علينا أن نرى الآن الطرق والقواعد التي يجب على الأمير أن يسير فيها بالنسبة إلى رعاياه وأصدقائه. ولما كان الكثيرون قد أسهبوا في الكتابة عن هذا الموضوع، فإني أخشى أن تبدو كتابتي عنه غرورا مني لا سيما وإنني اختلفت، في هذا الموضوع خاصة، عن رأي الآخرين. ولكن لما كان من قصدي أن أكتب شيئا يستفيد منه مَن يفهمون، فإني أرى أن من الأفضل أن أمضي إلى حقائق الموضوع بدلا من تناول خيالاته، لاسيما وأن الكثيرين قد تخيلوا جمهوريات وإمارات لم يكن لها وجود في عالم الحقيقة، وأن الطريقة التي نحيا فيها تختلف كثيرا عن الطريقة التي يجب أن نعيش فيها، وأن الذي يتنكر لما يقع سعيا منه وراء ما يجب أن يقع، إنما يتعلم ما يؤدي إلى دماره بدلا مما يؤدي إلى الحفاظ عليه. ولا ريب في أن الإنسان الذي يريد امتهان الطيبة والخير في كل شيء، يصاب بالحزن والأسى عندما يرى نفسه محاطا بهذا العدد الكبير من الناس الذين لا خير فيهم. ولذا فمن الضروري لكل أمير يرغب في الحفاظ على نفسه أن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير، وأن يستخدم هذه المعرفة أو لا يستخدمها، وفقا لضرورات الحالات التي يواجهها...
10: كيف تقاس قوة جميع الدول
عند البحث في طبيعة هذه الإمارات، أرى من الضروري، أن نهتم بنقطة أخرى وهي: هل يتمتع الأمير بذلك المركز الذي يمكنه، في حالة الحاجة، من المحافظة على نفسه؟ أو هل هو في حاجة دائمة إلى مساعدة الآخرين؟ وخير وسيلة لإيضاح ذلك أقول أنني أعتبر الذين يستطيعون المحافظة على مراكزهم، [هم] أولئك الذين يملكون الكثير من الرجال والمال، ويستطيعون حشد جيش كاف، ويصمدون في الميدان بوجه كل من يهاجمهم. وأعتبر من يحتاجون إلى الآخرين، [هم] أولئك الذين لا يستطيعون خوض المعارك ضد أعدائهم، فيضطرون إلى اللجوء إلى قلاع أسوارهم، واتخاذ موقف الدفاع... أما الحالة الثانية، فليس هناك ما يقال سوى تشجيع مثل هذا الأمير على تزويد مدينته بالمؤن، وتقوية وسائلها الدفاعية، وأن لا يزعج نفسه بأحوال الريف المحيط بها. ولا ريب أن الآخرين سيترددون دائما في مهاجمة الأمير الذي كان يجيد تحصين مدينته، ويحسن إدارة حكومة رعاياه،... ذلك لأن الناس يكرهون دائما المغامرات التي يتوقعون فيها لقاء المصاعب، ولا يبدو قط من السهل الهجوم على رجل أجاد الدفاع عن مدينته، وقابله رعاياه بالحب.
14: واجبات الأمير تجاه المتطوعة
على الأمير أن لا يستهدف شيئا غير الحرب وتنظيمها وطرقها، وأن لا يفكر أو يدرس شيئا سواها، إذ أن الحرب هي الفن الوحيد الذي يحتاج إليه كل من يتولى القيادة. ولا تقتصر هذه الفضيلة القائمة فيها على المحافظة على أولئك الذين يولدون أمراء، بل تتعداها إلى مساعدة الآخرين، من أبناء الشعب، على الوصول إلى تلك المرتبة. وكثيرا ما يرى الإنسان أن الأمير الذي يفكر بالترف أو الرخاء، أكثر من تفكيره بالسلاح، كثيرا ما يفقد إمارته. ولا ريب في أن ازدراء فن الحرب هو السبب الرئيسي في ضياع الدول وفقدانها، وأن التمرس فيه وإتقانه هو السبيل إلى الحصول على الدول والإمارات.
...
فعلى الأمير، تبعا لذلك، أن لا يسمح لأفكاره بأن تذهب بعيدا عن مراس الحرب، وعليه في أيام السلم أن يكون أكثر اهتماما بها من أيام الحرب، وهذا ما يستطيعه بواسطة أحد سبيلين هما العمل والدراسة. فمن ناحية العمل يتوجب عليه بالإضافة إلى الإبقاء على جنوده في حالة من التدريب والنظام أن يشغل وقته باستمرار في الصيد، وأن يعود جسمه على المشاق، وأن يدرس في غضون ذلك طبيعة البلاد، كارتفاع الجبال، وعمق الوديان، وامتداد السهول وطبيعية الأنهار والمستنقعات. أجل عليه أن يعنى بجميع هذه الأمور بالغ العناية، فمعرفته هذه مجدية بطريقتين: أولهما، أن يعرف الإنسان كل شيء عن بلاده وأن يقرر أحسن السبل للدفاع عنها. وثانيهما، أن معرفته وتجاربه في منطقة واحدة تحمله على تفهم المناطق الأخرى التي يضطر إلى مراقبتها بسهولة. ذلك لأن الجبال والوهاد والسهول والأنهار في تسكانيا، مثلا، تشبه إلى حد ما نظائرها في الإمارات الأخرى. وهكذا يستطيع المرء عن طريق معرفته بإحدى المناطق، أن يعرف أحوال المناطق الأخرى. والأمير الذي يفتقر إلى هذه الموهبة، تنعدم فيه أولى الجوهريات التي يجب أن تتوفر في القائد، إذ أنها هي التي تعلمه كيف يجد عدوه، وأين يقيم معسكره، وكيف يقود جيوشه، ويخطط لمعاركه، ويفرض الحصار على المدن، آخذا الفوائد إلى جانبه.
