أوديب Oedipe، وفي الأساطير اليونانية أوديبوس Oidipus ملك طيبة Thebas الأسطوري وهو ابن الملك لايوس Laius سليل أسرة لبداكوس Labdacus التي ترجع أصولها إلى الملك قدموس Cadmus الفينيقي، مؤسس مدينة طيبة من إقليم بيوتية Boeotia في اليونان (هي اليوم مدينة ثيفا Thiva). أما أمه فهي يوكاسته Iocaste.
قد يكون لقصة أوديب أساس تاريخي حقيقي ولكن يستحيل تخليصها من العناصر الأسطورية التي شابتها، وتوارثتها الأجيال في التراث اليوناني القديم وفي التراث الشعبي لبلدان كثيرة مثل ألبانية وفنلندة وقبرص وغيرها. وقد ورد ذكر مأساة أوديب في «الأوديسة»[ر] لهوميروس[ر] تلميحاً مختصراً جداً، وفيها أنه قتل والده وتزوج والدته من دون أن يعلم، وأن أمه يوكاسته انتحرت شنقاً حين تكشفت لها الحقيقة؛ أما أوديب فقد ظل يحكم طيبة حتى مات. وأما الروايات الأخرى التي تناولت هذه القصة وهي كثيرة فقد ضاعت جميعها خلا ثلاث مسرحيات لسوفوكليس[ر] هي: «أوديب ملكاً» Oidipus Tyrannos، و«أوديب في كولونوس» Oidipus epi Kolōnō، و«أنتيغونة» Antigonē، وكذلك الفصل الأخير من مسرحية لأسخيلوس Aischylos بعنوان «السبعة ضد طيبة» Hepta epi Thēbas، الذي يتناول جزءاً من أحداث القصة.
تعد مسرحيات سوفوكليس أكمل مصدر لمأساة أوديب، ومن أجمل المسرحيات اليونانية القديمة التي حفظت إلى اليوم (ألفت بعد عام 450ق.م). وقد وصفها أرسطو[ر] في كتابه «الشعر» Peri Poiētikēs بأنها أكمل نموذج لمأساة عرفها الإنسان. وتتناول «أوديب ملكاً» آخر أيام أوديب في طيبة، أما «أوديب في كولونوس» فتتحدث عن بقية أيامه في كولونوس. وأما «أنتيغونه» فتتناول قصة ابنته التي رافقته بعد مقتل أخويها عند أسوار طيبة وصراعها ضد الطاغية كريون.
الأسطورة
تحل اللعنة على أسرة لبداكوس وذريته لإساءة اقترفها بحق الآلهة، فتقتله كاهنات باخوس المتهتكات Bacchae، وتتنبأ عرافة دلفي Delphi التي تتحدث بلسان كبير الآلهة أبولون Apollon لوالده الملك لايوس وزوجته يوكاسته أن ابنهما سيقتل أباه ويتزوج أمه. ومن أجل تفادي هذه النبوءة يقرر الزوجان تسليم وليدهما إلى راع لهما ليحمله إلى جبل كيثايرون Cithaeron ويتركه للضواري بعد أن خرقا عقبيه بإسفين وأوثقاهما، (ومن هنا جاءت تسمية أوديبوس أي المتورم القدمين)، بيد أن الراعي أشفق على الطفل فأعطاه إلى راع آخر من كورنثة، وحمله هذا إلى ملكها بوليبوس Polipus وزوجه العاقر فتبنياه.
ولما شب الصبي تناهى إلى سمعه أنه ليس الابن الشرعي لوالديه فذهب يستجلي الأمر من عرافة دلفي، وهناك نبّىء أنه سيقتل أباه ويتزوج أمه، وظن أوديب أن المقصود والداه بالتبني فامتنع من العودة إلى كورنثة وتوجه إلى طيبة. وعند مفترق الطريق صادف أباه الحقيقي لايوس، من دون أن يعرفه، ومعه أربعة رجال أمروه أن يتنحى عن الطريق، ونخسه لايوس بعصاه فثارت ثائرة أوديب وضرب أباه فصرعه وقتل ثلاثة من رفاقه ونجا الرابع وأعلم أهل طيبة بما حصل.
وكانت طيبة تعيش يومئذ حالة ذعر لبلاء ألم بها، فقد حل أبو الهول Sphinx (هولة لها جسد أسد مجنح وصدر امرأة ووجهها) على صخرة عند بوابة المدينة وراح يتوعد كل مارٍ به بالقتل ما لم يجب عن أحجية يطرحها: «ما الكائن الذي يمشي في الصباح على أربع وفي الظهر على اثنتين، وفي المساءعلى ثلاث؟» واستطاع أوديب أن يحل اللغز بأن أجاب: «هو الإنسان يحبو في طفولته على أربع، ويمشي قائماً في شبابه، ويستعين بعصاه كهلاً» ولم تكد الهولة تسمع الجواب حتى ألقت بنفسها عن الصخرة وماتت، واستقبل أهل طيبة أوديبوس استقبال الفاتحين ونصّبوا مخلّصهم ملكاً وزوجوه ملكتهم الأيم يوكاسته، وتحققت بذلك نبوءة أبولون من دون أن يعلم الحقيقة أحد من أبطالها.
عاش الزوجان في حب ووئام زمناً ورزقا من الأولاد ابنين وابنتين اجتازوا جميعاً سن الرشد. وفي هذه الأثناء تعرضت طيبة لبلاء جديد، فقد حل الطاعون بها وخيم الموت على أهلها فجاؤوا ملكهم الحكيم يستنجدون به، وقرر أوديب أن يرسل كريون Creon شقيق يوكاسته إلى دلفي ليستشير الآلهة فيما يفعل، وردت عرافة دلفي بأن طيبة لن تعود إلى حالها ما لم يعاقب المجرم قاتل الملك لايوس. وبعد تحقيق طويل، فصّله سوفوكليس ببراعة تامة يتأكد أوديب أنه هو القاتل وأن القتيل أبوه وأن يوكاسته هي أمه، وحين تتكشف هذه الحقائق كاملة تنتحر يوكاسته شنقاً، ويفقأ أوديب عينيه عقاباً، ويغادر طيبة على غير هدى وهو يتكىء على ذراعي ابنتيه أنتيغونة وإسمينة Ismine، ويستمر في تجواله وقد تحول إلى شخص أشبه بالقديس الذي تحل البركة على من يمر به، حتى يستقر في «كولونوس» إحدى ضواحي أثينة ويرحب به ملكها ثيسيوس Theseus، ويتخذ أوديب لنفسه كهفاً يقضي فيه بقية عمره مع ابنتيه في هدوء وسكينة.
أوديب في الأدب العالمي
لاقت أسطورة أوديب على النحو الذي فصله سوفوكليس في مسرحياته الثلاث شهرة كبيرة، وتناقلتها الأجيال وزادت فيها وربما كان سبب ذيوعها التركيز على «اللعنة» التي كان لها شأن كبير في أساطير اليونان القدماء، وفي حياتهم اليومية، وهي شبيهة بفكرة «الخطيئة» القريبة من مفهوم الإنسان المعاصر، لأن قوتها تجعل الأجيال اللاحقة تدفع ثمن جرائم الأجداد، كما تجمع الأسطورة بين المصير المحتوم والأخلاقيات التي تدعو إلى الاعتدال والتبصر في الأمور وعواقبها وتجنب المبالغة والإسراف في الاعتداد بالنفس والغضب.
وقد طرق كتاب كثيرون موضوع مأساة أوديب من نواح عدة، فعالجه أوربيدس[ر] Euripides في إحدى مسرحياته، وكذلك سينيكا[ر] Seneca، كما عولج في مسرحياتٍ لكورني[ر] (1656) Corneille، ودرايدن[ر] (1679) Dryden، وفولتير[ر] (1718) Voltaire، وهوغو فون هوفمانستال[ر] (1906) Hugo Von Hofmannstahl، وأندريه جيد[ر] (1931) Andre Gide، وجان كوكتو[ر] (1934) Jean Cocteau. ولعل أهم صياغة حديثة للقصة هي مسرحية أندريه جيد التي يركز فيها على الصراع بين «أوديب» الجاحد للآلهة والمعتد بنفسه حتى الغرور والكهنة الذين يريدون بسط سلطان الدين على كل شيء وعلى كل إنسان حتى الملك نفسه. وقد كان للأدباء العرب أيضاً نصيبهم في طرق هذا الموضوع، ولعل أول من عني بقصة أوديب منهم ترجمة ودراسة هو طه حسين[ر] الذي ترجم مسرحيتي أندريه جيد: «أوديب» و«ثيسيوس» عام 1946 وقدّم لهما بمقدمة ضافية ماتزال من أحسن ماكتب بالعربية عن الموضوع، ثم اتبعهما ترجمة لمسرحيتي سوفوكليس نشرهما مع «أوديب» جيد في سلسلة مطبوعات «كتابي». وفي عام 1949 ظهرت مسرحيتان عن أوديب كتب إحداهما توفيق الحكيم[ر] وثانيتهما علي أحمد باكثير[ر]. وبعد ذلك نشر علي سالم «أنت اللي قتلت الوحش» (1970) ونشر وليد إخلاصي مسرحية «أوديب: مأساة عصرية» (1981). وأعاد علي حافظ ترجمة مسرحيتي سوفوكليس، وكتب للترجمة مقدمة جديدة. وكان لويس عوض[ر] قد لخّص مسرحية «أوديب ملكاً» في كتابه «المسرح العالمي» (1964). أما الدراسات العربية فتشمل كتاب عز الدين إسماعيل «التفسير النفسي للأدب» (1962)، وكتاب مصطفى عبد الله «أسطورة أوديب في المسرح المعاصر» (1983). وربما كانت دراسة عز الدين إسماعيل أول دراسة تطبيقية أفادت من المنهج الفرويدي وطبقته تطبيقاً ناجحاً على رواية «السراب» لنجيب محفوظ[ر]. وقد اهتم العرب أيضاً بالأصول النفسية والتاريخية لقصة أوديب فترجم مصطفى صفوان «تفسير الأحلام لفرويد» (1960)، وترجم جميل سعيد «عقدة أوديب في الأسطورة وعلم النفس» لباتريك ملاهي (1962). وترجم فاروق فريد «أوديب وأخناتون» لايمانويل فيلكوفسكي، وهو كتاب يبين بالأدلة الآثارية التاريخية أن أصول هذه الأسطورة التاريخية تعود إلى التاريخ الفرعوني.
أوديب في علم النفس
اعتمد فرويد[ر] على أسطورة أوديب بوصفها تصويراً رمزياً لما عدّه ظاهرة نفسية يتصف بها البشر جميعاً وهي ظاهرة الصلة الحميمة بين الطفل (الذكر بوجه خاص) وأمه، وهي التي قد تأخذ فيما بعد مظهراً مرضياً. ولم يتردد فرويد في وصف هذه العلاقة بأنها جنسية من بدايتها بدعوى أن الغريزة الجنسية عند الرضيع تتركز في البداية في الفم، ولذا يكون الثدي هو وسيلة إشباعها، ثم تتطور حتى يصبح أقوى مظهر لها هو العداء الذي يضمره الابن لأبيه. وقد وجد فرويد أدلة على مايقول في الأحلام وفي بعض الأعمال الأدبية مثل «هاملت» لشكسبير[ر] و«الأخوة كرامازوف» لدستويفسكي[ر]. وسواء أصحت نظرية فرويد أم لم تصح فمما لاشك فيه أنها فتحت للأدب، مثلما فتحت عليه، باباً يحسن النظر إلى ماوراءه.
أوديب والفلسفة
كانت مسرحية «أوديب ملكاً» عماد الجزء الخاص بالمأساة من كتاب «فن الشعر» لأرسطو. وظلت المفهومات الأرسطية عن البطل المأسوي ونقيصته التي تؤدي إلى سقوطه، وعن الحبكة وما يتم فيها من تعرّف وتحول، وعن الأثر المأسوي وما يحدثه من تطهير Katharsis عن طريق استثارة الخوف والشفقة، ظلت تتردد في فلسفة الفن والفكر الجمالي حتى اليوم. ولكن الفلاسفة، بعد أن تخلوا عنها للنقد الأدبي، أخذوا يبحثون في الناحية الأخلاقية ويسألون عن مدى مسؤولية أوديب عمّا صنع، وفي موضوع الحرية في مقابل الجبرية. فالقصة تتنبأ بمصير أوديب حتى قبل أن يولد. وهذا التنبؤ يمكن أن يقرأ بوصفه سلباً لحرية الإنسان أو بأنه «المقدر» و «المكتوب». وهذه القراءة تؤيد أوديب في أن أبولون هوالمسؤول الحقيقي عن كل ما جرى، وهي قراءة تروق للجبريين. ولكن المؤمنين بحرية الإنسان، أي الذين يحاولون أن يجعلوا من الإنسان كائناً مسؤولاً عن أفعاله لا مجرد ضحية للآلهة اللاهية، كما يقول غلوستر في «الملك لير» لشكسبير، يقولون إن أوديب فعل كل شيء بمحض إرادته، وإن علم الآلهة المسبق بمصيره هو من صفات الآلهة التي يسع علمها كل شيء، وليس العلم بالغيب تسييراً للأحداث، ويمثلون على ذلك بالطبيب الذي يؤهله علمه لأن يتنبأ بأن مريضاً من مرضاه سوف يموت بعد مدة معينة. فالطبيب لايميت المريض مع علمه المسبق بالنتيجة