضاء الذي لاحق برودون من دون أن يتوصل إلى إصدار حكم عليه (1842م).
اتصل برودون بالأوساط الاشتراكية في أوربة وسرعان ما صار من أبرز قادتها، وقامت علاقات ودية بينه وبين كارل ماركس، الذي كان شاباً غير ذائع الصيت، ثم انقلبت إلى عداء عنيف. في هذه المرحلة ترك برودون مطبعته التي تدهورت أحوالها المالية، وعمل في مشروع للمواصلات النهرية، ونشر عام 1843 مؤلفاً عن «خلق النظام في البشرية»، و«نظام التناقضات الاقتصادية» أو «فلسفة البؤس» عام (1846م)، وهذا ما استدعى في العام التالي رداً لاذعاً من ماركس هو «بؤس الفلسفة».
أدى برودون في ثورة عام 1848م دوراً ثانوياً وعرضياً، ومع ذلك فقد جعلت منه هذه الثورة شخصية سياسية من الدرجة الأولى، إذ استقر في باريس، وصارت له شعبية واسعة بفضل صحيفة «ممثل الشعب»، ونجح في الانتخابات العامة، ولكنه لم يلمع في الجمعية التشريعية لأن اقتراحه فرض تأميم جزئي على الإيجارات ورأس المال لم ينل إلا تأييد صوته. وانساق برودون مدة وجيزة مع تصريحات الأمير لويس نابليون عن الديمقراطية، ولم يلبث أن انقلب عليه، وجنت عليه مقالاته في صحيفته الجديدة «الشعب» فأغلقت أكثر من مرة، واضطر إلى تغيير اسمها أيضاً، وهذا ما أدى إلى الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات عام 1849م. أسس بعد ذلك «مصرف الشعب» الذي كان يفترض أن يعمل من دون رؤوس أموال عن طريق التبادل البسيط، ولم يتيسر لتجربته أن تؤتي ثمارها، ولم يحل هذا بينه وبين الزواج في العام 1849م نفسه من عاملة شابة باريسية، ولا أن ينشر في العام نفسه «اعترافات ثوري» وهو مؤلف يسرد فيه الأحداث التي شهدتها فرنسة، واتخذ مواقف مناوئة للوحدة الإيطالية والثورة البولندية، وبعد ذلك بثلاث سنوات نشر مؤلفاً هو «الفكرة العامة للثورة في القرن العشرين» يقدم فيه نظرة عامة شاملة عن مفهوماته السياسية والاقتصادية.
إنَّ انقلاب 4 كانون الأول عام 1851م الذي أعلن فيه نابليون نفسه امبراطوراً على فرنسة لم يفاجئ برودون، وبقي يراوده الأمل، مدة من الزمن، أن يتمكن من توجيهه لصالح «الثورة المحتومة» وسرعان ما انضم إلى المعارضة، وبعد سنوات موسومة بانتشار الكوليرا، وموت بناته وإصابته باضطرابات صحية جعلته في وضع عاجز عن «العمل والتفكير والكتابة»، نشر عام 1857م مؤلفاً عن «العدالة في الثورة وفي الكنيسة» وهو كتاب غير مألوف، تجتمع فيه كل مزايا برودون وعيوبه، ويتناول جميع المجالات: الاقتصاد والسياسة والفلسفة والتاريخ والأدب والقانون، وتسبب له هذا المؤلف بحكم جديد بالسجن لثلاث سنوات، آثر برودون أن يعيش في المنفى في بلجيكة لتفاديها.
عمل برودون بعناء وعناد للتحرر من البؤس وإطعام أولاده، فضاعف ما ينشره من الكتب والمنشورات، وبعضها مثل «الحرب والسلم» (عام 1861م) أثار ردود فعل انفعالية، وقد أُسيء فهم إحدى مقالاته، وثارت عليه الصحافة والرأي العام البلجيكيان، مما اضطره إلى العودة إلى باريس عام 1862م حيث نشر في العام التالي «عن المبدأ الاتحادي»، وهو مؤلف سيء التركيب والصياغة، وإن كان ذا أهمية أساسية لفهم تطور تفكيره. وتدهورت حالته الصحية نتيجة العمل المفرط الذي فرضه على نفسه، وأنجز عام 1865م مؤلفه «القدرة السياسية للطبقة العاملة»، ومات في العام نفسه مخلفاً عدة مؤلفات نشرت بعد وفاته منها: «نظرية الملكية» و«رسائل وكراسات»، وهي تعد وثائق لتتبع تطور شخصية بهذا الغنى وهذا التعقيد.
يعدّ برودون كاتباً أصيلاً، يعنى بالأسلوب، وتفكيره جدلي تكون بقراءة هيغل، واغتنى بمعارف اكتسبها من مطالعاته الشخصية. وهو من جهة أخرى سياسي واقتصادي وأخلاقي، مولع بالعدالة والحرية والمساواة، وهكذا فإنه كان يرى:
ـ حقَّ جميع الناس في العمل، لا تكفيراً عن خطيئة أصلية، بل ممارسة للذكاء والحرية.
ـ المساواة في ذكاء الأفراد، ومن ثم ضرورة تسوية شؤون الحياة في جميع المجالات، فالإنجيل أرسى مبدأ المساواة أمام الإله، والقرنان السابع عشر والثامن عشر فتحا أبواب المساواة أمام المعرفة، وثورة 1789م أقامت المساواة أمام القانون، وينبغي الآن الحصول على المساواة الاقتصادية.
وبرودون مولع بالحرية يكافح الإكراه في جميع صوره:
أ ـ مكافحة الكنيسة (الإكراه الروحي) التي تؤجل تحرير الإنسان إلى عالم آخر.
ب ـ مكافحة رأس المال (الإكراه المادي) الذي يتيح بسط السيطرة على الجماهير.
حـ مكافحة الدولة (الإكراه السياسي)، وزوال الدولة في نظره هو النتيجة المنطقية للثورة، عندئذٍ يمكن أن يقوم مجتمع أفضل، مجتمع اقتصادي يقوم على العقد فقط، ويبدو أن برودون لم يدرك جيداً المسألة الحديثة للبروليتارية، فكان يحلم باتحاد من المالكين الصغار يتبادلون فيما بينهم عن طريق مصرف الشعب. والنظام الأخلاقي والسياسي والاقتصادي يجد أساسه لدى برودون في نوع من الحدس المباشر للوجدان، يحس كل فرد عن طريقه بأنه متضامن مع الجميع ومرتبط بالمجتمع الذي لا أثر له إلا تنمية الحرية الفردية وتفتيحها.
وهو من دعاة «الفوضوية» وكانت نظرياته أساساً لنظريات فوضوية كثيرة، وبعض أفكاره ترددت شعارات في حركات التمرد الطلابية في فرنسة عام 1968م.
كمال غالي
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث