بيكون (فرنسيس ـ)
(1909 ـ 1992)
 
فرنسيس بيكون Francis Bacon مصور إنكليزي. ولد في دبلن، وتوفي في مدريد، هجر أسرته عن عمر يناهز السادسة عشرة، إثر إقامته القصيرة بمدرسة شلتنهام، ليطوف كلاً من ألمانية وفرنسة وبريطانية قبل أن يحط عصا الترحال في لندن نحو عام 1928. فتجلت ميوله للتصوير إبان أسفاره تلك، وزار العديد من المعارض. وفي باريس انقلبت حياته رأساً على عقب لدى مشاهدته أعمال بيكاسو[ر] Picasso والتكعيبيين[ر]، ذلك أن الأعمال التي أنجزها في السنوات التي أعقبت هذه الزيارة تعكس مدى تأثره بالسريالية[ر] وبالتكعيبية التركيبية[ر] وفروعها.
وبتشجيع من صديقه روي دو ميستر Roy de Maistre، عمل مصمماً للسجاد والأثاث المنزلي في عام 1929، فجاءت تصاميمه شبيهة بأسلوب الباوهاوس[ر]، لكنه سرعان ما هجر عمله هذا ليتفرغ للتصوير، إلا أن سنوات الحرب التي تلت ذلك وانهماكه في الدفاع عن الوطن أدت إلى ندرة إنتاجه الفني. وكشفت باكورة أعماله عن تأثره البالغ بالفنانين بيكاسو وليجيه[ر] Leger ولورسا[ر] Lurçat وسوفربي Souverbie، إلا أنه أتلف أعمال تلك المرحلة جميعاً، باستثناء اثنتي عشرة لوحة، من بينها دراسات ثلاث تدور حول صلب السيد المسيح، التي عمل بها على مدى سنوات طويلة. ومع ذلك فإن هذا الموضوع الديني، الذي سمح لبيكون تكوين لغته التشكيلية، كان قد سبق وعالجه قبل هذا التاريخ، إذ استخدمه الفنان في عام 1931 ليعود إليه مراراً وتكراراً في الأعوام 1932 - 1936 - 1962.
 
 
إن كل لوحة في أعمال هذا الفنان تشكل جزءاً من سلسلة تدور حول موضوع واحد، كما أن جل أفكاره قد استلهمها من صور ضوئية وثائقية، ومن صور الدوريات، ومن الأفلام (صورة الأم المرضعة التي تصرخ هلعاً في فيلم «المدرعة بوتمكين»)، ومن صور الحيوانات المتوحشة، والصور المنسوخة عن أعمال كبار الفنانين مثل فلاسكيز[ر] Velasquez، ورامبرانت[ر] Rambrandt، ودومييه[ر] Daumier الذين تزين أعمالهم جدران مرسمه مثل لوحة «البابا إنوسنت العاشر» للفنان فلاسكيز التي استحوذت عليه منذ عام 1949، أضف إلى ذلك مجموعة صور Muybridge الضوئية الخالية من الجاذبية والتي تمثل آدميين وحيوانات في حالة الحركة، كما استعان بقالب لوحة وليم بليك[ر] W.Blacke، ولوحة «المصور على طريق تارسكون» لفان غوخ[ر] Van Gogh.
لم يطرأ على مواضيع هذا الفنان أي تغيير منذ عام 1960، ويقول هو نفسه عن أعماله:
«ليست أعمالي إلا سعياً دؤوباً لإظهار نمط من أنماط الإحساس... فالتصوير يعكس بنية جهازنا العصبي الخاص وذلك من خلال إسقاطه على القماش» ويرى أن نمط إحساسه هذا متشائم ومثير للقلق بشكل مقصود، وهذا ما نلاحظه بالفعل في المخلوقات التي حشرها في دراسته عن صَلْب السيد المسيح (1944)، أو في لوحة الباباوات الذين يظهرون بمظهر رجال خطرين ومنعزلين، وهم مع ذلك ضحية الآلام والتمزق، إذ سد عليهم الفنان باب الخلاص وسجنهم في حيز متوازي السطوح يتكون من خطوط ملونة، فسواء تعلق الأمر بسلسلة أعماله من الباباوات بوجوههم الملتوية ألماً، أو بسلسلة الشيوخ والأحداث المتشنجي الوجوه والأجساد، أو بمجموعة القضاة وهم يتحركون في خضم من اللحم المصبوغ بالدم، أو بمجموعة الدمى المشؤومة المحاصرة بطغمة شاذة وغريبة من الرجال العراة، فإن هذه الأشكال شبه الآدمية، والمعالجة في أغلب الأحوال في مادة سيالة وبألوان كامدة تستحيل بشكل غريب إلى أشكال دينامية بأسلوب بيكون في الرسم الذي يبلغ غاياته وتأثيراتها بطرائق بصرية.
في عام 1950 و1951 قام الفنان بزيارة إلى إفريقية الجنوبية مروراً بمصر، وفي عام 1954 ذهب إلى إيطالية، وفي عام 1956 إلى طنجة التي تردد إليها مرات عدة. ويمكن القول إن بيكون قد حقق قفزة نوعية منذ عام 1954 حين صوّر مجموعة لوحات جديدة مثّل فيها رجال الأعمال الذين صوّرهم بملابس أنيقة قاتمة، فجاؤوا كالأشباح بوجوههم الجنينية البشعة والمرعوبة، كأنهم وقعوا في شرك متطفلين خبثاء، والألوان في هذه المجموعة أكثر صفاء ونضارة، والأشكال الرخوة أكثر استطالة واختلاجاً، حشرها الفنان في حيز داخلي حديث وبارد.
إن فنان الرعب هذا، الذي اتهمه بعضهم بالحذلقة تارة وبالتعذيب للآخرين والذات أو بالسادية والمازوشية تارة أخرى، وبأنه مهرج كبير، عرض أعماله بنجاح في عواصم العالم الكبرى فتأكدت شهرته وترسخت موهبته منذ عام 1962.
عن أعماله المسكونه بالوساوس والهواجس، قال دينس ميلهاو Denis Milhau «إنها أعمال ترتكز جميعها على الشكل الإنساني، وتقدم نفسها كدعوى تدين الشرط الإنساني بل الإنسانية جمعاء بما فيها الفنان نفسه، الذي يطيب له أن يعلن أن أعماله عبارة عن صورة لشخصه وللآخرين».
وباختصار: كان بيكون يصر على مشاهد صنعتها الحروب والآلة واقتصاد السوق الحرة وانهيار القيم، لزرع الرعب والقشعريرة. ناسه هم أنا وأنت والآخر وقد حشرنا جميعاً بإهمال في عزلة وجودية وقدرية.. وأنزلنا إلى الجحيم ونحن أحياء فعانينا ألواناً من القهر والألم، وطرح بنا على سرير بروكرست، ومزقت أجسادنا بسياط الماركيز دي ساد الذي اشتق منه مصطلح السادية أو تعذيب الآخر، نعم إنها أجساد لم تصورها فرشاة، بل فتّتتها سياط تنهال ضرباً على أجساد ضحاياها فتتلوى ويتناثر دمها ولحمها أصباغاً كامدة، ونتفاً لاذعة، وبقعاً براقة.. ولا تهدأ يد الجلاد حتى تتحول الأجساد الآدمية إلى هياكل ممسوخة شديدة الشبه بالقرود والكلاب.
إن فرنسيس بيكون الذي عُدَّ، ولمدة طويلة، حالة متفردة قائمة بذاتها، يبقى حتى يومنا هذا واحداً من أهم الممثلين لاتجاه التشخيص الجديد في التصوير.
 
فؤاد دحدوح
 
 

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث