(1)
أريد أن أكتب لك كلاماً
لا يُشبهُ الكلامْ
وأخترع لغةً لكِ وحدكِ
أفصّلها على مقاييس جسدك
ومساحةِ حبّي.
أريدُ أن أسافرَ من أوراق القاموس
وأطلبَ إجازةً من فمي.
فلقد تعبتُ من استدارة فمي
أريدُ فماً آخر..
يستطيع أن يتحوّل متى أرادْ
إلى شجرة كَرَز
أو علبة كبريت
أريد فماً جديداً
تخرج منه الكلماتْ
كما تخرج الحوريّات من زَبَد البحر
وكما تخرج الصيصَانُ البيضاء
من قبَّعة الساحر..
خذُوا جميعَ الكتب
التي قرأتُها في طفولتي
خذُوا جميع كراريسي المدرسيّة
خذوا الطباشيرَ..
والأقلامَ..
والألواحَ السوداءْ..
وعلّموني كلمةً جديدة
أُعلّقها كالحَلَقْ
في أُذُن حبيبتي
أريدُ أصابعَ أخرى..
لأكتبَ بطريقةٍ أخرى
فأنا أكرهُ الأصابعَ التي لا تطول .. ولا تقصر
كما أكرهُ الأشجار التي لا تموت .. ولا تكبر
أريد أصابعَ جديدة..
عاليةً كصوراي المراكبْ
وطويلةً ، كأعناق الزرافاتْ
حتى أفصّل لحبيبتي
قميصاً من الشِعرْ..
لم تلبسه قبلي.
أريدُ أن أصنع لكِ أبجديّة
غيرَ كلّ الأبجدياتْ.
فيها شيء من إيقاع المطرْ
وشيء من غبار القمرْ
وشيء من حزن الغيوم الرماديّة
وشيء من توجّع أوراق الصفصاف
تحت عَرَبات أيلول.
أريد أن أهديكِ كنوزاً من الكلماتْ
لم تُهْدَ لامرأةٍ قبلك..
ولنْ تُهْدَى لامرأةٍ بعدكْ.
يا امرأةً..
ليس قَبْلَها قَبْلْ
وليس بَعْدَها بَعْدَ
أريدُ أن أعلَّم نهديْكِ الكسوليْنْ
كيف يُهجِّيان اسمي..
وكيف يقرءان مكاتيبي
أريدُ .. أن أجعلكِ اللغة..
(2)
نهارَ دخلتِ عليَّ
في صبيحة يومٍ من أيام آذارْ
كقصيدةٍ جميلةٍ .. تمشي على قَدَمَيْها
دخلت الشمسُ معك..
ودخل الربيعُ معك..
كان على مكتبي أوراقٌ.. فأورقَتْ
وكان أمامي فنجانُ قهوة
فشربني قبل أن أشربه
وكان على جداري لوحةٌ زيتية
وكان على جداري لوحةٌ زيتية
لخيول تركض..
فتركتْني الخيولُ حين رأتكِ
وركضتْ نحوك..
نهارَ زُرتني..
في صبيحة ذلك اليوم من آذارْ
حدثتْ قشعريرةٌ في جسد الأرض
وسقَطَ في مكان ما.. من العالم
وسقَطَ في مكان ما.. من العالم
نيزكٌ مشتعلْ..
حسبه الأطفال فطيرةً محشوةً بالعسلْ..
وحسبتهُ النساء..
سواراً مرصَّعاً بالماسْ..
وحسبه الرجال..
من علامات ليلة القدْرْ..
وحين نزعتِ معطفكِ الربيعيّ
وجلستِ أمامي..
فراشةً تحمل في أحقابها ثيابَ الصيف..
تأكّدتُ أن الأطفال كانوا على حقّ..
والنساء كُنَّ على حقّ..
والرجال كانوا على حقّ..
وأنّكِ..
شهيّةٌ كالعسلْ..
وصافيةٌ كالماسْ..
ومذهلةٌ كليلة القدرْ...
(3)
عندما قلتُ لكِ :
"أُحبّكِ".
كنتُ أعرف..
أنني أقود انقلاباً على شريعة القبيلة
وأقرع أجراسَ الفضيحة
كنتُ أريد أن أستلم السلطة
لأجعلَ غابات العالم أكثرَ ورقاً
وبحارَ العالم أكثرَ زرقةً
وأطفالَ العالم أكثرَ براءة.
كنتُ أريد..
أن أُنهي عصرَ البربريَّة
وأقتلَ آخر الخلفاء
كان في نيّتي _عندما أحببتكِ_
أن أكسر أبوابَ الحريم
وأنقذَ أثداءَ النساء..
من أسنان الرجال..
وأجعلَ حَلَمَاتهنّ
ترقصُ في الهواء مبتهجة
