كلمة البيعة Al-Bay‘ah مشترك لفظي وردت في لغة العرب بمعانٍ متعددة، منها أنها تأتي بمعنى «الصفقة على إيجاب البيع» وبمعنى «المبايعة والطاعة وقد تبايعوا على الأمر»، وبمعنى «عاهد، والعهد كل ما عوهد الله عليه، وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد»، وبمعنى «المعاقدة»، ففي الحديث: «ألا تبايعوني على الإسلام»، وقيل جمع بيعة، بيعات، وهي مصدر بايع فلان الخليفة يبايعه مبايعة. وهي مشبهة بالبيع الحقيقي، ويقال بايعه وأعطاه صفقة يده، والأصل في ذلك أنه كان من عادة العرب إذا تبايع اثنان، صفق أحدهما بيده على يد صاحبه.
وقد وردت كلمة البيعة في القرآن والسنة، وجاءت معبرة عن مقصود خاص من الكلمة على عدة وجوه، إلا أن تلك المعاني تستوعبها دائرة المعنى اللغوي، وكلها تدور حول العهد والعقد والطاعة والالتزام والوفاء.
والبيعة: اصطلاحاً تشير إلى أهم طرق إسناد السلطة وأصحها، فلا يتولى الخلافة إلا من تمت له بيعة الانعقاد من الأمة بالرضا والاختيار.
فالبيعة وفق هذا هي الطريقة الشرعية الكاملة لاختيار الحاكم وتنصيبه من قبل الأمة التي تعاقدت معه على الحكم بما أنزل الله، فهي حق الأمة في إمضاء عقد الخلافة. وتعريف ابن خلدون للبيعة من التعريفات الكافية في هذا المقام إذ يقول «البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المَنْشَط والمكره».
حق البيعة
والبيعة حق لكل مسلم وواجب عليه رجلاً كان أو امرأة، لا فرق في ذلك بينهما، وقد جرى العمل على ذلك في عهد النبوة والخلافة الراشدة، لا تختلف من ناحية الحكم الشرعي عن أي حكم شرعي آخر، ولكنها تمتاز بشروط خاصة دلت عليها النصوص وما جرى عليه إجماع الصحابة وأهمها (الإسلام، والبلوغ، والعقل، والرضا، والاختيار، وغيرها) لذلك فإن الشرع جعل البيعة بالرضا التام والاختيار المطلق، فالرضا شرط في صحتها، ولا يجوز شرعاً الإكراه عليها، فلا تعتبر البيعة شرعاً إلا برضا المسلمين ومشورتهم واتفاق أغلبيتهم، لأنها ابتداء حق من حقوق الأمة الإسلامية.
وسائل البيعة
لم يحدد الشرع الصفات والوسائل التي يتم بها أخذ البيعة أو إعطاؤها، وإن حُدد ذلك وفق معهود العرب آنذاك، وعليه فإنه يصح شرعاً أن تكون بأي وسيلة من الوسائل التي من شأنها أن تؤدي إلى عقدها، لأنه باستقراء وقائع أخذ البيعة في الحياة السياسية في عهد النبوة والخلافة الراشدة، يستخلص أن أخذها كان مصافحة باليد وكتابة ومشافهة.
والبيعة هي أكمل الطرق وأتمها شرعية لمنصب رئيس الدولة، أما إجراءاتها فإنها تتمثل في التفصيلات العملية لذلك (المناقشة ـ الحوار ـ الترشيح ـ تسمية الأصلح والأفضل ـ الاختيار). وتحويل هذه الإجراءات إلى عمل مؤسس هو من الأمور المهمة، ويختلف باختلاف الأطوار الحضارية المتنوعة، فكل وسيلة أدت إلى حسن الاختيار وتحقيق عناصر المراضاة فهي من الشرع ما دارت مع الأصل والجوهر وجعلته مقصداً لعملها وسعيها. ومن هنا قد يجد من يقرِّب بين وسائل البيعة وطرائق إسناد الحكم المعاصرة، مثل الانتخاب والتصويت والاستفتاء، الاسترآس سنداً، فإن القضية ليست في الأشكال والمباني والوسائل، ولكن في قدرة ذلك في تحقيق الوظائف من جهة، والتزام قيم التأسيس من الاختيار والرضا من جهة أخرى.
ألفاظ البيعة
لم يرد في نصوص الشرع ما يفيد وجوب مجيء البيعة بألفاظ معينة، والمتتبع لألفاظ البيعة يجد أنها تتغير من موقف إلى آخر بحسب الموضوع المبايع عليه، فقد وقعت البيعة على الإسلام، والبيعة على الطاعة، وأن تكون السيادة للشرع أي بيعة على الحكم، وجاءت البيعة تتضمن النصح لكل مسلم، وفي بيعة الرضوان يوم الحديبية بايع المسلمون رسول اللهr على عدم الفرار من المعركة أو على الموت.
أما ما جرى في بعض العصور من قيام الولاة بأخذ البيعة للإمام بالإكراه متضمنة أَيماناً بالله، فهو اجتهاد لا يقوم على نص صريح في الشرع، وهو منافٍ لأصل البيعة في الرضا والاختيار، فلا يجوز الإكراه فيها مادامت بيعة الانعقاد لم تتم، ولكنه لما كانت خلافة بني أمية وآل الأمر إلى عبد الملك بن مروان رتّب الحجاج أَيماناً مغلظة تشتمل على الحلف بالله تعالى، والطلاق والعتاق، والأيمان المُحرجات، يُحلف بها على البيعة، واشتهرت بين الفقهاء بأيمان البيعة، واطَّرد أمرها في الدولة العباسية بعد ذلك، وجرى مصطلحهم في ذلك على هذا الأسلوب.
وعليه فإنه إن جاز شرعاً أن يتضمن عقد البيعة ألفاظاً لم ترد ببيعات الخلفاء السابقين، لكنها متضمنة الحكم بكتاب الله وسنة رسولهr والطاعة والنصرة وقول الحق من غير إكراه عليها ولا سلب لعنصر الرضا والاختيار، فإنه لا يعد ذلك خروجاً على الشرع ولا على أحكامه، أمّا أَيمان البيعة فهي باطلة لأنها من قبيل الإكراه وليس لمستكره يمين.
تصنيفات البيعة ومستوياتها
في سياق تتبع الأحداث المختلفة في شأن البيعة، يمكن تصنيف البيعة إلى بيعتين، أو بعبارة أدق، إلى مستويين، الأول: يصير فيها المبايَعُ خليفة على أرجح الأقوال، والثاني بيعة من بقية المسلمين على الطاعة، وسُميت البيعة الأولى بيعة الانعقاد، وسميت الثانية بيعة الطاعة.
فبيعة الانعقاد هي التي تجعل من الشخص المُبايَع صاحب سلطان، وله حق الطاعة والنصرة والانقياد. وبيعة الطاعة تمنحه إعلان خضوع الأمة لسلطانه السياسي، وتعطيه عهداً بالموافقة على خلافته. والأولى تشير إلى اتفاق أهل الحل والعقد على الاختيار، بعد تصفح أحوال أهل الإمامة الموجود فيهم شروطها، فهم أهل الاختيار. أما بيعة الطاعة فهي بيعة جمهور المسلمين لمن تمت له بيعة الانعقاد، فتعتبر تعبيراً عن الرضا به وقبوله حاكماً ينفذ أحكام الشرع، فيطبق الحدود ويجمع الزكاة ويحمل أمانة الدعوة ويعلن الجهاد، فبيعة الطاعة تأتي بعد بيعة الانعقاد، وتؤخذ من كل الناس أو غالبيتهم، إذ لا يشترط إعطاؤها من كل مسلم، بل يكفي ظهور الانقياد والتسليم والطاعة للخليفة، فهي إذن سلوك سياسي للتعبير عن نفاذ السلطة والطاعة لها ولقوانينها وأحكامها.
بيعة الانعقاد وأهل الحل والعقد
تحسن الإشارة في بيعة الانعقاد المنوطة بأهل الحل والعقد أو أهل الشوكة أو أهل الاختيار إلى قضية مهمة وهي التي تتعلق بالعدد الذي تنعقد به الخلافة أو السلطة لأن البيعة ابتداء فرض كفاية، وفي هذه المسألة أقوال:
الأول: لا تنعقد الخلافة إلا بإجماع أهل الحل والعقد، والثاني: تنعقد الخلافة ببيعة أهل الحل والعقد الذين يتيسر اجتماعهم، والثالث: لا تنعقد إلا بإجماع المسلمين، والرابع: لا يُشترط إجماع مطلقاً وتنعقد بأي عدد، والخامس: لا تنعقد إلا بجماعة يُؤْمن عدم تواطئهم على الكذب، والسادس: لا تنعقد إلا بموافقة أهل الشوكة، والسابع: هو ما ذهب إليه بعض العلماء من اشتراط عدد معين، واختلفوا في تحديد ذلك ما بين اشتراط أن أقل من تنعقد بهم الخلافة أربعون لا دونهم، ومنهم من اشترط ستة وخمسة وأربعة، وقيل تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين، أو بواحد من أهل الحل والعقد، وإليه ذهب من نفى اشتراط الإجماع. والناظر في أدلة معظم هذه الأقوال لا يجد فيها حجة ناهضة أو دليلاً شرعياً معتبراً. وعلى ذلك فالحكم الشرعي هو أن يقوم بانتخاب الخليفة جمعٌ يتحقق في تنصيبهم له رضا المسلمين بأي أمارة من أمارات التحقق، سواء أكان ذلك بكون المبايعين أكثر أهل الحل والعقد، أم بكونهم أكثر الممثلين للأمة، أو كان بسكوت المسلمين عن بيعتهم له، أو مسارعتهم بالطاعة بناء على هذه البيعة، أو بأي وسيلة من الوسائل مادام قد توفَّر لهم التمكينُ التام من إبداء رأيهم. وليس من الحكم الشرعي كونهم أهل الحل والعقد، ولا كونهم أربعين أو أكثر أو أقل، أو كونهم أهل العاصمة أو الأقاليم والأمصار، لأن كل ذلك يرتبط بالحال والواقع الذي يشير إلى يسر وسائل الاتصال أو صعوبتها، فمع ثورة الاتصالات وإمكان التعرف على الآراء في وقت قصير يمكن بوساطة ما الاستدلال على الرضا والاختيار، فإن ذلك يعد من قبيل الوسائل التي يتم بها الواجب، وعلى هذا فإن الخلافة تنعقد إذا جرت البيعة من أكثر الممثلين لأكثر الأمة الإسلامية ممن يدخلون تحت طاعة الخليفة الذي يراد انتخاب خليفة مكانه، كما جرت الحال في عهد الخلفاء الراشدين، وتكون بيعتهم حينئذٍ بيعة عقد للخلافة أما من عداهم فإن بيعتهم تصير بيعة طاعة.
والتصويت والاقتراع العام أو ما هو في حكمهما، من الوسائل المهمة للاستدلال على الرضا والاختيار والتعبير عن الرأي والإرادة، ومن ثم فلا منافاة بين كل ذلك والبيعة.
البيعة واتجاهات إسناد الحكم
حين بحث أمر البيعة ضمن إطار الاتجاهات الأساسية في طرق إسناد الحكم، يمكننا أن نشير إلى أربعة اتجاهات:
الأول: اختيار الأمة بالبيعة عن رضا واختيار، والثاني: الاستخلاف أو العهد، والثالث: الغلبة أو القهر والاستيلاء، والرابع: النص من الله سبحانه وتعالى وقالت به غالب فرق الشيعة. ومادام قد ثبت بالشرع أن رئيس الدولة الإسلامية لا يتسلم مقاليد الحكم بوصفه خليفة للمسلمين إلا بالاستخلاف أو العهد لا بالقهر والغلبة والاستيلاء ولا عن طريق النص، فيكون الحكم الشرعي المستند إلى القرآن والسنة وإجماع الصحابة أن نصب رئيس الدولة لا يكون إلا بالبيعة من المسلمين عن رضا واختيار. وكل من يأخذ الحكم عن طريق غير طريق البيعة لا يكون ولي أمر المسلمين، بل هو مغتصب للسلطة، لا طاعة له إلا إذا أخذ الحكم من الأمة عن طريقها بمبايعته بيعة صحيحة بمحض الرضا والاختيار وكامل الإرادة. ومن هنا فإن الحديث عن البيعة القهرية لا مسوغ له، فإن وصف البيعة بالقهر يكر على جوهرها بالبطلان، ذلك أن البيعة المتعلقة بالخلافة هي عقد مراضاة واختيار، ولكن أجاز أهل السنة استلام الحكم بإحدى الوسائل الثلاث الأولى، وحصر الشيعة أمر الخلافة في الوسيلة الرابعة، وجواز أحد الثلاثة فيما دونهما، على أن تتم البيعة بعدها.
سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث