الفصل الخامِس
التصوف والإلحاد
يلتقي الدين والفلسفة في أعلى درجاتهما في معنى وحدة الكون وفي تأمل هذه الوحدة. والنفس حين لا تسلك طريق البحث على منهاج العقل والمنطق، وحين تعجز عن الانتقال من الكثرة إلى الوحدة، ومن الحادث الفرد إلى القانون العام، قد يكون في وسعها أن تصل إلى هذه الرؤيا عن طريق اندماج النفس الفردية وتلاشيها في النفس الكلية. وحيث عجز العلم وعجزت الفلسفة، وحيث يرتد عقل الإنسان القاصر المحدود أمام اللانهائية خاسئاً وهو حسير، فإن الإيمان قد يسمو بالإنسان إلى ما بين عرش الله إذا أخذ نفسه بنظام صارم من الزهد، والتقشف، والتفاني في العبادة، والتجرد من كل رغبة أنانية، وإفناء الجزء في الكل إفناءً كاملاً.
ويرجع التصوف الإسلامي إلى أصول كثيرة: منها نزعة الزهد عند الفقراء الهندوس، وغنوطسية ومصر والشام، وبحوث الأفلاطونية الجديدة عند اليونان المتأخرين، وتأثير الرهبان المسيحيين الزاهدين المنتشرين في جميع بلاد المسلمين وقد وجدت في العالم الإسلامي، كما وجدت في العلم المسيحي، أقلية تقية تعارض في تكييف الدين حسب وسائل العالم الاقتصادي ومصالحه؛ فكانوا ينددون بترف الخلفاء، والوزراء، والتجار، ويدعون المسلمين أن يعودوا إلى بساطة أبي بكر وعمر بن الخطاب. وكانوا يرفضون فكرة وجود وسيط أياً كان بينهم وبين الله؛ وحتى فروض الصلاة الصارمة نفسها كانت تبدو لهم عقبة تحول بينهم وبين تلك المرتبة التي تسمو فيها الروح بعد أن تتطهر من جميع مشاغلها الدنيوية حتى تشاهد ذات الله العلية. فإذا سمت فوق هذه المرتبة استطاعت أن تتحد
صفحة رقم : 4645
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> التصوف والإلحاد
مع ذات الله نفسها. وازدهرت حركة التصوف في بلاد الفرس بنوع خاص ولعل سبب ازدهارها فيها فربها من بلاد الهند، كما ازدهرت في جنديسابور بتأثير الديانة المسيحية وتقاليد الأفلاطونية الجديدة التي وضعها فلاسفة اليونان بعد أن فروا من أثينة إلى فارس في عام 529. وكلمة صوفي التي تطلق على معظم الزهاد المسلمين مشتقة من ثياب الصوف البسيطة التي كانوا يرتدونها . وكانت طوائف الصوفية تضم كثيرين من المؤمنين بمبادئها المتحمسين لها، ومن كبار الشعراء، والقائلين بوحدة الوجود، والزهاد، والمشعوذين، والكثيري الزوجات. وكانت مبادئهم تختلف باختلاف الأوقات والبيئات؛ ويقول ابن رشد إن الصوفيين يعتقدون أن معرفة الله مستقرة في قلوبنا، بعد أن نتخلى عن الشهوات الجسمية والانقطاع إلى الله(78). ولكن كثيرين من الصوفيين حاولا أن يصلوا إلى الله عن طريق الأشياء الخارجية أيضاً، فقالوا أن كل ما نراه في العالم من كمال وجمال سببه حلول الله فيه. ويقول أحد الصوفية إنه لا يسمع صوت الحيوان، أو حفيف أوراق الشجر، أو خرير الماء، أو تغريد الطير، أو هبوب الريح، إلا أحس أنها كلها شواهد على وحدانيتهِ وأنه سبحانه لا شبيه له(79).
والحق أن الصوفي يعتقد أن هذه الأشياء المتفرقة إنما توجد بما فيها من القوة الإلهية، وأنها إنما وجدت لما هو كامن فيها من روح الله. وعلى هذا فالله هو كل شيء، وهم لهذا لا يكتفون بالقول بأنه لا إله إلا الله، بل يضيفون إلى هذا أنه لا موجود بحق سواه(80). وعلى هذا فكل نفس هي الله؛ والصوفي الكامل يجهر في غير مواربة بأنه "هو نفس الذات الإلهية". ويقول أبو زيد (حوالي عام 900): "إني أنا الله لا إله إلا أنا فأعبدني" . ويقول الحسين
صفحة رقم : 4646
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> التصوف والإلحاد
ابن منصور الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرتـــه وإذا أبصرته أبصرتنا
إني مغرق قوم نوح ومهلك عاد وثمود... أنا الحق
وقُبض على الحلاج لمغالاتهِ في عقيدتهِ الصوفية، وضُرب مائة سوط وألقي به في النار حتى مات (922). ويدعي أتباعه أنهم شاهدوه وتحدثوا إليه بعد أن خمدت أنفاسهُ على هذا النحو إلى حين، واتخذه كثيرون من الصوفية وليهم وحاميهم.
ويعتقد الصوفي كما يعتقد الهندوسي أن نظاماً صارماً من التطهير لا بد منه لكي ينكشف عنه الغطاء ويرقى إلى عالم الفيض والإلهام. والتطهير يكون بضروب من التفاني في الطاعات، والتأمل والنظر والتدبر، والصلاة، وإطاعة المريد لأستاذهِ الصوفي أو معلمهِ، والتجرد الكامل من جميع الشهوات البدنية، بما فيها التجرد من شهوة النجاة، والاتحاد الصوفي مع الله. والصوفي الكامل يحب الله لذاتهِ لا رغبةً في ثواب ولا خوفاً من عقاب. وفي ذلك يقول أبو القاسم إن المعطي خير من العطية(83). والصوفي عادةً يتخذ هذا النظام وسيلة يصل بها إلى معرفة الأشياء معرفة حقيقية، ومنهم من يتخذه نهجاً يرتفع بهِ إلى درجة من الكرامة تجعل له سلطاناً على الطبيعة، ولكنه يكاد يكون على الدوام سبيلاً إلى الاتحاد مع ذات الله. ومن فنيت نفسه فناءً تاماً في هذا الاتحاد يسمى عندهم الإنسان الكامل(84). ويعتقد الصوفية أن من وصل إلى هذه المرتبة أصبح فوق كل القوانين، وغير ملزم حتى بأداء فريضة الحج. وفي ذلك يقول أحد المتصوفة
صفحة رقم : 4647
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> التصوف والإلحاد
إن كل العيون تتجه نحو الكعبة أما عيوننا فتتجه نحو وجه الحبيب(85).
وظل الصوفية يعيشون في الدنيا كسائر الناس حتى منتصف القرن الحادي عشر، وكانوا أحياناً يعيشون مع أسرهم وأبنائهم. بل إنهم كانوا لا يرون للعزوبة قيمة كبرى من الناحية الأخلاقية. وفي ذلك يقول أبو سعيد إن الولي الحقيقي يسير بين الناس، ويأكل وينام معهم، ويشتري ويبيع في الأسواق، ويتزوج، ويشترك مع الناس في مجالسهم، ولا ينسى الله لحظة واحدة(86).
ولم يكن هؤلاء الصوفية يمتازون عن غيرهم بشيء سوى بساطة حياتهم، وتقواهم وخشوعهم، وهم يشبهون من هذه الناحية طائفة الكويكرين المسيحيين. وكانوا من حين إلى حين يجتمعون حول شيخ من الأتقياء الصالحين أو يجتمعون جماعات للصلاة والدعوة المتبادلة إلى التقى والصلاح. وقد بدأت منذ القرن العاشر مجالس الذكر التي أصبح لها شأن عظيم عند الصوفية المتأخرين. ومنهم عدد قليل اعتزلوا العالم وعذبوا أنفسهم، وإن كان الزهد في ذلك الوقت من الأمور النادرة، وكان يلقى كثيراً من المقاومة. وكثر الأولياء من بين الصوفية بعد أن لم يكن لهم وجود في بداية الإسلام. ومن أوائل هؤلاء رابعة العدوية من أهل البصرة (717-801). وكانت في شبابها جارية اشتريت بالمال ولكن سيدها أعتقها لأنه شاهد هالة من النور فوق رأسها وهي قائمة للصلاة. وأبت رابعة أن تتزوج وعاشت عيشة الزهد، وإنكار الذات، وفعل الخير. وسئلت في يوم من الأيام "هل تكرهين الشيطان؟"، فأجابت: "إن حبي لله قد منعني من الاشتغال بكراهية الشيطان". ومما يروى عنها تلك المناجاة الصوفية الذائعة الصيت: "إلهي! إن كنتُ عبدتكَ خوف النار فاحرقني بالنار، أو طمعاً في الجنة فحرّمها عليَّ، وإن كنتُ لا أعبدكَ إلا من أجلكَ فلا تحرمني
صفحة رقم : 4648
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> التصوف والإلحاد
من شاهدة وجهكَ؛ إلهي! كل ما قدرَّتهُ لي من خير في هذه الدنيا أعطه لأعدائكَ، وكل ما قدرته لي في الجنة امنحه لأصدقائكَ، لأني لا أسعى إلا إليكَ وحدكَ" .
ولنختر من بين الصوفية وهم كثيرون واحداً من الأولياء الصالحين هو الشاعر أبو سعيد بن أبي الخير (967-1049). ولد هذا الرجل في ميهنة من أعمال خراسان واتصل بابن سينا؛ ويروى عنه أنه قال في هذا الفيلسوف إن ما يراه ابن سينا يعرفه هو(88). وقد أولع في صباه بالأدب البذيء، ويقول عن نفسهِ إنه حفظ عن ظهر قلب ثلاثين ألف بيت لشعراء الجاهلية. ولما بلغ السادسة والعشرين من عمرهِ سمع في يوم من الأيام درساً لأبي عليّ يدور حول قوله تعالى "قل الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون". ويقول أبو سعيد إنه ما كاد يسمع هذه الآية حتى فُتح في قلبهِ باب الإيمان وكأنما انتزع من نفسهِ فجمع كتبهُ كلها وأحرقها ثم آوى إلى ركن في بيتهِ، وجلس فيهِ سبع سنين يذكر فيها اسم الله. ولقد كان تكرار لفظ الجلالة عند الصوفية المسلمين سبيلاً محببة إلى "الفناء" ويقصدون بهِ انتقال الصوفي عن نفسهِ في حال وجده. وزاد أبو سعيد على هذا عدة أساليب من الزهد والتقشف، فلم يلبس إلا قميصاً واحداً، ولم يتكلم إلا عند الضرورة القصوى، ولم يذق الطعام إلا وقت الغروب. ولم يكن طعامهُ إلا كسرة من الخبز، ولم يرقد على فراش لينام، وحفر في جدار بيتهِ حفرة، لا تزيد حين يقف فيها على طولهِ وعرضهِ، وكثيراً ما كان يحبس نفسهُ فيها. ويسد أذنيه لكيلا تصل إليهما أصوات من الخارج. وكان في بعض الليالي يربط نفسه بحبل ويتدلى برأسهِ في بئر، ويتلو القرآن كله قبل أن يخرج إلى سطح الأرض-هذا إذا صدقنا قول أبيه عنه. وقد عكف على خدمة غيره من الصوفية، فكان يتسول لهم، وينظف
صفحة رقم : 4649
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> التصوف والإلحاد
لهم خلواتهم وفضلاتهم. ويقول عن نفسهِ إن امرأة صعدت إلى سقف المسجد وهو فيه وألقت عليه الأقذار، ولكنه مع ذلك ظل يسمع صوتاً يناديه "أليس الله بكافٍ عبدهُ؟". ولما بلغ الأربعين من عمرهِ وصل إلى مرتبة الإشراف الكامل وبدا يخطب الناس، والتف حوله كثيرون من الأتقياء المخلصين، ويؤكد لنا هو أن بعض مستمعيه كانوا يلطخون وجوههم بروث حماره لتحل عليهم بركته(89). وقد ترك أثره في التصوف بأن أنشأ خانقاه للدراويش ووضع لها طائفة من قواعد جعلتها نموذجاً لأبناء الطائفة في القرن الذي بعده.
وكان أبو سعيد يعلم الناس، كما علمهم القديس أوغسطين، أن رحمة الله، لا أعمال العبد الصالحة، هي سبيل النجاة؛ ولكنه كان يعني بالنجاة، التحرر الروحي، ولم يفهمها على أنها دخول الجنة، ويقول إن الله يفتح للإنسان باباً بعد باب التوبة ثم يأتي بعدها باب اليقين فإذا بلغه تقبل السباب والتحقير وعلم علم اليقين مصدره... ثم يفتح له الله بعدئذ باب الحب، ولكنه لا ينفك يقول في نفسهِ "أحب"... ثم يفتح له باب التوحيد... وعنده يدرك أن الله كل شيء منه وإليه... ويعرف أنه غير محق في قوله "أنا" أو "لي"... لأن الرغبات تتساقط عنه فيتخلى عنها ويهدأ باله... لأن الإنسان لا يفر من نفسهِ إلا إذا قتلها. إن نفسكَ تبعدك عن الله، وتقول إن فلاناً وفلاناً يتوعداني في الشر... وهذا قد أحسن إليَّ-كل هذا شرك بالله، فليس شيء يعتمد على المخلوقات، بل يعتمد كل شيء على الخالق. إن عليكَ أن تعرف هذا، فإذا قلته فاثبت عليهِ... والثبات معناه أنكَ إذا قلتَ "واحداً" فلا تقل "اثنين" أبداً... قل الله واثبت على هذا القول(90).
وتظهر هذه العقيدة الهندية-الإمرسونية في بعض الأقوال المنسوبة
صفحة رقم : 4650
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> التصوف والإلحاد
إلى أبي سعيد وإن كانت نسبتها إليه مشكوكاً فيها!
وسألته: "لمن يكون جمالك؟" فقال: "لي" لأنه لا موجود سواي؛ أنا الحب، والمحبوب، والحب كلها في واحد، أنا الجمال، والمرأة، والعينان اللتان تريان(91).
وإذا لم يكن عند المسلمين، كما كان عند المسيحيين، كهانة تثبت لهؤلاء الأبطال الصالحين قداستهم، فقد خلع عليهم الشعب نفسه هذه القداسة، ولم يحلّ القرن الثاني عشر الميلادي حتى غلبت عواطف الشعب الطبيعية، ما نهى عنه الدين من تقديس الأولياء الصالحين واعتبار هذا التقديس ضرباً من الوثنية. وكان من أوائل هؤلاء الأولياء الصالحين إبراهيم ابن أدهم (القرن الثامن؟)، وهو الذي يسميه لي هنت Leigh Hunt في قصيدة له مشهورة أبو أبن أدهم Abou Ben Adhem. ويغزو خيال العامة إلى هؤلاء الأولياء قوى خارقة فيقولون إنهم قد كُشف عن أعينهم الغطاء فأصبحوا يرون ما لا يراه عامة الناس، ويقرؤون الأفكار، ويتبادلون الخواطر والمشاعر مع الناس، بل إنهم يبالغون في مقدرتهم فيقولون إن في وسعهم أن يبتلعوا النار والزجاج دون أن يصيبهم في ذلك أذى، وأن يخترقوا النيران من غير أن يحترقوا بها، وأن يمشوا على الماء، ويطيرون في الهواء، ويجتازوا المسافات الشاسعة في غمضة عين. ويروي أبو سعيد حالات من قراءة الأفكار لا تقل غرابة عن أغرب ما يروى من نوعها في هذه الأيام(92). وهكذا يحدث على توالي الأيام أن الدين الذي يظن بعض الفلاسفة أنه من صنع القساوسة والكهان، يتشكل ثم يتشكل بتأثير حاجات الناس وعواطفهم وخيالهم، حتى يصبح التوحيد الذي يجئ به الأنبياء ثم يكون هو بعينه الشرك الذي يعتقده عامة الشعب.
وقبل المسلمون من أهل السنة الصوفية في حظيرة الدين الإسلامي، وأفسحوا
صفحة رقم : 4651
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> التصوف والإلحاد
لهم مجالاً كبيراً في عقائدهم وأقوالهم. ولكن هذه الخطة الحكيمة لم تمتد إلى الطوائف المارقة التي تخفي ستار العقائد الدينية آراء سياسية ثورية، أو تدعوا إلى الفوضى الأخلاقية والقانونية. وبين هذه الطوائف الثورية التي مزجت في عقائدها الدين بالسياسة طائفة "الإسماعيلية". ويذكر القارئ ما قلناه قبل من أن الشيعة يقولون إن على رأس كل جيل من أبناء علي إلى الجيل الثاني عشر إماماً أو زعيماً، وإن هذا الإمام يختار من يخلفه في هذه الزعامة. وعلى هذا الأساس عين الإمام السادس جعفر الصادق ابنه إسماعيل خليفة له من بعده. ويقال إن إسماعيل هذا أدمن الخمر، فخلعه جعفر عن الإمامة وأختار بدله موسى الإمام السابع (حوالي عام 760). ورأى بعض الشيعة أن بيعة إسماعيل لا يجوز نقضها وقالوا إنه هو أو ابنه محمد هو الإمام السابع وآخر الأئمة. وظلت طائفة "الإسماعيلية" هذه نحو مائة سنة قليلة الخطر لا يؤبه بها، حتى تزعمها عبد الله بن ميمون القداح وأرسل المبشرين يدعون إلى عقيدة الطائفة في بلاد الإسلام. وكان يطلب إلى المبتدأ قبل الدخول إلى الطائفة أن يقسم بألا يفشي شيئاً من أسرارها، وأن يطع الزعيم الأكبر للطائفة في كل ما يأمره به. وكانت تعاليمهم قسمين أحدهما باطني وآخر ظاهري. وكان يقال لمن يدخل في مذهبهم إنه بعد أن يمر بتسعة مراحل ترفع عنه جميع الحجب، وينكشف له التعليم أو العقيدة الخفية (الله هو كل شيء) فيصبح فوق كل عقيدة وكل قانون. وفي المرتبة الثامنة يقال له إن الكائن الأعلى لا يمكن أن يعرف عنه شيء، وإن أحداً لا يستطيع أن يعبده(93)؛ وقد انظم إلى الطائفة الإسماعيلية كثيرون من فلول الحركات الشيوعية، دفعهم إلى هذا ما تقول به من أن مهدياً سيظهر في وقت من الأوقات، ويبسط على الأرض عهداً من المساواة، العدالة، والحب الأخوي. وقد أوضحت هذه الطائفة الأخوية العجيبة قوة ذات شأن عظيم في الإسلام سيطرت في وقت من الأوقات على شمالي إفريقية ومصر، وأسست الخلافة الفاطمية، وقامت في أواخر
صفحة رقم : 4652
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> التصوف والإلحاد
القرن التاسع بحركة كادت تقضي على الخلافة العباسية.
ولما مات عبد الله القداح في عام 874 تولى زعامة الإسماعيلية فلاح عراقي اشتهر باسم حمدان قرمط، وبعث فيها من النشاط ما جعل الناس في آسية يسمون أتباعها في وقت من الأوقات بالقرامطة نسبة إليه. وكان يرمي إلى القضاء على قوة العرب، وإعادة الدولة الفارسية؛ وضم إليه خفية آلافاً من المؤيدين، والأعوان، وفرض عليهم أن يخرجوا من خمس أملاكهم ليصبح ملكاً عاماً للجماعة. ودخل للمرة الثانية عنصر من عناصر الثورة الاجتماعية في تلك الحركة التي كانت في ظاهر أمرها نوعاً من الصوفية الدينية. فكان القرامطة يقولون بشيوعية الملك والنساء(94)، وقد نظموا العمال في طوائف للحرف، ونادوا بالمساواة بين كافة الناس، وأخذوا يفسرون القرآن تفسيراً مجازياً لا يتقيدون فيه بأقوال أهل السنة. وكانوا يتحللون من الشعائر الدينية ومن الصيام، ويسخرون من البلهاء الذين يعبدون الأضرحة والحجارة(95). وبلغ من أمرهم أن أقاموا في عام 899 دولة مستقلة على الشاطئ الغربي للخليج الفارسي، وهزموا جيش الخليفة في عام 900، وأفنوه عن آخره، ولم ينج من القتل جندي واحد. وفي عام 902 اجتاحوا بلاد الشام ووصلوا إلى أبواب دمشق، وفي عام 924 نهبوا البصرة ثم الكوفة؛ وفي عام 930 نهبوا مكة نفسها، وقتلوا ثلاثين ألفاً من المسلمين، وعادوا بكثير من الغنائم، منها كسوة الكعبة، والحجر الأسود . غير أن هذا الغلو وهذه الانتصارات استنفذت قوة تلك الحركة؛ واتحد الناس لمقاومة دعوتها التي كانت تهدد الملك والنظام العام؛ ولكن مبادئها وأساليبها العنيفة انتقلت في القرن التالي إلى إسماعيلية ألموَت ، وهم المعروفون بالحشاشين.
صفحة رقم : 4653
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
الفصل السَّادِس
الأدب
لقد كان في الحياة والدين في الإسلام مواقف أشبه ما تكون بالمسرحيات، أما الأدب الإسلامي فقد خلا من هذا الصنف من صنوف الكتابة، وهو صنف يبدو أنه غريب على العقلية السامية، كذلك خلا ذلك الأدب كما خلا غيره من آداب العصور الوسطى من الروايات القصصية؛ فقد كان معظم الكتابات مما يستمع إليه الناس لا مما يقرؤون وهم صامتون، ولم يكن في وسع من يهتمون بنتاج الخيال أن يرقوا إلى الدرجة التي يستطيعون أن يركزوا فيها عقولهم ذلك التركيز الذي لا بد منه لكتابة القصة المعقدة المتصلة بالحلقات. أما القصص القصيرة فكانت قديمة قدم الإسلام نفسه أو قدم آدم أبي البشر، وكان أكثر المسلمين سذاجة ينصتون إليها في حماسة الأطفال وتشوقهم، أما العلماء فلم يكونوا يحسبونها أدباً، وكانت أشهر هذه القصص القصيرة قصص بيدبا، وقصص ألف ليلة وليلة. وقد نقلت القصص الأولى من الهند إلى فارس في القرن السادس، وترجمت إلى اللغة الفهلوية، ومنها ترجمت إلى اللغة العربية في القرن الثامن. م فقد أصلها السنسكريتي، وبقيت الترجمة العربية، ومنها نقلت إلى ما يقرب من أربعين لغة أخرى.
يحدثنا المسعودي (المتوفى عام 597) في مروج الذهب عن كتاب فارسي يدعى هزاز أفسانة أو ألف قصة وعن ترجمته العربية ألف ليلة وليلة؛ وهذه على ما نعلم أول مرة ذكر فيها كتاب ألف ليلة وليلة. وخطة الكتاب كما يصفها المسعودي هي الخطة التي نجها في كتاب ألف ليلة وليلة العربي. وكان هذا
صفحة رقم : 4654
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
الإطار المحتوي على سلسلة من القصص معروفاً من قديم الزمن في بلاد الهند، وكان عدد كبير من هذه القصص متداولاً في العالم الشرقي، ولربما كانت كل مجموعة منها تختلف في محتوياتها عن غيرها من المجموعات، ولسنا واثقين أن أية قصة في المجموعة المعروفة لنا الآن كانت من القصص التي تحتويها المجموعة التي يحدثنا عنها المسعودي. وحدث بعد سنين قلائل من عام 1700 أن أرسل مخطوط غير كامل، لا يمكن تتبع تاريخه إلى ما قبل عام 1536، من بلاد الشام إلى المستشرق الفرنسي أنطوان جالان Antoine Galland، وافتتن هذا المستشرق بخيال القصص الغريب، وبما فيها من وصف لحياة المسلمين الداخلية، ولعله افتتن أيضاً بما فيها من بذاءة، فأصدر في باريس عام 1704 أولى تراجمها إلى اللغات الأوربية Les mille et une nuits. ونجح الكتاب نجاحاً فوق ما كان يتوقع له، وترجم إلى جميع اللغات الأوربية، وشرع أطفال جميع الأمم يتحدثون عن السندباد البحري، وعن مصباح علاء الدين، وعن علي بابا واللصوص الأربعين. وخرافات بيدبا، وقصص ألف ليلة أكثر ما يقرأه الناس من الكتب في العالم كله إذا استثنينا الكتاب المقدس (وهو أيضاً كتاب شرقي) .
والنثر الأدبي في الكتب الإسلامية صورة من الشعر. ذلك أن المزاج العربي ينزع إلى الشعور القوي، والآداب الفارسية تميل إلى الكلام المزخرف، واللغة العربية التي كانت في الوقت الذي نتحدث عنه يتكلم بها أهل البلدين تدعو إلى جعل النثر مقفى لتشابه أواخر الألفاظ طوعاً لقواعد الصرف؛ ولهذا فإن النثر الأدبي كثيراً ما يكون مسجوعاً؛ وكان الوعاظ، والخطباء، والقصاصون، يلجأون إلى النثر المسجع، وبهذا كتب بديع الزمان الهمذاني (المتوفى عام 1008) مقاماته-وهي قصص كان يرويها لجماعات مختلفة عن وغد
صفحة رقم : 4655
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
أفاق أوتي من الذكاء الفكاهة أكثر مما أوتي من الأخلاق الطيبة. وكانت عقول أهل الشرق الأدنى في ذلك الوقت تتأثر بما يصل إليها عن طريق الأذن، شأنهم في هذا شأن جميع الناس قبل اختراع الطباعة، وكان الأدب عند معظم المسلمين لا يعدو أن يكون قصيدة تنشد أو قصة تروى؛ وكانت القصائد تُكتب لكي تُقرأ بصوتٍ عالٍ أو تُغنى، وكان كل شخص في بلاد الإسلام من الخليفة إلى الفلاح يطرب لسماعها. وقلما كان هناك شخص لا يقرض الشعر-كما كانت الحال عند طبقة السموراي في بلاد اليابان. وكان من ضروب التسلية العامة لدى الطبقات المتعلمة أن يكمل شخص بيتاً من الشعر بدأه غيره، أو يتم مقطوعة بدأها زميله، أو ينافس مناظراً له في ارتجال مقطوعة غنائية أو نكتة شعرية. وكان الشعراء ينافس بعضهم بعضاً في ابتداع ضروب معقدة من الأوزان والقوافي، وكان كثيرون منهم يقفون أواسط الأبيات الشعرية وأواخرها، وكثرت ضروب الأوزان والقوافي في الشعر العربي وكان لها بالغ الأثر في نشأة القافية في الشعر الأوربي.
ولم تضارع حضارة من الحضارات ولم يضارع عصر من العصور-لا نستثني من هذا التعميم حضارة الصين في أيام لي بو، ودوفو، ولا حضارة فيمار Veimar حين كان فيها "مائة مواطن وعشرة آلاف شاعر"-الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية في عدد شعرائها وتراثهم. وقد جمع أبو الفرج الأصفهاني (897-967) في أواخر ذلك العصر كثيراً من أشعارهم في كتاب الأغاني. وحسبنا دليلاً على غنى الشعر العربي وتنوعه أن نعرف أن هذا الكتاب يتكون من عشرين مجلداً. وكان الشعراء ينشرون الدعايات المختلفة، والناس يخشون هجومهم اللاذع، والأغنياء يبتاعون مديحهم بيتاً بيتاً، والخلفاء يجزون الشعراء بالمناصب العالية وينفحونهم بالهبات السخية إذا قالوا فيهم قصائد من الشعر أو مجدوا أعمالهم أو مدحوا قبائلهم. ويحكى أن هشاماً أراد مرة أن
صفحة رقم : 4656
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
يتذكر قصيدة من القصائد فأرسل في طلب حماد الشاعر الراوية، وكان من حظهِ أنه يذكر القصيدة بأكملها، فلما أنشدها لهشام أجازه بجاريتين وبخمسين ألف دينار(97)، وأكبر ظننا أن أحداً من شعراء هذه الأيام لن يصدق هذه القصة. وبعد أن كان الشعر العربي ينشد لبدو الصحراء، أضحى الآن يوجه إلى قصور الخلفاء ورجال حاشيتهم، وأصبح الكثير منه متكلفاً، أكثر ما يعنى به هو الشكل، شديد التأنق إلى حد التفاهة، كثير المجاملة خالياً من الإخلاص؛ ولهذا نشبت معركة بين أنصار القديم وبين أنصار الحديث، وأخذ النقاد يشكون وهم متألمون قائلين إنه لم يوجد شعراء عظماء إلا قبل عهد النبوة(98).
والحب والحرب أكثر مواءمة للشعر من الموضوعات الدينية، وقلما كان شعر العرب صوفي النزعة (وإن كان هذا الحكم لا يصدق على شعر الفرس)؛ فقد كان الشاعر العربي يفضل أناشيد القتال، والعاطفة، والانفعالات النفسية؛ ولما أن اختتم قرن الفتوح الإسلامية أخذ الشعراء يستمدون وحيهم من النساء أكثر مما يستمدونه من الموضوعات الحربية والدينية، وأخذ شعراء الإسلام يصفون مفاتن المرأة-شعرها العطر، وعينيها الشبيهتين بالدرتين، وشفتيها القرمزيتين، وأطرافها الفضية؛ وظهرت في الصحراوات وفي المدينتين المقدستين القصائد الغنائية؛ وأصبح الأدب في عرف الفلاسفة والشعراء يعني أدب الحب وسلوك المحبين. وانتقل هذا المعنى عن طريق مصر وإفريقية إلى صقلية وأسبانيا، ومنهما إلى إيطاليا وبروفانس Provence في فرنسا، وانطلقت الألسن وجادت القرائح بالشعر الموزون المقفى.
واشتهر الحسن بن هانئ باس أبي نواس-لغدائره التي كانت تنوس على كتفيهِ. وكان مولده في بلاد الفرس، ثم رحل إلى بغداد، ونال الحظوة عند الخليفة الرشيد، ولعله اشترك معه في واحدة أو اثنتين من المغامرات التي تعزى إليهما في كتاب ألف ليلة وليلة. وكان أبو نواس مولعاً بالخمر والنساء والغناء.
صفحة رقم : 4657
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
وكثيراً ما أغضب الخليفة بإدمانهِ الخمر جهرة، وبزندقتهِ ودعارتهِ؛ كثيراً ما سجنه ثم أطلقه، وتاب أبو نواس شيئاً فشيئاً واستمسك آخر الأمر بأهداب الفضيلة، وانتهى بأن كان يحمل المسبحة والقرآن معه أينما سار. ولكن أكثر ما كانت تحبه مجامع العاصمة هو أغانيه التي وصف فيها الخمر والفساد:
يا سليمان! غنني ومن الراح فاسقني
فإذا ما دارت الزجا جة خذها واعطني
ما ترى الصبح قد بدا في إزار مُبَيّي
عاطني كأس سلوة عن أذان المؤذن
تكثر ما استطعت من الخطايا فإنك بالغ رباً غفوراً
ستبصر إن قدمت عليه عفواً وتلقى سيداً ملكاً كبيراً
تعض ندامة كفيك مما تركت مخافة النار السرورا
وكان في بلاط صغار الأمراء والسلاطين أيضاً شعراؤهم-فكان في بلاط سيف الدولة شاعر لا تكاد تعرف عنه أوربا شيئاً، ولكن العرب يحسبونه خير شعرائهم على الإطلاق. واسم هذا الشاعر أحمد بن الحسين، ولكنه يشتهر عند المسلمين باسم المتنبي-أي مدعي النبوة. وقد ولد هذا الشاعر في الكوفة عام 915، وتلقى العلم في دمشق، ثم أدعى النبوة، فقبض عليه وأطلق بعدئذ سراحه، أقام في بلاط أمير حلب. وكان كأبي نواس مستهتراً بالدين لا يصوم ولا يصلي ولا يقرأ القرآن(101)، ومع أنه لم يكن يرى أن الحياة ترقى إلى المستوى اللائق بهِ، فإنه كان يستمتع بها استمتاعاً يصرفه عن التفكير في الخلود. وقد أشاد بانتصارات سيف الدولة في شعر واسع جمع بين قوة المعنى وجمال اللفظ إلى حد أصبح معه هذا الشعر واسع الانتشار بين قراء العربية متعذر الترجمة إلى اللغة الإنجليزية. ومن هذا الشعر بيته المشهور الذي كان سبباً في هلاكهِ وهو.
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
صفحة رقم : 4658
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
وذلك أن جماعة من اللصوص هاجمته، وأراد هو الفرار، فذكره غلامه بهذا البيت وما يحويه من تفاخر؛ وأراد المتنبي أن يصدق فعله قوله؛ فحارب ومات مثخناً بجراحهِ(965)(102).
وبعد ثمان سنين من ذلك العام ولد في معرة النعمان القريبة من حلب أبو العلاء المعري أعجب شعراء العرب على الإطلاق. وفقد أبو العلاء بصره في سن الرابعة على إثر إصابته بالجدري، ولكنه جد في طلب العلم، وحفظ عن ظهر قلب ما أعجبه من المخطوطات التي وجدها في دور الكتب، وطاف بأنحاء العالم الإسلامي ليستمع إلى المشهورين من العلماء، ثم عاد إلى مسقط رأسه. وكان دخله السنوي خلال الخمسة عشر عاماً التي أعقبت عودته لا يزيد على الثلاثين ديناراً، أي ما يعادل اثني عشر ريالاً أمريكياً في الشهر، يشاركه فيها خادمه ومرشده. وأذاعت قصائده شهرته في العالم الإسلامي، ولكنه كاد يهلك من الجوع لأنه أبى أن يلجأ إلى المديح. وزار بغداد في عام 1008 وأكرم الشعراء والعلماء وفادته، ولعله تأثر في العاصمة بآراء بعض المتشككة، وهي الآثار التي تتخلل بعض قصائده. وعاد منها إلى المعرة في عام 1010 وأصبح فيها من الأغنياء، ولكنه ظل إلى آخر أيامه يحيا حياة الحكماء البسيطة الخالية من جميع مظاهر النعيم. وكان المعري نباتياً إلى أقصى حد، لا يكتفي بالامتناع عن لحم الحيوان والطير بل يمتنع كذلك عن اللبن، والبيض، وعسل النحل؛ فقد كان يرى الاستيلاء على هذه الأطعمة من الحيوان هو النهب بعينهِ. ولهذا السبب أيضاً أبى أن يتخذ شيئاً من اللباس من جلد الحيوان، وعاب على النساء لبس الفراء، وأشار بلبس الأحذية الخشبية(103). ومات المعري في الرابعة والثمانين من العمر، ويقول أحد أتباعه المخلصين إن مائة وثمانين شاعراً ساروا في جنازتهِ، وإن أربعة وثمانين من العلماء رثوه على قبرهِ(104).
وأعظم ما يشهر به في بلاد الغرب هو قصائده القصيرة البالغ عددها 1592
صفحة رقم : 4659
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
قصيدة والمعروفة باللزوميات. ولم يتحدث أبو العلاء في هذه القصيدة عن النساء والحرب كما كان يتحدث عنها زملاؤه الشعراء، بل عمد في جرأة إلى الحديث عن أهم الموضوعات الأساسية في الحياة: هل نتبع الوحي أو العقل؟- وهل الحياة خليقة بأن يحياها الإنسان؟-هل ثمة حياة بعد الموت؟- هل يوجد إله؟...ويجهر الشاعر من حين إلى حين بإيمانه؛ ولكنه يقول محذراً إن هذا الجهر هو احتياط مشروع من الاستشهاد الذي لا يرغب فيه:
إذا قلت المحال رفعت صوتي وإن قلت اليقين أطلت همي
وهو يعيب في أقواله الأمانة العلمية المطلقة ويقول:
لا تخبرن بكهن دينك معشراً شطراً وإن تفعل فأنت مغرر
والمعري بصريح العبارة متشائم، لا أدري، يؤمن بالعقل دون الوحي:
يرتجي الناس لوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء
...................
هل صح قول من الحاكي فنقبله أم كل ذاك أباطيل وأسمار
أما العقول فآلت أنه كذب والعقل غرس له بالصدق إثمار .
صفحة رقم : 4660
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
وهو يندد بعلماء الدين الذين يسخرونه لمآرب الإنسان الدنيئة، والذين يملئون المساجد بالرعب حين يخطبون، ولكنهم ليسوا في مسلكهم خيراً من الذين يحتسون الخمر في الحانات على نغمات المغنين.
لا تطيعن قوماً ما ديانتهم إلا احتيال على أخذ الإتاوات
إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء
كذب يقال على المنابر دائماً أفلا يميد لما يقال المنبر
رويدك قد غرزت وأنت حر بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحاً ويشربها على عمد مساء
تحساها فمن مزج وصرف يعمل كأنما ورد الحاء
طلب الخسائس وارتقى في منبر يصف الحساب لأمة ليهولها
ويكون غير مصدق بقيامة أضحى يمثل في النفوس ذهولها
ومن أقواله أن أحط الناس في وقته هم الذين يشرفون على الأماكن المقدسة في مكة. فهم لا يتورعون عن أن يرتكبوا أي إثم في سبيل المال، وينصح مستمعيه بأن لا يضيعوا أوقاتهم في الحج(109) وأن يقنعوا بعالم واحد.
وفي بطحاء مكة شر قوم وليسوا بالحماة ولا الغيارى
وإن رجال شيبة سادنيها إذا راحت لكعبتها الجمارى
قيام يدفعون الناس شفعاً إلى البيت الحرام وهم سكارى
إذا أخذوا الزوائف أولجوهم وإن كانوا اليهود أو النصارى
صفحة رقم : 4661
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
وما حجى إلى أحجار بيت كؤوس الخمر تشرب في ذراها
وما الركن في قول ناس لست أذكرهم إلا بقية أوثان وأنصاب
لا حس للجسم بعد الروح نعلمه فهل تحس إذا بانت عن الجسد (110)
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد له سبك (111)
ويصل آخر الأمر إلى هذه النتيجة.
وإن جعلت بحكم الله في خزف يقضي الطهور فأنني شاكر راضي (112)
وهو يؤمن بوجود إله حكيم قادر على كل شيء، ويعجب من الطبيب الذي ينكر وجود الخالق بعد أن درس التشريح.
عجبي للطبيب يلحد في الخا لق من بعد درسه التشريحا(113)
لكنه حتى في هذه النقطة يثير بعض الصعاب فيقول:
وما فسدت أخلاقنا باختيارنا ولكن بأمر سببته المقادر
لا ذنب للدنيا فكيف نلومها واللوم يلحقني وأهل نحاسي
عنب وخمر في الإناء وشارب فمن الملوم أعاصر أم حاسي
ويقول في سخرية شبيهة بسخرية فلتير.
رأيت سجايا الناس فيها تظالم ولا ريب في عدل الذي خلق الظلما(114)
ثم ينفجر غضبه كما ينفجر غضب ديدرو Diderot فيقول:
أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما دياناتكم مكر من القدماء
أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا وبادوا وماتت سنة اللؤماء(115)
صفحة رقم : 4662
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
وساءه ما بدا له من كذب الناس وقسوتهم فاعتزل الناس وغلب عليه التشاؤم، فكان عند المسلمين شبيهاً بتيمن الأثيني . ويرى أن لا أمل في إصلاح الناس لأن شرور المجتمع ناشئة من طبائع الخلق:
كتب الشقاء على الفتى في عيشه وليبلغن قضاءه المحتوما
فما أذنب الدهر الذي أنت لائم ولكن بنوا حواء جاروا وأذنبوا
رب متى أرحل عن عالمي فأنت بالناس خبير عليم
رب متى أرحل عن هذه الدنيا فقد أطلت المقام
ولهذا فإن خير ما يفعله الإنسان أن يعتزل العالم ويعيش وحيداً لا يلقى إلا صديقاً واحداً أو اثنين، وأن يحيا كما يحيا الحيوان الوديع بعيداً عن الخلق.
ويقول: لقد كان أفضل من هذا لو أن الإنسان لم يولد لأنه إذا ولد قاسى العذاب والمحن يبسط عليه الموت لواء السلام(117):
وما العيش إلا علة برؤها الردى فخلي سبيلي أنصرف لطياتي
والعيش داء وموت المرء عافية إن داءه يتوارى شخصه حسما
والعيش سقم للفتى منصب والموت يأتي بشفاء السقام
على الموت يجتاز المعاشر كلهم مقيم بأهليه ومن يتغرب
وما الأرض إلا مثلنا الرزق تبتغي فتأكل من هذه الأنام وتشرب
كأن هلالاً لاح للطعن فيهم حناه الردى وهو السنان المجرب
كأن ضياء الفجر سيف يسله عليهم صباح في المنايا مذرب
وليس في وسعنا أن ننجو من منجل الموت، ولكن في وسعنا أن نفوت عليه
صفحة رقم : 4663
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
غرضه بألا تلد له أطفالاً. وفي ذلك يقول أبياتاً من الشعر لا تفترق عن أقوال المؤمنين أشد الأيمان بأقوال شوبنهور:
وإذا أرتم للبنين كرامة فالحزم أجمع تركهم في الأظهر
وقد عمل هو بهذه النصيحة، وكتب بنفسه قبريته وهي أشد القبريات مرارة وأكثرها إيجازاً وأعظمها حكمة:
هذا جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد
ولسنا نعرف كم من المسلمين كانوا يشاركون المعري في تشككه؛ ذلك أن عودة العقائد السنية القوية بعد أيامه كانت أشبه برقابة مقصودة أو غير مقصودة على ما انحدر إلى الأجيال التالية من أدب ذلك العصر، وقد يؤدي بنا هذا إلى الاستخفاف بما كان في العصور الوسطى من تشكك في العالم الإسلامي كما حدث في العالم المسيحي. وبلغ الشعر العربي عند المتنبي والمعري ذروتهما، فلما انقضى عهدهما علا شأن البحوث الدينية وسكن الفلسفة، فصبغ هذا وذاك الشعر العربي صبغة جديدة تتسم بعدم الإخلاص، وتَصَنُّع العاطفة، وتكلف الأناقة اللفظية في قصائد غثة تدور حول شؤون بلاط الأمراء. وفي هذا الوقت عينه كانت نهضة الفرس، وبعثها، وتحررها من حكم العرب تثير حمية الأمة وتخلق فيها نهضة حقة. ولم تكن اللغة الفارسية قد استسلمت للغة العربية استسلاماً
صفحة رقم : 4664
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
كلياً بل بقيت يتحدث بها الشعب؛ فلما حل القرن العاشر أخذت هذه اللغة تثبت وجودها بالتدريج، وتعود كما كانت لغة الحكم والأدب. وكانت بذلك مظهراً لاستقلال الأمة الثقافي في عهد الأمراء الساسانيين والغزنويين. وظلت سائرة في ذلك الطريق حتى أضحت هي اللغة الفارسية الجديدة في هذه الأيام، بعد أن استمدت ثروة طيبة من الألفاظ العربية، وبعد أن استخدمت الخط العربي الجميل. وكان من أعظم مظاهر هذه النهضة الحديثة عمائرها الفخمة وشعرها العظيم. وأضاف شعراء إيران إلى القصيدة والقطعة، وإلى شعر الغزَل المثنوى أو الشعر القصصي أو الرباعيات. وما لبث كل شيء في فارس-من وطنية، وعاطفة، وفلسفة، ولواط، وصلاح-أن عبّر عنه الشعر.
وبدأت هذه النهضة بالرودكي (المتوفى عام 954) الذي كان يرتجل الشعر وينشد الأغاني، ويعزف على القيثار في بلاط السامانيين ببخارى. وفي هذا البلد نفسه، وبعد جيل من ذلك الوقت طلب الأمير نوح بن منصور إلى الشاعر الدقيقي أن يصوغ الخدينامة أو كتاب الملوك شعراً. وكان دانشوار (حوالي عام 651) قد جمع في هذا الكتاب قصص بلاد الفرس القديمة. وما كاد الدقيقي يتم كتابه ألف بيت حتى طعنه أحد عبيده المقربين طعنة قضت على حياتهِ، وقام الفردوسي بالعمل بعد وأتمه وأصبح هومر بلاد الفرس.
وولد أبو القاسم منصور (أو الحسن) في مدينة طوس (قرب مشهد) حوالي عام 934، وكان والده يشغل منصباً إدارياً في بلاط السامانيين، وخلف لولدهِ بيتاً ريفياً في بزاعة بالقرب من طوس. وكان أبو القاسم يقضي وقت فراغه في البحث عن الآثار القديمة. واسترعى كتاب الخدينامة انتباهه فاعتزم أن يحوّل هذه القصص النثرية إلى ملحمة قومية، وسمي كتاب الشاهنامه، أي كتاب الملوك، واتخذ له حسب عادة تلك الأيام اسماً مستعاراً هو الفردوسي، ولعله اشتق ذلك الاسم من غياض ضيعتهِ. وأتم الفردوسي ملحمته في صورتها الأولى بعد
صفحة رقم : 4665
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
خمس وعشرين سنة من الكدح المتواصل، ثم سافر إلى غزنة (999؟) راجياً أن يهديها إلى أميرها محمود الرهيب.
ويؤكد لنا أحد شعراء الفرس الأقدمين أنه كان في غزنة "أربعمائة شاعر لا يفارقون مجالس السلطان محمود". ولو صح هذا لكان وجود هؤلاء الشعراء عقبة كأداء في سبيل الفردوسي، لكنه مع هذا أفلح في استرعاء اهتمام الوزير فجاء بالمخطوط الضخم إلى السلطان. وتقول إحدى الروايات إن محموداً هيأ للشاعر مسكناً مريحاً في قصرهِ، وأمده بقدر ضخم من المادة التاريخية، وأمره أن يضمها إلى ملحمتهِ. وتجمع كل الروايات التي وصلتنا من هذه القصة على اختلاف صورها أن محموداً وعده أنت يعطيه ديناراً ذهبياً (4.70 دولارات) نظير كل بيت من القصيدة في صورتها الجديدة. وظل الفردوسي يكدح زمناً لا نعرف طوله؛ بلغت بعد القصيدة (حوالي عام 1010) صورتها النهائية، واشتملت على 60.000 بيت وجيء بها إلى السلطان. وأوشك محمود أن يبعث إلى الفردوسي المبلغ الموعود، ولكن بعض بطانته استكثروا العطاء، وأضافوا إلى هذا قولهم إن الفردوسي زنديق شيعي ومعتزل. واستمع لهم محمود وبعث للشاعر بستين ألف درهم فضي (30.000 ريال أمريكي). وغضب الشاعر وأراد أن يظهر غضبه واحتقاره فقسم المبلغ بين خادم حمام وبائع شراب ثم فر إلى هراة، حيث اختفى ستة أشهر في حانوت بائع كتب، حتى يئس من العثور عليه عمال محمود الذين أمرهم بالقبض عليه. ثم لجأ الفردوسي إلى شهريار أمير شيرزاد في طبرستان، ونظم قصيدة يهجو فيها محموداً هجواً لاذعاً. وخشي شهريار غضب
صفحة رقم : 4666
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
السلطان فابتاع القصيدة بمائة ألف درهم وأتلفها. وإذا جاز لنا أن نصدق هذه الأرقام، ونعتقد بصحة تقديرنا إياها بنقود هذه الأيام، حكمنا من فورنا أن الشعر كان من أكثر الأعمال إدراراً للربح في فارس في العصور الوسطى. وانتقل الفردوسي بعدئذ إلى بغداد وكتب فيها قصة شعرية طويلة هي قصة يوسف وزليخا، ثم عاد إلى طوس وكان قتئذ شيخاً في السادسة والسبعين من العمر. وبعد عشر سنين من عودتهِ سمع محموداً بيتاً من الشعر فأعجب بقوة معناه وجزالة لفظه، فسأل عن قائلهِ، ولما علم أنه من شعر الفردوسي ندم على أنه لم يكافئ الشاعر بما وعده بهِ، وأرسل إليه قافلة من الإبل تحمل ما قيمته ستين ألف دينار من النيلج، ومعها رسالة اعتذار منه، ولما دخلت القافلة مدينة طوس التقت فيها بجنازة الشاعر (1020؟).
وتعد الشاهنامة من أعظم الأعمال في الآداب العالمية في حجمها إن لم تكن في غيرهِ. وإن من النبل بحق أن يترك شاعر الموضوعات التافهة، والأعمال اليسيرة، ويقضي خمسة وثلاثين عاماً من حياتهِ يروي فيها قصة بلده في 120.000 بيت من الشعر-فكانت القصيدة بذلك أطول من الإلياذة والأوديسة مجتمعتين. فها هو ذا شيخ طاعن في السن جن جنونه بوطنهِ، وشغف حباً بكل ما حوته سجلاته من تفاصيل، خرافة كانت أو حقيقة. وتصل الملحمة إلى نصفها قبل أن يصل بها الشاعر إلى العصور التاريخية. ويبدأها بالشخصيات الأسطورية الواردة في الأبستاق، ويحدثنا عن جيومرث، آدم الديانة الزرادشتية، ثم عن جمشيذ العظيم حفيد جيومرث "الذي حكم العالم 700 سنة... والذي سعد العالم بحكمهِ، ولم يكن يعرف في أيامه موت ولا حزن ولا ألم". ولكن جمشيذ بعد أن مرت به بضعة قرون "باض الشيطان في رأسهِ وفرخ ولوى جيدهُ عن طاعة ملاك الرقاب، متعرضاً بغمط نعمة لقاصمة العقاب" "وظن أنه ليس على ظهر الأرض سواه، وادعى أنه إله، وبعث بصورته لكي يعبدها الناس"(121). ونصل أخيراً
صفحة رقم : 4667
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
إلى بطل الملحمة رستم بن زال أحد أمراء الإقطاع في تلك الأيام. ولا بلغ رستم من العمر خمسمائة عام وقع زال في هوى جارية شابة فولدت منه أخاً لرستم. ويخدم رستم ثلاث ملوك وينجيهم من الموت، ثم يهجر حياة القتال حين تبلغ سنه أربعمائة عام. ويطول عمر جواده الأمين الرخش كما يطول عمر سيده أو ما يقرب منه، ويكاد يبلغ من البطولة ما بلغه، ويلقى هذا الجواد من الفردوسي الحب والدعابة اللذين يلقاهما الجواد الأصيل من كل فارسي. وفي الشاهنامة قصص حب جميلة، وفيها بعض ما في شعر شعراء الفروسية الغزليين في أوربا في العصور الوسطى من تعظيم للنساء. فيها صور ساحرة للنساء البارعات الجمال- منها صورة للملكة سوذابة التي كانت تتحجب حتى لا يرى جمالها، والتي كانت تسير مع الرجال كما تسير الشمس خلف السحاب(122). ولكن الحب ليس له شأن كبير في حياة رستم، لأن الفردوسي يرى أن عاطفة الحب الأبوي والنبوي يمكن أن تكون أعظم وقعاً في النفوس من عاطفة الحب الجنسي. بيد أن رستم يقع أثناء إحدى حروبه البعيدة في حب فتاة تركية تدعى تهمينة، ثم تحتفي عن عينه فلا يقف على أثرها، ثم تربي ابنها سهراب والحزن يملأ قلبها الكبرياء يرفع رأسها بين أترابها، وتحدث الشاب عن أبيه العظيم الذي لا تعرف مقره، ويلتقي الأب والابن في حرب بين الترك والفرس، ويقف كلاهما ليقاتل الآخر دون أن يعلما حقيقة أمرهما. ويعجب رستم بشجاعة الصبي الوسيم، ويعرض عليه أن يحفظ عليه حياته؛ فيرفض الغلام هذا العرض بازدراء، ويقاتل قتال الأبطال، ويصاب بجرح مميت. ويقول وهو يحتضر إن أشد ما يحزنه أنه لم يرَ أباه رستم، ويدرك المنتصر أنه قتل ابنه. ويعدو جواد سهراب بغير فارس حتى يدخل معسكر الترك ويصل الخبر إلى والدته في منظر من أجمل مناظر الملحمة:
تئن وتجأر جهد الحزين وينتابها الغشى في كل حين
أطالت بكاء ابنها والنحيبا فأجرت من الناس دمعاً سكوبا
صفحة رقم : 4668
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الأدب
وخرت على الأرض جمراً خمد كأن بها دمعاً قد جمد
وعادت ترجع تحنانها وتذكي على الابن أحزانها
وجاءت إلى طرفه الطائر إلى زينة الزمن الناظر
فلزَّتْ إلى رأسه صدرها يرى الناس في عجب أمرها
وجاءت لحلته في كمد تعانقها كأبنها المفتقد
والقصة كلها غاية في الوضوح يتنقل القارئ فيها تنقلاً سريعاً من حادثة إلى حادثة، ولا يحس بوحدتها إلا حين بوجود الوطن المحبوب في كل سطر من سطورها وإن كان لا يبصره بعينه. ونحن، الذين لا نجد لدينا من الفراغ ما كان يجده الناس قبل أن تخترع تلك الوسائل الكثيرة التي توفر عليهم أوقاتهم، لا نجد متسعاً من الوقت نقرأ فيه كل أبيات القصيدة وندفن فيها كل ملوكها؛ ولكن هل منا من قرأ كل سطر من أسطر الإلياذة أو الإنياذة، أو المسلاة المقدسة، أو الفردوس المفقود؟ إن هذه الملاحم القصصية لا يستطيع قراءتها إلا الذين أتوا القدرة على هضمها. أما نحن فبعد أن نقرأ مائتي صفحة من صفحات الشاهنامة نمل من قراءة أخبار انتصارات رستم على الشياطين، والوحوش، والسرة، والأتراك. ولكن سبب هذا الملل أننا لسنا إيرانيين، لم نسمع إلى أنغام الشعر الفارسي الأصيل الرنانة العذبة، ولا نتأثر بها كما يتأثر بها الفرس الذين أطلقوا اسم رستم على ثلاثمائة قرية في ولاية واحدة من بلادهم. وقد احتفل العالم المتمدن في آسية وأوربا والأمريكيتين في عام 1934 بالعيد الألفي للشاعر الذي ظل كتابه الضخم غذاء لروح الشعب الإيراني مدى ألف عام.
صفحة رقم : 4669
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
الفصل السّابع
الفن
لما فتح العرب بلاد الشام لم تكن لديهم من الفنون سوى الشعر. ويقال إن النبي حرم فني النحت والتصوير أنهما من قبيل عبادة الأوثان-كما نهى عن الموسيقى، ولبس الحرير الثمين: والتحلي بالذهب والفضة أنهما من أسباب التنعم المؤدي إلى الانحلال؛ ومع أن العرب أخذوا يتحللون شيئاً فشيئاً من هذا التحريم، فإن الفن الإسلامي في ذلك العهد الأول كان ينحصر في فنون العمارة، والخزف، والزركشة. يضاف إلى هذا أن العرب أنفسهم كانوا إلى عهد قريب بدواً أو تجاراً، ولم يكونوا ذوي براعة فنية ناضجة؛ وكانوا يعترفون بقصورهم في هذا الميدان، ولذلك لجأوا إلى الأشكال والتقاليد الفنية المتبعة في بيزنطية، ومصر، والشام، وبلاد العراق، وإيران، والهند، فعدلوها بما يوائم طبيعتهم، كما لجأوا إلى الفنانين والصناع من أهل تلك البلاد. من ذلك أن نقوش قبة الصخرة في بيت المقدس وعمارة مسجد الوليد الثاني في دمشق كانت بيزنطية خالصة. وفيما يلي هذه البلاد من جهة الشرق اتخذ العرب حليات القرميد التي كانت متبعة في بلاد آشور وبابل القديمة، كما اتخذوا أشكال الكنائس الأرمنية النسطورية، وبعد أن دمر المسلمون في بلاد الفرس كثيراً من الأعمال الساسانية الأدبية والفنية تنبهوا إلى مزايا مجموعات العمد، والأقواس
صفحة رقم : 4670
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
المستدقة والعقود، والنقوش المكونة من أوراق النبات والأشكال الهندسية التي أثمرت آخر الأمر طراز الزخرفة العربي المعروف. ولم تكن هذه النتيجة تقليداً محضاً، بل كانت تركيباً بارعاً من أشكال مختلفة لا ينقص من شأنها ما أخذه المسلمون عن غيرهم من الأمم. وتخطى الفن الإسلامي الذي انتشر من قصر الحمراء في الأندلس إلى التاج محال في الهند كل حدود الزمان والمكان، وكان يسخر من التمييز بين العناصر والأجناس، وأنتج طرازاً فذاً ولكنه متعدد الأنواع، وعبّر عن الروح الإنسانية بأناقة موفورة فياضة لم يفقها شيء من نوعها حتى ذلك الوقت.
ويكاد فن العمارة الإسلامية، كمعظم فنون العمارة في عصر الإيمان، أن يكون كله فناً دينياً خالصاً. ذلك أن مساكن البشر كانت تقام ليقضوا فيها حياتهم الدنيوية القصيرة الأجل؛ أما بيوت الله، فكانت من داخلها على الأقل، نماذج من الجمال الخالد. غير أننا مع هذا نسمع عن قناطر، وقنوات لجر مياه الشرب، وفساقي، وخزانات لمياه الري، وحمامات عامة، وقلاع، وأسوار ذات أبراج وإن لم يبقَ من آثار هذه كلها إلا القليل. وقد أقامها مهندسون معماريون كان الكثيرون منهم في القرن الأول بعد الفتوح الإسلامية من المسيحيين، ولكن كثرته الغالبة كانت فيما بعد من المسلمين. ولما جاء الصليبيون إلى بلاد المسلمين وجدوا مباني حربية ممتازة في حلب، وبعلبك، وغيرها من مدن الإسلام في الشرق، وعرفوا هناك فوائد الأسوار ذات المزاغل، وأخذوا عن أعدائهم كثيراً من الأفكار التي أقاموا على أساسها حصونهم وقلاعهم المعدومة النظير، ولقد كان قصر إشبيلة، وقصر الحمراء في قرطبة حصنين وقصرين معاً.
ولم يبقَ من قصور بني أمية إلا القليل. ومن هذا القليل الباقي بيت بريفي في قصير عمرة بالصحراء الواقعة في شرق البحر الميت، وتكشف بقاياه عن حمامات ذات قباب، وجدران ذات مظلمات. ويؤكد لنا المؤرخون أن قصر عضد الدولة
صفحة رقم : 4671
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
في شيراز كان يحتوي على ثلاثمائة وستين حجرة واحدة منها كل يوم من أيام السنة، وقد طليت كل حجرة بطلاء مكون من مجموعة فذة من الألوان، وخصصت منها واحدة للمكتبة، وكانت حجرة رحبة يبلغ ارتفاعها طابقين، ذات بواك وعقود، ويقول عنها أحد مؤرخي الإسلام المتحمسين إنه لم يكن ثمة كتاب في أي موضوع من الموضوعات لا تحتوي المكتبة نسخة منه(124). ولسنا نشك في أن للخيال أكبر نصيب فيما وصفت به شهرزاد مدينة بغداد، ولكنه وصف يصور ما كانت عليه فخامة النقوش في داخل القصور أصدق تصوير(125). وكان لأغنياء المسلمين بيوت في الريف وقصور في المدن. وكانت لهم في المدن نفسها حدائق كبرى، أما بيوتهم في الريف فكانت حدائقها "جنات" حقة-فيها بساتين ذات عيون، وجداول، وفساق، وبرك مبطنة بالقرميد، وأزهار نادرة، وظلال، وأشجار فاكهة ونُفل، وكانت تحتوي عادة على سرادق يستمتع فيه أهل القصر بالهواء الطلق، دون أن يضايقهم وهج الشمس. وكان الدين في فارس دين أزهار؛ فقد كانت تحتفل بأعياد الورد احتفالات تحوي جميع مظاهر الأبهة والفخامة، وطبقت شهرة ورد شيرزاد وفيروز آباد جميع أنحاء العالم، وكانت الورود ذوات المائة من الأوراق من الهدايا التي يحمدها لمهديها الخلفاء والملوك(126).
وكانت بيوت الفقراء وقتئذ، كما هي الآن، أبنية مستطيلة الشكل؛ مقامة من اللبن الملتصق بالطين، سقفها خليط من الطين، وأعواد النبات، وغصون الأشجار، وجريد النخل، والقش. وكانت البيوت الأرقى من هذه نوعاً تشتمل على فناء داخلي مكشوف، ذي فسقية، وشجرة في بعض الأحيان؛ وكانت تحتوي أحياناً على طائفة من العمد الخشبية، ورواق مسقوف بين الفناء والحجرات. وقلما كانت البيوت تبنى على الشارع أو تطل عليه، لأنها كانت حصوناً للعزلة، تقام للأمن والسلام؛ وكان لبعضها أبواب سرية، يهرب منها سكانها من فورهم إذا هوجموا أو أريد اعتقالهم، أو يدخل منها الحبيب سراً(127).
صفحة رقم : 4672
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
وكان في كل بيت من البيوت، عدا بيوت الفقراء، أجنحة خاصة بالنساء، لكل منها في بعض الأحيان فناء مستقل. وكانت بيوت الأغنياء خالية من أنابيب الماء، الذي يحمل إليها من خارجها كما تحمل الفضلات منها. وكانت بعض البيوت الحديثة الطراز تؤلف من طابقين تتوسط الواحد منهما حجرة لجلوس الأسرة عامة تعلوها قبة، وفي الطابق الثاني منها شرفة تطل على فناء البيت. ولم يكن بيت من البيوت عدا أفقرها يخلو من مشربية من الخشب تدخل الضوء، وتمنع حرارة الشمس، وتمكن من بداخل البيت أن يطلوا على خارجهِ دون أن يراهم من بالخارج. وكثيراً ما كانت هذه المشربيات متقنة النحت، وكانت هي النماذج التي صنعت على غرارها الستر الحجرية أو المعدنية التي ازدانت بها القصور والمساجد فيما بعد. ولم تكن بالبيت مدفأة ثابتة في جدرانهِ، بل كان يدفأ بموقد نحاسي متنقل يحرق فيه الفحم الخشبي. وكانت الحجرات تجصص وتطلى عادة بألوان متعددة. وكانت الأرض تفرش بطنافس من نسيج اليد، وقد يكون عليها كرسي أو كرسيان، ولكن المسلمين كانوا يفضلون أن يتربعوا فوق الطنافس. وكانت أرض الحجرة ترتفع بجوار الجدران في ثلاث نواح منها بقدر قدم، أو ما يقرب منه ليتكون من ذلك ديوان يفرش بالوسائد. ولم تكن في هذا النوع من البيوت حجرة خاصة بالنوم، وكان فرش النوم مكوناً من حشية تطوى في أثناء النهار وتوضع في مكان خاص كما يفعل أهل اليابان في هذه الأيام. وكان أثاث البيت بسيطاً: يتألف من بضع مزهريات، وآنية المطبخ، ومصابيح، وكوة للكتب في بعض الأحيان.
وكان حسب المسلم التقي الفقير أن يكون المسجد جميلاً، وكان ينفق في تشييدهِ جهده ماله. ويجمع في فنونه وصناعاته ويضعها كالطنفسة بين يدي الله، وكان في وسع الناس أن يستمتعوا بهذا الجمال وبتلك العظمة: وكان
صفحة رقم : 4673
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
المسجد يقام عادة بالقرب من سوق المدينة يسهل الوصول إليه من كافة أنحائها. ولم يكن عادة فخماً ذا روعة وبهاء من خارجهِ. وإذا استثنينا واجهته الأمامية فإنه لم يكن يسهل تمييزه في بعض الأحيان من المباني المجاورة له، وقد يكون أحياناً ملتصقاً بها التصاقاً، وقلما كان يشيد من مواد أفخم من الآجر المطلي بالمصيص. وقد حدد شكله الغرض الذي أقيم من أجلهِ: فكان يتألف من بهو رباعي الشكل يتسع للمصلين، ومن حوض أوسط ونافورة للضوء، تحيط بها إيواناته ذات البواكي لوقاية المصلين وإظلالهم، وليتلقوا فيها الدروس، وفي ناحية الصحن المتجهة إلى مكة كان يقوم بناء المسجد الأصلي، وهو في العادة قسم مسور من الرواق.وكان هذا القسم أيضاً ذا شكل رباعي يمكن المصلين من أن يقفوا صفوفاً متراصة متجهين أيضاً إلى مكة. وقد يكون فوق هذا الصرح قبة، تكاد تبنى في جميع الأحوال من الآجر، تبرز كل طبقة منها عما تحتها بمقدار قليل نحو الداخل وتطلى بالجص لإخفاء هذا البروز(128). وكان الانتقال من القاعدة الرباعية إلى القبة المستديرة يتم كما يتم في العمارة الساسانية أو البيزنطية بأن تتوسطها في القبة عدة أكتاف مثلثة الشكل بين عقدين متعامدين، أو سلسلة من العقود الحجرية الصغيرة تقام عليها جوانب القبة. وأهم ما تمتاز به عمارة المساجد هو المئذنة من الزجورات-الصرح-البابلي وبرج الجرس في الكنائس المسيحية، وأخذ الهنود المسلمون الشكل الأسطواني من بلاد الهند، وتأثر مسلمو إفريقية في تخطيطها بمنارة الإسكندرية ذات الأركان الأربعة(129). وليس ببعيد أن تكون الأبراج ذات الأركان الأربعة في المساحة التي أقيم عليها الهيكل القديم في دمشق، ذات أثر في شكل المئذنة(130)، وكانت في هذا العهد الأول بسيطة خالية في أغلب الأحيان من الزخرف، ولم تصل إلا في القرون المتأخرة إلى ما وصلت إليه من الدقة والارتفاع، أو نحو ما احتوته من الشرفات الرقيقة الهشة،
صفحة رقم : 4674
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
والبواكي الزخرفية، والسطوح القاشانية، التي أنطقت فرجسون Fergusson بقولهِ "إنها أعظم الأبراج رشاقة في عمارة العالم كله"(131).
وقد احتفظ المسلمون لداخل المسجد بأبهج الزخارف وأجملها وأكثرها تنوعاً، احتفظوا لهذا الداخل بالفسيفساء وقطع القرميد البراقة لأرض المسجد ومحرابه؛ وبالزجاج ذي الأشكال والألوان البديعة لنوافذهِ ومصابيحه، وبالطنافس الغالية والبسط الفخمة تفرش على أرضه للصلاة؛ وبألواح الرخام الجميل الألوان تثبت على الأجزاء السفلى من الجدران؛ وبالأفاريز الجميلة ذات الكتابة العربية حول المحاريب والطنف؛ وبالنقوش الجميلة في الخشب أو العاج أو المصنوعة من المعدن في الأبواب، والسقف، والمنابر، والسجف... أما جسم المنبر نفسه فكان يصنع من الخشب تبذل أعظم العناية في نحتهِ ونقشهِ وتطعيمه بالعاج والأبنوس. وبالقرب من المنبر توجد الدكة المقامة على عمد صغيرة وعليها نسخة من كتاب الله. وكان الكتاب نفسه بطبيعة الحال أنموذجاً لجمال الخط وروعة الفن الدقيق. ويجاور المنبر القبلة وهي جزء داخل في جدار المسجد لعله مأخوذ من القباب في الكنائس المسيحية. وقد أفرغ الصناع والفنانون كل جهودهم في تزيين هذا المحراب حتى كان يضارع المذبح أو المحراب المحيط به في الكنائس والهياكل. فجملوه بالقاشاني والفسيفساء، وصور أوراق الشجر وأزهاره، والنقوش البارزة، والأنماط الجميلة، ذات الألوان البديعة من الآجر، والجص، والرخام، والطين المحروق، والقاشاني.
وأكبر الظن أننا مدينون بما بلغه فن الزخرفة من عظمة وفخامة إلى تحريم الساميين تمثيل صور الإنسان والحيوان في الفن! فكأن الفنانين المسلمين أرادوا أن يعوضوا هذا التحريم فاخترعوا هذا الفيض الغامر من الأشكال غير البشرية أو الحيوانية، وأخذوا ما كان منها موجوداً عند غيرهم. فبحث الفنان في أول الأمر عن منفذ لمواهبهِ الفنية في الأشكال الهندسية-الخط، والزاوية، والمربع،
صفحة رقم : 4675
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
والمكعب، والكثير الأضلاع، والمخروط، والشكل اللولبي، والقطع الناقص، والدائرة، والكرة؛ وكرر هذه الأشكال كلها وركب منها مئات التراكيب، وأنشأ منها الدوامات، والأربطة، والخطوط المتشابكة المتداخلة، والنجوم. ولما انتقل إلى الأشكال النباتية عمد إلى المواد المختلفة، فصور من مختلف المواد، تيجاناً، وكروماً، وأزهار البشنين، والكُنْكُر، وخوص النخل وجريده. فلما جاء القرن العاشر مزج هذه كلها فأنشأ منها الزخرف العربي الذائع الصيت، وأضاف إليها كلها حلية فذة كبرى هي الكتابة العربية. ذلك أنه عمد في العادة إلى الحروف الكوفية فأطالها إلى أعلى أو مدها على الجانبين، أو نمقها بالذيول والنقاط، حتى استحالت الحروف الهجائية على يديه تحفة فنية ذات روعة وجمال. ولما تحلل الناس من بعض الشيء من القيود والمحرمات الدينية أدخل الفنان أنواعاً جديدة من الزينة بأن رسم طير السماء، وحيوان الحقل، أو ابتدع أشكالاً عن الحيوانات المختلفة لا وجود لها إلا في مخيلته. واستطاع بفطنتهِ وشغفهِ بالزينة أن يسمو بكل شكل من أشكال الفن-الفسيفساء، والنقوش الصغيرة على العاج ونحوه، والخزف، والأقمشة، والبسط. وكان النقش في كل حالة تقريباً تؤلف بين أجزائه وحدة منظمة، تسيطر عليها صورة رئيسية، أو موضوع رئيسي. ينمو ويتطور من الوسط إلى الأطراف أو من البداية إلى النهاية، كما يفعل المؤلف بالموضوع الموسيقي. ولم يكن الفنان المسلم يرى أن أية مادة مهما قست تستعصي على فنهِ؛ ولهذا أصبح الخشب، والمعدن، والآجر، والجص، والحجر، والقرميد، والزجاج، والقاشاني-أصبحت هذه كلها وسائل يستخدمها لإظهار ما في خيالهِ من صور وأشكال فنية مجردة لم يسمُ إلى مستواها فن آخر من قبل لا نستثني من ذلك الفن الصيني نفسه.
