من المعروف أن الوظيفة الاجتماعية والأخلاقية والجمالية للأدب قديمة قدم الأدب نفسه، وأن ثمة ميلاً إنسانياً قديماً ومقيماً للاهتمام بوظيفة الأدب وتوجيهه لمصلحة الفرد والمجتمع والوطن والإنسانية والمعتقد. ولكنَّ هناك فرقاً بين الإيمان النظري العام بوظيفة الأدب، وهو ما اصطلح على تسميته بالنظرية الأخلاقية، ومفهوم الالتزام الحديث الذي ينبثق من النظرية الأخلاقية ذاتها ولكنه يتجاوزها متجهاً نحو العمل على تنظيم وظيفة الأدب وتعميق الوعي بها، وتحديد مسؤولية الأديب، وأحياناً إلزامه بهذه المسؤولية، انطلاقاً من موقف إيديولوجي محدد متسم بالوعي النظري. فالالتزام: هو الشكل الواعي المنظم (المؤدلج) للنظرية الأخلاقية، وهو ـ بهذا المعنى ـ ممارسة حديثة العهد لا تعود بداياتها الأولى إلى أكثر من قرن واحد من الزمن، وإن كانت في التاريخ الأدبي القديم أشكال من الالتزام غير المبنيّ على الاتساق الفكري والاستمرارية المنظمة كالتزام الأدب الموقف الديني في العصور الوسطى عند الأوربيين، وربما كذلك عند العرب، ولاسيما في مجالي الشعر الديني والشعر السياسي (الأحزاب).
وإذا كان مفهوم الالتزام يرجع إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كما يُستخلص من تنظيرات ثورة (أكتوبر) الاشتراكية وما سبقها من إرهاصات في روسية، فإن استخدام كلمة «الالتزام» بالمعنى الاصطلاحي الحديث يرجع إلى أوائل أربعينات القرن العشرين، إذ كان المفكر الوجودي الفرنسي جان بول سارتر [ر] أول من بلور مصطلح «الالتزام» للدلالة على مسؤولية الأديب، ولتوكيد أن الكلام الأدبي ليس مجرد ترويح عن النفس أو تعبير جمالي، وإنما هو «موقف» يستتبع المسؤولية.
ولكن ذيوع مصطلح «الالتزام» على يد سارتر يجب ألا ينسينا أبداً أن مفهوم «الالتزام» المنظم يعود إلى أدبيات المذهب الواقعي الاشتراكي الذي يقوم أصلاً على تأكيد ارتباط النتاج الأدبي بالبنية التحتية (الاقتصادية ـ الاجتماعية)، ومن ثم على تأكيد رسالة الأدب والفن للعمل في سبيل التغيير من أجل الحياة الكريمة والغد الأفضل. وقد اتخذ هذا المفهوم منذ البدء صيغة مذهب أدبي متماسك حمل اسم «الواقعية الاشتراكية». وهو حصيلة النظرة الماركسية إلى الأدب والفن من الناحية النظرية. كما أنه، من الناحية العملية، حصيلة التجربة الأدبية المعاصرة للأدباء الاشتراكيين في الاتحاد السوفييتي (سابقاً) والبلدان الاشتراكية الأخرى وأقطار كثيرة في العالم. ومفاد هذه النظرة أن الأدب ابن طبقته وعصره، وهو تعبير عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية في العصر، وفي خضم معركة صراع الطبقات لا يستطيع الأديب أن يقف موقف المتفرج أو أن ينقطع للتأمل المجرد في برجه العاجي، وإنما هو مطالب بالتجاوب مع نضال الطبقة الكادحة (البروليتارية) وأهدافها، وعليه أن يقف إلى جانب الحياة ويلتزم مناصرة قوى التقدم والتحرر والثورة، وهكذا يكون الموقف المشترك بين كتاب «الواقعية الاشتراكية» هو التزام أهداف الطبقة العاملة والنضال في سبيل تحقيق الاشتراكية والعالم الأفضل.
على أن النصوص الأولى للواقعية الاشتراكية لا تستخدم كلمة «الالتزام» استخداماً اصطلاحياً، بل تركز عادة على كلمة «هادف»، ومن هنا كانت أكثر الصفات تكرراً في السلسلة الطويلة لتحديدات الأدب الاشتراكي هي كلمة «هادف". ويلاحظ تكرار هذا الوصف لدى واحد من أقدم منظري الالتزام الأدبي الاشتراكي، وهو أناتولي لوناتشارسكي، ففي مقالته المبكرة «حول الواقعية الاشتراكية» (1932)، يؤكد أن الواقعية الاشتراكية تختلف عن الواقعية البرجوازية في أنها فعالة بذاتها ومدركة لجدلية الطبيعة والمجتمع، وكذلك ـ وهذا هو المهم ـ في أنها هادفة، يقول: «ثم إنها هادفة. إنها تعرف ما هو خير وما هو شر، وتلاحظ أي قوى تعيق الحركة وأي قوى تسهل سعيها المتوتر نحو الهدف الأعظم. وهذا كفيل بإضاءة كل صورة فنية بطريقة جديدة سواء من الداخل أم من الخارج. وهكذا يكون للواقعية الاشتراكية موضوعاتها لأنها تعطي الأهمية بدقة لكل ما له قدر من التأثير في العملية الأساسية لحياتنا، أي النضال من أجل تحويل كامل للحياة وفق الخطوط الاشتراكية». وقد قطع المذهب الواقعي الاشتراكي في الممارسة والنظرية شوطاً كبيراً وأصبح اليوم يستند إلى تجربة تاريخية طويلة، ومع هذا التطور يبرز سؤال نظري شديد الأهمية حول مدى ورود معطيات هذا المذهب فيما يتصل بالثورات التحررية وأقطار العالم الثالث والمجتمعات الناشئة التي ابتعدت، لظروف تاريخية اجتماعية سياسية ولتداخل العوامل التي تكوّن اليوم أدبها وثقافتها الوطنية، عن مفهوم مجتمع الطبقة الواحدة وما يترتب على ذلك من بنى أدبية وفنية، وانتهجت منهجاً وطنياً لا رأسمالياً في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك انتهجت نهجاً ثقافياً مبنياً على الانفتاح والتفاعل سواء مع الموروث الثقافي والأدبي أم مع النتاج العالمي الجديد من العالم الاشتراكي بالدرجة الأولى ولكن من مناطق أخرى في العالم أيضاً.
كذلك برزت منذ عام 1987 مسائل جديدة في الالتزام الأدبي الاشتراكي نتيجة موجة إعادة البناء (بيريسترويكا)، التي دعت إلى الانفتاح والمرونة وبشرت بمرحلة جديدة في فهم الالتزام الأدبي يمكن أن ترجح فيها القيم الجمالية على قيم المضمون.
وإلى جانب الواقعية الاشتراكية، برزت «الوجودية» في العصر الحديث تنادي بالالتزام وتروّج له. وهي تختلف اختلافاً بيناً عن سابقتها الواقعية الاشتراكية في أنها تنأى عن أي منحى أيديولوجي وتجعل الالتزام نابعاً من وجدان الكاتب الفرد وقناعاته من دون أن يكون هناك معيار واضح لهذا الالتزام. ومن الصعب الكلام عن الوجوديين بالجملة لأن كل علم من أعلامهم له تجربته الخاصة، ومن بينهم جميعاً يبرز جان بول سارتر أقوى مدافع عن نظرية الالتزام، وللأدب عنده خاصيتان أساسيتان مترابطتان: الالتزام واتخاذ المواقف. وهو يعفي الشاعر من الالتزام لأن الكلمة الشعرية لا تفيد معناها الدقيق ومن ثم لا تتضمن موقفاً. وعنده أن حرية الكاتب ضرورية ومنها ينبع الالتزام، والالتزام لا يعني سطحية العمل الأدبي ووقوفه عند النصائح المباشرة أو المواعظ، بل يعني حيوية العمل الأدبي في ارتباطه بالعصر وملابساته وتوجيه الوعي فيه وجهة إنسانية مسؤولة وغير مشروطة.
ومن الواضح أن هذه الملاحظات تتناول بنقد غير مباشر ذلك الميل الذي ظهر في كثير من الكتابات الواقعية الاشتراكية نحو البساطة المتناهية والمباشرة والتقريرية والمنبرية والبعد عن التساؤل، ولاسيما في أوضاع سياسية معينة في الاتحاد السوفييتي السابق كالمرحلة الستالينية سياسياً والجدانوفية ثقافياً.
إن نظرية الالتزام عند سارتر لم تنبثق جاهزة، وإنما تبلورت بالتدريج عبر تجاربه الحياتية والكتابية، وقد قادته هذه التجارب ابتداء من «طرق الحرية» Les chemins de la liberté عام 1945، إلى مزيد من ارتباط وجهة نظر الضمير الفردي بالواقع الاجتماعي، وفي سنة 1946 عمل سارتر على تحديد مسؤولية الأديب بما يلي:
ـ إنتاج نظرة إيجابية في الحرية والتحرير.
ـ أن يتجه الكاتب في كل حالة من الحالات إلى استنكار العنف من وجهة نظر أفراد الطبقات المضطهدة.
ـ تحديد علاقة صحيحة بين الغايات والوسائل، أي العلاقة بين الأخلاق والسياسة. (ويركز سارتر على هذه النقطة تركيزاً خاصاً).
ـ أن يرفض الكاتب فوراً استعمال أي وسيلة من وسائل العنف في تحقيق نظام من الأنظمة أو المحافظة عليه.
ويضيف سارتر: «إن المناداة بالحرية دون أن يكون ذلك في سبيل التغيير، المناداة بالحرية لمجرد أن تتمتع لحظة بذاتها إزاء أثر جميل، ذلك ما يقال عنه: الفن للفن. هذه الطريقة في المناداة بالحرية المبدعة ضد النفع، ضد تقدم الآلات، ضد الطبقة، إنما هي طريقة في أن يكون المرء ضد البرجوازية ومرتبطاً بالبرجوازية في آن واحد».
ومع أن هناك دائماً تعديلات وتغييرات تطرأ على آراء سارتر وزملائه من أصحاب فلسفة الوجود فإن الآراء السابقة يمكن أن تعد أوضح ما قيل في مجال الالتزام.
ومن المفيد في تقويم الالتزام الوجودي الإشارة إلى أنه لم يصمد كثيراً للتجربة وكان مقتله في نقطة تميزه ذاتها. فقد حاول سارتر مثلاً أن يتجاوز الفلسفتين السائدتين في عصره، الليبرالية البرجوازية والماركسية، وأن يشق طريق الالتزام بعيداً عن الإيديولوجية. وبالفعل قام بمناصرة الثورات في كل مكان: في الجزائر وكوبة وفنزويلة وفييتنام وتعرض من جراء ذلك لاعتداءات متكررة؛ ولكنه سقط في الامتحان الصعب للقضية الفلسطينية، ولم تنفع علاقاته الحميمة بالمثقفين العرب؛ ولا زيارته المباشرة لفلسطين والمنطقة العربية في تحركه ضد الظلم الصهيوني الذي عاناه الشعب الفلسطيني، وهكذا كانت التجارب تضعف أمام أسئلة لا جواب عنها. وحين كتب مذكراته «الكلمات» في منتصف الستينات كان واضحاً أنه وصل إلى الطريق المسدود فيما يتعلق بالالتزام الأدبي، وتكررت مواقفه الدالة على اقترابه من حافة اليأس من مهمة الأدب والكتابة. وفي عيد ميلاده الستين مثلاً (15/7/1965) أعلن أن: «إرسال قمح إلى شعب جائع خير من كتابة مقال في الأدب، والعمل في خدمة قضية سياسية محلية تتعلق بالانتخابات في فرنسة قد تكون أكثر نفعاً من كتابة الجزء الثاني من نقد العقل الدياليكتي».
وتنكشف الخيبة على نحو أقوى عند سيمون دو بوفوار[ر] رفيقة حياة سارتر، وتتسع لتكون خيبة أدبية عاطفية سياسية شخصية كما يتضح في كتابها «قوة الأشياء"، وهو سيرة ذاتية، وكذلك كانت الخيبة نهاية الكاتب الوجودي ألبير كامو[ر] الذي كان تأثيره عظيماً بعد الحرب وحاول أن يلقن الناس علماً أخلاقياً جديداً مفاده أن الحياة البشرية من خلال صخب العالم المعاصر أصبحت ضرباً من المحال، ولم يبق من قيم سوى الصدق والرفض والثورة على الزيف «بعين النسر التي لا تراوغ».
وقد فضل الوجوديون باستمرار القصة والمسرحية لطرح المشكلات الإنسانية والميتافيزيقية، ومعظمهم تجنبوا البحث النظري الفلسفي المباشر.
والجدير بالذكر أن موجة الالتزام الوجودية طغت على الأدب العربي في الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين، وحاول كثير من الكتاب العرب صياغة إنتاجهم القصصي على النمط الوجودي، وترجمت معظم المؤلفات الوجودية، ونشرت في الصحافة الأدبية العربية عشرات المقالات حول الوجودية وفكرها وأدبها، وكان للأدب العربي في سورية نصيب من محاولة الاستفادة من التجربة الوجودية، وتمثل ذلك بوجه خاص في الإقدام على المزاوجة القومية الوجودية أي في إضفاء الالتزام الوجودي على الالتزام القومي، وإنطاق الأبطال القوميين في الأدب القصصي بالمقولات الوجودية وذلك في محاولة للتأكيد أن الالتزام القومي يجب أن يكون نابعاً من صميم القناعة الخاصة للفرد الواعي.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن الالتزام الأدبي بمفهومه الواسع تلقى رفداً عظيماً من نتاج الأدباء المناضلين ضد الظلم والاحتلال والاستبداد في أنحاء مختلفة من العالم، ومن أدباء ثورات التحرر الوطني والاجتماعي، وفي مقدمة هؤلاء: لوي أراغون[ر]، وبابلو نيرودا [ر]، وناظم حكمت [ر]، وفريدريكو غارثيا لوركا [ر].
كما أن الأدب العربي المعاصر رفد مفهوم الالتزام «الطوعي» بدفاق من تجارب الأدب القومي والوطني والاجتماعي، وأدب المناسبات العامة، مع ما يشوب هذا الأدب من عاطفية مسرفة وتعلق آني بالمناسبة، ويمكن القول إن أفضل مثل قُدم في هذا الباب هو أدب المقاومة الفلسطينية الذي نجح جزء كبير منه، في توفير الموقف الملتزم ذاتياً، والإبداع الجمالي ولو نسبياً، والأفق الإنساني الرحب.
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث