بسم الله الرحمن الرحيم

 
قال الإمام العلامة ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتاب إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان [2/237-238] (ط/ دار الكتاب العربي - تحقيق خالد عبداللطيف السبع العَلَمي):
 
إن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم، وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانا فيه حكمة عظيمة، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل :
 
فمنها : استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين غالبين؛ لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة .
 
فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غلبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه .
 
ومنها : أنهم لو كانوا دائما منصورين، غالبين، قاهرين؛ لدخل معهم من ليس قصده الدين، ومتابعة الرسول؛ فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد .
 
فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة، وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه .
 
ومنها : أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع .
 
ومنها : أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم، ويخلصهم، ويهذبهم؛ كم اقال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين * ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون * وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)) [آل عمران:139-144].
 
فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار، بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح في طاعته وطاعة رسوله، فقد مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله .
 
ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها؛ كالأرزاق والآجال .
 
ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعا .
 
ثم أخبر سبحانه أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء؛ فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد .
 
ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين؛ أي: تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد ان يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم، وعدوانهم إذا انتصروا .
 
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر، وأن حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم .
 
فهذا بعض حكمه في نصرة عدوهم عليهم وإدالته في بعض الأحيان . أ.هـ
الإمام العلامة ابن القيم الجوزية رحمه الله 

المراجع

موسوعة طريق الأيمان

التصانيف

حياة