وفي الختام ماذا عسانا أن نقول، سنقول ما قاله Paul Ricoeur إن الكتابة تسجيل مباشر لقصدية القول ونيته. هل سجلت هذه الكتابة نية ما أرادت أن تقوله كتابة؟ لكن شيئا هاما يحدث حينما تحل الكتابة محل الكلام، إنها تستدعي قارئا، ليصير المعنى الذي تحمله من إنتاج الكاتب والقارئ معا.إن الكتابة تقبل الانفصال عن قصد مؤلفها، فأن نقرأ معناه أن نسير في الطريق الفكري الذي تفتحه الكتابة أمامنا، أن نسلك الطريق صوب مشرق الكتابة. فالكتابة انفتاح، إنها تفتح المجال أمام ذات القارئ لتفعل فعلها، فعل تملك المكتوب.
يعتبر البحث في موضوع الحجاج عامة والحجاج الفلسفي على الخصوص ضربا من المغامرة الفكرية والمعرفية.
المغامرة لأن البحث فيه بحث في أسئلة ذات أبعاد فلسفية وأخرى لسانية وديداكتيكية. لهذا فلا يمكن أن يتأتى لنا البحث في هذا الموضوع إلا عندما نعمل على إدماج واستدخال تلك الأسئلة الفلسفية واللسانية والديداكتيكية المتعلقة به والبحث في اللحظة ذاتها عن سبل تجاوزها. فلنتصور على سبيل المثال أن Frédéric Cossuta وGaston Granger وAristot وPerleman وO.Ducrat وPina Ruiz وDominique Folscheid وMichel Le Doeuf وM.Tozzi وآخرون قد اختاروا موقف التوقف عند بروز بعض الإشكالات، كان هذا لو حدث، سيؤدي إلى عدم قيام هذه الاجتهادات والمواقف. وليس المهم أن نتفق مع هؤلاء ولا يهم أن يكون فكرهم على صواب أو نقيض ذلك بل المهم أن اجتهاداتهم قادت إلى بناء مواقف منحتنا الفرصة للتفكير معهم فيما فكروا فيه وفيما سكتوا عنه أو أبعدوه عن منطقة تفكيرهم. بهؤلاء، ولهؤلاء، ومع هؤلاء سيستمر تفكيرنا في موضوع الحجاج فلسفيا ولسانيا وديداكتيكيا لكن لا يمكن تحقيق استمرارية التفكير دون وجود مشكلات حقيقية تواجهه.
ولنأخذ أمثلة على ذلك نتبين بفضلها أنواعا من المشكلات التي ستطرح على مائدة البحث عندما نتأمل موضوع الحجاج وهذه بعضها:

ما هو بالتحديد الحجاج عامة والحجاج الفلسفي خاصة؟


ما الذي يميز الحجاج الفلسفي عن غيره؟ ومع من تتعارض الحجة الفلسفية: هل مع برهنة رياضية أم مع تحقيق تجريبي أم مع حجاج قانوني أو إشهاري؟

وما هي موجهات الحجاج الفلسفي واستراتيجيته؟


وكيف نسعف القراء على اكتشاف الحجاج الفلسفي؟ إن طرح هذا الجمهور من المشكلات جاء كاستجابة لعدة دواعي نذكر من بينها:
  • أن التطورات النظرية واللسانية والديداكتيكية التي أحاطت بموضوع الحجاج تحثنا وتدعونا لتدقيق مفهومه واستراتيجيته وطرق تعلمه وتعليمه.

  • ليس هذا فحسب بل وكذلك من أجل تحسيس آخر بوظيفة أساسية أخرى للغة لا تقل أهمية عن وظيفتها في تبليغ التفكير وإنتاجه، وعن وظيفتها في بناء المفاهيم الفلسفية: إنها الوظيفة الحجاجية. فاللسان البشري كما يقول O.Ducrot ذو وظيفة حجاجية، كما أن من يتكلم يسود ويسيطر كما يضيف R.Barthes.

  • "فلا تواصل باللسان من غير حجاج، ولا حجاج بغير تواصل باللسان" يقول طه عبد الرحمان: فمثلا لو قال القائل "إن سوس موطن العلم" فإن السامع الذي لا يعلم بمضمون هذا القول لا يسلم له ذلك. بل يطالبه بأن يثبت صدق قوله، وللإجابة على هذا الاعتراض قد يقول هذا القائل "لقد ضمت سوس أقدم مراكز العلم وأكثرها عددا". فيعد جوابه هذا إثباتا للقول الأول، وكل إثبات هو حجة القائل.

  • إن كل فلسفة تسعى إلى الإقناع، ولذا فإن مشكل المتلقين والقراء مطروح، أي مشكل الجمهور الذي يتوجه إليه الفيلسوف. وبما أن الفلسفة تريد أن تكون إقناعية فلا تستطيع أن تتجاهل ما يعتقده المتلقي أو القارئ في البداية. إنه عندما نبحث في البنية المنطقية للمتن الفلسفي ندخل في صميم العمل الفلسفي وطريقة بنائه لقضاياه وآلياته التعبيرية والاستدلالية وأساليبه المنطقية والبلاغية من قياس وبرهان بالخلف ومثال ومماثلة وأمثولة واستعارات. "ونحن إذ نفعل ذلك ننخرط كقراء مع الفيلسوف في تضاعيف ممارسته لفعل التفكير. لكن الفيلسوف وهو يمارس فعل التفكير يصدر عن قناعة مؤداها أن الفلسفة خطاب موجه إلى مخاطب كوني… ولذلك فإذا كانت الفلسفة بحثا مستمرا عن الحقيقية –وهي التي تقدم نفسها كمحبة للحكمة- فإنها كذلك سعي إلى تحويل تلك الحقيقة إلى قناعة عامة". ولتحقيق ذلك الطابع الكوني للخطاب الفلسفي يستنجد الفلاسفة بأشكال وأساليب متنوعة ومتباينة - ذلك أن الفلاسفة أحرار في أن يستعملوا من أجل البحث عن الحقيقة أي طريق يرونه نافذا إلى إقناع المتلقي بما يعتقدون أنه حق. فإذا كانت الفلسفة تستثمر وتوظف أدوات البرهان المنطقي من أجل البحث، فإنها سرعان ما تتخلى عن الصرامة المنطقية لصالح أدوات التبليغ، كما تصطنع مناهج بلاغية وجدلية تستهدف ليس فقط الإقناع بل الاستقطاب والتأثير واستفزاز الخيال. إنها بذلك تستنهض كل الملكات بقصد جعل الآخر ينخرط في حركتها الفكرية. وهذا ما يجعل النصوص الفلسفية طرفا في مناظرة تفترض وجود سائل فعلي أو مفترض ينبغي مجادلته ومحاورته وإقناعه. والرد المسبق والقبلي عن الاعتراضات التي يمكن أن تواجه بها تلك النصوص. ولذلك فإن النصوص الفلسفية أثناء تحضيرها وأبنائها تستحضر ذلك المتلقي أو القارئ المفترض".

  • إنه إذا كان من غير الممكن القول بأنه لا تفكير فلسفي بدون تناول مفهومي، ولا تناول مفهومي دون تناول إشكالي، فإنه من الجائز بل من الضرورة القول كذلك بأنه لا تفكير فلسفي بدون عرض حجاجي. فالمضمون لا قيمة له داخل نسق فلسفي إلا إذا كان عليه برهان.

هل يمكن إذن بعد كل هذا أن نحتاج إلى التأكيد على أهمية وضرورة هذا العمل النظري الذي يكتسي طابع المغامرة الجريئة؟


إن التحكم في واقع الحجاج وممارسته بطريقة واعية يقتضي هذا البحث ويستلزمه، لجعل الحجاج في متناول المتلقي الذي يعاني من السذاجة والسطحية في التفكير، ويشكو من آفة العفوية في بناء الموقف والخطاب كما يمارس الإكراه والعنف كأسلوب للإقناع.
ويمكننا تدشين مقاربة وتناول مفهوم الحجاج الفلسفي بالوقوف في البدء على الدلالة اللغوية العامة لمفهوم الحجاج.

في الدلالة اللغوية العامة لمفهوم الحجاج.


الحجة في اللغة تفيد الدليل. يقول الجرجاني في هذا الشأن: "الحجة ما دل به على صحة الدعوى وقيل الحجة والدليل واحد" ومن حيث المقتضيات كشروط لإمكان الحجاج، يقتضي الأمر وجود طرفين بينهما سجال أو جدال. يقول ابن منظور في لسان العرب: "الحجة ما دوفع به الخصم، وهو رجل محجاج أي جدل، والتحاج: التخاصم، وحاجه محاجة وحجاجا، نازعه الحجة" والحجاج جملة من الحجج التي يؤتى بها للبرهان على رأي أو إبطال، أو هو طريقة تقديم الحجج والاستفادة منها. "والمحاجة هي إنتاج مجموعة حجج مرتبة بطريقة ما قصد إثبات أو تفنيد قضية من القضايا. وقد تعني المحاجة بتوسيع دلالتها كل وسائل الإقناع باستثناء العنف والإكراه". ومن حيث البناء فالحجاج ينبني على منطلقات غير يقينية، فميدانه هو الاحتمال وليس ميدان الحقائق البديهية المطلقة، فهناك دائما قسط من الشك مما يدفعنا دائما إلى البحث عن حجج من أجل تحقيق درجة أعلى من الإقناع. أما من حيث الوظيفة والدور فالحجاج أداة تسعى إلى إقحام الخصم وإقناعه بمشروعية وصلاحية الموقف.

المراجع

موسوعة الفلسفة والفلاسفة

التصانيف

فلسفة