واستعانت العمارة الإسلامية بهذا الفن الزخرفي فأقامت في جزيرة العرب،وفلسطين، والشام، وأرض الجزيرة، وفارس والتركستان، والهند، ومصر،
صفحة رقم : 4676
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
وتونس، وصقلية، ومراكش، والأندلس-أقامت في هذه البلاد كلها عدداً لا يحصى من المساجد جمعت بين القوة والمتانة في خارجها، والرشاقة والرقة في داخلها، نذكر منها مساجد المدينة، ومكة، وبيت المقدس، والرملة ودمشق، والكوفة والبصرة، وشيراز ونيسابور، وأردبيل، ومسجد جعفر في بغداد، ومسجد سر من رأى العظيم، ومسجد زكريا في حلب، ومسجد ابن طولون والجامع الأزهر في القاهرة، ومسجد تونس الكبير، ومجلس سيدي عقبة في القيروان، والمسجد الأزرق في قرطبة-وليس في مقدورنا إلا أن نكتفي بذكر أسمائها لأن مئات المساجد التي بنيت في ذلك الوقت لم يبقَ منها ما يمكن تمييزه إلا عشرة أو نحوها، أما سائرها فقد عدا عليه الزمان فدمره بفعل الزلازل أو الإهمال أو الحروب.
وقد كشف في العصر الحديث في بلاد الفرس وحدها-وهي جزء صغير من بلاد الإسلام-عن صروح فخمة لم يكن يدور بخلدنا أنها توجد في تلك البلاد؛ وكان كشف آثارها من الحادثات الكبرى في إزاحة الستار عن الماضي المجهول وإن كان هذا الكشف قد جاء بعد أوانه بزمن طويل؛ لأن كثيراً من روائع العمارة الفارسية قد عبثت به قبل ذلك الكشف يد الزمان فلم تبقِ منه شيئاً. وحسبنا أن نذكر في هذا المقام أن المقدسي يصف في فارس مساجد لا تقل روعة عن مساجد المدينة ودمشق ويقول إن مسجد نيسابور ذا العمد الرخامية. والصفائح الذهبية، والجدران ذات النقوش المحفورة الكثيرة كان من عجائب الزمان؛ وإنه لم يكن في خرسان أو سجستان من المساجد ما يضارع في جماله مسجد هيراة(132). وفي وسعنا أن نصور لأنفسنا صورة غامضة مما بلغته
صفحة رقم : 4677
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
العمارة الفارسية في القرنين التاسع والعاشر من روعة ووفرة، بدراسة النقوش الجصية البارزة، والعمد والتيجان المحفورة الباقية، من محراب مسجد نايين الجامع المخرب، والمئذنتين الجميلتين الباقيتين في دمغان. وقد بقي من مسجد أردستان (1055) محراب وباب جميلان، كما كشف فيه عن كثير من العناصر التي تجلت فيما بعد في العقود القوطية المستدقة، والأكتاف المركبة، والأقبية المتقاطعة، والقبة المضلعة(133). وكانت المادة التي شيدت منها هذه المساجد والكثرة الغالبة من المساجد والقصور الفارسية هي الآجر، شأنها في ذلك شأن المباني القديمة في سومر وأرض الجزيرة، وسبب ذلك ندرة الحجارة وكثرة ما تتطلبه من النفقات، ووفرة الطين والنيران؛ لكن الفنان الفارسي قد حول طبقات الآجر بفضل ما أدخله عليها من ضوء والظل والنماذج الفنية الجديدة، والأوضاع الفنية المختلفة، حول هذه الطبقات إلى أنواع من الزخرف لم تعرف هذه المادة القليلة الشأن نظيراً لها من قبل. وقد كسا الخزاف الفارسي الآخر في أماكن خاصة، كمداخل المساجد والمنابر والمحاريب، بطبقة الفسيفساء متعددة الألوان، وبالقرميد الزاهي البراق؛ ولما أقبل القرن الحادي عشر زاد السطح البراق لألاء وبهاء بطبقة من القاشاني الملون اللامع. وهكذا خدم المسجد كل فن في بلاد الإسلام. نزل إلى هذه الخدمة من العلياء وكسب بها فكراً وكبرياء.
وإذ كان قد حرم على المثال أن ينحت التماثيل خشية أن يعود الناس إلى عبادة الأوثان، فقد وجه جهوده إلى الزخرفة بالنقوش البارزة. فأتقن نحت الحجارة، وشكل الجص باليد قبل أن يجف، وصاغ منه أشكالاً كثيرة مختلفة. وقد بقي أنموذج رائع من هذه العمائر، وهو القصر الشتوي الذي بدأه الوليد الثاني عام 734 بالصحراء الشرقية إلى نهر الأردن وتركه دون أن يتمه. وكان حول سطح الواجهة من أسفل إفريز من الحجر المنحوت ذو جمال بارع يتكون نقشه من مثلثات وأزهار الورد يحيط بها إطار من الأزهار، والفاكهة، والطير،
صفحة رقم : 4678
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
والحيوان، والنقش العربي. وقد نقل هذا النقش الرائع إلى برلين في عام 1904 ونجا من الدمار في أثناء الحرب العالمية الثانية. وكان النجارون يجملون النوافذ، والأبواب، والستر الخشبية، والشرفات، والسقف، والمناضد، وكراسي المصاحف، والمنابر، والمحاريب، ويبدعون في نقشها إبداعاً يستطيع الإنسان أن يراه في لوحة وجدت في تكريت ونقلت إلى المتحف الفني في نيويورك. كذلك كان الصناع المشتغلون بنحت العاج والخشب يزينون بفنهم المساجد، والمصاحف، والأثاث، والآنية، والأشخاص أنفسهم، ويجملونها بمصنوعاتهم المنحوتة والمطعمة. غير أنه لم يصلنا من مصنوعات ذلك العصر إلا قطعة واحدة هي طابية من قطع الشطرنج (توجد الآن في المتحف الأهلي بفلورنس) ويقال إنها إحدى قطع الشطرنج الذي أهداه هرون الرشيد إلى شارلمان في القرن التاسع الميلادي(124). كذلك أخذ صانعوا المعادن المسلمون عن الساسانيين هذا الفن الدقيق، وصنعوا من النحاس والشبه مصابيح، وأباريق، وجفاناً، وجراراً، وكيزاناً، وأقداحاً، وأطساتاً، ومواقد؛ وصبوها في صور الآساد، والأفاعي، وآباء الهول، والطواويس، واليمام؛ ونقشوا عليها في بعض الأحيان رسوماً بديعة نشاهد مثلاً منها في المصباح الشبيه بالقماش المخرم والمحفوظ في معهد الفن بمدينة تشكاجو. ومن الصناع من كانوا يحشون الرسوم المحفورة بالفضة والذهب، ويبدعون المصنوعات المعدنية "الدمشقية" أي المزخرفة بفن الدمشقيين وإن لم يكن قد نشأ في مدينتهم(135). وكانت السيوف الدمشقية تصنع من الفولاذ المسقى المزين بالنقوش البارزة أو المطعم بالرسوم العربية، أو الحروف الهجائية، أو غيرها من الأشكال المتخذة من خيوط الذهب أو الفضة. وقصارى القول أن صناع المعادن المسلمين قد يراعوا في هذا الفن براعة ليس بعدها زيادة لمستزيد.
ولما انتهى عصر الفتوح الإسلامية واستقر المسلمون في البلاد المفتوحة وأخذوا عنها ثقافتها ألفوا أنفسهم في صناعة الفخار الوارثين لتقاليد خمسة في هذا
صفحة رقم : 4679
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
الفن هي التقاليد المصرية، والإغريقية-الرومانية، والعراقية، والفارسية، والصينية. ونقول الصينية لأن سار Sarre، كشف في سر من رأى فخاراً من عهد أسرة تانج ومعه قطعة من الخزف الصيني الرقيق؛ وكانت الأواني الفارسية-الإسلامية في عهدها الأول منقولة نقلاً لا خفاء فيه عن نماذج صينية. ونشأت مراكز صناعة الفخار في بغداد وسامرا ، والري، وكثير غيرها من البلدان. ولم يحل القرن العاشر الميلادي حتى كان صانعوا الفخار من الفرس يصنعون كل أنواع الآنية الفخارية ما عدا الخزف الصيني، ويصنعونه في الشكل لا حصر لها تبدأ من المباصق اليدوية الصغيرة إلى المزهريات الضخمة المهولة، التي تتسع في القليل لأحد "اللصوص الأربعين"(136) ويتبين الإنسان من خير المصنوعات الفخارية الفارسية دقة التصوير، وبراعة في التلوين، وحذقاً في الصناعة لا تسمو عليها إلا الصناعتان الصينية واليابانية؛ وظلت ستة قرون لا تضارعها صناعة أخرى في جميع الأقاليم الممتدة جنوب هضبة البامير وغربها(137). وكان هذا الفن من أحب الفنون إلى الفرس وأكثرها مواءمة لهم؛ وكان أهل الطبقة العليا منهم يحرصون أشد الحرص على جميع روائعه، وكثيراً ما أخذ عنه الشعراء أمثال أبي العلاء المعري وعمر الخيام تشبيهات واستعارات في أقوالهم الفلسفية. ويحدثنا الكتاب عن مأدبة أقيمت في القرن التاسع ارتجلت فيها قصائد، وأهديت إلى الآنية التي كانت تزدان بها المائدة(138).
وقد امتاز صانعوا الفخار في سامرا وبغداد في ذلك القرن بصنع الفخار اللامع أو لعلهم هم ابتدعوه ابتداعاً. وكانت النقوش التي تحليه ترسم بأكسيد معدني على طبقة من الطين المزجج، ثم يعرض الإناء بعدئذ إلى نار ثانية مدخنة مكتومة تحول الصبغة إلى طبقة معدنية رقيقة، وتكسب الطلاء بريقاً متعدد
صفحة رقم : 4680
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
الألوان. وبهذه الطريقة أخرج الصناع أواني ذات لون واحد جميل، وأخرى ذات ألوان متعددة أجمل منها خضراء ذهبية، وبنية داكنة، وصفراء، وحمراء، تتدرج بعضها تدرجاً لا يكاد الإنسان يحسه ولا تقل عن المائة عداً وكذلك طبق هذا الفن نفسه فن الطلاء البراق على قطع القرميد التي كانت تستخدم للزينة في فن العراق القديم، فكانت ألوان هذه المربعات الكثيرة وما تتألف منها من وحدات متناسقة مما أكسب مداخل مئات المساجد ومحاريبها وكثيراً من جدران قصور العظماء روعة منقطعة النظير. وورث المسلمون في صناعة الزجاج-وهو الفن الشديد الاتصال بصناعة الفخار-كل ما امتاز به أهل مصر والشام من حذق وبراعة، فقد لونوا المصابيح بظلال من الألوان البراقة المتعددة، وزينوها بالرصائع والنقوش، ورسوم النبات والأزهار؛ ولعل أهل الشام قد ابتدعوا في ذلك الوقت فن طلاء الزجاج بالميناء، وهو الفن الذي بلغ ذروة مجده في القرن الثالث عشر.
وإذا ما ذكرنا سعة انتشار فني التصوير والنحت في الكنائس الكاثوليكية الكبرى وهي التي لا تكاد تخلو من آثارهِ واحدة منها، وذكرنا في الوقت نفسه أهمية هذين الفنية في نشر العقائد والقصص المسيحية، إذا ما ذكرنا هذا وذاك دهشنا لعدم وجود نظيريهما في الإسلام. نعم إن القرآن قد حرم النحت (سورة المائدة الآية 89) ولكنه لم يقل شيئاً عن التصوير، غير أن حديثاً يعزى إلى عائشة يقول إن النبي قد نهى أيضاً عنه(139). ولهذا فإن الشريعة الإسلامية عند الشيعة وعند أهل السنة على السواء تحريم التصوير وإقامة التماثيل جميعاً. ولهذا التحريم نظير في الوصية الثانية وفي التعاليم اليهودية. ولعل من أسباب هذا التحريم الاعتقاد أن الفنان حين يخرج مثالاً للكائنات الحية إنما يدعي لنفسهِ ما هو حقوق الخالق جل جلاله. ومن علماء الدين من يتساهلون في هذا فيجيزون تصوير الجماد. ومنهم من يتغاضون عن تصوير الحيوان أو الإنسان على
صفحة رقم : 4681
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
الأشياء التي لا تستعمل إلا في الأغراض الدنيوية. وكان بعض خلفاء بني أمية لا يعبئون قط بهذا التحريم؛ وشاهد ذلك الوليد الأول زين قصره الصيفي في قصير عمرة حوالي عام 712 بمظلمات هلنستية صور فيها رجالاً يطاردون الوحوش. وبنات يرقصن، ونساء يغتسلن، وهو جالس فوق عرشه يشاهد هذا كله(140). وكان خلفاء بني العباس يجهرون بتقواهم، ولكن كانت لهم قصور حوت في حجراتهم الخاصة جدراناً مزينة بالصور؛ وقد استأجر المعتصم فنانين، أغلب الظن أنهم مسيحيون، ليصوروا على جدران قصرهِ في سامرا مناظر صيد. ورجال دين، وبنات عاريات يرقصن؛ وأجاز المتوكل، وهو الذي كان يضطهد الملحدين، المصورين من أهل بيزنطية أن يضيفوا إلى هذه المظلمات مظلماً آخر يمثل رهباناً مسيحيين وكنيسة مسيحية(141).
وزين محمود الغزنوي قصره بصور تمثله هو وجيوشه، وفيلته؛ وغطى ابن مسعود، قبل أن يخلعه الأتراك السلاجقة عن عرشهِ بزمن قليل، جدران حجرات قصره في هراة بمناظر قائمة على أسس مأخوذة من كتب الفن الشهواني الفارسي أو الهندي(142). وتروي إحدى القصص أن اثنين من رجال الفن أخذا يتباريان في بيت أحذ الوزراء في التصوير الواقعي؛ فعرض أحدهما أن يصور فتاة راقصة تبدو كأنها خارجة من باطن الجدار؛ وعرض الثاني أن يقوم بعمل أشق من هذا-وهو أن يصورها بحيث تبدو وهي تهم بدخول الجدار. ونجح كلاهما في إبراز فكرته نجاحاً حمل الوزير على أن يخلع عليهما خلعاً سنية ويهبهما كثيراً من الذهب(143). وفي وسعنا أن نذكر كثيراً من الشواهد الدالة على أن المسلمين قد خالفوا أمر التحريم؛ وحسبنا أن نقول إنا نجد في بلاد الفرس بنوع خاص حيوانات وأناسي مصورة بكثرة يطرب لها الرائي، وممثلة بجميع أنواع فنون التصوير. ولكن التحريم رغم هذا كله، يؤيده الشعب تأييداً وصل من القوة إلى درجة أن كان بعض أفراده يشوهون روائع الفن أو يتلفونها، قد عاق
صفحة رقم : 4682
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
نمو فن التصوير الإسلامي، حتى اقتصر الكثير منه على التحلية المجردة، وكاد يمنع تصوير الأشخاص (وإن كنا نسمع عن وجود أربعين صورة لابن سينا)، وترك الفنانين يعتمدون كل الاعتماد على مناصرة الملوك أو الأشراف.
ولم يبقَ من صور الجدران في ذلك العصر إلا صور قصير عمرة؛ وهي تكشف عن خليط غريب مجدب من القواعد الفنية البيزنطية والأنماط الساسانية. وكأن المسامين أرادوا أن يعوضوا هذا النقص فارتفعوا بالرسوم الصغرى على العاج ومثله إلى درجة الجمال لا تعلوا عليها درجة أخرى في التاريخ كله. وقد وجد هذا الفن تراثاً متعدد الأنماط بنى عليه، وأخرج منه ثماراً مختلفة، ونعني بذلك التراث البيزنطي، الساساني، والصيني؛ وكان تزيين المخطوطات الإسلامية بالرسوم الصغيرة في العصور الوسطى فناً اختصت به طبقات الأشراف القليلة العدد، شأنه في هذا شأن موسيقى الحجرات في أوربا الحديثة؛ فقد كان الأغنياء وحدهم هم الذين يستطيعون الاحتفاظ بالفنان الفقير المخلص لفنه فقراً وإخلاصاً أنتجا هذه الروائع التي تتطلب كثيراً من الجهد والأناة. وهنا أيضاً أخضع التزيين تمثيل الكائنات الحية لسلطانه؛ فأغفل الفنان عن قصد قواعد المنظور، وخرج على الشكل الذي اتخذ أنموذجاً له، فكان يعمد إلى موضوع أو شكل مركزي-قد يكون شكلاً هندسياً أو زهرة واحدة-ويتبسط فيه ويتوسع ويخلق منه مائة صورة مختلفة حتى لتكاد كل إصبع من الصفحة بما في ذلك إطارها تمتلئ بالخطوط المرسومة بدقة متناهية كأنها قد حفرت حفراً. وكان في وسع الفنان أن يزين الكتب غير الدينية بصور الرجال والنساء والحيوان، في مناظر الصيد واللهو والحب، ولكن طراز التزيين كان هو بعينهِ على الدوام، كان هو الصورة المكونة من خطوط دقيقة، ومن ألوان مؤتلفة منسجمة يفنى بعضها بعض، ومن المجرد الهادئ البالغ أقصى درجات الكمال، والذي يهدف إلى متعة العقل المطمئن المستريح.
صفحة رقم : 4683
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
وكان الخط العربي الجميل جزءاً لا يتجزأ من فن التنميق؛ ولسنا نجد مثالاً آخر لاجتماع الكتابة والتصوير تآخيهما على هذا النحو إلا في بلاد الصين البعيدة. لقد كانت الحروف الكوفية في موطنها الأول، بلدة الكوفة نفسها، حروفاً سمجة ذات زوايا، وأركان محددة فجة، ولكن الخطاط كسا هذه العظام العجاف بالحركات وعلامات الإمالة والنقط وحروف المد ورسوم صغير متخذة من أوراق النبات؛ فلما ارتقى الخط الكوفي إلى هذه الدرجة من الجمال أصبح كثير الاستعمال في تزيين المباني نفسها. أما الكتابة الدارجة فكان الخط النسخ فيها أكثر جاذبية من الخط الكوفي؛ وكانت حروفه المستديرة وكان امتداد الأفقي المتعرج كان هذان في حد ذاتهم وسيلة للزينة في غنى عن الإضافات الأخرى. وليس في خطوط العالم كله سواء كانت مكتوبة باليد أو مطبوعة ما يضارع هذا الخط في جمالهِ؛ ولم يحل القرن العشرين حتى كانت الغلبة على الخط الكوفي في تزيين المباني أو الخزف، والكثرة الغالبة من الكبت الإسلامية التي وصلت إلينا من العصور الوسطى مكتوبة بخط النسخ؛ ومعظم هذه من المصاحف لأن كتابة القرآن كانت في حد ذاتها من الأعمال الصالحة التي يثاب عليها صاحبها؛ وكان تزيينها بالصور تعد انتهاكاً لحرمتها، ولكن كتابتها بالخط الجميل كانت تعد من أشرف الفنون. وبينما كان رسامو الصور الصغيرة على العاج أو غيره صناعاً يستأجرون بأجر قليل، كان الخطاطون يبحث عنهم في جميع أنحاء البلاد ويغدق عليهم الملوك والأمراء الهدايا والأموال، وكان منهم هم أنفسهم ملوك وساسة. وكانت الرقعة المكتوبة بيد أحد هؤلاء الفانين كنزاً لا يقدر بمال، وكان في البلاد منذ القرن العاشر طائفة من المولعين بجمع الكتب يعيشون ويتحركون ويقضون حياتهم كلها بين ما جمعوه من المخطوطات الجميلة المكتبة على الرق بالمداد الأسود، والأزرق، والبنفسجي، والأحمر، وبالذهب الإبريز. ولم يصل لنا إلا عدد قليل من كتب ذلك العصر، وأقدمها كلها نسخة من القرآن موجودة
صفحة رقم : 4684
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
في دائرة الكتب المصرية بالقاهرة يرجع تاريخها إلى عام 784. وإذا ذكرنا بعد ذلك أن هذه الكتب كانت تجلد بأعظم أنواع الجلد ليناً ومتانة، وأنه قد بذل في تجليدها من حسن الذوق ومن المهارة ما لا زيادة بعده لمستزيد، وأن الجلد المغلفة به كان في كثير من الأحيان يزدان بأجمل الرسوم وأدقها، إذا ذكرنا هذا حق لنا أن نقول دون أن نتهم بالمغالاة إن الكتب الإسلامية من بداية القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر هي أجمل ما رأته العين من الكتب في العالم كله. وهل منا من لا يطمع في أن تنشر كتبه بهذا الرونق وتلك الفخامة؟
وقد اجتمعت الفنون كلها في تزيين الحياة الإسلامية والسمو بها إلى ذروة الجمال، فامتزجت أشكال الرسوم الدقيقة بالخط الجميل في المنسوجات، وطبعت بالنار على الفخار؛ وأقيمت على مداخل المباني والمحاريب. وإذا كانت حضارة العصور الوسطى لم تفرق بين الصانع الماهر والفنان، فلم يكن ذلك ليحط من شأن الفنان، بل كان يرفع من قدر الصانع الماهر، وكان الهدف الذي تبتغيه كل صناعة أن تصبح فناً من الفنون الجميلة. لقد كان الناسخ يخرج منسوجات عادية يستعملها عامة الناس وتبلى بعد قليل، مثله في هذا كمثل صانع الفخار سواء بسواء؛ ولكنه كان في بعض الأحيان يعبر عن حذقه وصبره، كما يصور أحلامه، في الأثواب، والسجف، والطنافس، وأغطية الفراش، والنسيج المطرز، الحرير المشجر، يخرجه ليبقى عدة أجيال وقد أبدع نقشه، وصبغه بالألوان الزاهية المحبوبة في بلاد الشرق. لقد كانت المنسوجات البيزنطية، والقبطية، والساسانية، والصينية ذائعة الصيت حين فتح المسلمون بلاد الشام، وفارس، ومصر، والتركستان؛ وما اسرع ما تعلم المسلمون صناعات تلك البلاد، فلم يمضِ إلا قليل من الوقت حتى أخرجت المصانع الإسلامية المنسوجات الحريرية التي نهى النبي عن لبسها، وأخرجتها بكثرة، ولبسها النساء والرجال وهم يدعون الله أن يغفر لهم خطاياهم الجسمية والروحية. وكانت حلة الشرف أثمن ما يستطيع الخليفة أن يخلعه على من
صفحة رقم : 4685
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الفن
يؤدي له خدمة جليلة؛ وسرعان ما أصبح المسلمون كبار تجار الحرير في العالم كله في العصور الوسطى. وكانت أقمشة التفتاه الحريرية تبتاع لملابس السيدات غي أوربا، واشتهرت شيراز بالأقمشة الصوفية، كما اشتهرت بغداد بأقمشة الستائر، والمظلات، والحرير المموج، وخوزستان بالأقمشة المنسوجة من وبر الجمال وشعر الماعز، وخراسان بأغطية الهوادج، وصور بالطنافس، وبخارى بسجاجيد الصلاة، وهراة بالحرير المنقوش بخيوط الذهب. ولقد عدا الدهر على هذا كله فلم يبقَ لنا منه مثال واحد، وكل ما نستطيعه هو أن نتصور ما كانت عليه هذه المنسوجات من الرونق والفخامة بالنظر إلى ما كان منها في القرون التالية، وبدراسة ما وصفها به الكتاب المعاصرون لها. وقد وجدت في المحفوظات الباقية من أيام هرون الرشيد مذكرة جاء فيها "400.000 قطعة من الذهب ثمن حلة وهبت لجعفر بن يحيى الوزير"(144).
صفحة رقم : 4686
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الموسيقى
الفصل الثامِن
الموسيقى
كانت الموسيقى في أول الأمر محرمة في الإسلام تعدّ من الآثام، شأنها في ذلك شأن النحت(145). نعم إنه لم ينص على تحريمها في القرآن، ولكن حديثاً مشكوكاً في صحتهِ يعزو إلى النبي أنه لخوفهِ من عاقبة أغاني النساء الخليعات ورقصهن قال ما معناه إن الآلة الموسيقية كمؤذن الشيطان يستفز من استطاع إلى عبادته. وكان علماء الدين وأتباع المذاهب الأربعة ينفرون من الموسيقى لأنها تثير الشهوات، ولكن منهم من قال متسامحاً إنها ليست إثماً في ذاتها. أما الناس، وهم أحكم في مسلكهم منهم في عقائدهم، فكان يجري على ألسنتهم مجرى الأمثال أن "الخمر كالجسد والسماع كالروح والسرور ولدهما"(146). وقد رافقت الموسيقى كل مرحلة من مراحل الحياة الإسلامية وملأت آلاف الليالي العربية بأغاني الحب والحرب والموت؛ فكانت قصور الأمراء وكثير من بيوت العظماء تستخدم المغنين ليطربوا أهلها بقصائد الشعراء أو بقصائدهم هم أنفسهم، وفي ذلك يقول مؤرخ قدير صائب الحكم على هذه الأمور قولاً خليقاً بأن يثير الدهشة: إن المنزلة التي بلغتها الموسيقى بجميع فروعها عند العرب لتزري بمنزلة هذا الفن في تاريخ أي بلد آخر(147)". نعم إن الأذن الغربية لا تستطيع بغير مران طويل أن تقدر خصائص الموسيقى العربية-ونعني بتلك الخصائص تفضيلها حسن الإيقاع على انسجام الألحان، وتقسيم النغمات إلى أثلاث لا إلى أنصاف، وما في تكوينها وتوقيعها من نظارة وبهجة هي من مميزات بلاد الشرق. وقد تبدو لنا نحن الغربيين تكراراً بسيطاً، محزناً مملاً، غريباً مستهجناً غير منتظم. لكن الموسيقى الأوربية نفسها تبدو للعربي ناقصة في عدد نغماتها،
صفحة رقم : 4687
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الموسيقى
وفي دقة هذه النغمات؛ مولعة إلى حد الإسفاف بالتعقيد الذي لا خير فيهِ، وبالأصوات الناشزة الشديدة الارتفاع. وإن ما في الموسيقى العربي من رقة تبعث على التفكير لتؤثر في نفس المسلم أعمق التأثير. ويحدثنا السعدي عن غلام يغني بنغمة محزنة مؤثرة تستوقف الطائر في كبد السماء(148). ويصف الغزالي النشوة بأنها الحالة التي يبعثها الاستماع إلى الموسيقى(149). وقد أفرد أحد المؤلفين العرب فصلاً في كتابهِ للحديث عن الذين فقدوا وعيهم أو ماتوا وهم يستمعون إلى الموسيقى الإسلامية، وقد استعان بها الدراويش في أذكارهم وشعائرهم وإن كان الدين نفسه قد ندد بها في أول الأمر.
وبدأت الموسيقى الإسلامية بالألحان والأشكال الساميَّة القديمة، ثم تطورت على ضوء صلاتها بالتقاسيم اليونانية الآسيوية النشأة وتأثرت تأثراً قوياً بالموسيقى الفارسية والهندية. وقد أخذت إحدى العلامات وكثير من القواعد الموسيقية عن اليونان؛ وللكندي، وابن سينا، وإخوان الصفا، كتابات مطولة في هذا الموضوع؛ وكتاب الفارابي في الموسيقى أشهر ما ألف في العصور الوسطى في النظريات الموسيقية وهو يضارع أي كتاب وصل إلينا من المصادر اليونانية إن لم يفقه(150). وقد وضع المسلمون منذ القرن السابع السلم الموسيقي (ويبدو أن ذلك لم يكن معروفاً في أوربا قبل عام 1190)(151)-وكانت علاماتهم تدل على طول الزمن الذي تمتد إليه كل نغمة وعلى مقاماتها(152).
وكان عند العرب آلات موسيقية تبلغ المائة عدّ أشهرها العود، والقيثارة، والبندور، والسنطير، والناي، ويقويها في بعض الأحيان البوق، والدف، والصنج، والرق، والطبل. وكان العود على أنواع وأحجام كثيرة لا تقل عن الأثني عشر؛ وكان الكبير منها يسمى القيثارة. وعن العرب أخذت كلمتا Iute, Guilar. وكان القوس يستعمل للعزف على بعض الآلات الوترية، وكان الأرغن بنوعيهِ الهوائي والمائي معروفاً عند العرب؛ وقد اشتهرت
صفحة رقم : 4688
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الموسيقى
بعض المدن الإسلامية كإشبيلية بصنع الآلات الموسيقية الدقيقة التي لا تضارعها آلات أخرى مما كان يصنع وقتئذ في بلاد الإسلام(152). وكان يقصد بالموسيقى الآلية كلها تقريباً أن تصحب الغناء أو أن تكون مقدمة له. وكان يقتصر في العادة على استخدام أربع آلات أو خمس في وقت واحد، ولكننا نقرأ أيضاً عن فِرَق موسيقية كبيرة العدد(153)، وتقول إحدى الروايات المتواترة إن سريج الموسيقى من أهل المدينة أول من استعمل القضيب(154).
وكانت منزلة الموسيقيين عند المسلمين منحطة إذا استثنينا مشهوري الفنانين وذلك على الرغم من ولع المسلمين بهذا الفن ولعاً يبلغ حد الجنون. وشاهد ذلك أننا قلما نرى من أفراد الطبقات العليا من نزل من عليائهِ فدرس هذا الفن الفاتن الذي يسلب العقول. ومن أجل هذا كانت الموسيقى في بيوت الأغنياء من عمل القيان، ومن المشرعين فئة تقول إن شهادة الموسيقى لا تقبل في المحكمة(155). وكذلك كان الرقص عنهم يقتصر على الجواري يدربن عليه ويستأجرون له؛ وكان في كثير من الأحيان رقصاً شهوانياً، وفي كثير منها فنياً. وقد أقام الخليفة الأمين حفلة راقصة دامت طوال الليل رقص فيها عدد كبير من الفتيات وغنّين. ولما اتصل العرب باليونان والفرس ارتفعت منزلة الموسيقيين عندهم، وكان الخلفاء الأمويون والعباسيون يغدقون الهبات على كبار الموسيقيين في أيامهم؛ فها هو ذا سليمان بن عبد الملك يعرض جوائز تبلغ عشرين ألف قطعة من الفضة (10.000 دولار أمريكي) لمباراة بين الموسيقيين في مكة. وهاهو ذا الوليد الثاني يعقد مباريات في الغناء كانت الجائزة الأولى في واحدة منها 300.000 قطعة من الفضة (150.000 دولار أمريكي)(156)، وربما كانت هذه الأرقام مبالغاً فيها كعادة أهل الشرق. وقد دعا المهدي إلى بلاطهِ مغنياً مشهوراً من أهل مكة، ودعا هرون الرشيد إلى بلاطهِ إبراهيم الموصلي وأعطاه 150.000 درهم (75.000 دولار أمريكي) ورتب له عشرة آلاف شهر ووهبه 100.000 نظير أغنية واحدة. وقد بلغ من حب هرون للموسيقى أن شجع تلك الموهبة في
صفحة رقم : 4689
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الموسيقى
أخيهِ لأبيهِ، الشاب إبراهيم ابن المهدي-على الرغم من تقاليد طبقته-لأن إبراهيم كان له صوت غاية في القوة يبلغ مداه ثمان طبقات. وإن الزمن ليتضاءل في خيالنا وتضيق دائرته إلى أقصى حد عندما نسمع أنه قام بحركة ابتداعية في الموسيقى العربية مضادة للنزعة الإتباعية نزعة إسحق بن إبراهيم الموصلي. وكان المأمون يقول عنه أنه لم يغنّ لي قط إلا شعرت بأني قد اتسع ملكي(159).
والقصة الآتية التي يرويها مخارق تلميذ إبراهيم الموصلي تصور لنا المجتمع الإسلامي بصورة مبهجة، وتظهر ما كان للموسيقى الإسلامية من أثر قوي في نفس المسلم؛ ولسنا في حاجة إلى تصديقها لكي نحس بمغزاها، قال:
تطفلت تطفيلة قامت على أمير المؤمنين المعتصم بمائة ألف درهم، فقيل له كيف ذلك؟ قال: شربت معه ليلة إلى الصبح، فلما أصبحنا قلت له: يا سيدي إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فأخرج الرصافة فأتنسم إلى وقت انتباه أمير المؤمنين قال نعم، وأمر البوابين أن يتركوني؛ فخرجت أتمشى فإذا بجارية كأن الشمس تشرق من وجهها فتبعتها، ورأيت معها زنبيلاً فوقفت على صاحب فاكهة فاشترت منه سفرجلة بدرهم، ورمانة بدرهم وكمثراية بدرهم وانصرفت. فتبعتها، فالتفتت فرأتني فقالت يا ابن الفاعلة إلى أين تريد؟ قلت خلفك يا سيدتي؛ فقالت ارجع يا ابن الزانية لئلا يراك أحد فيقتلك. فتأخرتُ ومشيتُ من بعيد وهي تمشي أمامي، ثم التفتت فرأتني فشتمتني شتماً قبيحاً. ثم جاءت إلى باب كبير فدخلتْ فيه وجلستُ أنا بحذاء الباب، وقد ذهب عقلي، ونزلت عليّ الشمس، وكان يوماً حاراً، فما لبثت أن جاء فَتَيان كأنهما بدران على حمارين؛ فلما وصلا إلى الباب استأذنا فأذن لهما، فدخلا، ودخلتُ معهما، فظنا أن صاحب المنزل قد دعاني. وجيء بالأكل فأكلنا وغسلنا أيدينا، ثم قال لنا صاحب المنزل: هل لكما في فلانة؟ قالوا: إن تفضلت. فاستدعى تلك الجارية، فخرجت صاحبتي ووراءها وصيفة تحمل عودها، فوضعته في حجرها وغنت، فشربوا وطربوا، فقالوا: لمن هذا الصوت؟ فقالت: لسيدي مخارق. ثم غنت صوتاً آخر فشربوا
صفحة رقم : 4690
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الفكر والفن في بلاد الإسلام الشرقية -> الموسيقى
وطربوا وهي تلحظني وتشكّ فيَّ، فقالوا: لمن هذا الصوت؟ فقالت: لسيدي مخارق. ثم غنت صوتاً ثالثاً فطربوا وشربوا، فقالوا لمن هذا الصوت؟ فقالت: لسيدي مخارق. فلم ألبث أن قلتُ: يا جارية شدي يدك فشدت أوتارها وخرجت عن إيقاعها الذي تقول عليه. فاستدعيتُ بدواة وقضيب وغنيتُ الصوت الذي غنته الجارية أولاً، فقاموا إليَّ وقبلوا رأسي. (قال الراوي) وكان مخارق أحسن الناس صوتاً وكان يوقع بالقضيب توقيعاً عجيباً. ثم غنيتُ الصوت الثاني والثالث فكادت عقولهم تطير. فقالوا بالله من أنتَ يا سيدي؟ فقلتُ: أنا مخارق. فقالوا ما سبب مجيئك؟ قلت: طفيلي أصلحكم الله، وأخبرتهم بخبري، فقال صاحب البيت لصديقيهِ: أما تعلمان أني أعطيت في الجارية ثلاثين ألف درهم فامتنعت عن بيعها؟ قالا: بلى. قال: هي له. قال صديقاه: علينا عشرون ألف درهم وعليكَ عشرة آلاف. قال مخارق فملكوني الجارية وجلستُ عندهم إلى العصر وانصرفتُ بها (وبغيرها من الأثواب الغالية والهدايا الأخرى الثمينة التي أهدوها إليَّ)، وكلما مرت بالمواضع التي شتمتني فيها أقول لها: يا مولاتي: أعيدي كلامك؛ فتستحي مني فأحلف عليها لتعيدنه فتعيده حتى وصلنا إلى باب أمير المؤمنين (فقيل لي إنه انتبه وطلبك في منازل أبناء القواد فلم يجدكَ وتغيظ عليكَ غيظاً شديداً)، فدخلتُ عليهِ ويدي في يدها فلما رآني سبَّني وشتمني، فقلتُ: يا أمير المؤمنين: لا تعجل. وحدثته القصة فضحك وقال: نحن نكافئهم عنك. فأحضَرَهم وأمرَ لكل واحد منهم بثلاثين ألف درهم ولي بعشرة آلاف .
صفحة رقم : 4691
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> فتح أفريقية
الباب الثالث عشر
الإسلام في الغرب
641-1086
الفصل الأوَّل
فتح إفريقية
لم يكن الشرق الأدنى إلا جزءاً من العالم الإسلامي، وقد استعادت مصر تحت حكم المسلمين مجدها الفرعوني؛ كما استعادت تونس ومراكش بزعامة العرب ما كان لهما من حكومة منظمة؛ وازدهرت مدائن القيروان وبالرم وفاس إلى حين. أما أسبانيا في عهد العرب فقد وصلت إلى الذروة في تاريخ الحضارة؛ ولما حكم المُغُل المسلمون بلاد الهند فيما بعد شادوا كما يشيد الجبابرة، وأبدعوا كما يبدع الصياغ.
وبينما كان خالد بن الوليد وغيره من الفاتحين يخضعون بلاد الشرق زحف عمرو بن العاص، بعد موت النبي بما لا يزيد على سبع سنين؛ من مدينة غزة في فلسطين واستولى على بلوز ، ومنفيس، ثم زحف على الإسكندرية. لقد كان لمصر مرافئ وقواعد بحرية، وكان العرب في حاجة ماسة إلى أسطول؛ وكانت مصر تصدر الحبوب إلى القسطنطينية، وكانت بلاد العرب في حاجة إلى الحبوب، وكانت الحكومة البيزنطية منذ قرون طوال تستخدم العرب في شرطتها، ولم يكن هؤلاء ممن يعوقون زحف الفاتحين؛ وكان المسيحيون اليعاقبة في مصر قد قاسوا
صفحة رقم : 4692
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> فتح أفريقية
الأمرَّين من جراء اضطهاد بيزنطية؛ ولهذا رحب بقدوم المسلمين، وأعانوهم على استيلاء منفيس، وأرشدوهم إلى الإسكندرية ، ولما سقطت تلك المدينة في يد عمر وبعد حصار دام ثلاثة عشر شهراً (641) كتب إلى الخليفة عمر ابن الخطاب يقول: "أما بعد، فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف قصر وأربعة آلاف حمام وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية وأربعمائة ملهى للملوك" .
وحال عمرو بين العرب وبين نهب المدينة وفضل أن يفرض عليها الجزية. ولم يكن في وسعهِ أن يدرك أسباب الخلافات الدينية بين المذاهب المسيحية المختلفة، ولذلك منع أعوانه اليعاقبة أن ينتقموا من خصومهم الملكانيين، وخالف ما جرت عليه عادة الفاتحين من أقدم الأزمنة فأعلن حرية العبادة لجميع أهل المدينة.
وبعد،فهل أحرق عمرو مكتبة الإسكندرية؟ لقد وردت هذه القصة أول ما وردت في كتاب عبد اللطيف (1162-1231)، أحد العلماء المسلمين(2)؛ ثم أوردها بتفصيل أوفى بار هبريوس Bar Hebraeus (1226-1286) وهو مسيحي يهودي الأصل من شرقي بلاد الشام كتب باللغة العربية، باسم أبي الفرج، مختصراً لتاريخ العالم. وقد جاء في روايته لهذه القصة أن رجلاً من أهل الإسكندرية يسميه العرب حنا الأجرومي (واسمه عند الغربيين John Philoponus) طلب إلى عمرو أن يعطيه ما في المكتبة من مخطوطات؛
صفحة رقم : 4693
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> فتح أفريقية
فكتب عمرو إلى الخليفة عمر يستأذنه في هذا؛ فرد عليه عمر، كما تقول الرواية، بقولهِ: "أما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا بهِ، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه واحرقها". وتختصر الأسطورة هذا الرد الأسطوري في أغلب الظن إلى هذا الجواب القصير: "احرقها لأن ما فيها كله يحتويه كتاب واحد هو القرآن". ويضيف بار هبريوس أن عمراً أمر بالكتب فوزعت على حمامات المدينة البالغ عددها أربعة آلاف حمام لتوقد بها، فما زالوا يوقدون بملفات البردي والرق ستة أشهر (642). ومن نقط الضعف في هذه القصة: (1) أن جزءاً كبيراً من هذه المكتبة قد أحرقه المسيحيون المتحمسون في عهد البطريق توفيلس عام 392(3)، (2) وأن ما بقي فيها قد تعرض لإهمال المهملين وعداء الأعداء تعرضاً "أدى إلى ضياع معظمه قبل عام 642"(4)، (3) وأن أحداً من المؤرخين المسيحيين لم يشر بكلمة إلى هذا الحديث المزعوم في الخمسمائة العام الواقعة بين حدوثه وبين ذكره لأول مرة، مع أن أحد هؤلاء المؤرخين وهو أوتكيوس Eutychius كبير أساقفة الإسكندرية في عام 933 وقد وصف فتح العرب للإسكندرية بتطويل كبير(5). ولهذا فإن معظم المؤرخين يرفضون هذه القصة ويرون أنها من الخرافات الباطلة. هذا ولقد كان ضياع مكتبة الإسكندرية شيئاً فشيئاً من المآسي الكبرى في تاريخ العالم؛ وذلك بأنها، كما يعتقد العلماء، كانت تحتوي على مجموعة كاملة مما نشر من كتب إسكلس، وسفكل، وبولبيوس، وليفي، وتاستوس، ومائة آخرين من المؤلفين الذين وصلت إلينا كتبهم مختلطة مهوشة، كما كانت تحتوي على نصوص الكاملة لمن جاء قبل سقراط من الفلاسفة، وهي النصوص التي لم يبقَ منها إلا جذاذات متفرقة، وعلى آلاف من المجلدات في تاريخ اليونان، والمصريين،
صفحة رقم : 4694
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> فتح أفريقية
والرومان، وفي العلوم الطبيعية، والآداب والفلسفة.
وحكم عمر مصر حكماً صالحاً؛ وخصص جزءاً من الضرائب الباهظة لتطهير قنوات الري وترميم الجسور، وإعادة فتح الخليج الذي كان يوصل النيل بالبحر الأحمر، والذي يبلغ طوله ثمانين ميلاً. وبذلك استطاعت السفن وقتئذ أن تصل من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي(6) (وقد طمر هذا الخليج مرة أخرى في عام 732 وأهمل شأنه). وأنشأ عمرو عاصمة جديدة لمصر في الموضع الذي أقام فيه معسكر عام 641 وسميت العاصمة الجديدة بالفسطاط، وهي كما يبدو الكلمة المرادفة لخيمة. وكانت هذه المدينة بداية مدينة القاهرة الحاضرة؛ وقد ظلت قرنين كاملين (641-868) مقر الولاة المسلمين يحكمون منه مصر نيابة عن خلفاء دمشق أو بغداد.
وبعد فإن من الحقائق المقررة أم كل فتح يخلق حدوداً جديدة تتعرض للخطر فتوحي بفتح جديد. وأراد المسلمون أن يحكموا مصر الإسلامية من هجوم على جناحها الغربي من قيرين البيزنطية فزحفوا بجيش تبلغ عدته أربعين ألف مقاتل مخترقين الصحراء إلى برقة، واستولوا عليها، ووصلوا قرب قرطاجة. وغرس قائد المسلمين رمحه في الرمل جنوبي مدينة تونس الحالية بنحو ثمانين ميلاً، وأقام في هذه النقطة معسكره، وأنشأ بذلك (670) مدينة من أكبر المدائن الإسلامية وهي مدينة القيروان- "المحطة" . ونسي البربر إلى حين حقدهم على الروم فانظموا إليهم في الدفاع عن المدينة، فظلت تقاوم المسلمين ولم تخضع إليهم إلا في عام 698. ولم يلبث
صفحة رقم : 4695
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> فتح أفريقية
شمال إفريقية أن خضع للمسلمين حتى شاطئ المحيط الأطلنطي. واقتنع البربر- بشروطهم هم أنفسهم تقريباً- بقبول حكم المسلمين، ولم يلبثوا أن اعتنقوا الدين الإسلامي، وقسمت أملاك المسلمين في إفريقية إدارياً إلى ثلاث ولايات: ومص وعاصمتها الفسطاط، وإفريقية وعاصمتها القيروان، والمغرب (مراكش) وعاصمتها فاس.
وظلت هذه الولايات نفسها قرناً من الزمان تعترف بالسيادة لخلفاء المشرق؛ ولكن انتقال مقر الخلافة إلى بغداد زاد من صعاب الاتصال والنقل، فأخذت الولايات الإفريقية تتحول واحدة بعد الأخرى إلى ممالك مستقلة. فقامت أسرة الأدارسة في فاس (974)، وأسرة بني الأغلب (800-909)تحكم القيروان، وقامت الأسرة الطولونية (869-905) في مصر. ولم تعد مصر-نهباً للحكام الأجانب، ودخلت في نهضة صغرى جديدة. وفتح أحمد بن طولون عام (869-884) بلاد الشام وضمها إلى مصر، وبنى له عاصمة جديدة تدعى القطائع (ضاحية من ضواحي الفسطاط) وشجع العلوم والفنون، وشاد القصور، والحمامات العامة، وأنشأ بيمارستاناً، ومسجداً عظيماً لا يزال حتى اليوم ناطقاً بفضلهِ: وقلب ابنه خماريه (884-895) هذا النشاط إلى ترف، ورصع جدران قصره بالذهب، وفرض على شعب مصر الضرائب الباهظة لينشئ لنفسهِ بركة من الزئبق ليتأرجح بلطف على فراشهِ المصنوع من الجلد المنفوخ حتى يغلبه النوم. وخَلَفت الأسرة الطولونية بعد أن حكمت أربعين عاماً أسرة تركية أنشأها الإخشيد (935-969). ولم تكن لهذه المماليك الإفريقية جذور تمتد إلى دماء الشعب أو تقاليده، ولهذا كان لا بد لها أن تقيم حكمها على القوة والزعامة الحربيتين، فلما أضعفت الثروة حماستها العسكرية ذابت قوّتها واختفت من الوجود.
وأيدت أعظم الأسر الحاكمة الإفريقية سيادتها الحربية بعقيدة دينية تكاد
صفحة رقم : 4696
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> فتح أفريقية
تبلغ درجة التعصب؛ ذلك أن أبا عبد الله قام في بلاد تونس عام 905 وأخذ يدعو إلى المذهب الشيعي وإلى عقيدة الأئمة السبعة، ويبشر بقرب ظهور المهدي؛ وقد بلغ من قوة أتباعه البربر أن استطاع إزالة حكم الأغالبة من القيروان. وكان قد أعد العدة لتحقيق ما أثاره في أتباعهِ من آمال مرتقبة فاستدعى من بلاد العرب عبيد الله بن محمد، وزعم أنه حفيد عبد الله إمام الإسماعيلية، وأعلن أنه المهدي المنتظر، ونادى به ملكاً (909)، وما لبث هذا الداعية أن قُتِل بأمر مليكه. وقال عبيد الله إن نسبه يمتد إلى السيدة فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وسلم) وسمى أسرته بالأسرة الفاطمية نسبة لها.
واستعاد شمال إفريقية تحت حكم الأغالبة والفاطميين ما عرفه من رخاء في أيام مجد قرطاجنة تحت حكم الرومان. ذلك أن الفاتحين المسلمين في عنفوان شبابهم في القرن التاسع أنشئوا ثلاث طرق كبرى يتراوح طولها بين 1500 و2000 ميل تخترق الصحراء الكبرى إلى بحيرة شاد وتمبكتو، كما أنشئوا من الثغور في الشمال والغرب بونة، ووهران، وسبتة، وطنجة؛ وقامت تجارة عظيمة مربحة ربطت بلاد السودان بالبحر المتوسط، وبلاد الإسلام الشرقية بمراكش والأندلس، ونقل المهاجرون الأسبان إلى مراكش الصناعات الجلدية؛ وأضحت مدينة فاس مركزاً لتبادل التجارة مع أسبانيا، واشتهرت بأصباغها وعطروها، وطرابيشها الحمر والمغربية.
وانتزع الفاطميون في عام969 مصر من بني الإخشيد، وما لبثوا أن بسطوا حكمهم على بلاد العرب والشام. ونقل المعز الخليفة الفاطمي عاصمة ملكه إلى القاهرة؛ وكانت امتداداً للقطائع في جهة الشمال الشرقي كما كانت القطائع نفسها امتداداً للفسطاط في هذا الاتجاه. وحذا المعز حذو أسلافه فشرع بغزو البلاد ويفتح الأمصار. وفي عهد المعز (943-975) وابنه العزيز (975-996) أعاد يعقوب بن كلس-وهو يهودي من بغداد اعتنق الإسلام- تنظيم الإدارة
صفحة رقم : 4697
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> فتح أفريقية
المصرية، وجعل الفاطميين أغنى حكام زمانهم. ويشهد بذلك أنه حين توفيت رشيدة أخت المعز خلفت وراءها 2.700.000 دينار (12.825.000 دولار أمريكي)، و12.000 ألف ثوب؛ ولما ماتت أخته عبدة تركت ثلاثة آلاف مزهرية فضية، وأربعمائة سيف ذات نقوش دمشقية ذهبية، وثلاثين ألف قطعة من المنسوجات الصقلية، ومقداراً ضخماً من الجواهر(7). ولكن لا شيء يسقط كالنجاح، وآية ذلك أن الحاكم الخليفة التالي (996-1021) جن من فرط الثراء والسلطان، فدبر اغتيال عدد كبير من الوزراء، واضطهد المسيحيين واليهود، وأحرق كثيراً من الكنائس والمعابد، وأمر بهدم كنيسة بيت المقدس التي فيها قبر المسيح، وكان تنفيذ هذا الأمر من أسباب قيام الحروب الصليبية. وكأنما أراد الحاكم أن يعيد سيرة الإمبراطور كلجيولا، فنادى بنفسهِ إلهاً، وأرسل البعوث لنشر هذه العقيدة بين الناس، فلما أم قتل بعض هؤلاء الرسل عاد هو إلى حب المسيحيين واليهود، وأعاد بناء كنائسهم ومعابدهم. واغتيل الحاكم في سن السادسة والثلاثين.
وعم الرخاء مصر رغم ما كان يخص به الخلفاء أنفسهم من امتيازات واسعة لأنها كانت حلقة الاتصال التجاري بين أوربا وآسية، وازدادت عدد السفن التي ينقل عليها تجار الهند والصين بضائعهم من تلك البلاد مارة بالخليج الفارسي، والبحر الأحمر، والنيل إلى مصر. واضمحلت ثروة بغداد، وضعفت قوتها بينما زاد سلطان القاهرة وثراؤها وقد زار ناصري خسرو العاصمة الجديدة في عام 1047 وجاء في وصفه لها أن بها عشرين ألف بيت، معظمها من الآجر ترتفع إلى خمس طبقات أو ست، وعشرين ألف متجر مملوءة بالذهب، والجواهر، والأقمشة المطرزة، والحرير إلى درجة لا يجد الإنسان فيها مكاناً يجلس(8) فيهِ. وكانت الشوارع الكبرى مظللة من وهج الشمس وتضيؤها المصابيح بالليل. وكانت الحكومة تحدد الأثمان، وتقبض على من يبيع بأغلى منها، ويطاف به في شوارع المدينة على جمل، وهو يدق بيدهِ ناقوساً ويعلن بنفسهِ جرمه(9). وكان ذوو
صفحة رقم : 4698
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> فتح أفريقية
الثروات الضخمة كثيري العدد؛ وقد استطاع أحد التجار، وهو مسيحي، أن يطعم السكان كلهم من مالهِ الخاص مدة خمس سنين أصيبت فيها البلاد بالقحط بسبب انخفاض فيضان النيل؛ وترك يعقوب بن كلس وراءه ضياعاً تقدر قيمتها بما يوازي ثلاثين مليون دولار أمريكي(10). واشترك هؤلاء الأثرياء مع الخلفاء الفاطميين في بناء المساجد، وإنشاء دور الكتب، والمدارس الكبرى، وتشجيع العلوم والفنون. وكان حكم الفاطميين بوجه عام حكماً صالحاً خيـّراً طابعه الحرية والتسامح على الرغم مما كان يشينه أحياناً من قساوات، ومن ترف وإتلاف، وبالرغم من الاستغلال المعتاد للعمال، ومن العدد المطلوب من الحروب؛ وكان يضارع في رخائه وثقافته أي عهد آخر في تاريخ مصر(11).
وأخذ حكم الفاطميين في الضعف أيام المستنصر (1036-1094)، وهو ابن أمة سودانية. وقد أقام هذا الخليفة سرادقاً فخماً يقضي فيه أوقات ممتعة، وعاش عيشة الموسيقى، والخمر، واللذة؛ وكان يقول إن تلك الحياة خير لديه من التحديق في حجر أسود، والاستماع إلى صوت المؤذن الممل، وشرب الماء العكر (من بئر زمزم في مكة)(12). وثار عليه جنوده الأتراك في عام 1067، وأغاروا على قصرهِ، ونهبوا منه كنوزاً فنية لا تقدر بثمن، ومقداراً عظيماً من الجواهر، وحمل خمسة وعشرين بعيراً من المخطوطات اتخذ الضباط الأتراك بعضها وقوداً لتدفئة بيوتهم، كما اتخذوا جلودها المصنوعة من الجلد الرقيق البديع لإصلاح نعال جواريهم. ولما توفي المستنصر تمزقت أوصال الدولة الفاطمية، وانقسم جيشها الذي كان من قبل قوياً إلى شيع متنازعة من البربر، وسودانيين، وأتراك؛ وكانت إفريقية ومراكش قد انفصلتا عنها،وثارت عليها فلسطين، وضاعت منها بلاد الشام. ولما أن خلع صلاح الدين آخر الخلفاء الفاطميين في عام 1171، كانت أسرة أخرى من الأسر التي حكمت مصر قد ساقها السلطان والانغماس في الملذات إلى ما ساق إليه سابقاتها من الضعف والفناء.
صفحة رقم : 4699
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الحضارة الإسلامية في أفربقية
الفصل الثاني
الحضارة الإسلامية في إفريقية
كان الأمراء والخلفاء في القاهرة، والقيروان، وفاس، ينافس بعضهم بعضاً في إقامة المباني، وتشجيع التصوير، والموسيقى،والشعر، والفلسفة؛ ولكن كل ما بقي من المخطوطات من ذلك الوقت في شمالي إفريقية مخبوء الآن في دور الكتب التي لم يبدأ علماء الغرب في ارتيادها إلا منذ وقت قريب . وقد اندثرت معظم آيات الفن ولم يبقَ ما يشهد على عظمة ذلك العصر وروحه إلا المساجد وحدها. ففي القيروان مسجد سيدي عقبة الذي أنشئ أولاً في عام 670 وجدد بناؤه سبع مرات، والذي يرجع الجزء الأكبر منه إلى عام 838. وتعتمد أروقته ذات العقود المستديرة على مئات من العمد الكورنثية المأخوذة من خرائب قرطاجة، ومِنبره آية رائعة من آيات النحت الخشبي، ومحرابه من الرخام السماقي والقاشاني؛ ومئذنته المربعة الضخمة- وهي أقدم مئذنة في العالم(13)- أصبحت هي الطراز السوري الذي أقيمت على مثالهِ مآذن الغرب. وبفضل هذا المسجد أصبحت القيروان رابعة المدن الإسلامية المقدسة "أبواب الجنة الأربعة" ولا تقل مساجد فاس، ومراكش، وتونس، وطرابلس عنها في الروعة والفخامة إلا قليلاً.
وكانت المساجد في القاهرة ضخمة كثيرة العدد؛ ولا تزال هذه الحاضرة الفاتنة تزدان بنحو ثلاثمائة من هذه المساجد. ومن أشهرها مسجد عمرو بن العاص وقد بدئ بإنشائهِ في عام 641، وأعيد بناؤه في القرن العاشر، ولم يبقَ من
صفحة رقم : 4700
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الحضارة الإسلامية في أفربقية
أجزائه الأولى في هذه الأيام إلا عمده الكورنثية التي أنقذها العرب بحكمتهم من الخرائب الرومانية والبيزنطية. ولا يزال مسجد ابن طولون محتفظاً بشكلهِ الأصلي ونقوشهِ الأولى، ويحيط بصحنهِ الواسع سور ذو شرفات، وفي داخلهِ عقود مستدقة (غير مستديرة) هي أقدم ما يوجد من نوعها في مصر، إذا استثنينا عقد مقياس النيل بالروضة (865)- وهو بناء مقام على جزيرة الروضة بالقاهرة يقاس به ارتفاع ماء النهر. وربما كان هذا الطراز الرشيق من العقود قد اتنقل من مصر إلى أوربا القوطية عن طريق صقلية والنورمان(14). وفي مئذنة المسجد (ذات السلم الخارجي) والشبيهة بصروح الزجروات البابلية، وفي القبة المقامة فوق قبر ابن طولون، عقود على شكل حذاء الفرس، وهي إحدى المظاهر الإسلامية التي لا ترتاح إليها العين كما ترتاح إلى غيرها من مظاهر الفن الإسلامي. ويروى أن أحمد بن طولون أراد أن يرفع العقود على ثلاثمائة عمود، فلما علم أن هذه العمد لا يمكن الحصول عليها إلا إذا انتزعت من العمائر الرومانية والمسيحية، قرر أن يقيم هذه العقود بدلاً من هذا على عمد ضخمة من الآجر(15)، وربما كان هذا الطراز من العمد قد أوحى هو الآخر بعنصر من عناصر الطراز القوطي. وآخر ما نذكره من خصائص هذا المسجد أن بعض نوافذه قد ملئت بالزجاج الملون، وبعضها بالشبابيك الجصية على شكل ورود أو نجوم أو غيرها من الأشكال الهندسية، وهذه الأشكال ترجع إلى تاريخ غير معروف على وجه التحقيق.
وفي 970-972 أنشأ الجامع الأزهر جوهر الصقلي-وهو عبد مسيحي اعتنق الإسلام وكان القائد الذي فتح مصر للفاطميين. ولا تزال بعض الأجزاء الأصلية من هذا المسجد في مكانها؛ وفيه أيضاً نجد العقود المستدقة على 380 عموداً من الرخام، والجرانيت، والرخام السماقي. وقد شيد جامع الحاكم بأمر الله
صفحة رقم : 4701
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الحضارة الإسلامية في أفربقية
من الحجر، ولا يزال معظمه باقياً وإن لم تكن تقام فيه الصلاة الآن. وفي وسعنا أن نتصور ما كان عليه ن عظمة في العصور الوسطى بالنظر إلى نقوشه العربية الطراز، الرشيقة، المصنوعة من الجص، ومن الكتابات الكوفية الجميلة التي يزدان بها إفريزه. وقد كانت هذه المساجد، التي تبدو الآن معاقل أشبه بالقلاع-وما من شك في أنها صممت لتكون قلاعاً أيضاً-تزدان بكثير من روائع النحت، والكتابات، والفسيفساء،والمحاريب المطعمة، والقناديل التي أضحت الآن تحفاً نادرة في المتاحف. وكان بمسجد ابن طولون وحده 18.000 قنديل كثير منها من الزجاج المطلي بالميناء المختلف الألوان(16).
وكانت الفنون الصغرى شائعة في إفريقية الإسلامية، يمارسها المسلمون بما عرف عنهم من الصبر والدقة. فالقاشاني البراق يشاهد في جامع القيروان، وقد وصف ناصري خسرو (1050) الخزف الذي كان يصنع في القاهرة بأنه رقيق بلغ من شفيفه أن اليد وضعت في خارجه تستطاع رؤيتها من داخلهِ(17). واحتفظ الزجاج المصري والسوري بكل ما كان له من جمال في العهود القديمة، وتحتفظ متاحف البندقية وفلورنس واللوفر بالآنية المصنوعة من البلور الصخري في عهد الفاطميين، وكان ناحتو الخشب يدخلون البهجة على النفوس بنقوشهم البديعة على أبواب المساجد، والمنابر، والمحاريب، والنوافذ الشبكية. وأخذ المسلمون المصريون عن رعاياهم الأقباط فن زخرفة الصناديق والنضد وغيرها من الأدوات بترصيعها أو تطعيمها بالعاج، أو الأبنوس، أو الأصداف. وكانت الجواهر كثيرة موفورة، وحسبنا أن نقول إنه لما أن نهب الجنود الأتراك المأجورون حجرات قصر المستنصر حملوا معهم آلاف المصنوعات الذهبية-كالمحابر، وقطع الشطرنج، والمزهريات، والطيور، والأشجار الاصطناعية المزينة بالأحجار الكريمة....(18)، وكان من بين ما انتهبوه ستائر من الحرير المطرز بخيوط الذهب نقشت عليها صور أكابر الملوك وكتبت عليها سيرهم. كذلك تعلم المسلمون
صفحة رقم : 4702
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الحضارة الإسلامية في أفربقية
من الأقباط فن طبع الرسوم وبصمها على المنسوجات بقطع من الخشب؛ ويبدو أن هذه الصناعة انتقلت من صر الإسلامية إلى أوربا على أيدي الصليبيين، وأنها ساعدت على نشأة فن الطباعة. وكان التجار الأوربيون يقدرون منسوجات الدولة الفاطمية تقديراً يفوق سائر المنسوجات، ويتحدثون وهم مذهولون عن منسوجات القاهرة والإسكندرية، التي تبلغ من الرقة درجة يستطاع معها أن تمر في خاتم الإصبع(19). ويحدثنا المؤرخون عن طنافس من عهد الفاطميين، وعن خيام منسوجة من المخمل، والساتان، والدمقس، والحرير، والأقمشة المنسوجة من خيوط الذهب، مزينة كلها بالرسوم، ومن هذه خيمة صنعت لليازوري وزير المستنصر عمل فيها مائة وخمسون صانعاً أكثر من تسع سنوات. وبلغت نفقاتها ثلاثين ألف دينار (142.000 دولار): وصور عليها، كما يقولون، جميع مل عرف من أنواع الحيوان في العالم كله، عدا "الإنسان الذئب" . غير أن الرسوم الفاطمية كلها لك يبقَ منها إلا قطع من المظلمات في دار الآثار العربية بالقاهرة، ولم تبقَ نقوش دقيقة من العهد الفاطمي في مصر؛لكن المقريزي الذي كتب في القرن الخامس عشر تاريخاً للتصوير-يقول إن مكتبة الخلفاء الفاطميين تحتوي على مئات من المخطوطات المزينة بكثير من الرسوم الدقيقة من بينها 2.400 مصحف.
وكانت مكتبة الخلفاء بالقاهرة في عهد الحاكم بأمر الله تحتوي مائة ألف من المجلدات؛ وكان بها في عهد المستنصر 200.000. ويقول المؤرخون إن الكتب كانت تعار لمن يطلبها من الدارسين ذوي السمعة الطيبة من غير أجر. وغي عام 988 أشار الوزير يعقوب بن كلس على الخليفة العزيز أن يعلم على حسابه خمسة وثلاثين طالباً في الجامع الأزهر وأن يتكفل بنفقات معيشتهم، وبهذا نشأت
صفحة رقم : 4703
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الحضارة الإسلامية في أفربقية
أقدم جامعة في العالم كله. ولما نمت هذه المدرسة واتسعت اجتذبت إليها طلاباً من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كما اجتذبت جامعة باريس بعد مائة عام من ذلك الوقت طلاباً من جميع أنحاء أوربا. ومن ذلك الوقت أخذ الخلفاء، والوزراء، والأغنياء من الأهلين يهبون الأموال لتعليم الطلاب بالمجان في تلك الجامعة حتى بلغ طلابها في وقتنا الحاضر 10.000 طالباً وعدد الأساتذة ثلاثمائة(20). ومن أجمل المناظر التي تقع عليها عين السائح العالمي منظر الطلاب وهم مجتمعون في أروقة هذا المسجد القائم منذ ألف عام، تجلس فيها كل طائفة في نصف دائرة إلى جانت عمود أمام أحد العلماء . وكان كبار العلماء الذائعي الصيت يفدون إلى الأزهر من كافة أنحاء العالم الإسلامي ليعلموا الطلاب علوم النحو، والبلاغة، والرياضة، والعروض، والمنطق، والعلوم الدينية، والحديث، والتفسير، والشريعة الإسلامية. ولم يكن الطلاب يؤدون أجوراً، كما لك يكن الأساتذة يتناولون مرتبات. وإذا كانت هذه الجامعة الشهيرة تعتمد على الأموال الحكومية، وهبات المحسنين فقد أخذت تنزع بالتدريج إلى التشدد في أمور الدين، وكان لعلمائها تأثير مثبط للآداب الفاطمية، والفلسفة، والعلوم، ولهذا لم مسمع عن وجود شعراء مجيدين في عهد تلك الأسرة.
وأنشأ الحاكم في القاهرة "دار الحكمة"؛ وكانت مهمتها الرئيسية نشر المذهب الشيعي وتعاليمه، ولكن منهجها الدراسي كان يشمل أيضاً علمي الفلك والطب. وأقام الحاكم أيضاً مرصداً فلكياً، وأعان بالمال على بني يونس (المتوفى سنة1090م)، وهو في رأينا أعظم علماء الفلك المسلمين. وبعد أ، ظل هذا العالم يرصد السماء سبعة عشر عاماً أتم "الأزياج الحاكمية" التي توضح حركات الكواكب، ومواقيتها، وحدد بدقة أكثر من ذي قبل ميل مستوى الفلك،
صفحة رقم : 4704
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الحضارة الإسلامية في أفربقية
ومبادرة الاعتدالين، وزاوية اختلاف منظر الشمس.
وأشهر العلماء كلهم بين علماء المسلمين المصريين اسم الحسن بن هيثم المعروف عند الأوربيين باسم "الهازن Alhazen". وقد ولد في البصرة عام 965 واشتهر فيها بنبوغه في الهندسة والرياضة. وترامى إلى الحاكم أن ابن الهيثم قد وضع خطة لضبط فيضان النيل السنوي فدعاه إلى القاهرة، ولكنه تبين أن الخطة غير عملية فاضطر إلى الاختفاء عن عين الخليفة ذي النزوات الشاذة. وافتتن الرجل، كما افتتن جميع المفكرين في العصور الوسطى، بمحاولات أرسطو في ربط المعارف كلها بعضها ببعض، فكتب عدة شروح وتعليقات عن مؤلفات هذا الفيلسوف، لم يصل إلينا شيء منها. وأهم ما يشتهر ابن الهيثم عندنا الآن كتاب المناظر في البصريات وهو في أغلب الظن أعظم مؤلف في العصور الوسطى بأجمعها جرى على الأسلوب العلمي في طريقته وتفكيره. وقد درس ابن الهيثم انكسار الضوء عند مروره في الأوساط الشفافة كالهواء، والماء واقترب مع اختراع العدسة المكبرة قرباً جعل روجر بيكن Roger Bacon، ووينلو Wnelo وغيرهما من الأوربيين بعد ثلاثمائة عام من ذلك الوقت يعتمدون على بحوثه فيما بذلوه من الجهود لاختراع المجهر والمرقب. وقد رفض ابن الهيثم نظرية إقليدس وبطليموس الفلكي القائلة بأن رؤية الجسم تنشأ من خروج شعاع ضوئي من العين يصل إلى الجسم المرئي، وقال إن صورة الجسم المرئي تصل إلى العين ومنها تنتقل بواسطة الجسم الشفاف-أي العدسة(21). ولاحظ أثر الجو في ازدياد الحجم الظاهري للشمس والقمر إذا كانا قريبين من الأفق؛ وأثبت أن انكسار الأشعة في الجو يجعل ضوء الشمس يصل إلينا حتى بعد أن يختفي قرصها تحت الأفق بتسع عشرة درجة، وعلى هذا الأساس قدر ارتفاع الهواء الجوي بعشرة أميال (إنجليزية). وحلل العلاقة بين ثقل الهواء الجوي وكثافته، وبيت أثر كثافة هذا الهواء في أوزان الأجسام، واستخدم قوانين رياضية معقدة في دراسة فعل
صفحة رقم : 4705
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الحضارة الإسلامية في أفربقية
الضوء في المرايا الكرية، والتي في شكل القطع المكافئ، وعند مروره في العدسات الزجاجية الحارقة. ورصد صورة الشمس المماثلة لصورة نصف القمر وقت الخسوف على جدار قائم أمام ثقب صغير في مصراع شباك. وهذا هو أول ما ذكر عن الغرفة المظلمة التي تعتمد عليها التصوير الشمسي بكافة أنواعه. وليس في وسعنا مهما قلنا عن ابن الهيثم أن نبالغ في بيان أثره في العلوم الأوربية: وأكبر ظننا أنه لولا ابن الهيثم لما سمع الناس قط بروجر بيكن؛ وها هو ذا روجر بيكن نفسه لا يكاد يخطو خطوة في ذلك الجزء الذي يبحث في البصريات Opus Mains دون أن يشير إلى ابن الهيثم أو ينقل عنه. والجزء السادس من هذا المؤلف يكاد كله يعتمد على كشوف هذا العالم الطبيعي ابن القاهرة. ولقد ظلت الدراسات الأوربية للضوء حتى ذلك العصر المتأخر عصر كبلر وليوناردو تعتمد على بحوث ابن الهيثم.
وأبرز النتائج التي أسفرت عنها فتح العرب لشمالي إفريقية هو اختفاء المسيحية من هذا الإقليم اختفاء تدريجياً ولكنه يكاد يكون تاماً. ذلك أن البربر لم يعتنقوا الإسلام فحسب، بل أصبحوا فوق ذلك أكثر أنصاره تعصباً له ودفاعاً عنه. وما من شك في أن العوامل الاقتصادية كان لها دخل في هذه النتيجة الحاسمة: فقد كان غير الملمين يؤدون الفرضة، التي أعفي منها إلى وقت ما من يعتنقون الإسلام. ولما أن عرض والي مصر العربي على أهل البلاد هذا الإعفاء عام 744 اعتنق الإسلام 24.000 من المسيحيين(22). وربما كان الاضطهاد الذي وقع على المسيحيين، وهو اضطهاد لم يكن يقع إلا في بعض العهود ولكنه شديد، قد أثر في كثيرين من المصريين فحملهم على الدخول في دين الحكام. غير أن أقلية قبطية في مصر ظلت مستمسكة بدينها بشجاعة وأقامت كنائسها شبيهة
صفحة رقم : 4706
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الحضارة الإسلامية في أفربقية
بالحصون، كانت تؤدي فيها مناسكها سراً ، ولا تزال باقية في تلك البلاد إلى يومنا هذا. ولكن كنائس الإسكندرية، وقورينة، وقرطاجنة، وإفريقية، التي كانت تزدحم من قبل بالمصلين أخذت تخلو منهم وتتداعى، وانمحت من الأذهان ذكريات أثناسيوس، وسيريل Cyril، وأوغسطين، وخبت نيران المنازعات بين الأريوسيين، والدونانيين، واليعاقبة المسيحيين، حل محلها النزاع بين الشيعة وأهل السنة من المسلمين. وأيد الفاطميون سلطانهم بجمع طائفة الإسماعيلية في جماعة كبرى ذات مراسم وطقوس ودرجات متفاوتة، واستخدموا أعضاءها في التجسس والدسائس السياسية. وانتقلت طقوس هذه الجماعة إلى بيت المقدس وأوربا، وكان لها أكبر الأثر في أنظمة فرسان المعبد والشيعة المستنيرة Illuminate وغيرها من الجماعات السرية التي قامت في العالم الغربي كما كان لها أكبر الأثر أيضاً في طقوسها وملابسها. وترى رجل الأعمال الأمريكي بين الفينة والفينة مسلماً متحمساً غيوراً، بفخر بعقيدته السرية، وطربوشه الفاسي ومسجده الإسلامي .
صفحة رقم : 4707
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في بلاد المتوسط
الفصل الثالِث
الإسلام في بلاد البحر المتوسط
649-1071
أدرك زعماء الإسلام، بعد فتح الشام ومصر، أن ليس في مقدورهم أن يدافعوا عن سواحل بلادهم من غير أسطول. وسرعان ما استولت سفنهم الحربية على قبرص ورودس وهزمت العمائر البيزنطية (652، 655)، ثم احتلوا قورسقة في عام 809 وسردينية في عام 810 وإقريطش (كريت) في 823، ومالطة في 870، وبدأ في عام 827 النزاع القديم بين بلاد اليونان وقرطاجنة مرة أخرى من أجل الاستيلاء على صقلية، فأرسل الأغالبة أمراء القيروان الحملة تلو الحملة وتقدموا إلى فتحها بقليل من النهب والدم المهراق؛ فسقطت بالرم في عام 831، ومسينا في 841، وسرقوسة في 878، وتارمينا في 902. ولما أن ورث الخلفاء الفاطميون ملك الأغالبة (909) كان مما ورثوه من أملاكهم جزيرة صقلية؛ ولما نقل الفاطميون عاصمة ملكهم إلى القاهرة أعلن حسين الكلبي والي صقلية من قبلهم نفسه أميراً عليها، وكانت له عليها سيادة تكاد تكون كاملة، وأسس فيها الأسرة الكلبية، وفي عهدها بلغت الحضارة الإسلامية في صقلية ذروة مجدها.
وأصبح مركز المسلمين حصيناً منيعاً بعد أن صارت لهم السيادة على البحر المتوسط، فأخذوا يتطلعون إلى المدن القائمة في جنوبي إيطاليا. وكانت القرصنة وقتئذ مما يدخل في نطاق العادات الشريفة، وكان المسيحيون والمسلمون على السواء يشنون الغارات على سواحل البلاد الإسلامية والمسيحية ليقبضوا منها على "الكفرة" ويبيعونهم في أسواق الرقيق، ولهذا شرعت أساطيل المسلمين، ومعظمها
صفحة رقم : 4708
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في بلاد المتوسط
من تونس وصقلية، تهاجم الثغور الإيطالية في القرن التاسع الميلادي. فاستولى المسلمون في عام 841 على باري القاعدة البيزنطة الكبرى في الجنوب الشرقي من إيطاليا؛ وفي العام التالي انقضوا انقضاضاً سريعاً على إيطاليا استجابة لدعوة وجهها إليهم لمبارد دوق بنفنتو Benevento ليساعدوه على سالرنو Saleno، ثم عادوا منها بعد أن أتلفوا الحقول وخربوا الأديرة. وفي عام 864 نزل ألف ومئتان من المسلمين في أستيا Ostia، وواصلوا الزحف حتى أشرفوا على أسوار روما، ونهبوا ضواحي المدينة وكنيستي القديسين بطرس وبولس، ثم عادوا على مهل إلى سفنهم. ورأى البابا ليو Leo الرابع أن السلطة المدنية عاجزة عن تنظيم الدفاع عن إيطاليا، فأخذ هذه المهمة على عاتقهِ، وعقد حلفاً بين روما وبين أملفي Amalfi، ونابلي، وجيتا Gaeta ومد سلسلة في عرض نهر التيبز ليمنع العدو من اجتيازه. وبذل العرب في عام 849 محاولة أخرى للاستيلاء على عاصمة المسيحية في الغرب؛ فقابلهم الأسطول الإيطالي المتحد بعد أن باركه البابا، وهزمهم، وقد صور رفائيل منظر الواقعة في قصر الفاتيكان، وفي عام 866 جاء الإمبراطور لويس الثاني من ألمانيا، وصد العرب الذين كانوا يغيرون من جنوبي إيطاليا على شبه الجزيرة وأرجعهم إلى باري وتارنتو Taranto؛ وما وافى عام 844 حتى أخرجوا من جميع شبه الجزيرة.
ولكن غاراتهم عليها لم تنقطع، وظلت إيطاليا الوسطى جيلاً من الزمان يغشاها جو من الخوف والفزع في كل يوم من أيام حياتها. ففي عام 876 أغاروا على كمبانيا ونهبوها، وهددوا روما تهديداً اضطر البابا إلى أن يؤدي لهم جزية سنوية مقدارها 25.000 منقوص (حوالي 25.000 دولار أمريكي) حتى يكفوا عن الإغارة عليها(23). وفي عام 884 أحرقوا دير مونتي كاسينو العظيم ودمروه عن آخره. وشنوا غارات أخرى متقطعة نهبوا فيها وادي نهر الأنيو Anio. ودامت الحال على هذا المنوال حتى اجتمعت قوات البابا وإمبراطوري
صفحة رقم : 4709
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في بلاد المتوسط
بيزنطية وألمانيا، ومدائن إيطاليا الوسطى والجنوبية، وهزمت العرب على نهر كرجليانو (916) وانتهى بذلك عصر الفتوح الإسلامية في إيطاليا، وهو العهد الذي دام مائة عام، كادت فيها إيطاليا تصبح ملكاً للعرب. ولو أن روما سقطت في قبضتهم لزحفوا على البندقية، ولو أ،هم استولوا عليها لأطبقت على القسطنطينية قوتان إسلاميتان عظيمتان. ترى إلى أي حد تتعلق مصائر الناس بنتائج الحروب ومصادفاتها!
وخضعت الثقافة الصقلية المتعدد الأصول في أثناء هذه الحوادث الحربية بحكم عادتها إلى الفاتحين الجدد، واتخذت لها طابعاً إسلامياً أبهى وأقوى من طابعهم القديم، واختلط في شوارع العاصمة الإسلامية بانورمس القديمة Panormus أو بالرم العربية، وبالرمو الإيطالية، الصقليون، واليونان، واللمبارد، وكلهم يكره بعضهم بعض من الناحية الدينية، ولكنهم يعيشون معاً صقليين عاديين في عواطفهم، وشِعـْرهم، وجرائمهم. وفيها شاهد ابن حوقل حوالي عام 970 نحو ثلاثمائة مسجد، وثلاثمائة من معلمي المدارس ينظر إليهم الأهلون بعين الاحترام رغم ما اشتهر به هؤلاء المدرسون-كما يقول العالم الجغرافي-من قلة الذكاء وخفة الأحلام(34). هذا وإن كانت صقلية تستمتع بقسط كبير من المطر وضوء الشمس، فقد كانت تربتها غاية في الخصب، فلما جاءها العرب المهرة وأحسنوا تنظيم أحوالها الاقتصادية جنوا ثمار هذا التنظيم، وأضحت بالرم ثغراً تجارياً عظيماً بين أوربا المسيحية وإفريقية الإسلامية؛ وما لبثت أن صارت من أغنى المدن في بلاد الإسلام؛ وكان حب المسلمين للملابس الجميلة، والجواهر المتلألئة، وفنون الزينة، مما جعل الحياة في الجزيرة تسير سيراً هادئاً في غير عجلة ولكن في غير إسفاف. ويصف الشاعر الصقلي ابن حمديس (1055-1132)الساعات التي يقضيها الشاب البالرمي في متعته، ويحدثنا عن قصفهِ ومرحهِ حتى منتصف الليل، وعن اختلاط الرجال والنساء في الولائم والحفلات بعد أن طرد ملك المرح الهموم، وعن
صفحة رقم : 4710
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في بلاد المتوسط
الفتيات المغنيات اللاتي يدغدغن العود بأصابعهن اللطيفة، ويرقصن كأنهن الأقمار الساطعة فوق الأغصان اللدنة(25).
وكان في الجزيرة آلاف من الشعراء لأن العرب كانوا يحبون الفكاهة الحلوة، والشعر الموزون، ولأن الحب الصقلي كان يمدهم بموضوعات جمة مثيرة للخيال. وكان في الجزيرة علماء لأن بالرم كان فيها جامعة؛ وكان فيها أطباء عظام، لأن الطب الإسلامي الصقلي قد أثر تأثيراً ذا بال في مدرسة سالرنو الطبية(26). ولقد كان نصف ما امتازت به صقلية النورمانية من البهاء والعظمة صدى لعهدها العربي الزاهر، وتراثاً شرقياً من الصناعات والصناع أورثه العرب ثقافة فنية راغبة في أن تتلقى العلم على أي جنس وأي دين. ولما فتح أهل الشمال (النورمان) صقلية (1060-1091) أعانوا بفتحهم الزمان على محو آثار المسلمين في صقلية؛ وها هو ذا الكونت روجر Count Roger يفخر بأنه قد سوى بالأرض "المدائن، والقلاع، والقصور العربية التي بذل المسلمون في إقامتها أعظم الفنون وأعجبها"(27). ولكن الطراز المعماري الإسلامي خلف طابعه على قصر لازيزا، وعلى سقف كابلا بلاتينا Capella Polatina، ففي هذا المعبد القائم في قصر الملوك النورمان زُينَ المزار المسيحي بالنقوش العربية الإسلامية.
صفحة رقم : 4711
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
الفصل الرّابع
الإسلام في أسبانيا
711-1086
1-الخلفاء والأمراء
لم يكن العرب هم الذين فتحوا أسبانيا أولاً بل الذين فتحوها هم المغاربة، فقد كان طارق من البربر، وكان في جيشه سبعة آلاف من بني جنسه مقابل ثلاثة آلاف من العرب، وقد خُلد أسمه، إذ سميت به الصخرة التي نزلت قواته عند قاعدتها، فقد سماها البربر جبل طارق واختصره الأوربيون إلى جبرولتر Gibraltar. وكان الذي سير طارقاً إلى فتح أسبانيا هو موسى بن نصير والي شمال إفريقية العربي. ثم عبر موسى البحر في عام 712، ومعه 10.000 من الجنود العرب و8000 من البربر وحاصر إشبيلية ومريدة، ولام طارق لأنه تعدى حدود الأوامر الصادرة له، وضربه بالسوط، وزجه بالسجن؛ ولكن الخليفة الوليد استدعى موسى وأطلق سراح طارق فواصل هذا القائد فتوحه. وكان موسى قد عين ولده عبد العزيز حاكماً لإشبيلية؛ ولكن سليمان أخا الوليد ارتاب في نوايا عبد العزيز وظنه يعمل ليستقل ببلاد الأندلس، فأرسل إليه من اغتاله وجيء برأسه إلى سليمان في دمشق، وكان قد تولى الخلافة بعد أخيه، فبعث يستدعي موسى، فلما جاء طلب إليه أن يعطيه رأس ولده حتى يسبل عينيه. ولم يمضِ على موسى عام واحد حتى مات من الحزن(28). ومن حقنا أن نعتقد أن هذه القصة ليست إلا خرافة من الخرافات التي تروى عن حب الملوك لسفك الدماء.
صفحة رقم : 4712
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
وعامل الفاتحون أهل البلاد معاملة لينة طيبة، ولم يصادروا إلا أراضي الذين قاوموهم بالقوة، ولم يفرضوا على الأهلين من الضرائب أكثر مما كان يفرضها عليهم ملوك القوط الغربيين، وأطلقوا لهم من الحرية الدينية ما لم تتمتع به أسبانيا إلا في أوقات قليلة نادرة. ولما أن توطد مركز المسلمين في أسبانيا، عبروا جبال البرانس ودخلوا غالة يريدون أن يجعلوا أوربا ولاية تابعة لدمشق. والتقى بهم بين تور وبواتييه على بعد ألف ميل شمالي جبل طارق جيش متحد مؤلف من قوى يوديس E(des دوق أكتوين، وشارل دوق أستراليا Austrsia. ودارت المعركة سبعة أيام هزم المسلمون بعدها في واقعة من أهم الوقائع الحاسمة في التاريخ (732)؛ وفيها قررت مصادفات الحرب مرة أخرى الدين الذي يتبعه الملايين التي لا يحصى عددها من بني الإنسان. ومن هذا الوقت أطلق على شال اسم شارل مارتلس Chsrles Martellus أي شارل المطرقة. وأعاد المسلمون الكرة في عام 735 واستولوا على أرليس Arles، ثم فتحوا أفنيون Avignon في عام 737 وخربوا وادي نهر الرون حتى ليون. وفي عام 759 أخرجهم بيبين القصير Pepin the Short نهائياً من جنوب فرنسا؛ ولكم الأربعين عاماً التي تنقلوا خلالها في ذلك الإقليم كانت في أغلب الظن ذات أثر قوي فيما يتصف به أهل لانجويدك Languedoc من تسامح غير عادي بين الأديان المختلفة، ومن مرح كثير ومن حب لأغاني الغزل غير المباح.
ولم يكن خلفاء دمشق يقدرون أسبانيا حق قدرها، فلم تكن تعرف عندهم حتى عام 756 إلى باسم "الأندلس"، وكان يحكمها والٍ يعين من القيروان. لكن شخصية روائية نزلت في أسبانيا عام 755، وكان سلاحها الوحيد هو ما يجري في عروقها من الدم الملكي، وأراد الله أن تؤسس فيها أسرة لا تقل في مجدها وتراثها عن خلفاء بغداد. ذلك أنه لما أمر بنو العباس في عام 750 أن يقتل جميع الأمراء الأمويين، لم ينجُ من هؤلاء الأمراء إلا عبد الرحمن أحد أحفاد
صفحة رقم : 4713
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
الخليفة هشام. وطارده أعداؤه من قرية إلى قرية، فاضطر أن يعبر نهر الفرات الواسع سباحة، واجتاز الصحراء إلى فلسطين، ثم انتقل منها إلى مصر وإفريقية حتى وصل آخر الأمر إلى مراكش. وكانت أخبار الثورة العباسية قد ألهبت نيران المنافسة الحزبية القديمة بين العرب، والسوريين، والفرس، والمغاربة في أسبانيا. واكن في تلك البلاد طائفة من العرب مخلصة الأمويين تخشى أن يعترض الخلفاء العباسيون على حقها في تملك الأراضي التي وهبها لهم ولاة بني أمية، فدعوا عبد الرحمن للانضمام إليهم وتولى قيادتهم. فجاء إليهم وعينوه أميراً على قرطبة (756)، وهزم جيشاً أرسله الخليفة المنصور لينتزعها منه، وبعث برأس قائد هذا الجيش ليعلق أمام أحد القصور في مكة.
ولعل هذه الحوادث هي التي منعت انتشار الدين الإسلامي في أوربا: ذلك أن أسبانيا الإسلامية قد أضعفتها الحرب الأهلية، وانقطعت عنها المعونة الخارجية فلم تواصل الغزو والفتح، بل انسحب المسلمون من شمالي أسبانيا، وانقسمت شبه الجزيرة من القرن الحادي عشر قسمين أحدهما مسلم والآخر مسيحي، يفصلهما خط يمتد من كوامبرا Coimbra ماراً بسرقسطة ومحاذياً لنهر الإبرة، وازدهر النصف الجنوبي الإسلامي بعد أن بسط فيه لواء السلم عبد الرحمن الأول وخلفاؤه، فعمه الرخاء، وترعرع فيه الشعر والفن. واستمتع عبد الرحمن الثاني بثمار هذا الرخاء؛ فقد اتسع وقته، بين حروبه مع المسيحيين على حدوده، وقمعه للثورات التي كان يقوم بها رعاياه، وصد الغارات التي كان يشنها النورمان على سواحل بلاده، واتسع وقته لتجميل قرطبة بالقصور والمساجد، وإجزال العطاء للشعراء. وكان يعفو عن المذنبين ويعاملهم معاملة لينة ربما كان لها بعض الأثر فيما حدث بعده من اضطراب اجتماعي.
وكان عبد الرحمن الثالث (912-961) آخر الشخصيات البارزة من أسرة بني أمية في أسبانيا؛ فقد آلت إليه الخلافة وهو في الحادية والعشرين
صفحة رقم : 4714
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
من عمره، ووجد الأندلس تمزقها الانقسامات العنصرية، والأحقاد الدينية، واضطراب حبل الأمن، ومساعي إشبيلية وطليطلة للاستقلال عن قرطبة. وقبض عبد الرحمن، رغم ما اتصف بع من دماثة الخلق ورقة الحاشية، واشتهاره بالكرم والمجاملة، على زمام الموقف بيد من حديد وقمع فتنة المدن الثائرة، وأخضع أشراف العرب الذين أرادوا أن يحذوا حذو معاصريهم الفرنسيين، فبسطوا على ضياعهم الواسعة الغنية سيادتهم الإقطاعية، ودعا إلى بلاطهِ رجالاً من مختلف الأديان كان يستشيرهم في شؤون الحكم؛ وعقد المخالفات التي يضمن بها توازن القوى بين جيرانه وأعدائه، وأدار شؤون البلاد بجد وعناية بدقائق الأمور، لا يقلان عما كان يتصف به نابليون في هذه الناحية. وكان هو الذي يضع الخطط الحربية لقوادهِ، وكثيراً ما كان ينزل إلى ميدان القتال بنفسهِ؟ وصد غزوة سانكو صاحب نافارا Sancho of Navarra، واستولى على عاصمته ودمرها، وأرهب بذلك المسيحيين فلم يغيروا على بلاده مرة أخرى في أثناء حكمه. ولما رأى في عام 929 أن له من القوة ما لا يقل عن أي حاكم في زمانهِ، وأدرك أن الخليفة العباسي في بغداد قد أصبح ألعوبة في يد الحرس التركي، اتخذ لنفسهِ لقب خليفة-وأمير المؤمنين، وحامي حمى الدين. وقد ترك وراءه بعد وفاته نبذة كتبها بخط يده قدر فيها قيمة الحياة البشرية تقديراً غير مبالغ فيه: "مضت خمسون سنة منذ توليت الخلافة فتمتعت بما لا يزيد عليه شيء من الثراء والمجد والنعم، فاحترمني الملوك وخافوني وحسدوني وحباني الله بأقصى ما يرغب فيه الإنسان، فأحصيت أيام السرور التي صفت لي دون تكدير في هذه المدة الطويلة فكانت أربعة عشر يوماً، فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها" .
صفحة رقم : 4715
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
وأفاد ابنه الحكم الثاني (961-976) كما يفيد الرجل العاقل الحكيم من هذه الأعوام الخمسين التي حكمها أبوه وبحزم وجدارة، والتي لم يستمتع فيها بقسط موفور من السعادة. وكان في أثناء حكمه آمناً من الخطر الخارجي، والفتن الداخلية، فوجه جهوده إلى تزيين قرطبة وغيرها من المدن؛ وأنشأ فيها المساجد، والمدارس الكبرى، والبيمارستانات، والأسواق، والحمامات العامة، وملاجئ الفقراء(30)، وجعل جامعة قرطبة أعظم معاهد التعليم في زمانهِ؛ وأجزل العطاء لمئات الشعراء والفنانين والعلماء. وفيه يقول المقري المؤرخ الإسلامي:
وكان (الخليفة الحكم) محباً للعلوم مكرماً لأهلها، جماعاً للكتب بأنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله... إن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرست عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير. وأقام للعلم والعلماء سوقاً يانعة جلبت إليه بضائعه من كل قطر.. وكان يبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالاً من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه. وبعث في طلب كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني-وكان نسبه من بني أمية-وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه نسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق .
وبينما كان الخليفة العالم يعنى بمسرات الحياة ونعيمها، كان يترك تصريف شؤون الحكم، وتوجيه السياسة القومية نفسها إلى وزيره اليهودي القدير حسداي ابن شيروط، ويترك قيادة الجيش إلى قائد نابه مجرد من الضمير تجمعت حول اسمه مادة لكثير من المسرحيات أو القصص الخيالية المسيحية. وقد أسمته هذه الروايات والقصص باسم المنصور، أما اسمه الحقيقي فهو محمد بن أبي عامر.
صفحة رقم : 4716
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
وهو ينتمي إلى أسرة عربية عريقة النسب لكنها قليلة الثراء. وكان يكسب قوته بكتابة المعروضات لمن يريد من الناس أن يتوجه بمطالب إلى الخليفة، ثم أصبح كاتباً في ديوان قاضي القضاة، ولما بلغ السادسة والعشرين من عمره في عام 967 اختير لإدارة أملاك عبد الرحمن أكبر أبناء الحكم. ثم تقرب إلى الملكة صبح أم الغلام، وفتنها بمجاملتها والثناء عليها، وأثر عليها بجده وكفايته، وما لبث أن أصبح هو المصرف لأملاكها وأملاك والدها، ولم يمضِ عام واحد حتى عين مديراً لدار الضرب. ومن ذلك القوت أصبح سخياً على أصدقائهِ سخاء جعل حاسديه يتهمونه بالارتشاء والخيانة. واستدعاه الحكم ليحاسبه على ما اؤتمن عليه من المال، وعرف ابن أبي عامر أن المال الذي في عهدته سيكون ناقصاً فطلب إلى صديق له غني أن يقرضه قيمة العجز؛ ثم توجه إلى القصر مسلحاً بهذا السلاح القوي، وواجه به من اتهموه، وانتصر عليهم انتصاراً حمل الخليفة على أن يسند له عدة مناصب تدر عليه المال الكثير. ولما مات الحكم أفلح ابن أبي عامر في تنصيب هشام الثاني ابن الحكم خليفة (976-1009) و (1010-1013) بعد أبيه وذلك بأن دبر بنفسهِ قتل منازعه في الخلافة، وبعد أسبوع واحد تولى هو الوزارة(32).
وكان هشام الثاني رجلاً ضعيفاً عاجزاً كل العجز عن سياسة الدولة، ولذلك كان ابن أبي عامر هو الخليفة في كل شيء ما عدا الاسم، واتهمه أعداؤه بحق بأنه يحب الفلسفة أكثر مما يحب الدين الإسلامي؛ وأراد أن يلجم ألسنتهم فدعا رجال الدين أن يُخرجوا من مكتبة الحكم الكبرى كل ما يجدونه فيها من الكتب التي تخالف مذهب أهل السنة، وأن يحرقوا هذه الكتب، وبهذه الطريقة الهمجية الإجرامية اشتهر بيت الناس بالتقى والصلاح. وضم في الوقت نفسه أصحاب المواهب العقلية إلى جانبه بأن بسط حمايته في السر على الفلاسفة، وأخذ يرحب بالأدباء في بلاطهِ، وآوى فيه عدداً كبيراً من الشعراء أجرى عليهم
صفحة رقم : 4717
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
مرتبات من بيت المال، وكان هؤلاء الشعراء يسيرون في ركابهِ حين يخرج إلى الحرب ويتغنون بانتصاراتهِ. وشاد مدينة جديدة هي مدينة الزاهرة في شرق قرطبة ضمت قصره، ومكاتب الإدارة؛ أما الخليفة الذي عنى بتدريبه على الانهماك في الفلسفة فقد بقي مهملاً يكاد يكون سجيناً في القصر الملكي القديم. وأراد ابن أبي عامر أن يزيد مركزه قوة فأعاد تنظيم الجيش وجعل معظمه من مرتزقة البربر والمسيحيين الذين كانوا يكرهون العرب، ولا يشعرون بأن للدولة عليهم حقوقاً، ولكنهم كانوا يجزونه على سخائهِ، وحسن معاملته بالولاء له شخصياً. ولما أن ساعدت ولاية ليون Leon المسيحية ثورة قامت عليه في بلادهِ، فتك بالثوار، وأوقع بأهل ليون هزيمة منكرة، وعاد منتصراً إلى عاصمتهِ؛ ولقب من ذلك الحين بالمنصور. وكثرت المؤامرات عليه، ولكنه كان يحيطها كلها بشبكة من الجاسوسية والاغتيال في الوقت المناسب؛ ولما انضم ابنه عبد الله إلى إحدى هذه المؤامرات، وافتضح أمره قطع رأسه.وكان المنصور مثل صلا الروماني لا يترك محسناً إلا أثابه ولا مسيئاً إلا انتقم منه.
وغفر الناس له جرائمه لأنه قمع جرائم غيره، وحقق العدالة للأغنياء والفقراء على السواء، حتى لم تكن الحياة ولا الأموال في قرطبة أعظم أمناً في وقت من الأوقات مما كانتا في أيامهِ، ولم يسع الناس إلا أن يعجبوا بثباتهِ، ومثابرتهِ، وفطنتهِ، وشجاعتهِ. وحدث في يوم من الأيام والمجلس منعقد برياستهِ أن شعر بألم في ساقهِ؛ فأمر باستدعاء الطبيب، ولما حضر أشار بكيها بالنار. فلم يفض المنصور المجلس، وقبل أن يحرق جسمه دون أن يظهر عليه مل يدل على ألمهِ. ويقول المقري: إن المجلس لم يعرف شيئاً مما حدث إلا بعد أن فاحت رائحة اللحم وهو يحترق . وكان مما فعله أيضاً ليجمع القلوب على محبتهِ أن وسع مسجد
صفحة رقم : 4718
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
قرطبة واستخدم في توسيعه أسرى مسيحيين، واشترك هو بنفسه في أعمال البناء بفأسهِ، ومجرفهِ، ومِسّجَّتهِ ، ومنشارهِ. وأدرك أن الحاكم الذي ينتصر في الحروب، عادلة كانت أو ظالمة، يعلو شأنه بين معاصريه وبين الأجيال المستقبلة، ولهذا شن الحرب من جديد على ليون، واستولى على عاصمتها ودمرها وذبح أهلها. وكان في ربيع كل عام تقريباً يسير على رأس حملة جديدة لمحاربة الأقاليم الشمالية المسيحية؛ وقد عاد من هذه الحملات جميعها بلا استثناء مكللاً بالنصر. من ذلك أنه لما استولى في عام 997 على مدينة سنتياجو ده كمبسستيلا Santiago de Compstela، ودمر ضريح القديس جيمس الشهير، أرغم الأسرى المسيحيين على أن يحملوا أبواب الكنسية وأجراسها على أكتافهم في موكب نصره حتى دخل قرطبة(34). (وقد أعيدت هذه الأجراس مرة أخرى إلى كمبسستيلا محمولة على ظهر أسرى الحرب المسلمين).
ولم يقنع المنصور بما كان له في بلاد الأندلس الإسلامية من مقام، وإن كان في الواقع سيدها بلا منازع، بل كان يتوق إلى أن يكون سيدها اسماً وفعلاً، وأن يؤسس فيها أسرة مالكة. ففي عام 991 تخلى عن منصبه لابنه عبد الملك، ولم يكن يتجاوز الثامنة عشرة من عمرهِ، وأضاف إلى ألقابه الأخرى لقبي السيد والملك الكريم وحكم البلاد حكماً مطلقاً. وكان يرغب في أن يموت في ميدان القتال، ويعد العدة بالفعل لهذه الخاتمة، فكان إذا خرج لحرب من الحروب أخذ معه كفنه. وقد غزا قشتالة في عام 1002 وهو وقتئذ في الحادية والستين من عمرهِ، واستولى على مدنها، ودمر أديرتها، وخرب حقولها، ثم مرض في طريق العودة إلى بلادهِ، ولكنه لم يسمح للأطباء أن يعنوا بهِ، واستدعى إليه ابنه
صفحة رقم : 4719
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
وأخبره أنه سيدركه الموت بعد يومين اثنين، فلما بكى عبد الملك قال له إن هذا البكاء دليل على أن الدولة ستنهار بعد قليل(35). وقد صدقت النبوءة فانهارت خلافة قرطبة بعد جيل من ذلك التاريخ.
وعمت الفوضى بلاد الأندلس الإسلامية بعد موت المنصور، فلم يكن أمراؤها يجلسون على العرش إلا زمناً قصيراً، وكثرت بينهم حوادث الاغتيال، والمنازعات العنصرية، وحروب الطبقات؛ ورأى البربر أنهم محتقرون فقراء في الدولة التي أقاموا دعائمها بسواعدهم وسيوفهم، وأنهم قد طوح بهم إلى استرمادوره Estremadura القاحلة أو جبال ليون الباردة، فثاروا من حين إلى حين على العرب الحاكمين. وكان عمال المدن المستَغَلـَّون يحقدون على من يستغلونهم، فكانوا يخرجون عليهم ويقتلونهم ويستبدلون بهم غيرهم. وأجمعت سائر الطبقات على كره تلك الأسرة الحاكمة أسرة ابن أبي عامر التي كادت في عهد ولده تستأثر بجميع مناصب الدولة ومقومات السلطة. ومات عبد الملك في عام 1008 وتولى الوزارة بعده أخوه عبد الرحمن، وكان عبد الرحمن رجلاً مستهتراً يشرب الخمر علناً ولا يتورع عن ارتكاب الخطايا، يفضل اللهو على النظر في شؤون الحكم، فلم يلبث أن طرد من منصبه على أثر ثورة اشتركي فيها جميع الأحزاب تقريباً. وأفلت الزمام من أيدي زعماء الثورة فنهبت الجماهير قصور الزاهرة وأحرقتها عن آخرها؛ وفي عام 1012 استولى البربر على قرطبة نفسها وأعملوا فيها السلب والنهب، وذبحوا نصف أهلها، وطردوا النصف الباقي منها، وجعلوا هذه المدينة عاصمة بربرية. بهذه الفقرة الموجزة يقص أحد المؤرخين المسيحيين ثورة أسبانيا الإسلامية الشبيهة كل الشبه بالثورة الفرنسية.
لكن الحماسة التي تدفع صاحبها إلى الهدم والتدمير قلما تقترن بالصبر الذي يتطلبه البناء والتعمير. ففي أثناء حكم البربر اختل الأمن والنظام وعم السلب والنهب، وزاد عدد المتعطلين؛ وخرجت على قرطبة المدائن الخاضعة لها ومنعت
صفحة رقم : 4720
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
عنها الخراج، وحتى ملاك الضياع الواسعة استأثروا بالسلطة كلها في ضياعهم. لكن من بقي في قرطبة من العرب أخذوا ينتعشون شيئاً فشيئاَ، حتى إذا حل عام 1023 طردوا البربر من العاصمة وأجلسوا على العرش عبد الرحمن الخامس، غير أن العامة من أهل قرطبة رأوا أنه لا يرجى خير من العودة إلى العهد القديم، فاستولوا على القصر وبايعوا بالخلافة محمداً المستكفي أحد زعمائهم (1023). وعين محمداً أحد عمال النسيج وزيراً له، ثم اغتيل هذا الوزير، ودس السم للخليفة الشعبي، ثم اتحدت الطبقتان العليا والوسطى وبايعت بالخلافة هشاماً الثالث (1027). وجاء دور الجيش بعد أربع سنين، فقتل وزير هشام، وطُلب إلى هشام نفسه أن ينزل عن الخلافة؛ وعقد مجلس من أصحاب الرأي في المدينة وأيقن المجتمعون أن النزاع على العرش قد جعل قيام الحكم الصالح غي مستطاع، فألغى الخلافة الأندلسية، وأحل محلها مجلساً للدولة، واختير ابن جهور رئيساً لهذا المجلس فحكم الجمهورية الجديدة بالعدل والحكمة.
لكن هذا جاء بعد فوات الأوان، أي بع أن اضمحلت السلطة السياسية وقضي على الزعامة الثقافية في قرطبة، فوصلت بذلك إلى حال لا يرجى منها شفاء. وروع العلماء والشعراء بكثرة الحروب الأهلية ففروا من "جوهرة العالم" إلى بلاط طليطلة، وغرناطة، وإشبيلية. واقتسم بلاد الأندلس الإسلامية ثلاثة وعشرون من ملوك الطوائف شغلتهم الدسائس والمنازعات فيما بينهم عن إغارة أسبانيا المسيحية على الإمارات الإسلامية واستيلائها عليها واحدة بعد واحدة. وازدهرت غرناطة بعض الوقت في حكم الحاخام صمويل هليفي Samuel Halevi المعروف عند العرب باسم إسماعيل بن نغرلة. واستقلت طليطلة عن قرطبة في عام 1035. ثم خضعت لحكم المسيحيين بعد خمسين عاماً من استقلالها.
وورثت إشبيلية مجد قرطبة، وكان بعضهم يظنها خيراً من العاصمة القديمة وأجمل منها؛ وكان الناس يحبونها لجمال حدائقها، ونخيلها، ووردها، وما فيها
صفحة رقم : 4721
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الخلفاء والأمراء
من مرح دائم، وموسيقى، ورقص، وغناء. وكانت تتوقع سقوط قرطبة فتعجلت هي وأعلنت استقلالها في عام 1023، وعثر أبو القاسم محمد قاضي قضاتها على صانع حصر شبيه بهشام الثاني فنادى به خليفة، وآواه وأمسك هو بزمامهِ، وأقنع بلنسية، وطرطوشة وقرطبة نفسها بمبايعتهِ. وبهذه الطريقة السهلة أقام قاضي القضاة الداهية أسرة بني عباد القصيرة الأجل. ولما مات في عام 1024 خلفه ابنه عباد المعتضد وحكم إشبيلية بمهارة وقسوة مدة سبعة وعشرين سنة، وأخذ يمد سلطانة حتى كان نصف أسبانيا الإسلامية يؤدي له الجزية. وورث الملك من بعده ابنه المعتمد (1068-1019) وهو في السادسة عشر من عمرهِ، ولكنه لم يرث عنه مطامعه ولا وقسوته. وكان المعتمد أعظم شعراء الأندلس، يفضل مجالس الشعراء والموسيقيين على مجالس الساسة وقواد الجند، ويجزل العطاء لمنافسيه من الشعراء، ولا يحسدهم على تفوقهم، فلم يكن يرى من الإسراف أن يجيز إحدى الملح الشعرية بألف دينار(36). وكان يحب شعر ابن عمار، ولذلك اتخذه وزيراً له، وسمع جارية تدعى الرميكية ترتجل جيد الشعر، فابتاعها، وتزوجها، وظل حتى وفاته يحبها حباً شديداً، وإن لم يهمل غيرها من الغانيات في قصرهِ. وكانت الرميكية تملأ القصر بضحكها، وأحاطت سيدها بجو من المرح، جعل رجال الدين يلومونها على عدم اكتراث زوجها بشؤون الحكم، وما آلت إليه مساجد المدينة التي أوشكت أن تخلو من المصلين. لكن المعتمد مع هذا كان قادراً على أن يحكم، وأن يحب، ويغني. فلما أن هاجمت طليطلة مدينة قرطبة، واستغاثت قرطبة به، سير إليها حملة أنقذت المدينة من طليطلة، وأخضعتها لإشبيلية. وحمل الملك-الشاعر مدى جيل كامل مليء بالقلاقل لواء حضارة لا تقل ازدهاراً عن حضارة بغداد في أيام هارون الرشيد، وحضارة قرطبة في عهد المنصور.
صفحة رقم : 4722
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
2- الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
لم تنعم الأندلس طوال تاريخها بحكم رحيم، عادل، كما نعمت به في أيام الفاتحين العرب(37). ذلك حكم يصدره مستشرق مسيحي عظيم قد يتطلب تحمسه شيئاً من التقليل من ثنائه، لكن هذا الحكم بعد أن تنقص منه ما عساه أن يكون فيه من التحمس يظل مع ذلك قائماً صحيحاً. لسنا ننكر أن الأمراء والخلفاء الأندلسيين قد اتصفوا بالقسوة التي يرى ميكفلي أنها لازمة لاستقرار الحكومات وثباتها، ولسنا ننكر أن قسوتهم وصلت في بعض الأحيان إلى حد الهمجية وغلظة القلب، يدل على ذلك ما فعله المعتمد حين زرع الأزهار في جماجم الموتى من أعدائهِ؛ وما فعله المعتضد حين قطع أوصال رجل ظل صديقاً له معظم حياته ثم غدر به هذا الصديق وأهانه آخر الأمر(38). ولكن المقري يورد في مقابل هذه الأمثلة النادرة مئات من الشواهد الدالة على عدل حكام الأندلس الأمويين وجودهم ودماثة أخلاقهم(39). وهم لا يقلون في هذه الصفات عن أباطرة الروم في زمانهم، وما من شك في أن حكمهم كان أفضل من حكم من سبقوهم من القوط الغربيين؛ ولقد كانوا أقدر أهل زمانهم على تصريف الشؤون العامة في العالم الغربي؛ فكانت قوانينهم قائمة على العقل والرحمة، تشرف على تنفيذها هيئة قضائية حسنة النظام. وكان أهل البلاد المغلوبون يحكمون في معظم الأحوال حسب قوانينهم وعلى أيدي موظفين منهم(40). وكان في المدن شرطة تسهر على الأمن فيها، وقد فرضت على الأسواق، والمكاييل، والموازين، رقابة محكمة؛ وكانت الحكومة تقوم بإحصاء عام للسكان والأملاك في فترات منظمة؛ وكانت الضرائب معقولة إذا قورنت بما كانت تفرضه منها روما وبيزنطية. وبلغت
صفحة رقم : 4723
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
الإيرادات في أيام عبد الرحمن الثالث 12.045.000 دينار ذهبي (أي ما يعادل 75.213.750 دولار أمريكي)-وأكبر الظن أن هذا كان يفوق إيرادات حكومات البلاد المسيحية اللاتينية مجتمعة(41). ولم يكن مصدر هذه الإيرادات هو الضرائب العالية بقد ما كان أثراً من آثار الحكم الصالح، وتقد الزراعة والصناعة، ورواج التجارة(42).
وكان حكم العرب نعمة وبركة قصيرة الأجل على الزراع من أهل البلاد. ذلك أن الفاتحين لم يبقوا على الضياع التي كبرت فوق ما يجب، والتي كان يمتلكها القوط الغربيون، وحرروا رقيق الأرض من عبودية الإقطاع(43). ولكن القوى التي كانت في هذه القرون تعمل لتثبيت دعائم الإقطاع ظلت تعمل عملها في أسبانيا أيضاً، وإن لقيت فيها من المقاومة أشد مما لقيته في فرنسا؛ فقد امتلك العرب بدورهم مساحات واسعة من الأراضي، وكان يقوم بزرعها مستأجرون قريبو الشبه برقيق الأرض. وكان العبيد يلقون على أيدي المسلمين معاملة أحسن قليلاً مما كانوا يلقونها على أيدي سادتهم الأولين(44). وكان في مقدور العبيد غير المسلمين أن يتحرروا من الرق بمجرد اعتناقهم الإسلام، وكان العرب في معظم الأحوال يتركون أعمال الزراعة إلى أهل البلاد، ولكنهم كانوا يستعينون بأحدث ما ألف من الكتب في علومها، وبفضل توجيههم بلغت هذه العلوم في أسبانيا من التقدم أكثر مما بلغته في أوربا المسيحية(45). واستبدل بالثيران البطيئة الحركة، التي كانت تستخدم حتى ذلك الوقت في جميع أنحاء أسبانيا للحرث والجر، البغال، والحمير، والخيل. وأدى تهجين السلالات الأسبانية والعربية من الخيل إلى وجود الجياد الأصيلة التي كان يمتطيها فرسان العرب وكبليرو Caballero (فرسان) الأسبان. ونقلت بلاد الأندلس الإسلامية
صفحة رقم : 4724
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
من آسية زراعة الرز، والحنطة السوداء ، قصب السكر، والرمان، والقطن، والسبانخ، والأسفرج ، والموز، الكراز، والبرتقال، والليمون، والسفرجل، والليمون الهندي، والخوخ، ونخيل البلح، والتين، والشليك، والزنجبيل، والمر وصناعة الحرير(46). وكانت زراعة الكروم من الأعمال الكبرى في بلاد الأندلس، وإن كان الدين الإسلامي يحرم الخمر. وأحالت حدائق الخضر، وغياض الزيتون، وبساتين الفاكهة مساحات من الأندلس-وخاصة حول قرطبة وغرناطة، وبلنسية-جنات على الأرض. كما استحالت جزيرة ميورقة Mojorca، التي فتحها العرب في القرن الثامن بفضل عملهم بالزراعة وعنايتهم بها فردوساً مليئاً بالفاكهة والأزهار، تشرف عليها أشجار النخيل التي سميت الجزيرة باسمها فيما بعد.
وأغنت مناجم أسبانيا المسلمين بالذهب، والفضة، والقصدير، والنحاس، والحديد، والرصاص، الشب، والكبريت، والزئبق. وكان المرجان يستخرج من البحر على طول سواحل أسبانيا، كما كان اللؤلؤ يصطاد قرب سواحل قطلونية، وكان الياقوت يستخرج من مناجم حول باجة ومالقة. وتقدمت الصناعات المعدنية في البلاد تقدماً عظيماً، فاشتهرت مرسية بمصنوعاتها من الحديد الشبهان، كما اشتهرت طليطلة بالسيوف، وقرطبة بالدروع. وازدهرت كذلك الصناعات اليدوية، فكانت قرطبة تصنع الجلد القرطبي الذي يستخدمه الحذاءون في أوربا المعروفون باسم Cordwaibner نسبة إلى "الجلد القرطبي Cordovan". وكان في قرطبة وحدها 13.000 نساج، واكن المشتون في كل مكان يقبلون
صفحة رقم : 4725
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
على شراء السجاجيد، والوسائد، والسجف الحريرية، والشيلان، والأرائك الأندلسية. ويقول المقري(48) إن ابن فرناس القرطبي اخترع في القرن التاسع الميلادي النظارات، والساعات الدقاقة المعقدة التركيب، كما اخترع آلة طائرة. وكون أسطول تجاري يزيد على ألف سفينة يحمل غلات الأندلس ومصنوعاتها إلى إفريقية وآسية، وكانت السفائن القادمة من مائة ثغر وثغر تزدحم بها مرافئ برشلونة، والمرية، وقرطاجنة، وبلنسية، ومالقة، وقادس، وإشبيلية. وأنشأت الحكومة نظاماً للبريد ينقل رسائلها بانتظام. واحتفظت العملة الرسمية بأجزائها-الدينار الذهبي، والدرهم الفضي، والفلس النحاسي،-بثباتها واستقرارها النسبي، إذا قارناها بعملة العالم المسيحي اللاتيني في أيامها، ولكن هذه النقود الأندلسية أخذت هي الأخرى ينقص وزنها، ونقائها، وقوتها الشرائية.
وسار الاستغلال الاقتصادي في هذه البلاد سيرته في البلاد الأخرى، فاستحوذ العرب أصحاب الضياع الواسعة، والتجار الذين كانوا يعتصرون المنتج والمستهلك على السواء، على خيرات الأرض. وكان معظم الأغنياء يعيشون في الريف في بيوت ذات حدائق، ويتركون المدن الكبرى للبربر، والذين أسلموا من المسيحيين، والمستعربين (غير المسلمين من الأندلسيين الذين أخذوا عن العرب أساليب العيش ولغة الحديث)، وإلى طائفة قليلة العدد من الخصيان، والضباط والحراس الصقالبة، والعبيد خدم البيوت. وأحس الخلفاء في قرطبة بعجزهم عن القضاء على الاستغلال الاقتصادي من غير أن يضعفوا روح المغامرة فوقفوا بين هذا وذاك بتخصيص ربع غلات أرضهم لمعونة الفقراء(49).
وكان استمساك الطبقات المعدمة بدينها وتشددها في عقائدهما سبباً في زيادة سلطان الفقهاء أي علماء الشريعة الإسلامية؛ وكان العامة ينفرون من كل جديد
صفحة رقم : 4726
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
في العقائد أو الأخلاق نفوراً جعل الخارجين على الدين، والمفكرين يخفون رؤوسهم في معظم الأحوال، وينزوون في البيوت أو يلجأون إلى الغموض في الأقوال. وكمت أفواه الفلاسفة، أو اضطروا إلى الجهر بآراء تقبلها جمهرة الناس وتحترمها. وكان الموت جزاء من يرتد عن دين الإسلام. نعم إن خلفاء قرطبة أنفسهم كانوا رجالاً ذوي آراء حرة، ولكنهم كانوا يظنون أن الخلفاء الفاطميين في مصر يتخذون العلماء المتنقلين عيوناً عليهم، ولهذا كانوا ينظمون في بعض الأحيان إلى الفقهاء في التضييق على التفكير الحر المستقل. لكن الحكام الأندلسيين قد أطلقوا لغير المسلمين جميعهم على اختلاف أديانهم حرية العبادة. وإذا كان اليهود الذين اضطهدهم القوط الغربيون أشد الاضطهاد قد ساعدوا المسلمين في فتوحهم، فقد ظلوا يعيشون من ذلك الوقت إلى القرن الثاني عشر مع المسلمين الفاتحين في أمن ووئام، وأثروا، وبرعوا في العلوم والمعارف، وارتقوا في بعض الأحيان إلى مناصب عالية في الحكومة. أما المسيحيون فكانت تعترضهم في سبيل الرقي في مناصب الدولة عقبات أكثر مما يعترض اليهود، ولكنهم رغم هذه العقبات ظفروا بنجاح عظيم. وكان المسيحيون الذكور، كالذكور في سائر الأديان، يرغمون على الختان بوصفه وسيلة من وسائل الوقاية الصحية القومية، لكنهم فيما عدا هذا كانوا يحكمون بمقتضى شريعتهم القوطية الرومانية ينفذها فيهم قضاة يختارونهم هم أنفسهم(50). وكان الذكور الأحرار القادرون من المسيحيين يؤدون ضريبة الفرضة نظير إعفائهم من الخدمة العسكرية؛ وكان مقدارها في العادة ثمانية وأربعين درهماً (24 ريالاً أمريكياً) للغني، وأربعة وعشرون للمتوسط الثراء، واثنا عشر درهم لمن يعمل بيده(51). وكان المسلمون
صفحة رقم : 4727
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
والمسيحيون يتزاوجون فيما بينهم بكامل حريتهم، ويشتركون من حين إلى حين بالاحتفال بأحد الأعياد المسيحية أو الإسلامية المقدسة، ويستخدمون المبنى الواحد كنسيةً ومسجداً(52). وجرى بعض المسيحيين على عادة أهل البلاد فاصطفوا "الحريم" أو مارسوا اللواط(53)؛ وكان المسيحيون من رجال الدين وغير رجال الدين يفدون بكامل حريتهم وهم آمنون من جميع أنحاء أوربا المسيحية إلى قرطبة، أو طليطلة، أو إشبيلية طلاباً للعلم، أو زائرين، أو مسافرين. وقد شكا أحد المسيحيين من نتيجة هذا التسامح بعبارات تذكرنا بشكاية العبرانيين القدماء من اصطباغ اليهود بالصبغة اليونانية فيقول:
"إن إخواني المسيحيين يعجبون بقصائد العرب وقصصهم، وهم لا يدرسون مؤلفات فقهاء المسلمين وفلاسفتهم ليردوا عليها ويكذبوها، بل ليتعلموا الأساليب العربية الصحيحة الأنيقة... واحسرتاه! إن الشبان المسيحيين الذين اشتهروا بمواهبهم العقلية لا يعرفون علماً ولا أدباً ولا لغة غير علوم العرب آدابهم ولغتهم؛ فهم يقبلون في نهم على دراسة كتب العرب، ويملئون بها مكتباتهم، وينفقون في سبيل جمعها أموالاً طائلة، وهم أينما كانوا يتغنون بمديح علوم العرب(54)". وفي وسعنا أن نحكم عل ما كان للدين الإسلامي من جاذبية للمسيحيين من رسالة كتبت في عام 1311م تقدر عدد سكان غرناطة المسلمين في ذلك الوقت بمائتي ألف، كلهم ما عدا 500 منهم من أبناء المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام(55). وكثيراً ما كان المسيحيون يفضلون حكم المسلمين على حكم المسيحيين(56).
لكن هذه الصورة الجميلة كان لها وجه آخر أخذ يزداد وقتاً ما على مر الأيام. ذلك أن الكنيسة المسيحية لم تكن حرة، وإن كان المسيحيون أنفسهم أحراراً.. فقد صودر معظم أملاكها العقارية بمقتضى مرسوم يشمل جميع من يقومون بعمل إيجابي في مقاومة الفاتحين؛ كذلك دمرت معظم الكنائس وحرم بناء كنائس جديدة. وورث الأمراء المسلمون من ملوك القوط حق تنصيب
صفحة رقم : 4728
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
الأساقفة وعزلهم، وحق دعوة المجالس الكنسية نفسها إلى الانعقاد. وكان الأمراء يبيعون مناصب الأساقفة لمن يؤدون فيها أغلى الأثمان. ولو كان من يسند إليه المنصب من الفجرة أو المتشككين في الدين، وكان القساوسة المسيحيون يتعرضون أحياناً للشتائم من المسلمين في الشوارع، وكان فقهاء المسلمين يعلقون بكامل حريتهم على ما يبدو لهم أنه سخافات أو أباطيل في الدين المسيحي، ولكن المسيحيون الذين يردون عليهم بمثل أقوالهم كانوا يتعرضون للخطر.
وفي هذه العلاقات المتوترة قد تؤدي أية حادثة صغيرة إلى مأساة شديدة. مثال ذلك أن فتاة حسناء من فتيات قرطبة، معروفة لدينا باسم فلورا Flora فحسب ولدت لأبوين من دينين مختلفين، فلما توفي أبوها المسلم اعتزمت أن تعتنق الدين المسيحي، وفرت من بيت أخيها إلى بيت أحد المسيحيين، ولكن أخاها قبض عليها وضربها، وأصرت الفتاة على الارتداد عن دين أبيها، وسيقت إلى أحد المحاكم الإسلامية. وأمر القاضي بضربها وإن كان في مقدوره أن يحكم بإعدامها. ومع هذا فقد فرت مرة أخرى إلى بيت مسيحي حيث التقت بقس شاب يدعى أولوجيوس Eulogius أحبها حباً روحياً عارماً. وبينما كانت الفتاة مختبئة في أحد الأديرة، إذ قتل قس آخر يدعى برفكتوس Pcrfectos لأنه تكلم في حق النبي محمد أمام بعض المسلمين؛ وقد وعدوه بألا يشوا به، ولكن أقواله بلغت من العنف درجة روع لها مستمعوه فأبلغوا عنه ولاة الأمور. وكان في وسع بروفكتوس أن ينجو من العقاب إذا أنكر ما قال، ولكنه بدل أن يفعل هذا كرر أمام القاضي قوله إن محمداً كان "خادماً للشيطان"، فما كان من القاضي إلا أن حكم عليه بالسجن بضعة أشهر لعل هذا يصلح حاله؛ ولكنه لم ينصلح، وتمادى في أقواله فحكم عليه بالإعدام. وظل وهو يساق إلى المشنقة
صفحة رقم : 4729
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
يسب النبي، فيقول: إنه "مدعٍ، زان، ولدته جهنم" ، وابتهج المسلمون بمقتله، واحتفل المسيحيون بدفنه احتفالاً مهيباً، وعدوه من القديسين (850) .
وأشعل مقتله نيران الحقد في قلوب الطائفتين. فتألفت جماعة من المتعصبين المسيحيين بزعامة يولجيوس وجعلت هدفها سب النبي علناً، والترحيب بالقتل اعتقداً منها بأن مصير من يقتل من أفرادها هو الجنة، وذهب راهب قرطبي يدعى إسحق على القاضي وعرض عليه رغبته في اعتناق الإسلام؛ وسر القاضي من هذا وبدأ يشرح له مبادئ الدين الإسلامي، ولكن الراهب قطع عليه شرحه وقال "إن نبيكم قد كذب عليكم وخدعكم؛ ألا لعنة الله عليه لأنه قد جر معه هذا العدد العظيم من البائسين إلى الجحيم"! فزجره القاضي وسأله هل هو ثمل؟ فرد عليه الراهب بقوله: "إني مالك لقواي فاحكم عليَّ بالإعدام" فأمر القاضي بسجنه ولكنه استأذن عبد الرحمن الثاني بأن يخرجه على أن بعقله خبالاً، غير أن موكب جنازة برفكتوس وما أحاط به من روعة وفخامة كان قد أثار حفيظة الخليفة فأمر بإعدام الراهب. وبعد يومين من هذا الحادث جرؤ جندي من الفرنجة في حرس القصر على سب النبي علناً؛ فكان جزاؤه الإعدام. وفي يوم الأحد التالي وقف ستة من الرهبان أمام القاضي وسبوا النبي ولم يطلبوا لأنفسهم الإعدام فحسب بل طلبوا فوق ذلك أن يعذبوا أشد التعذيب، فحكم عليهم بالإعدام. وحذا حذوهم قس، وشماس، وراهب. وابتهج لذلك أفراد الجماعة
صفحة رقم : 4730
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
ولكن كثيرين من المسيحيين-من رجال الدين وغير رجال الدين-لم يرضوا على هذا التسابق للموت، وقالوا لتلك الفئة المتحمسة "إن السلطان يسمح لنا بأن نمارس شعائر ديننا، ولا يضطهدنا، فما الداعي إذن إلى هذا التعصب الشديد؟"(59) ودعا عبد الرحمن إلى عقد مجلس من الأساقفة المسيحيين فأصدر قراراً بلوم طائفة المتحمسين المتعصبين، وهددهم بأن يتخذ ضدهم إجراءات عنيفة إذا لم ينقطعوا عن إثارة الفتن، فما كان من يولجيوس إلا أن أخذ يندد بأعضاء المجلس ويصفهم بالجبن.
وزادت هذه الحركة من تحمس فلورا، فغادرت الدير الذي كانت تقيم فيه وجاءت هي وفتاة أخرى تدعى مارية إلى القاضي وأخذتا تطعنان على النبي.... وتقولان: إن الإسلام من "اختراع الشيطان" فأمر القاضي بسجنها. وحملها بعض أصدقائهما على أن يرجعا عن أقوالهما، ولكن يولجيوس تغلب عليهما وأقنعهما بأن يرضيا بالقتل، فقتلا. وشجع هذا يولجيوس فأخذ يطلب بضحايا جدد، فأقبل على المحكمة قساوسة، ورهبان، ونساء يسبون النبي ويطلبون أن يعدموا (852)، وأعدم يولجيوس نفسه بعد سبع سنين من ذلك الوقت، وخمدت الفتنة بعد سبع سنين من موتهِ فلم تسمع بين عامي 859، 983 إلا حادثين من حوادث السب والقتل، ولم نسمع عن حوادث أخرى من هذا النوع في أثناء الحكم الإسلامي في أسبانيا(60).
صفحة رقم : 4731
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
أما بين المسلمين أنفسهم فقد ضعفت الحماسة الدينية بازدياد الثراء، وظهرت في القرن الحادي عشر الميلادي موجة من التشكك رغم ما في الشريعة الإسلامية من شدة على المتشككين؛ ولم يقتصر الأمر على دخول مبادئ المعتزلة التي لا تناقض عقائد أهل السنة مناقضة شديدة، بل قامت طائفة أخرى تنادي بأن الأديان كلها باطلة، وتسخر بالأحكام الدينية، والصلاة، والصوم، والحج، والزكاة. ونشأت طائفة أخرى غير هذه وتلك سمت نفسها أتباع الدين العالمي، وأخذت تندد بكل العقائد، وتنادي بدين يقوم على المبادئ الأخلاقية دون غيرها. وكان من بين هؤلاء جماعة من اللاأدريين يقولون إن العقائد الدينية قد تكون صحيحة وقد لا تكون، فلسنا نؤكدها أو ننكرها، وكل ما في الأمر أننا لا نعرف حقيقتها، ولكننا لا تسمح لنا ضمائرنا بأن نقبل عقائد لا نستطيع إثبات صحتها(61). وأخذ رجال الدين يقاومون هذه العقائد مقاومة قوية؛ ولما أم حلت المصائب بالمسلمين في أسبانيا في القرن الحادي عشر أخذوا يقولون إن سببها هو هذا الضلال، ولما انتعش المسلمون بعض الوقت في الأندلس مرة أخرى، كان انتعاشهم في عهد حكام أقاموا سلطانهم كما كان من قبل على قواعد الدين، وقصروا الجدل القائم بين الدين والفلسفة على ما كان منه في بلاطهم وما يبتغون به تسليتهم.
ولكن القباب المتلألئة والمآذن المذهبة كانت على الرغم من الفلاسفة زينة المدائن الكبيرة والصغيرة التي جعلت بلاد الأندلس في القرن العاشر الميلادي أعظم البلاد المتحضرة في أوربا، بل إنها كانت في أغلب الظن أعظم البلاد المتحضرة في العالم كله في ذلك الوقت. لقد كانت قرطبة في أيام المنصور من أعظم مدن العالم حضارة، ولا يفضلها في هذا إلا بغداد والقسطنطينية. وكان فيها كما يقول المقري 200.077 منزلاً، و60.300 قصر، 600 مسجد، و700 حمام(62) عام وإن كانت هذه الإحصاءات لا تخلو من قليل من المغالاة الشرقية. وكان زائرو
صفحة رقم : 4732
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
المدينة يدهشون من ثراء الطبقات العليا، ومما كان يبدو لهم أنه رخاء عام،؛ فقد كان في وسع كل أسرة أن يكون لها حمار؛ ولم يكن يعجز عن الركوب إلا المتسولون. وكانت الشوارع مرصوفة، لكل منها طواران على الجانبين، تضاء أثناء الليل، ويستطيع الإنسان أن يسافر في الليل عشرة أميال على ضوء مصابيح الشوارع وبين صفين لا ينقطعان من المباني(63). وقد أقام المهندسون العرب على نهر الوادي الكبير الهادئ الجريان جسراً من الحجارة ذا سبعة عشر عقداً عرض كل واحد منها خمسون شبراً. وكان من أولى منشئات عبد الرحمن الأول قناة تحمل إلى مدينة قرطبة كفايتها من ماء الشرب تنقله إلى المنازل والحدائق، والفساقي والحمامات، واشتهرت المدينة بكثرة ما كان فيها من الحدائق والمتنزهات.
وكان عبد الرحمن الأول شديد الحنين إلى مسارح صباه، فأنشأ في قرطبة بستاناً عظيماً شبيهاً بالقصر الريفي الذي قضى فيه أيام صباه بالقرب من دمشق، وشاد في هذا البستان قصره المعروف "بقصر الرصافة"، وأضاف إليه من جاء بعده من الخلفاء أجنحة أخرى خلع عليها خيال المسلمين أسماء زاهية كقصر الروضة... وقصر المعشوق... وقصر السرور... وقصر التاج . وكان لقرطبة كما كان لإشبيلية قصرها الذي يجمع بين بيت السكن العظيم والحصن المنيع. ويصف مؤرخو العرب هذه القصور وصفاً يجعلها تضارع في جمالها وترفها قصور نيرون في روما: يصفون أبوابها الفخمة، وعمدها الرخامية، وأرضها المرصوفة بالفسيفساء، وسقفها المذهبة، وما فيها من النقوش الجميلة التي لا يقد عليها إلا الفن الإسلامي وحده. وكانت قصور الأسرة المالكة، وكبار الملاك والتجار تمتد على شاطئ النهر العظيم؛ وقد ورث عبد الرحمن الثالث من إحدى جواريه ثروة طائلةـ وأراد أن ينفقها في افتداء من عساهم يكونون في الأسر من
صفحة رقم : 4733
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
جنودهِ، ولما قال الباحثون الفخورون إنهم لم يجدوا أحداً من جنوده في الأسر عرضت عليهم الزهراء زوجته المحبوبة أن ينفق المال في بناء ضاحية وقصر يخلد بهما اسمها. وظل عشرة آلاف من العمال وألف وخمسمائة من الدواب يكدحون خمسة وعشرين عاماً (936-961) لتحقيق حلمها، فكان قصر الزهراء الملكي يقع على بعد ثلاثة أميال من قرطبة وإلى جنوبها الغربي. وقد زين أفخم زينة وأثث بأفخم أثاث. وكان القصر يقوم على ألف ومائتي عمود من الرخام، وكان جناح الحريم به يتسع لستة آلاف امرأة، وكان يحتوي على بهو لمجلس الخليفة سقفه وجدرانه من الرخام والذهب، له ثمانية أبواب مطعمة بالأبنوس والعاج والحجارة الكريمة، وكان به فسقية مملوءة بالزئبق تنعكس على سطحها أشعة الشمس المتماوجة. واجتمعت حول الزهراء قصور طبقة من الأشراف طبقت العالم شهرتها بالظرف الرقة، وحسن الذوق، وتعدد متعها العقلية. وأقام المنصور في الطرف المقابل لهذا القصر من المدينة قصراً آخر يضارعه (978) سمي بالزاهرة أحاطت به هو الآخر على مر الزمن ضاحية من قصور العظماء، وبيوت الخدم، والمغنين والعازفين، والشعراء، والخليلات. وقد حُرق القصران في أثناء الثورة التي تأجج لهيبها في عام 1010.
وكان الناس في العادة يتغاضون عن ترف الأمراء إذا ما أقام هؤلاء بيوتاً لله تفوق قصورهم في الفخامة والسعة وكان الرومان قد شادوا في قرطبة هيكلاً ليانوس Jauns، أنشأ المسيحيون بدلاً منه كنيسة كبرى؛ فلما تولى الخلافة عبد الرحمن الأول ابتاع من المسيحيين أرض الكنيسة، وهدمها وشاد في مكانها المسجد الأزرق، ولما عادت أسبانيا إلى حكم المسيحيين حولوا المسجد إلى كنيسة في عام 1238؛ وهكذا تتغير مقاييس التقى، والصدق، والجمال تبعاً لتقلبات الحظ في الحروب. وجعل عبد الرحمن هذا المشروع سلوته في سنيه الكدرة، فغادر بيته الريفي إلى قصره في المدينة ليشرف على العمل بنفسهِ، وكان يأمل أن يطول عمره
صفحة رقم : 4734
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
حتى يؤم المصلين في المسجد الفخم الجديد شكراً لله على توفيقهِ. ولكنه توفي في عام 788، بعد عامين من وضع الأساس، وواصل ابنه هشام عمل أبيه، وظل الخلفاء مدى قرنين كاملين يضيف كل منهم جزءاً جديداً للمسجد حتى كانت سعته في أيام المنصور 472 قدماً في 742. وكان يحيط به سور منيع من الآجر والحجر ذو أبراج على أبعاد غير منتظمة، وكانت له مأذنة ضخمة تفوق في حجمها وجمالها كل مآذن تلك الأيام، حتى عدت هي الأخرى من "عجائب الدنيا" التي لا يحصى لها عدد(64). وكان للمسجد تسعة عشر باباً تحيط بها عقود على شكل حذاء الفرس، نقشت عليها في الحجر ببراعة فائقة زخارف مكونة من أزهار وأشكال هندسية. وكانت هذه الأبواب تؤدي إلى مكان الوضوء الفسيح الذي يسمى الآن بهو البرتقال (Patio de los Naanjos). وفي هذا البهو الرباعي الشكل، المرصوفة أرضه بالقرميد الملون كانت أربع فساق نحتت كل منها من كتلة واحدة من المرمر الأصم بلغ من ضخامتها أن تطلب نقلها من المقلع إلى مكانها في المسجد سبعين ثوراً. وكان المسجد نفسه يحتوي على أجمة من 1290 عموداً تقسم داخله إلى أحد عشر إيواناً وواحد وعشرين دهليزاً. وكانت تخرج من تيجان الأعمدة عقود مختلفة الأنواع-بعضها نصف دائري، وبعضها مستدق، وبعضها على شكل حذاء الفرس، ولمعظمها أوتاد من الحجر حمراء أو بيضاء بالتناوب. وكانت العمد من حجر اليشب والحجر السماقي، والمرمر، والرخام، انتزعت من خرائب الرومان والقوط الغربيين في أسبانيا، وكانت لكثرة عددها تحير الناظر وتوحي إليه بأن المسجد لا ينتهي عند حد. وقد نقشت على السقف الخشبي آيات من القرآن (الكريم) وزخارف أخرى داخل إطارات، وعلق فيه مائتا ثريا تحمل سبعة آلاف قنديل من الزيت المعطر تستمده من خزانات مصنوعة من نواقيس مسيحية مقلوبة معلقة هي الأخرى من السقف. أما الأرض والجدار فقد زينت بالفسيفساء، بعضها من الزجاج المطلي بالميناء،
صفحة رقم : 4735
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
الملون عند صنعه بكثير من الألوان الزاهية، وكثيراً ما كانت تحتوي على قطع من الفضة والذهب. ولا تزال هذه الزينات بعد ألف عام من وضعها تتلألأ كالجواهر في جدران الكنيسة. وقد جعل قسم من المسجد مزاراً مقدساً، ورصفت أرضه بالفضة وقطع القاشاني المطلية بالميناء، تحرسه أبواب مزدانة ومطعمة بالفسيفساء؛ وقامت عليه ثلاث قباب، وأحيط بساتر من الخشب محلاة بأبدع النقوش. وفي داخل هذا الموضع المنفصل أقيم المحراب والمنبر اللذان أفرغ عليهما الفنان كل ما وهب من حذق وإبداع. وكان المحراب نفسه تجويفاً سباعي الأضلاع محاطاً بالذهب ومزداناً بالفسيفساء المطلية بالميناء، ومزخرفاً بقطع صغيرة من الرخام وبنقوش من الذهب على أرضية قرمزية وزرقاء، يعلوه رباط من الأعمدة الرفيعة الرشيقة، والعقود المزدانة بأزهار الكُرَة لا يفوقها في الجمال شيء مما أبدع الفن القوطي. وكان المنبر يعد أجمل منابر العالم طُراً؛ وكان يؤلف من 37.000 قطعة صغيرة من العاج والأخشاب الثمينة-كالأبنوس، والأترج، وعود الند، والصندل الأحمر والأصفر، مثبتة كلها بمسامير من الذهب والفضة، ومطعمة بالجواهر. وكان على هذا المنبر صندوق مطعم بالجواهر عليه غطاء من الحرير القرمزي المطرز بخيوط من الذهب يحمل مصحفاً بخط الخليفة عثمان بن عفان، ومخضباً بدمه الذي جرى عليه عند مقتله. ويبدو لنا نحن الذين نفضل أن نزين دور تمثيلنا بالمعادن الذهبية وبالنحاس بدل أن نحلي كنائسنا بالجواهر والذهب، يبدو لنا أن في زخرفة المسجد الأزرق إسرافاً كبيراً، وأن جدرانه قد غطيت بطبقة من دماء الأجيال المستغلة؛ وأن الأعمدة فيه كثيرة مربكة، وأن العقد الذي على صوره حذاء الفرس ضعيف من الناحية المعمارية تنفر منه حاسة الجمال كما تنفر من منظر الرجل البدين ذي الساقين الفحجاوين . ذلك حكمنا أما غيرنا فكان
صفحة رقم : 4736
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
حكمه يناقض هذا الحكم؛ فالمقري (1591-1632) يرى أن هذا المسجد لا يدانيه مسجد آخر في سعته، أو جمال تخطيطه، أو نظام زخرفته الذي يشهد للقائمين به بحسن الذوق وبما يدل عليه من قوة وعظمة(65)، ولا يزال البناء حتى في شكله المسيحي المصغر يعد "بالإجماع أجمل المساجد الإسلامية في العالم كله"(66).
وكان من الأقوال المتداولة في بلاد الأندلس الإسلامية أنه "إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها" وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية" . ذلك أن قرطبة كانت في القرن العاشر مركز الحياة الذهنية الأسبانية ذروتها، وإن اشتركت معها طليطلة، وغرناطة، وإشبيلية فيما وصل إليه ذلك العصر من رقي عقلي عظيم. ويصور المؤرخون المسلمون المدن الأندلسية تموج بالشعراء وجهابذة العلماء في العلوم الطبيعية، والأدبية، وكبار المشترعين، والأطباء؛ ويملأ المقري بأسمائهم ستين صحيفة(68). وكانت المدارس الابتدائية كثيرة العدد، ولكنها كانت تتقاضى أجوراً نظير التعليم، ثم أضاف الحكم إليها سبعاً وعشرين مدرسة لتعليم أبناء الفقراء بالمجان. وكانت البنات يذهبن إلى المدارس كالأولاد سواء بسواء، ونبغ عدد من النساء المسلمات في الأدب والفن(69)، وكان التعليم العالي يقوم به أساتذة مستقلون يلقون محاضراتهم في المساجد، وكانت المناهج التي يدرسونها هي التي كونت جامعة قرطبة ذات النظام المفكك، والتي لم يكن يفوقها في القرنين العاشر والحادي عشر إلا جامعتا القاهرة وبغداد الشبيهتان بها. وأنشأت الكليات أيضاً في غرناطة، وطليطلة، وإشبيلية، ومرسية، والمرية وبلنسية، وقادس(70).
صفحة رقم : 4737
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
وأدخلت صناعة الورق من بغداد فازداد حجم الكتب وتضاعف عددها، حتى كان في الأندلس الإسلامية سبعون مكتبة عامة،وكان الأغنياء يتباهون بكتبهم المجلدة بالجلد القرطبي، ومحبو الكتب يجمعون النادر المزخرف منها. ومن ذلك أن الحضرمي أحد العلماء رأى في مزاد بقرطبة رجلاً آخر لا يفتأ ينافسه فيزيد من ثمن كتاب يرغب فيه حتى فاق الثمن كثيراً قيمة الكتاب، ولما سئل المزايد الذي اقتناه في ذلك قال إن في مكتبته الخاصة موضعاً خالياً يسع هذا الكتاب بالدقة. ويضيف فاغتاظ العالم من هذا القول أشد الاغتياظ ولم يسعه إلا أن يقول: "نعم لا يكون الرزق كثيراً إلا عند مثلك، ويعطى الجوز من لا أسنان له" .
وكانت للعلماء في الأندلس منزلة رفيعة وشهرة واسعة، يعظمهم الناس ويهابونهم، ويستثيرونهم في شئونهم، ويعتقدون أن لا فرق مطلقاً بين العلم والحكمة. وكان علماء الدين والنحاة يعدون بالمئات؛ أما الخطباء، وفقهاء اللغة، وأصحاب المعاجم، والموسوعات، ودواوين الشعر، والمؤرخون، وكتاب السير فلم يكن يحصى عددهم. وكان أبو محمد علي بن حزم (994-1064) من جهابذة علماء الدين والمؤرخين، كما كان وزيراً لآخر الخلفاء الأمويين ويعد كتابه المعروف بـ"كتاب الملل والنحل" الذي يتكلم فيه على اليهودية،
صفحة رقم : 4738
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
والزرادشتية، والمسيحية، والفرق الإسلامية المختلفة من أقدم ما كتبه الأقدمون في علم الأديان المقارن. وإذا شئنا أن نعرف رأي العالم المسلم فيما كانت عليه المسيحية في العصور الوسطى فحسبنا أن نقرأ الفقرة الآتية من هذا الكتاب:
يجب أن لا تثير أوهام بني الإنسان عجباً، فإن أكثر الأمم عدداً، وأعظمها حضارة تستحوذ على عقول أبنائها هذه الأوهام...فالمسيحيون من الكثرة بحيث لا يحصي عددهم إلا الله وحده. وبوسعهم أن يباهوا بمن فيهم من ملوك حكماء وفلاسفة نابهين، ولكنهم مع هذا يقولون. إن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن أحد هؤلاء الثلاثة الأب والثاني الابن، وإن الإنسان إله وليس إلهاً، وإن المسيح قديم وجود من الأزل، ومع ذلك فهو مخلوق، ومنهم فرقة تسمى اليعاقبة، تبلغ عدتها مئات الآلاف تعتقد أن الخالق مات وصلب وقتل، وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر، والفلك بلا مدبر(72).
وكان ابن زم يؤمن بأن كل كلمة وردت في القرآن حق بنصها ومعناها(73).
وكان من أشد العوائق في سبيل تقدم العلم والفلسفة في بلاد الأندلس الخوف من أن يؤثرا في إيمان العامة، ولكن الأندلس تستطيع أن تفخر بكثير من الفلاسفة والعلماء. فمن هؤلاء مسلمة بن أحمد (المتوفى في عام 1007) والذي عدل أزياج الخوارزمي الفلكية لتلائم أسبانيا، ومن الكتب التي تعزى إليه، وإن لم يثبت أنه له بصورة قاطعة، كتاب يصف إحدى التجارب الكثيرة التي حولت الكيمياء الكاذبة إلى كيمياء صحيحة-وهي التجربة التي استخرجت أكسيد الزئبق من الزئبق. وأصبح اسم إبراهيم الزرقالي (1029-1087) أحد علماء طليطلة من الأسماء العالمية، لأنه حسن الآلات الفلكية؛ وينقل كوبرنيق فقرات من رسالته عن الاسطرلاب، وكانت أزياجه الفلكية خير الأزياج كلها في زمانه، وقد استطاع بها أن يثبت لأول مرة في التاريخ حركة الأوج الشمسي بالنسبة للنجوم. وكانت "أزياج طليطلة" المحددة لحركات الكواكب
صفحة رقم : 4739
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
تستخدم في كافة أنحاء أوربا؛ وكان لأبي قاسم الزهراوي (936-1013) طبيب عبد الرحمن الثالث منزلة رفيعة في العالم المسيحي، ويعرف فيه باسم أبو الكاسس Abulcasis؛ وهو حامل لواء الجراحين المسلمين، وتحتوي موسوعته الطبية المسماة "التصريف" ثلاثة كتب في الجراحة أصبحت بعد أن ترجمت إلى اللغة اللاتينية المرجع الأعلى في الجراحة قروناً كثيرة. وكانت قرطبة في ذلك الوقت المدينة التي يلجأ إليها الأوربيون لتجرى لهم الجراحات. وكانت تحتوي، كما تحتوي كل مدينة متمدينة، على بعض المتطببين الدجالين، والأطباء الذين ابتلوا بجنون الثروة؛ ومن هؤلاء رجل يسمى الحراني أعلن على دواء يشفى الاضطراب المعوية، وكان يبيع الزجاجة من للسذج من ذوي المال بخمسين ديناراً (237.5 يال أمريكي).
ويقول المقري: "وسنمسك عن ذكر الشعراء الذين ظهروا في أيام هشام الثاني والمنصور لأن عددهم كان أكثر من رمال البحر"(75). وكان من بينهم الأميرة الولادة (المتوفاة في عام 1078)؛ والتي كان بيتها في قرطبة ندوة حقة شبيهة بندوات عهد الاستنارة في فرنسا: فكان يلتف حولها الظرفاء، والعلماء، والشعراء؛ وقد أحبت عدداً كبيراً منهم، وكتبت عن عشاقها بحرية لو سمعت بها السيدة ريكمييه Mm R(camisr لارتاعت لها. ولقد بزتها صديقتها مهجة القرطبية في جمال الجسم وخلاعة الشعر وكاد كل إنسان في الأندلس وقتئذ أن يكون شاعراً، يتطارح الشعر المرتجل مع غيره لأي سبب. وكان الخليفة نفسه يشترك في هذه المطارحات الشعرية، وقلما كان يود في البلاد أمير مسلم ليس في بلاطه شاعر يكرم ويُخصص له راتب. وقد أدت هذه الرعاية الملكية إلى الشر كما أدت إلى الخير. ذلك أن ما وصلنا من شعر ذلك العصر كثيراً ما يبدوا فيه
صفحة رقم : 4740
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
التكلف والصناعة اللفظية، والمحسنات، وهو مثقل بالتشبيهات والاستعارات مفعم بالعبارات الدالة على الكبرياء والغرور. أما موضوعه فهو الحب الشهواني والعذري، وقد استبق الشعراء في أسبانيا وفي الشرق الإسلامي أساليب شعراء الغزل في عه الفروسية Toubadors، وطرقهم وفلسفتهم(76).
وسنختار من هذا العدد الجم نماً واحداً لامعاً هو سعيد ابن جودي ابن صاحب الشرطة بقرطبة . كان سعيد جندياً مقداماً كثير العشق، يتصف بجميع الصفات التي تجعله في نظر المسلمين سميذعاً أي سيداً كاملاً بحق: فقد كان سخياً، شجاعاً، فارساً بارعاً، بهي الطلعة، فصيح اللسان، شاعراً ممتازاً، قوي الجسم، يجيد فنون المصارعة والمثاقفة بالسيف، والرمح، والرمي بالقوس(77). ولم يكن يدري قي أي وقت من الأوقات أيهما احب إليه-الحب أو الحرب. وكان يتأثر بلمس المرأة مهما ضعف، ولذلك افتتن بكثيرات من النساء كان حب كل واحدة منهن يبشر بحب دائم لا ينقطع. وكان حبه كحب شعراء عهد الفروسية الشعراء الجوالين الغزالين أشد ما يكون حين تندر رؤية الحبيب. وكانت أعظم قصائده الغزلية قصيدة ووجهها إلى جيجان التي لم ير منها إلا يدها الصغيرة الناصعة البياض. وكان أبقورياً صريحاً يشعر بأن على رجال الأخلاق يقع عبء البرهنة على أن السعادة ليست هي اللذة. ومن أقواله في هذا المعنى:
صفحة رقم : 4741
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
لا شيء أملح..... ومن مناقلة كأساً على طبقِ
ومن مواصلة من بعد معتبة ومن مراسلة الأحباب بالحدقِ
جريت جري جموحٍ في الصبا طلقا وما خرجت لصرف الدهر عن طلقي
ولا انثنيت لداعي الموت يوم دعا ولا انثنيت وحبل الحب في عنقي
وكان زملاؤه في الجندية يغضبون منه أحياناً لأنه يغوي أزواجهم، وقد قبض عليه في يوم ما أحد الضباط في بيته وقتله (897).
وقد لقي شاعر أعظم منه وأنبل خاتمة خيراً من هذه وأعظم منها بطولة، ذلك هو المعتمد أمير إشبيلية. وكان كغيره من الملوك الصغار في بلاد الأندلس بعد تفرقها قد ظل عدة سنين يؤدي الجزية إلى ألفنسو السادس (الأذفنش) ملك قشتالة يشتري بها عدم اعتداء المسيحية على الإسلام. ولكن الرشا تترك على الدوام بقية منها يؤديها الراشي متى طُلب إليه الأداء. وأستخدم ألفنسو المال الذي يأتيه من ضحيته في الانقضاض على طليطلة في عام 1085؛ أيقن المعتمد أن إشبيلية ستكون الفريسة الثانية. وكانت دويلات الأندلس وقتئذ قد أنهكتها حرب الطبقات وحروبها فيما بينها إلى حد عجزت معه عن مقاومة عدوها المشترك مقاومة مجدية؛ ولكن أسرة إسلامية جديدة قامت وقتئذ على الجانب الآخر من البحر المتوسط هي أسرة المرابطين وقد (أشتق اسمها من اسم أحد الأولياء الصالحين في الشمال الغربي من إفريقية). وكان الأساس الذي قامت عليه دولة المرابطين هو الاستمساك الشديد بالدين، ولم يكد يبقى فيها رجل غير جندي من جنود الله، ولم تجد جيوشها صعوبة في الاستيلاء على مراكش بأجمعها. وتلقى في ذلك الوقت مليكها يوسف بن تاشفين-وهو رجل يتصف بالشجاعة والدهاء-دعوة من أمراء الأندلس يستنجدون به من وحش قشتالة المسيحي الضاري. فعبر يوسف بجيشه مضيق جبل طارق، وتلقى المد من مالقة، وغرناطة، وإشبيلية،
صفحة رقم : 4742
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
والتقى بجيش ألفنسو عند الزلاقة القريبة من بطليوس (1086). (بدجوز Badaioz). وبعث ألفنسو برسالة رقيقة إلى يوسف يقول فيها: "إن غداً (الجمعة) يوم عيد عندكم، ويوم الأحد عيد عندنا، ولهذا فإني أقترح أن تدور المعركة في يوم السبت". ووافق يوسف على هذا الاقتراح ولكن ألفنسو هجم على المسلمين في يوم الجمعة. وأظهر يوسف والمعتمد في الحرب كثيراً من ضروب البسالة، وأحتفل المسلمون بعيدهم بقتل عدد كبير من المسيحيين، ولم ينج ألفنسو وخمسمائة من رجاله من الموت إلا بشق الأنفس. ودهشت أسبانيا حين عاد يوسف إلى إفريقية دون أن يغنم شيئاً..
ولكنه عاد بعد أربع سنين. وكان سبب رجوعه أن المعتمد ألح عليه بأن يقضي على قوة ألفنسو الذي كان يحشد الجيوش ليهاجم المسلمين من جديد. والتقى يوسف بالمسيحيين في مواقع غير حاسمة، وبسط سلطانه على بلاد الأندلس الإسلامية. ورحب به الفقراء لأن من طبعهم على الدوام أن يفضلوا السيد الجديد على القديم، وعارضته الطبقات المتعلمة لأنه في نظرهم يمثل الرجعية الدينية، وابتهج رجال الدين بمقدمه. واستولى يوسف على غرناطة من غير مقاومة، وأكتسب محبة أهلها بإلغاء جميع الضرائب التي لا ينص عليها القرآن (1090). وعقد المعتمد وغيره من الأمراء فيما بينهم حلفاً لمقاومته، كما عقدوا حلفاً مقدساً! مع ألفنسو. وحاصر يوسف قرطبة وأسلمها إليه أهلها، ثم حاصر إشبيلية ودافع عنها المعتمد دفاع الأبطال، ورأى بعينيه ولده يقتل في الدفاع عنها، فحزن لموته حزناً هد ركنه واستسلم للمحاصرين ، ولم يحل عام 1091 حتى سقطت جميع الأندلس ماعدا سرقطة في يد يوسف بن تاشفين، وأصبحت أسبانيا الإسلامية ولاية تابعة لإفريقية.
صفحة رقم : 4743
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> الإسلام في الغرب -> الإسلام في إسبانيا -> الحضارة في بلاد الأندلس الإسلامية
وسيق المعتمد أسير حرب إلى طنجة، وتلقى وهو فيها رسالة من أحد شعرائها وهو الحصري حَوت أبياتاً من الشعر يثني فيها عليه ويسأله العطاء. ولم يكن الأمير المغلوب على أمره يملك من متاع الدنيا في ذلك الوقت أكثر من خمسة وثلاثين ديناراً بعث بها إلى الحصري وأعتذر له عن قلتها . ثم نقل المعتمد إلى أغمات القريبة من مدينة مراكش وعاش فيها بعض الوقت مكبلاً بالأغلال، فقيراً معدماً، ولم ينقطع عن قول الشعر حتى مماته (1095). ومن قصائده قصيدة خليقة بأن تنقش على قبره:
أرى الدنيا الدنية لا تواتى فأجمل في التصرف والطلاب
ولا يغررك منها حسن برد له علمان من ذهب الذهاب
فأولها رجاء من سرابٍ وآخرها رداء من تراب .
صفحة رقم : 4744
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> الشرق الإسلامي
الباب الرابع عشر
عظمة المسلمين واضمحلالهم
1058-1258
الفصل الأوَّل
الشرق الإسلامي
1058-1250
لما توفي طغرل بك في عام 1063 خلفه ابن أخيه ألب أرسلان سلطاناً على السلاجقة، ولم يكن ألب أرسلان وقتئذ قد جاوز السادسة والعشرين من عمرهِ ويصفه أحد المؤرخين المسلمين بأنه رجل طويل القامة له شاربان بلغ من طولهما أن كان يضطر إلى ربطهما حين يريد الصيد، وأن سهامه لم تُخطئ مرماها قط. وكان يضع على رأسهِ عمامة عالية يقول الناس إن المسافة من أعلاها إلى طرف شاربه لا تقل عن ذراعين. وكان حاكماً قوياً عادلاً، كريماً بوجه عام، لا يتوانى عن مجازاة من يظلم الناس أو يغتصب مالهم من عمالهِ، كثير البذل للفقراء. وكان يقضي جزءاً كبيراً من وقته في دراسة التاريخ، كما كان مولعاً بالاستماع إلى أخبار السابقين وإلى الأعمال التي تكشف عن أخلاقهم، وأنظمة حكمهم وإدارتهم(1).
ولكن ألب أرسلان قد أثبت رغم هذه الميول العلمية أنه خليق باسمهِ-"البطل قلب الأسد" فقد فتح هراة، وأرمينية، وبلاد الكرج، والشام. وحشد إمبراطور الروم جيشاً مؤلفاً من مائة ألف جندي من مختلف الأجناس،
صفحة رقم : 4745
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> الشرق الإسلامي
مختل النظام ليلاقي به جنود ألب أرسلان المضرسين البالغ عددهم 15.000 مقاتل، فلما التقيا عرض القائد السلجوقي على عدوه صلحاً معقولاً، رفضه رومانوس Romanus بازدراء، واشتبك معه في معركة عند منزبكرت (ملازكرت أو ملاسجرد) بأرمينية (1071)، وحارب ببسالة بين جنده الجبناء، فهزم ووقع في الأسر، وجيء به إلى السلطان فسأله ماذا كان يفعل لو ابتسم الحظ لجندهِ؟ فأجابه رومانوس بأنه في هذه الحال كان يمزق جسمه بالسياط. ولكن ألب أرسلان عامله أحسن معاملة، وأطلق سراحه بعد أن وعده بأن يفتدي نفسه بفدية كبيرة، وسمح له بالرجوع إلى بلاده، ومنحه كثيراً من الهدايا القيمة(2)، وبعد عام من ذلك الوقت اغتيل ألب أرسلان .
وكان ابنه ملك شاه (1072-1092) أعظم سلاطين السلاجقة على الإطلاق. وبينما كان قائده سليمان يتم فتح آسية الصغرى، كان هو نفسه يستولي على ما وراء نهر جيحون ويمتد فتوحه إلى بخارى وكاشغر. وأسبغ وزيره القدير الوفي نظام الملك على البلاد في عهد وعهد أبيه ألب أرسلان كثيراً من الرخاء والبهاء كالذي أسبغه البرامكة على بغداد في أيام هارون الرشيد. فقد ظل نظام الملك ثلاثين عاماً ينظم شؤون البلاد، ويشرف على أحوالها الإدارية والسياسية، والمالية، ويشجع الصناعة والتجارة ويصلح الطرق، والجسور، والنزل، ويجعلها آمنة لجميع المسافرين. وكان صديقاً كريماً للفنانين، والشعراء، والعلماء؛ شاد المباني الفخمة في بغداد، وأسس فيها مدرسة كبرى ذاع صيتها في الآفاق، وأمر بإنشاء إيوان القبة العظيم في المسجد الجامع بأصفهان، ورصد له ما يلزمه من المال. ويبدو أنه هو الذي أشار على ملك شاه بأن يستقدم إلى بلاطه عمر الخيام وغيره من الفلكيين لإصلاح التقويم الفارسي. وتقول قصة قديمة إن نظام الملك، وعمر الخيام، وحسن ابن الصباح أقسموا وهم صغار يطلبون العلم أن يقتسموا جميعاً ما عسى أن يواتي أي أحد منهم من حظ طيب. وأكبر الظن أن هذه القصة،
صفحة رقم : 4746
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> الشرق الإسلامي
كغيرها من القصص الطيبة، من نسج الخيال، لأن نظام الملك ولد في عام 1017، على حين أن عمر الخيام، وحسن ابن الصباح توفيا فيما بين عامي 1123، 1124؛ وليس لدينا ما يشير إلى أن أحدهما كان من المعمرين.
وكتب نظام الملك وهو في سن الخامسة والسبعين فلسفته في الحكم في كتاب من أكبر الكتب في النثر الفارسي وهو كتاب-سياسة ناما أي كتاب فن الحكم. وهو يوصي فيه بقوة أن يستمسك الملك والشعب بأصول الدين، ويرى أن الحكومة لا يمكن أن تستقر إلا إذا قامت على هذا الأساس، واستمدت من الدين وسلطانه. ولم يبخل على مليكه في الوقت عينه ببعض النصائح الإنسانية يبصره فيها بما على الحاكم من واجبات، فقال إن الحاكم يجب أن لا يفرط في الشراب أو اللهو، وإن عليه أن يتبين كل ما يرتكبه الموظفون من فساد أو ظلم، ويعاقبهم عليه؛ وأن يعقد مجلساً عاماً مرتين كل أسبوع يستطيع أن يتقدم فيه أحقر رعاياه بما لديهم من الشكاوى والمظالم. وكان نظام الملك رحيماً في حكمه ولكنه لم يكن متسامحاً في أمور الدين؛ وهو يأسف لأن الدولة تستخدم في أعمالها المسيحيين واليهود والشيعة، ويندد أشد التنديد بطائفة الإسماعيلية، ويقول إنها تهدد وحدة الدولة. وفي عام 1092 اقترب من أحد أتباع الطائفة المتعصبين لها مدعياً أنه يريد أن يتقدم إليه بمعروض، وطعنه طعنة قضت عليه.
وكان هذا القاتل عضواً في طائفة من اعجب الطوائف في التاريخ. وكان منشؤها أن أحد زعماء الإسماعيلية-وهو الحسن بن الصباح الذي تجمع إحدى القصص المشكوك في صدقها بينه وبين عمر الخيام، ونظام الملك-استولى على حصن الموت (عش النسر) في الجزء الشمالي من إيران، ومن هذا الحصن المنيع الذي يعلوا عن سطح البحر بعشرة آلاف قدم شن حرباً عواناً من التقتيل
صفحة رقم : 4747
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> الشرق الإسلامي
والإرهاب على أعداء الشيعة، وعلى الذين يضطهدون معتنقيها. وكان نظام الملك قد اتهم هذه الطائفة في كتابه بأن زعماءها من نسل المزدكية الشيوعية أهل فارس الساسانية. وكانت في الواقع جمعية سرية ذات درجات متفاوتة يمر بها أتباعها، ولها رئيس أعلى أطلق عليه الصليبيون اسم "شيخ الجبل". وكانت أدنى طبقاتها تشمل الذين يطلب إليهم أن ينفذوا من غير ما تردد أو تفكير كل ما يصدره لهم رؤساؤهم من الأوامر. ويقول ماركو بولو Marco Polo الذي مر بألموت نفسها في عام 1271 إن زعيم الطائفة الكبرى أعد خلف الحصن حديقة جمع فيها كل ما في الجنة-على حسب ما يعتقده. عامة المسلمين- من سيدات وفتيات يستطيع الرجال أن يشبعوا معهم شهواتهن، وإن الذين يريدون أو ينضموا إلى الطائفة كانوا يسقون الحشيش، حتى إذا غابوا عن وعيهم جيء بهم إلى الحديقة، فإذا عادوا إلى صوابهم قيل لهم إنهم في الجنة. وبعد أن يقضوا أربعة أيام أو خمسة يستمتعون فيها بالخمر والنساء ولذيذ الطعام، يخدرون مرة أخرى بالحشيش ثم ينقلون مرة أخرى من الحديقة، فإذا استيقظوا وسألوا عن الجنة التي كانوا فيها، قيل لهم إنهم سيعدون إليها ويبقون إلى أبد الدهر إذا أطاعوا الشيخ واخلصوا له أو استشهدوا في خدمتهِ(4). كان الشبان الذين يرضون بهذا الوضع يسمون "الحشاشين" أي الذين يشربون الحشيش-ومن هذه الكلمة اشتق لفظ Assassin الإفرنجي الذي يطلق على المغتال. وظل حسن يحكم ألموت خمساً ولثلاثين سنة، وأحالها مركزاً للاغتيال والتعليم والفن. وظلت هذه الطائفة باقية بعد وفاته بزمن طويل، واستولت على عدة حصون أخرى منيعة، وحاربت الصليبيين، ويقال إنها هي التي قتلت كنراد المنتفراتي Conrad of Monteferrat بتحريض رتشرد قلب الأسد(5). وفي عام 1256 استولى المغول بقيادة هولاكو على حصن ألموت وغيره من معاقل الحشاشين، وأخذت الدولة والإمارات الإسلامية من ذلك الوقت تطاردهم وتقتلهم لأنها ترى فيهم أعداء للمجتمع
صفحة رقم : 4748
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> الشرق الإسلامي
يعملون على خرابه وتدميره. ولكنهم مع ذلك ظلوا بوصفهم طائفة دينية وأضحوا على مر الأيام مسالمين خليقين بالاحترام؛ وفي الهند، وفارس، والشام، وإفريقية كثيرون من أتباع هذه الطائفة يعترفون بزعامة أغا خان ويؤدون إليه عشر دخلهم(6).
وتوفي ملك شاه بعد شهر من وفاة وزيره، وتنازع أبناؤه على وراثة العرش واقتتلوا، وتفرق المسلمين في أثناء هذا النزاع فلم يواجهوا الصليبيين بقوة متحدة. وأعاد السلطان سنجر إلى بغداد أبهة السلاجقة في أثناء حكمه الذي دام من 1117 حتى 1157، وازدهرت في أيامه الآداب بفضل تعضيده ومناصرته، ولكن الدولة السلجوقية تفككت بعد وفاته وانقسمت إلى إمارات مستقلة تحكمها أسر قليلة الشأن وملوك متنازعون متقاتلون، وقام في الموصل أحد المماليك ملك شاه الأكراد وهو عماد الدين زنكي وأسس أسرة الأتابكة (آباء الأمراء) في عام 1127 وهي الأسرة التي حاربت الصليبيين حرباً عواناً وبسطت سلطانها على بلاد النهرين. وفتح ابنه نور الدين محمد (1146-1173) بلاد الشام، واتخذ دمشق عاصمة له، وحكم أملاكه حكماً عادلاً حازماً، وانتزع مصر من الأسرة الفاطمية المحتضرة.
وكانت عوامل الانحلال، التي أدت إلى خضوع الخلفاء العباسيين إلى سلطان بني بويه السلاجقة، قد أدت بعد قرنين من تضعضع الخلافة العباسية إلى اضمحلال شأن الخلافة الفاطميين حتى غدوا رؤساء دينيين لا أكثر في دولة يحكمها وزراؤهم وقادة الجنود. وانغمس هؤلاء الخلفاء في اللهو الشهوات بين نسائهم اللاتي لا يحصى عددهن، وأحاطوا أنفسهم بالخصيان والعبيد، وأفقدهم الترف والانغماس في الشهوات الجنسية صفات الرجولة، فتركوا وزراءهم يلقبون أنفسهم بالملوك ويوزعون مناصب الدولة ومزايا الحكم كما يشتهون. وحدث في
صفحة رقم : 4749
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> الشرق الإسلامي
عام 1164 أن قام النزاع على الوزارة بين اثنين من القواد. واستعان أحدهما وهو شاور على منافسه بنور الدين، فبعث إليه بقوة صغيرة يقودها أسد الدين شيركوه. وانتهى الأمر بأن قتل شيركوه شاور ونصب نفسه وزيراً. ولما مات شركوه خلفه في الوزارة ابن أخيه الذي صار فيما بعد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب والمعروف عند الغربيين باسم Saladin.
وقد ولد صلاح الدين في كريت الواقعة في أعالي نهر دجلة عام 1138 من أسرة كردية-غير سامية. وكان أبوه أيوب قد ارتقى في مناصب الدولة التي صار والياً على بعلبك أيام عماد الدين زنكي، ثم والياً على دمشق في أيام نور الدين محمود. ونشأ صلاح الدين في هاتين المدينتين في بيت من بيوت الإمارة، وتعلم فنون السياسة والحرب، ولكنه جمع إليها صلاحاً وتمسكاً بالدين، وتحمساً له، وإتقاناً لأصولهِ، وبساطة في المعيشة لا تكاد تفترق عن بساطة الزهاد. ويعده المسلمون من أعظم رجالهم الصالحين وكان خير أثوابه ثوباً من الصوف الخشن الغليظ، ولم يكن يشرب غير الماء وكان مضرب المثل في اعتداله في العلاقات الجنسية، وبلغ في ذلك درجة لا يدانيه فيها معاصروه. قدم إلى مصر مع شيركوه، واشترك فيما نشب فيها من قتال، واستلفت الأنظار ببسالته وحسن تدبيره، فعين حاكماً على الإسكندرية وصد عنها غارة الفرنجة في عام 1167. ثم تولى الوزارة وهو في سن الثلاثين، فبذل جهده في إعادة المذهب السني إلى مصر، حتى إذ كان عام 1170 استبدل باسم الخليفة الفاطمي الشيعي اسم الخليفة العباسي السني في خطبة الجمعة. ولم يكن للخليفة العباسي في ذلك الوقت أكثر من الزعامة الدينية الاسمية في بغداد. وكان الخليفة العاضد، آخر الخلفاء الفاطميين في ذلك الوقت، مريضاً في قصره، وظل على غير علم بهذا الانقلاب
صفحة رقم : 4750
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> الشرق الإسلامي
الديني، لأن صلاح الدين حرص على أن لا تصله أنباؤه حتى يقضي هذا السجين العديم الشأن نحبه في هدوء وسلام. وقد حدث هذا بالفعل بعد قليل، فمات ولم يبايع من يخلفه على العرش، وانقضى بذلك حكم الأسرة الفاطمية دون أن يحدث في البلاد شيء من الاضطراب. وجعل صلاح الدين نفسه والياً على البلاد لا وزيراً، وأقر لنور الدين بالسيادة. ولما دخل صلاح الدين قصر الخليفة بالقاهرة وجد في اثني عشر ألف شخص كلهم نساء عدا أقارب الخليفة نفسه، كما وجد فيه من الحلي، وأثاث، والعاج، والخزف الثمين ما لا يوجد في قصر أعظم عظماء ذلك الوقت. ولم يحتفظ صلاح الدين بشيء من هذا كله لنفسهِ، ووهب القصر لقواد جنده، وظل هو يسكن حجرات الوزير ويعيش فيها عيشة البساطة التي هي من خير النعيم على صاحبها.
ولما مات نور الدين في عام 1173 أبى ولاة الأقاليم أن يبايعوا ابنه البالغ عمره أحد عشر عاماً ملكاً عليهم، وأوشكت بلاد الشام أن تقع مرة أخرى في براثن الفوضى. وقال صلاح الدين إنه يخشى أن يستولي الصليبيون على تلك البلاد فسار من مصر ومعه سبعمائة من الفرسان، واستطاع بحملة سريعة موفقة أن يستولي على جميع بلاد الشام. ولما عاد إلى مصر لقب نفسه ملكاً وأسس الأسرة الأيوبية (1175)، وخرج من مصر مرة أخرى بعد ست سنين من ذلك الوقت، واتخذ دمشق مقراً له، واستولى على بلاد النهرين، وكان فيها، كما كان في القاهرة. الرجل الحريص على دينهِ، المستمسك بأصولهِ. وأنشأ عدة مساجد، وبيمارستانات، وأديرة، ومدارس لتعليم قواعد الدين، وشجع العمارة، وإن لم يشجع العلوم الزمنية، وكان يشرك الفاطميون في احتقاره الشعر. ولم يكن يتوانى عن إصلاح كل خطأ ورد كل ظلم يصل إلى علمه، وخفف الضرائب في الوقت الذي أكثر فيه من المنشئات العامة، وأدار دولاب الحكومة بحزم وكفاية وحرص شديد على المصلحة العامة. وكانت البلاد الإسلامية تفخر بعدلهِ وصلاح
صفحة رقم : 4751
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> الشرق الإسلامي
حكمه، بينما كانت المسيحية تعترف بشهامته وإن لم يكن من دينها .
وسنمسك القلم عن التبسط في أحوال الأسر المحلية التي اقتسمت بلاد الشرق الإسلامية بعد موت صلاح الدين (1193). وحسبنا أن نقول إن ابنه كانت تنقصه مواهب أبيه، وإن حكم الدولة الأيوبية في بلاد الشام انقضى بعد ثلاث أجيال (1260). أما في مصر فقد ظل مزدهراً حتى عام 1250، ووصل إلى ذروة مجده وقوته في عهد الملك المستنير الملك الكامل (1218-1238) صديق فردريك الثاني. وفي آسية الصغرى أقام السلاجقة سلطنة بلاد "الروم" وجعلوا قونية (إيقونيوم Iconium الوارد ذكرها في أقوال القديس بولس) مركزاً لحضارة ذات آداب رفيعة. وانمحت من آسية الصغرى أسس الحضارة اليونانية التي كانت قائمة فيها منذ أيام هومر، وأصبحت بلاداً تركية لا تقل في صبغتها هذه عن التركستان نفسها، وتقوم فيها الآن الدولة التركية متخذة عاصمتها مدينة كانت في الزمن القديم عاصمة الحيثيين. وكانت قبيلة أخرى من الأتراك تحكم خوارزم (1077-1231)، وقد بسطت هذه القبيلة سلطانها من جبال أورال حتى الخليج الفارسي. وفي هذه الأحوال وهذا الانقسام السياسي أسس جنكيز خان الدولة الإسلامية الآسيوية.
وكانت بلاد الشام حتى هذه الفترة من عهود الاضمحلال تتزعم العالم كله في الشعر، والعلم، والفلسفة، وتنافس آل هوهنستوفن Hohenstaufen في الحكم. فقد كان سلاطين السلاجقة-طغرل بك، وألب أرسلان، وملك شاه وسنجر-من أقدر الحكام في العصور الوسطى، ويعد نظام الملك من أعظم رجال الحكم والسياسة، ولم يكن نور الدين، وصلاح الدين، والكامل
صفحة رقم : 4752
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> الشرق الإسلامي
أقل شأناً من رتشرد الأول، ولويس التاسع، وفردريك الثاني. وجرى هؤلاء الحكام المسلمون جميعهم، بل وصغار الملوك أنفسهم، على سنة الخلفاء العباسيين في مناصرة الآداب والفنون، حتى لنجد في بلاطهم شعراء أمثال عمر الخيام، والنظامي، والسعدي، وجلال الدين الرومي، وبلغت العمارة في أيامهم درجة من الازدهار لم تبلغها قط من قبل، وإن كانت الفلسفة قد اضمحلت لتشددهم في الدين ؛ فقد طارد السلاجقة وصلاح الدين كل خارج على السنة من المسلمين، ولكنهم كانوا يعاملون اليهود والمسيحيين معاملة بلغ من تسامحها ولينها أن المؤرخين البيزنطيين يحدثوننا عن جماعات مسيحية تطلب إلى الحكام السلاجقة أن يأتوا إليهم ليطردوا حكامها البيزنطيين الظالمين(7). وازدهر غرب آسية مرة أخرى مادياً، وأدبياً في عهد السلاجقة والأيوبيين حتى كانت دمشق، وحلب، والموصل، وبغداد، وأصفهان، والري، وهراة، وأميدا، ونيسابور، ومرو وقتئذ من أكثر مدن العالم ثقافة وجمالاً. وقصارى القول أن هذا العصر كان عصر اضمحلال متلألئ ساطع.