كحبّات الزعرور الأحمر..
عندما قلتُ لكِ:
"أُحبّكِ".
كنتُ أعرف..
أنني أخترع أبجديةً جديدة
لمدينةٍ لا تقرأ..
وأنشد أشعاري في قاعة فارغة
وأقدّم النبيذ
لمن لا يعرفون نعمة السُكْرْ.
عندما قلتُ لكِ:
"أُحبّكِ"
كنتُ أعرف.. أن المتوحّشين سيتعقبونني
بالرماح المسمومة.. وأقواس النشّاب.
وأنّ صُوَري..
ستُلصَق على كلّ الحيطان
وأنَّ بَصَماتي..
ستوزَّع على كلَّ المخافر
وأن جائزةً كبرى..
ستُعطى لمن يحمل لهم رأسي
ليُعلّقَ على بوّابة المدينة
كبرتقالةٍ فلسطينية..
عندما كتبتُ اسمكِ على دفاتر الورد..
كنتُ أعرف..
أنّ كلَّ الأُميّين سيقفون ضدّي
وكلَّ آلِ عثمان.. ضدّي
وكلَّ الدراويش .. والطرابيش .. ضدّي.
وكلّ العاطلين بالوراثة
عن ممارسة الحبّ .. ضدّي
وكلَّ المرضى بوَرَم الجنس..
ضدّي..
عندما قرّرتُ أن أقتلَ آخر الخلفاءْ
وأُعلنَ قيامَ دولةٍ للحبّ..
تكونين أنتِ مليكتَها..
كنتُ أعرف..
أنَّ العصافير وحدَها..
ستعلنُ الثورةَ معي..
(4)
حين وزَّع اللهُ النساءَ على الرجالْ
وأعطاني إيَّاكِ..
شعرتُ..
أنّه انحاز بصورة مكشوفة إليّْ
وخالفَ كلَّ الكتب السماويّة التي ألَّفها
فأعطاني النبيذ ، وأعطاهم الحنطة
ألبسني الحرير، وألبسهم القطن
أهدى إليَّ الوردة
وأهداهم الغصن..
حين عَرَّفني اللهُ عليكِ..
وذهب إلى بيته
فكَّرتُ .. أن أكتب له رسالة
على ورقٍ أزرقْ
وأضعها في مُغلّفٍ أزرقْ
وأغسلها بالدمع الأزرقْ
أبدؤها بعبارة: يا صديقي
كنتُ أريد أن أشكرَهُ
لأنّه اختاركِ لي..
فاللهُ _ كما قالوا لي _
لا يستلم إلا رسائلَ الحب.
ولا يجاوب إلا عليها..
حين استلمتُ مكافأتي
ورجعتُ أحملك على راحة يديا
كزهرة مانوليا
بستُ يدَ الله..
وبستُ القمر والكواكب
واحداً .. واحداً
وبستُ الجبال .. والأودية
وأجنحة الطواحين
بستُ الغيومَ الكبيرة
والغيومَ التي لا تزال تذهب إلى المدرسة
بستُ الجُزُرَ المرسومة على الخرائط
والجُزُرَ التي لا تزال بذاكرة الخرائط
بستُ الأمشاط التي ستتمشّطين بها
والمرايا .. التي سترتسمين عليها..
وكلَّ الحمائم البيضاء..
التي ستحمل على أجنحتها
جهازَ عرسك..
(5)
لم أكُنْ يوماً ملِكاً
ولم أنحدر من سلالات الملوكْ
غير أن الإحساسَ بأنّكِ لي..
يعطيني الشعورَ
بأنني أبسط سلطتي على القارات الخمسْ
وأسيطر على نزوات المطر، وعَرَبات الريح
وأمتلك آلافَ الفدادين فوق الشمس..
وأحكم شعوباً .. لم يحكمها أحدٌ قبلي..
وألعب بكواكب المجموعة الشمسية..
كما يلعب طفلٌ بأصداف البحر...
لم أكنْ يوماً مَلِكاً
ولا أريدُ أن أكونه
غيرَ أن مُجرَّدَ إحساسي
بأنّكِ تنامين في جوف يدي..
كلؤلؤة كبيرة..
في جوف يدي..
يجعلني أتوهَّم..
بأنّني قيصر من قياصرة روسيا
أو أنّني..
كسرى أنو شروانْ..
(6)
لماذا أنتِ؟
لماذا أنتِ وحدك؟
من دون جميع النساء
تغيِّرين هندسةَ حياتي
وإيقاعَ أيّامي
وتتسلّلين حافيةً..
إلى عالم شؤوني الصغيرة
وتُقفلين وراءكِ الباب..
ولا أعترض..
لماذا؟
أُحبّكِ أنتِ بالذاتْ
وأنتقيكِ أنتِ بالذاتْ
وأسمح لكِ..
بأن تجلسي فوق أهدابي
تُغنّين،
وتُدخّنين،
وتلعبين الورق..
ولا أعترض.
لماذا ؟
تشطبينَ كلَّ الأزمنة
وتوقفين حركةَ العصور
وتغتالين في داخلي
جميعَ نساء العشيرة
واحدة .. واحدة..
ولا أعترض
لماذا؟
أعطيكِ، من دون جميع النساء
مفاتيحَ مُدُني
التي لم تفتح أبوابَها..
لأيّ طاغية
ولم ترفع راياتها البيضاء..
لأيّة امرأة..
وأطلب من جنودي
أن يستقبلوك بالأناشيد
والمناديل..
وأكاليل الغار..
وأبايعكِ..
أمامَ جميع المواطنين
وعلى أنغام الموسيقى، ورنين الأجراس
أميرةً مدى الحياة..
(7)
علّمتُ أطفالَ العالم
كيف يهجّون اسمكِ..
فتحولت شفاهُهُم إلى أشجار توتْ.
أصبحتِ يا حبيبتي..
في كُتُب القراءة ، وأكياس الحلوى.
خبأتُكِ في كلمات الأنبياء
ونبيذ الرهبان.. ومناديل الوداع
رسمتكِ على نوافذ الكنائس
ومرايا الحُلُم..
وخشب المراكب المسافرة..
أعطيتُ أسماكَ البحر..
عنوانَ عينيكِ
فنسيتْ عناوينها القديمة
أخبرتُ تجّار الشرق..
عن كنوز جسدك..
فصارت القوافل الذاهبةُ إلى الهند
لا تشتري العاج
إلا من أسواق نهديك..
أوصيتُ الريحَ
أن تمشّط خصلات شعرك الفاحم
فاعتذرتْ.. بأنَّ وقتها قصيرْ..
وشعركِ طويلْ..
(8)
من أنتِ يا امرأة؟
أيّتها الداخلة كالخنجر في تاريخي
أيّتها الطيّبة كعيون الأرانب
والناعمة كوَبَر الخوخة
أيتها النقيّة، كأطواق الياسمين
والبريئة كمرايل الأطفال..
أيتها المفترسة كالكلمة..
أُخرجي من أوراق دفاتري
أُخرجي من شراشف سريري..
أُخرجي من فناجين القهوة
وملاعق السُكَّرْ..
أُخرجي من أزرار قمصاني
وخيوط مناديلي..
أخرجي من فرشاة أسناني
ورغوة الصابون على وجهي
أخرجي من كلّ أشيائي الصغيرة
حتى أستطيع أن أذهب إلى العمل...
(9)
إني أُحبّكِ..
ولا ألعبُ معكِ لعبةَ الحبّ
ولا أتخاصم معكِ كالأطفال على أسماكِ البحر
سمكة حمراء لكِ..
وسمكة زرقاء لي..
خذي كلَّ السمك الأحمر والأزرقْ
وظلّي حبيبتي..
خذي البحرَ ، والمراكبَ ، والمسافرين.
وظلّي حبيبتي..
إنني أضع جميع ممتلكاتي أمامك..
ولا أفكر في حساب الربح والخسارة..
ربّما ..
لم يكن عندي أرصدة في البنوك
ولا آبار بترول أتغرغر بها..
وتستحمّ فيها عشيقاتي..
ربّما .. لم تكن عندي ثروة آغاخان..
ولا جزيرةٌ في عرض البحر كأوناسيس
فأنا لستُ سوى شاعر..
كلُّ ثروتي.. موجودةٌ في دفاتري
وفي عينيكِ الجميلتينْ..
(10)
رماني حبُّكِ على أرض الدهشة
هاجمني..
كرائحة امرأةٍ تدخل إلى مصعدْ..
فاجأني..
وأنا أجلس في المقهى مع قصيدة
نسيتُ القصيدة..
فاجأني..
وأنا أقرأُ خطوطَ يدي
نسيتُ يدي..
داهمني كديكٍ متوحّش
لا يرى.. ولا يسمع
إختلط ريشُه بريشي
إختلطتْ صيحاتُه بصيحاتي
فاجأني..
وأنا قاعدٌ على حقائبي
أنتظر قطارَ الأيام..
نسيتُ القطارْ..
ونسيتُ الأيّامْ..
وسافرتُ معكِ..
إلى أرض الدهشة..

 

اسم القصيدة: 100 رسالة حُبّ (1)-(10).

اسم الشاعر: نزار قباني.


المراجع

adab.com

التصانيف

شعر   الآداب