صفحة رقم : 4753
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> المسلمون في الغرب
الفصل الثاني
المسلمون في الغرب
1068-1300
توفي الملك الصالح آخر سلاطين الأيوبيين عام 1249، وتغاضت أرملته وجاريته السابقة شجرة الدر عن مقتل ابن زوجها ونادت بنفسها ملكة. وأراد الزعماء المسلمون في القاهرة أن يوفقوا بين هذا ومقتضيات الشرف والرجولة فاختاروا مملوكاً آخر يدعى أيبك ليكون شريكاً لها في الملك وتزوجت به شجرة الدر، ولكنها ظلت هي الحاكمة، ولما حاول أن يستقل بالملك دونها عملت على قتله في الحمام (1257)، ولم تلبث أن قتلتها جواري أيبك بالقباب، وكان أيبك قد عاش من العمر ما يكفي لإنشاء أسرة المماليك, وكان لفظ مملوك يطلق على الأرقاء البيض، وهم في العادة من الأتراك أو المغول الأشداء البواسل، الذين كان سلاطين بني أيوب يستخدمونهم في حرسهم الخاص، وأصبح هؤلاء فيما بعد ملوك مصر، كما أصبح أمثالهم ملوكاً في روما وبغداد، وظل المماليك يحكمون مصر، وبلاد الشام أحياناً؛ 267 عاماً (1250-1517) أريقت فيها كثير من دماء الاغتيال في عاصمة ملكهم؛ ولكنهم جملوها بآثار الفن. وقد أنجوا بشجاعتهم بلاد الشام وأوربا نفسها من المغول حين بددوا شملهم في واقعة عين جالوت (1260)، وكانوا هم الذين أنجوا فلسطين من الفرنجة، وطردوا آخر محارب مسيحي من بلاد آسية، وإن لم ينالوا من وراء ذلك من الحمد ما نالوه بهزيمة المغول.
وكان أعظم سلاطين المماليك وأشدهم قسوة الظاهر بيبرس (1260-1277).
صفحة رقم : 4754
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> المسلمون في الغرب
كان الظاهر بيبرس مملوكاً تركياً؛ رفعه دهاؤه وبسالته إلى منصب القيادة في الجيش المصري، وكان هو الذي هزم لويس التاسع في عام 1250، والذي حارب بعد عشر سنين من ذلك الوقت ببسالة ومهارة منقطعة النظير تحت قيادة قطز في معركة عين جالوت. ثم قتل قطز وهو عائد إلى القاهرة ونادى بنفسه سلطاناً على مصر، وكان من الطريف أن يتقبل لنفسهِ الاحتفال الذي أعدته المدينة للضحية المنتصر. واشتبك الظاهر في عدة حروب مع الصليبيين كللت كلها بالنصر، ومن أجلها تضعه الروايات الإسلامية في المرتبة الثانية بعد هارون الرشيد وصلاح الدين، ويصفه مؤرخ مسيحي معاصر له بقولهِ: "إنه كان في السلم معتدلاً، عفيفاً، عادلاً بين شعبهِ، رحيماً برعاياه المسيحيين أنفسهم". وقد أحسن تنظيم حكومة مصر إلى درجة تثبت دعائم حكم خلفائه رغم ما اتصف به من عجز؛ فاحتفظوا بهذا الملك حتى غلبهم الأتراك العثمانيون في عام 1517. وقد أنشأ لمصر جيشاً وأسطولاً قويين، وطهر مرافئها، وأصلح طرقها، وقنوات ريها، وشاد المسجد المسمى باسمه في القاهرة.
وخلع مملوك تركي آخر ابن الظاهر بيبرس، وأصبح هذا المملوك السلطان المنصور سيف الدين قلاون (1279-1290)، وأهم ما اشتهر به في التاريخ هو البيمارستان الذي أنشأه في القاهرة، والذي خصص له مليوناً من الدراهم (ما يعادل 500.000 ريال أمريكي) في العام ورُفع ابنه الناصر إلى العرش ثلاث مرات، ولكنه لم يخلع إلا مرتين، وبني قنوات لجر ماء الشرب إلى العاصمة، وأنشأ حمامات عامة، ومدارس، وأديرة، وثلاثين مسجداً، واحتفر قناة تصل الإسكندرية بالنيل سخر في حفرها مائة ألف عامل، وضرب المثل في بذخ المماليك، إذ نحر عشرين ألفاً من الذبائح في الاحتفال بزواج ولده. ولما سافر الناصر في رحلة خلال الصحراء حمل على ظهر أربعين بعيراً حديقة من الخضر بطينها الخصيب ليستمد منها حاجاته كل يوم(9). وأقفرت خزانة
صفحة رقم : 4755
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> المسلمون في الغرب
الدولة الرومانية في أيامهِ، وكان سبباً في ضعف خلفائه ضعفاً خارت له فيما بعد قوة المماليك.
وبعد فإن سلاطين المماليك لا يقعون في نفوسنا موقع سلاطين السلاجقة، أو الأيوبيين. نعم إنهم خلفوا منشئات عامة عظمية، ولكن معظم هذه الأعمال كان يقوم بها فلاحون أو عمال فقراء يستغلون إلى أقصى ما تحتمله الطاقة البشرية، وتستطيعه حكومة لا تسأل قط عن أعمالها أمام الأمة أو أمام طبقة الأعيان؛ وكان الاغتيال هو الطريقة الوحيدة للتخلص من السلاطين، ولكن هؤلاء الحكام الغلاظ الأكباد كانوا أصحاب ذوق سليم، أسخياء في مناصرة الآداب والفنون، وكان عصر المماليك ألمع العصور الإسلامية في تاريخ العمارة الإسلامية في العصور الوسطى بأجمعها، وكانت القاهرة في عهدهم (1250-1300) أغنى مدن العالم الممتد في غرب نهر السند(10)، فكانت أسواقها غاصة بجميع لوازم الحياة وبكثير من كمالياتها، وكان فيها سوق للنخاسة يستطيع الإنسان أن يبتاع منها الرجال والفتيات، وحوانيت صغيرة جدرانها مزدحمة بالسلع المتفاوتة الأثمان، وأزقة غاصة بالناس والدواب، تعلو فيها أصوات البائعين الجائلين وعربات النقل، وقد أنشئت ضيقة عن عمد ليستظل بها المارة، ومتعرجة ليسهل الدفاع عنها، تختفي بيوتها وراء واجهات قوية، وحجراتها مظلمة رطبة وسط وهج الشمس وحرارتها في الشوارع الكثيرة الحركة والجلبة، يتنفس سكانها الهواء من بهو داخلي أو حديقة قريبة، وقد فرشت حجراتها بالأثاث الوثير، والسجف، والطنافس، والتحف الفنية، والمفارش والوسائد المطرزة المزركشة. وكان فيها رجال يمضغون الحشيش ليخدروا حواسهم ، ويستجلبوا الأحلام اللذيذة؛
صفحة رقم : 4756
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> المسلمون في الغرب
وفيها نساء يثرثرون في بيوت الحريم، أو يغازلن خلسة من وراء النوافذ. والموسيقى تنبعث من آلاف الآلات، والحفلات العجيبة تقام في القلعة، الحدائق العامة يفوح منها شذي الأزهار وتموج بالمتنزهين، والنهر العظيم والقنوات تسبح فيها سفائن النقل والركاب، وقوارب النزهة. هذه هي القاهرة المسلمة في العصور الوسطى .
لله بستان وما قضيت فيه من المآرب
لهفي على زمني به والعيش مخضر الجوانب
فيروقني والجو منه ساكن والقطر ساكب
ولكم بكرت له وقد بكرت له غر السحائب
والطل في أغصانه يحكى عقوداً في ترائب
وتفتحت أزهاره فتأرجحت من كل جانب
وبدا على جنباته ثمر كأذناب الثعالب
وكأنما آصاله ذهب على الأوراق ذائب
فهناك كم ذهبية لي في الولوع بها مذاهب
وتعاقبت على شمالي إفريقية في ذلك الوقت أسر كان لها هي الأخرى شأن عظيم، منها الزيرية (972-1048) وبنو حفص (1228-1534) حكام تونس، والحموديون (1130-1269) في بلاد الجزائر، والمرابطون (1056-1147) والموحدون (1130-1269) أمراء مراكش. وفي
صفحة رقم : 4757
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> المسلمون في الغرب
الأندلس سرعان ما تأثر المرابطون المنتصرون، جنود إفريقية المتقشفون الأولون، بحياة الترف التي كان يحياها أمراء قرطبة وإشبيلية الذين ثلوا هم عروشهم، وحل لين السلم محل التربية العسكرية الصارمة، وتخلت الشجاعة عن مكانها للمال حتى أصبح هؤلاء الشجعان مقياس السمو والعمة والهدف المبتغى، واكتسبت النساء برقتهن ومفاتنهن سلطاناً لا يدانيه إلا سلطان رجال الدين الذين يمنون الناس بمثل هذه المتع في الجنة. وفسد الموظفون، ولم يلبث دولاب الإدارة الذي بلغ درجة عالية من الكفاية في أيام يوسف بن تاشفين (1090-1106)، أن اختل في أيام ابنه على (1106-1143). واضطرب حبل الأمن، وثرت السرقات كلما ازاد إهمال الحكومة لواجباتها، فأصبحت الطرق غير آمنة، وكسدت التجارة، ونقصت الثروة. واغتنم ملوك أسبانيا الكاثوليكية هذه الفرصة فأغاروا على قرطبة، وإشبيلية وغيرها من مدائن الأندلس الإسلامية، وولى المسلمون وجههم مرة أخرى نحو إفريقية بها لتنجيهم من محنتهم.
وكانت ثورة دينية قد شبت في تلك البلاد في عام 1121، ورفعت إلى العرش طائفة أخرى ذات قوة وبأس شديد. فقد قام عبد الله بن تومرت يندد بعقائد السنيين الذين يعزون إلى الله صفات الآدميين، وبآراء الفلاسفة الذين يدعون إلى إرجاع كل شيء إلى العقل وأخذ يطالب بالعودة إلى البساطة في العيش في العقيدة الدينية، ثم أعلن في آخر الأمر أنه هو المهدي المنتظر والمنقذ الذي يقول به الشيعة. والتفت حوله قبائل البربر الهمج سكان جبال أطلس، ونظموا أنفسهم تنظيماً قوياً وسموا بالموحدين؛ وهزموا حكام مراكش المرابطين، ولم يجدوا صعوبة في أن يفعلوا مثل هذا الفعل في الأندلس. وعاد النظام والرخاء إلى الأندلس ومراكش في عهد عبد المؤمن (1145-1163) وأبي يعقوب يوسف (1163-1184) من أمراء الموحدين، وانتعشت الآداب والعلوم مرة أخرى، وبسط الأميران حمايتهما على الفلاسفة على أن يكون مفهوماً لديهم أن يجعلوا
صفحة رقم : 4758
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> المسلمون في الغرب
كتبهم غير مفهومة، لكن أبا يوسف يعقوب (1184-1199) استسلم إلى فقهاء الدين، وتخلى عن الفلاسفة، وأمر بحرق جميع كتبهم. ولم يكن ابنه محمد الناصر (119-1214) يعنى بالفلسفة ولا بالدين، وأهمل شؤون الحكم، وانغمس في الملذات، وهزم هزيمة منكرة على أيدي قوات المسيحيين المتحدة في واقعة العقاب (Las Navas de Tolosa) عام 1212. وانقسمت أسبانيا الخاضعة للموحدين على أثر هذه الهزيمة إلى دويلات مستقلة افتتحها المسيحيون واحدة بعد واحدة-قرطبة في عام 1236، وبلنسية في 1238، وإشبيلية في عام 1248. وارتد المسلمون المغلوبون إلى غرناطة، حيث وقتهم جبال سيارا نفادا أو الحاج الثلجي بعض الوقاية، وحيث ازدهرت حقول الروم، وحدائق الزيتون، وغياض أشجار البرتقال بفضل ما يجري فيها من مياه الأنهار. وتعاقب على عرش غرناطة طائفة من الحكام الجازمين حافظوا على استقلالهم هي والبلدان التابعة لها-شريش، وجيان، والمرية، ومالقة-وصدوا عنها غارات المسيحيين المتكررة، وراجت التجارة وانتعشت الصناعة، وازدهرت الفنون، واشتهر السكان بثيابهم الزاهية وحفلاتهم المرحة، وظلت هذه المملكة الصغيرة قائمة حتى عام 1492، وكانت هي البقية الباقية في أوربا من تلك الثقافة التي جعلت بلاد الأندلس قروناً طوالاً من مفاخر بني الإنسان.
صفحة رقم : 4759
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
الفصل الثالِث
نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
1058 - 1250
في هذا العصر عصر سيادة البربر على الأندلس الإسلامية أقام المسلمون قصر الحمراء في غرناطة والقصر والخرلدة في وإشبيلية. وكثيراً ما يسمى الطراز المعماري الجديد بالطراز المراكشي Morisco ظناً انه جاء من مراكش ولكن الحقيقة أن عناصره الأولى جاءت من بلاد الشام والفرس، وهي أيضاً من مميزات التاج محال في الهند، ألا ما أوسع ميادين الفن الإسلامي وما أكثر غناه! وقد كان الفن في ذلك الوقت فناً رقيقاً، ولم يعد يهدف إلى القوة والفخامة اللتين نشاهدهما في مساجد دمشق، وقرطبة، والقاهرة، بل يهدف إلى الرقة والمال، ويبدو فيه أن كل مهارة فنية قد وجهت إلى الزينة، وأن المثال قد طغى على مهندس المعمار.
وكان الموحدون من اكثر الحكام نشاطاً في العمارة، وقد شادوا أولاً بقصد الدفاع عن أملاكهم، فكانوا يحيطون مدنهم الكبرى بأسوار ضخمة قوية وأبراج مثل برج الذهب Torre del Oro الذي كان يحرس الوادي الكبير عند إشبيلية. وكان "القصر" Alcazar المقام هناك حصناً وقصراً معاً وكان يطل على العالم بواجهة خالية من الجمال. وكان الذي وضع تصميمه لأبي يعقوب يوسف (1181) هو الجالوني المهندس القرطبي، وأصبح هذا القصر بعد عام 1248 المسكن المحبب لملوك أسبانيا المسيحيين، وأدخل عليه بدور الأول (1353)، وشارل الخامس (126)...وإزابيلا (1833) تعديلاً في بنائه، أو رمموه، أو أعادوا ما تهدم منه، أو أضافوا إليه أبنية جديدة حتى أصبح معظمه
صفحة رقم : 4760
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
الآن مسيحياً في بنائه، ولكنه يغلب على نمطه وصنعه الطراز الإسلامي أو الإسلامي-المسيحي.
وأبو يعقوب يوسف الذي بدأ "القصر" هو نفسه الذي شاد في عام 1171 مسجد إشبيلية العظيم الذي لم يبقَ منه شيء في هذه الأيام. وقد أقام جابر المهندس في عام 1196 مأذنة هذا المسجد الفخمة المعروفة عند الغربيين باسم الخردلة، ثم حول المسيحيون الفاتحون هذا المسجد إلى كنيسة (1235)؛ ثم هدمت هذه الكنيسة في عام 1401، وأقيمت مكانها كنيسة إشبيلية الكبرى، وكان مما استخدم في بنائها مواد المسجد نفسه. والجزء الأدنى من الخرلدة إلى ارتفاع 230 قدماً هو نفس بناء المأذنة الأصلية، أما الاثنتان والثمانون قدماً الباقية فقد أضافها إليها المسيحيون (1568)، وحرصوا أن تكون متناسقة كل التناسق مع قاعدة المأذنة الإسلامية. والثلثان الأعليان من البناء كثير الزخارف، وفيهما شرفات مقنطرة ذات واجهات متشابكة من الجص والحجر؛ وفي أعلاها تمثال من البرونز للإيمان (1568) ولكنه لا يكاد يمثل مزاج أسبانيا الديني غير المتقلب لأنه يدور مع الريح، ومن هنا اشتق لفظ جير لدا-أي الذي يدور-الأسباني من جيرا Gira. وقد أقام المسلمون في مدينتي مراكش (1569) ورباط (1197) أبراجاً لا تكاد تقل جمالاً عن هذا البرج.
وفي غرناطة أمر محمد بن الأحمر (1232-1273) في عام 1248 بتشييد أعظم صرح في الأندلس الإسلامية على بكرة أبيها، ونعني به قصر الحمراء الشهير. وكان الموقع الذي اختير لتشييده عليه قمة جبلية شامخة تحيط بها أخاديد عميقة وتشرف على نهري الدارو Darro والجنيل Genil. وقد وجد الأمير في هذا الموضع حصناً يعرف بحصن الكذابة Acazabs يرجع تاريخه إلى القرن التاسع الميلادي، فأضاف إليه أبنية جديدة وأقام الأسوار الخارجية للحمراء وأقدم قصورها ونقش على كل جزء من أجزائها شعاره المتواضع "لا غالب إلا الله". وقد أضيفت إلى
صفحة رقم : 4761
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
هذا البناء الأصلي أجزاء أخرى في فترات مختلفة وأصلح ما تلف من على أيدي المسيحيين والمسلمين على السواء. ومن ذلك أن شارل الخامس أضاف إليه قصره البني على الطراز المربع طراز عهد النهضة، وهو بناء ناقص كئيب مهيب غير متناسق. وخط المهندس الذي لم يصل إلينا اسمه الفضاء الذي في داخل السور ليكون أولً حصناً لأربعين ألف رجل متبعاً في هذا مبدأ العمارة الحربية التي نمت وتطورت في بلاد الإسلام الشرقية(12). لكن ذوق القرنين التاليين الأكثر ميلاً إلى الترف حول هذا الحصن على مر الأيام إلى مجموعة كبيرة من الأبهاء والقصور، تكاد تمتا كلها بجمال الزخارف المكونة من الأزهار، وأوراق الأشجار، والأشكال الهندسية المحفورة أو المطبوعة في الجص أو الآجر أو الحجارة الملونة، والتي تبلغ من الجمال ورقة الذوق درجة منقطعة النظير. وأنشئت في بهو الآس بركة تنعكس على مياهها أغصان الأشجار وكلات الأبواب المزخرفة، ومن ورائها يقوم برج ذو أسوار حصينة كان المحاصرون يظنون أنهم واجدون فيه آخر ملجأ منيع. وفي داخل هذا البرج بهو السفراء، حيث كان يجلس أمراء غرناطة على رؤوسهم بينما كان المبعوثون الأجانب يعجبون بما حوته المملكة الصغيرة من فن وثراء، ولقد أطل شارل الخامس من شرفة لإحدى نوافذ هذا البهو فرأى الحدائق والغياض، والنهر يجري من تحتها، فقال بعد تفكير عميق: "ما أتعس حظ من خسر هذا كله!"(13) وفي الفناء الرئيسي للقصر المعروف ببهو الآساد أقيم اثنا عشر أسداً من الرخام رهيبة المنظر تحرس فسقتة من المرمر. وإن ما في البواكي المحيطة بهذا الفناء من عمد رشيقة رفيعة ذات تيجان في صورة أزهار، وتيجان ذات عمد صغيرة مدلاة، وكتابات كوفية، ونقوش عربية ذات ألوان أطفأ بريقها كر الغداة ومر العشي، كل هذا يجعل القصر أروع آية في الطراز الإسلامي الأندلسي. ولعل الأندلسيين المسلمين قد دفعهم ترفهم وتحمسهم إلى أن يتجاوزوا في فنهم حدود الرشاقة إلى
صفحة رقم : 4762
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
الإسراف، ذلك أنه حيث لا تشاهد العين إلا الزخرف والزينة فإنها هي والروح تملان حتى الجمال والحذق. وهذه الدقة في الزخرف تبعث في النفس إحساساً بالوهن وتضحي بطابع القوة والأمان اللذين يجب أن تشعرنا بهما هندسة البناء. ومع هذا فإن ذلك الكساء الزخرفي كله تقريباً قد عاش بعد اثني عشر زلزالاً. نعم إن سقف قاعة السفراء قد خر، ولكن ما عداه من القاعة لا يزال قائماً. وملاك القول إأن هذه المجموعة الجميلة من الحدائق والقصور، والفساقي، والشرفات توحي إلى الناظر بأقصى ما وصل إيه الفن الإسلامي الأندلسي من العظمة، كما توحي في نفس الوقت بضعف هذا الفن: توحي بالإسراف في الثراء، وبجهود الفاتحين تتوسد مهاد الراحة وتخلد إلى الدعة، وبحاسة الجمال المرهقة تستبدل بالقوة والعظمة والرشاقة والأناقة.
وعاد الفن الإسلامي الأندلسي في القرن الثاني عشر من أسبانيا إلى شمال إفريقية، وبلغت مدائن مراكش، وفاس، وتلمسان، وتونس، وصفاقس، وطرابلس أوج عظمتها بما شيد فيها من القصور والمساجد التي يبهر العين؛ وبالأحياء الفقيرة المتعرجة. أما في مصر وبلاد الشرق فقد طعم السلاجقة والأيوبيون والمماليك الفن الإسلامي بقوة جديدة، فقد أقام صلاح الدين وخلفاؤه في الجنوب الشرقي من القاهرة قلعتها الضخمة، واستخدموا في بنائها الأسى الصليبيين، ولعلهم حذو في طرازها حذو القلاع التي شادها الفرنجة في بلاد الشام، وشاد الأيوبيون في حلب المسجد العظيم والقلعة، وبنوا في دمشق ضريح صلاح الدين. وحدث في هذه الأثناء انقلاب في فن العمارة حول في جميع بلاد الشرق الإسلامي الطراز القديم في عمارة المساجد، وهو طراز الصحن الواسع إلى طراز المدرسة أو الجامع ذي المدرسة، وكان منشأ هذا الطراز الجديد أن المساجد زاد عددها فلم تعد ثمة حاجة إلى أن يكون في وسطها صحن كبير يتسع لجمهور كبير من المصلين، وأن ازدياد الحاجة إلى المدارس كان يتطلب تسهيلات جديدة في التعليم. ولهذا
صفحة رقم : 4763
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
امتت في المسجد الحقيقي أي من مكان الصلاة-الذي كان يعلوه في ذلك الوقت على الدوام تقريباً قبة كبيرة-امتدت منه أربعة أجنحة لكل منها مآذنه الخاصة ومدخله الكثير الزخارف، وقاعاته الرحبة للمحاضرات. وقد جرت العادة في أغلب الأحيان أن يكون لكل مذهب من المذاهب الأربعة جناح خاص، ويقول أحد سلاطين ذلك الوقت في صراحة: إن ذلك يتيح الفرصة لوجود مذهب منها في القليل يؤيد أعمال الحكومة القائمة. وقد استمر هذا الانقلاب في العمارة في عهد المماليك فأنشئت الساجد والمقابر الضمة التينة من الحجارة، تحرسها أبواب قوية كبيرة من البرونز المشغول، وتضيؤها نوافذ ذات زجاج ملون؛ وتتلألأ فيها الفسيفساء، والنقوش المحفورة في الجص الملون، وقع القرميد التي قاومت حتى الآن عوادي الزمان والتي لم يعرف طريقة صنعها غير المسلمين.
وقد درست الآثار المعمارية السلجوقية فلم يبقَ منها إلا أقل من واحد في المائة، نذكر من هذه البقية القليلة مسجد آني في أرمينية، والمدخل الفخم لمدخل قونية، ومسجد علاء الدين الفخم، والمدخل الكهفي، والواجهة ذات النقوش الشبيهة بالتطريز في جامع سرتجيلي، ونذكر منها في بلاد النهرين مسجد الموصل الكبير، ومسجد المستنصر في بغداد، وفي فارس برج طغرل بك في الري وقبر سنجر في مرو، والمحراب المتلألئ في مسجد همذان، والقبة المضلعة والعقود الصغيرة الفذة في السجد الجامع بقزوين، والعقود الكبرى والمحراب في جامع الحيدرية، وليست هذه إلا قلة من الصروح التي بقيت حتى الآن شاهدة على ما بلغه السلاجقة من حذق في العمارة وما بلغه ملوكهم من سمو في الذوق. وأجمل من هذه كلها المسجد الجامع في إصفهان الذي لا يدانيه في بلاد الفرس كلها إلا مسجد الإمام الرضا في مشهد والذي أقيم بعد ذلك الوقت. ومسجد إصفهان هذا أروع الآيات الفنية كلها في عصر السلاجقة. وقد أقيمت أجزاء من هذا
صفحة رقم : 4764
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
المسجد في قرون عدة، ويبدو عليها طابع تل القرون، فهو من هذه الناحية شبيه بكنيسة نتردام Notre Dam. وقد بدئ بتشييده في عام 1088 ووسع مراراً عدة، ولم يتخذ شكله الحاضر إلا في عام 1612، غير أن كبرى قبابه المشيدة من الآجر تحمل نقوش خاتم نظام الملك وعام 1088. ومدخل المسجد وأبواب المحراب-ومنها واحد يبلغ ارتفاعه ثمانين قدماً-مزينة بالقيشاني والفسيفساء الذي لا يكاد يوجد له نظير في تاريخ ذلك الفن بأكمله. وأبهاؤه الداخلية ذات قباب مضلعة وعقود صغيرة متتالية معقدة، وأقواس مستدقة تخرج من دعامات ضخمة. وعلى المحراب (1310) نقوش على الجص من أوراق الكرم والبشنين؛ وكتابات كوفية لا يعلو عليها شيء من نوعها في بلاد الإسلام جميعها.
وهذه الآثار تسخر من القائلين بأن الأتراك كانوا قوماً همجاً، فكما أن الحكام والوزراء السلاجقة كانوا من أقدر الساسة والحكام في التاريخ، كذلك كان المهندسون السلاجقة من أقدر البنائين وأشجعهم في عصر الإيمان الذي يمتاز بضخامة مبانيه وأعظمها قوة؛ ولقد وقف طراز المباني السلجوقية الضخمة الجريئة في وجه النزعة الفارسية إلى الزينة، ونشأ من اجتماع النزعتين السلجوقية والفارسية طراز معماري جديد عم آسية الصغرى والعراق وإيران، ومن العجيب أن يتفق هذا الطراز في الزمن مع ازدهار فن العمارة القوطي في فرنسا. ولم يجر السلاجقة على السنة التي جرى عليها العرب قبلهم فيخفوا مكان الصلاة في ركن من أركان الصحن، بل جعلوا للمسجد واجهة قوية متلألئة، ورفعوا بناءه، وأقاموا عليه قبة مستديرة أو مخروطية جمعت كل الصرح، وضمت أجزاءه جميعها في وحدة، وفي هذا الوقت بالذات اجتمع في البناء العقد المستدق، والقبو، والقبة أحسن اجتماع(14).
وبلغت الفنون كلها ذروة مجدها في هذا العصر العجيب عصر العظمة
صفحة رقم : 4765
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
والاضمحلال، فقد كان يبدو للفرس من مسرات الحياة التي لا غنى عنها، ولم يبلغ الخزف على اختلاف أشكاله ما بلغه في ذلك الوقت من تنوع في الشكل وجمال(15). ذلك أن الفرس أتقنوا ما ورثوه عن المصريين، وأعل الجزيرة، والساسانيين، وأهل الشام من فنون الزخارف البراقة، والتلوين المفرد، أو المتعدد الألوان فوق السطح المزجج أو تحته، وأعمال الميناء، والقرميد، والقاشاني، والزجاج، حتى بلغوا بذلك كله درجة الكمال. وتأثرت هذه الأعمال كلها بالفن الصيني، وخاصة ما كان منها متصلاً يتلوين الصور، ولكن ذلك لم يفرض سلطانه على الطراز الفارسي، وقد استورد الخزف وقتئذ من بلاد الصين، ولكن ندرة الكاولين في الشرق الأدنى والأوسط لم تشجع المسلمين على صنع هذه الآنية النصف الشفافة. إلا أن الفخار الفارسي مع هذا بقي طوال القرون الثاني عشر، والثالث عشر ، والرابع عشر، لا يفوقه فخار آخر في العالم كله-فقد كان في تنوع أشكاله، ودقة تناسبه، وبريق زخارفه، ودقة حزونه، ورشاقته يسمو على كل ما عداه في العالم كله(19).
ولم تكن الفنون الصغرى في بلاد الإسلام مما تنطبق عليها هذه التسمية التي تبخسها حقها. فقد كانت حلب ودمشق في هذا العصر تصنعان العجائب من الآنية الزجاجية الهشة، والمزخرفة بالميناء، وصنعت القاهرة للمساجد والقصور قناديل من الزجاج المزخرف بالميناء أيضاً يبذل هواة التحف الفنية في هذه الأيام أقصى جهودهم للحصول عليها . وكانت كنوز الفاطميين التي فرقها صلاح الدين تحتوي على آلاف من الزهريات المصنوعة من البلور والجزع البقراني، بلغ صانعوها من المهارة الفنية ما يعجز عنه الفنانون في هذه الأيام، وبلغ فن الزخارف العدنية الآشوري القديم في مصر والشام درجة من الإتقان لم يسبق لها مثيل،
صفحة رقم : 4766
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
ومن هذين القطرين انتقل هذا الفن إلى البندقية في القرن الخامس عشر(18). وكان النحاس، والبرونز، والشبَّه، والفضة، والذهب، تصبّ أو تطرق، وتصنع منها آنية للطبخ، وأسلحة، ودروع، وقناديل، وأباريق، وأحواض، وجفان؛ وصَّوانٍ؛ ومرايا وآلات فلكية، ومزهريات، وثريات، ومقالم، ومحابر، ومدافىء، ومباخر، وتماثيل للحيوانات، وصناديق للمصاحف، ومساند للمواقد، ومفاتيح، وأقفال، ومقصات...مزينة بنقوش محفورة، ومرصعة في كثير من الأحيان بالمعادن أو الحجارة الكريمة. وكانت الوجه العليا للموائد النحاسية تحفر عليها كثير من النقوش، وكانت الشبابيك الفخمة تصنع من المعد المشغول للمحاريب، والأبواب، أو القبور. وفي متحف الفنون الجميلة ببسطن صينية فضية نقشت عليها صور وعول، وإوز، واسم ألب أرسلان، ويرجع عهدها إلى عام 1066، وقد وصفها بعض العلاء بأنها أشهر ما أخرجه الفن الفارسي في العهود الإسلامية من تحف فضية، وأنها أهم تحفة فضية مفردة باقية من أيام السلاجقة(19).
وظل النحت فناً تابعاً لغيره من الفنون ومقصوراً على عمل النقوش البارزة والحفر على الحجارة أو الجص، وعلى الزخرفة العربية والكتابية، وقد يحدث أحياناً أن يأمر حاكم مستهتر بعمل تمثال له أو لزوجته أو إحدى مغنياته، ولكن هذا العمل كان خطيئة سرية قلما تعرض على أعين الجماهير. غير أن النقش على الخشب ترعرع وازدهر، فكانت الأبواب، والمنابر، والمحاريب، وكراسي المصاحف، والسجف، والسقف، والمناضد، والشبابيك الشَّعرية؛ والأصونة: والصناديق، والأمشاط، كانت هذه كلها تقطع على رسم شَعْرية أو يكدح في عملها صناع قاعدون القرفصاء يديرون المخارط بأقواس. وكان ثمة عمال آخرون أشد من هؤلاء كدحاً وأكثر منهم صبراً ينسجون الحرير والأطلس والحرير المشجر، والأقمشة المطرزة، والمخمل المشغول بخيوط الذهب والستائر؛ والخيام،
صفحة رقم : 4767
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
والطنافس ذات النسيج الرقيق البديع والرسوم الفتاة التي كانت موضع دهشة العالم وحسده. وقد شاهد ماركوبولو في آسية الصغرى حين زارها في عام 1270 "أجمل الطنافس في العالم كله"(20). ويقول جون سنجر سارجنت Jhon Singer Sargent إن السجادة العجمية "تساوي في قيمتها كل ما رسم من الصور حتى ذلك الوقت"(21)، مع أن الخبراء المختصين يحكمون بأن السجاجيد العجمية الحالية ليست إلا ناقصة من الفن الذي بزت فيه بلاد الفرس العالم له، ولم يبق من السجاجيد العجمية التي نسجت في عصر السلاجقة إلا قطع ممزقة، ولكن في وسعنا أن نتصور ما بلغه من إتقان وجمال منقطعي النظير مما نسج على منوالها بصورة مصغرة في العصر المغولي.
وكان التصوير في الإسلام من الفنون الكبرى في الرسو الدقيقة الصغيرة، كما كان طوال عهده من الفنون الصغرى في الرسم على الجدران؛ وفي الرسوم الملونة للكائنات الحية. وقد استخدم الخليفة الفاطمي الآمر (1104-1130) عدداً منم رجال الفن ليرسموا له في حجرته بالقاهرة صور شعراء ذلك الوقت(22)، ويبدو من ذلك أن تحريم الصور المنقوشة لم يعد له من القوة ما كان له في سالف الأيام. وقد بلغ التصوير في عهد السلاجقة ذروته في بلاد التركستان حيث أضعف بُعد المسافة كراهية أهل السنة لهذا الفن، ومن اجل هذا نرى في المخطوطات التركية صوراً كثيرة لأبطال الأتراك. ولم تصل إلينا رسوم دقيقة صغيرة يمكن الجزم بأنها من عصر السلاجقة، ولكن بلوغ هذا الفن أوَجه في عصر المغول الذي تلا ذلك العصر في بلاد الشام الشرقية لا يكاد يترك مجالاً للشك في ازدهاره في ذلك العصر السابق. فقد كانت العقول الأوربية والأيدي للصناع تخرج مصاحف تزاد جمالاً فوق جمالها على مر الأيام لمساجد السلاجقة والأيوبيين والمماليك، ومحال عبادتهم؛ ولكبرائهم، ومدارسهم، وكانوا ينقشون على جلود المصاحف المصنوعة من الجلد أو المطلية بالك نقوشاً تبلغ في
صفحة رقم : 4768
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> نظرات خاطفة في الفن الإسلامي
دقتها بيوت العنكبوت، وكان الأغنياء ينفقون بعض مالهم في استئجار الفنانين لإخراج اجمل ما عرف من الكتب، وكانت طائفة كبيرة من الوراقين، والخطاطين، والمصورين، والمجلدين، تعمل في بعض الأحيان سبعة عشر عاماً كاملاً لإخراج مجلد واحد. ولم يكن بد من أن يكون الورق من أحسن الأنواع، ويقال إن فرش الرسم كانت تصنع من شعرات بيضاء من رقاب القطط التي لا تزيد عرها على سنتين، وكان المداد الأزرق يصنع من مسحوق حجر اللازورد الأزرق، وكان يساوي وزنه ذهباً؛ ولم يكن الذهب السائل يعد أثمن من أن ترسم به بعض الخطوط أو تكتب به بعض الحروف في رسم أو نص. وفي ذلك يقول أحد شعراء الفرس: "إن الخيال لا يمكن أن يتصور مقدار السرور الذي يتيحه للعقل منظر خط متقن الرسم"(23).
صفحة رقم : 4769
قصة الحضارة -> عصر الإيمان -> الحضارة الإسلامية -> عظمة المسلمين واضمحلالهم -> عصر عمر الخيام
المراجع
كتب اسلامية
التصانيف
أبحاث