وقد كال الكتاب والمؤرخون المديح على فيلوبومين، أمير الآخيين، لأنه في أوقات السلم كان لا يفكر بشيء آخر سوى الحرب وأساليبها، وكان، عندما يذهب إلى الريف مع أصدقائه، كثيرا ما يقف ليسألهم: إذا كان العدو على ذلك التل، ورأينا أنفسنا هنا مع جيشنا، فلمن تكون ميزة الموقع؟ وكيف نستطيع أن نتقدم لنصل إليه بسلام، محتفظين بنظام قواتنا؟ وإذا رغبنا في الانسحاب فماذا يتحتم علينا أن نفعل؟ وإذا انسحب العدو، فكيف يتوجب علينا أن نلحق به؟ وكان يضع أمامهم، في الطريق، جميع الاحتمالات التي قد تحدث لأي جيش ويستمع إلى آرائهم، ويعطي رأيه ساندا إياه بالحجج والبراهين. وبفضل هذه الأفكار الدائمة كان يجد نفسه دائما مستعدا لمواجهة أي حادث وهو على رأس جيوشه.
أما بالنسبة إلى العقل، فعلى الأمير أن يقرأ التاريخ وأن يدرس أعمال الرجال البارزين، فيرى أسلوبهم في الحروب، ويتفحص أسباب انتصاراتهم وهزائمهم، ليقلدهم في هذه الانتصارات، ويتجنب الوقوع في الأخطاء التي أدت إلى الهزائم، وأن يفعل كما فعل غيره من الرجال في الماضي، ومن تقليد لشخص انهال عليه المديح والتمجيد وترك مآثره وأعماله مكشوفة للجميع، وهو ما يقال أن الاسكندر الكبير قد فعله في تقليد أخيل، وقيصر في تقليد الاسكندر، وشيبيو في تقليد كورش. ولا ريب في أن كل من يقرأ حياة كورش كما كتبها اكزونوفون، سيرى في سيرة شيبيو نجاحه في تقليد سلفه، وكيف تقيد تماما بصفات كورش التي عددها اكزونوفون، والتي تنطوي على الرأفة والعطف والإنسانية والتحرر الفكري.
وعلى الأمير العاقل أن يتبع أساليب مماثلة، وأن لا يظل عاطلا عن العمل في أوقات السلام، بل يستخدمها بجد وجهد، حتى إذا ما دارت عجلة الحظ وجدته متأهبا لمواجهة ضرباتها، وقادرا على التغلب على كل صعوبة.
15: الأمور التي يستحق عليها الرجال ولا سيما الأمراء، المديح أو اللوم
... إن جميع الرجال ولا سيما الأمراء الذين يوضعون في مناصب رفيعة، يشتهرون بمزايا معينة، قد تكون سببا في إضفاء المديح أو اللوم عليهم. وهكذا قد يُعتبر أحد الأمراء كريما متحررا بينما يُعتبر الآخر بخيلا شحيحا (وقد آثرت استخدام هذا الاصطلاح التوسكاني)، وقد يُعتبر أحدهم ذا أريحية والآخر ذا شُح وطمع، أو قاسيا فظيعا، والثاني رحيما. وقد يُعتبر الأول ناكثا لوعده والثاني وافيا به، أو مخنثا حائر العزيمة والآخر عنيفا قوي الشكيمة، أو ودودا إنسانيا والآخر متكبرا متعجرفا، أو داعرا فاسقا والآخر نقيا طاهرا، أو صريحا والآخر ماكرا، أو قاسيا والآخر لينا أو جادا والآخر هازلا أو متدينا ورعا والآخر كافرا ملحدا، وهكذا دواليك... وإني لأعرف أن كل إنسان يقر ويعترف أن من الصفات المحمودة في الأمير أن يتصف بجميع ما ذكرت من صفات ترمز إلى الخير، ولكن لما كان من المستحيل أن يمتلكها الإنسان جميعا وأن يتبعها، لأن الأوضاع الإنسانية لا تسمح بذلك، فإن من الضروري أن يكون من الحصافة والفطنة بحيث يتجنب الفضائح المترتبة على تلك المثالب التي قد تؤدي به الى ضياع دولته، وأن يقي نفسه، إن أمكن، من تلك التي قد لا تؤدي إلى مثل هذا الضياع، على أن يمارسها دون أي تشهير، إذا لم يتمكن من التخلي عنها. وعليه أن لا يكترث بوقوع التشهير بالنسبة إلى بعض المثالب إذا رأى أن لا سبيل له إلى الاحتفاظ بالدولة بدونها، إذ أن التعمق في درس الأمور يؤدي إلى العثور على أن بعض الأشياء التي تبدو فضائل تؤدي إذا اتبعت إلى دمار الإنسان. بينما هناك أشياء أخرى تبدو كرذائل ولكنها تؤدي إلى زيادة ما يشعر به الإنسان من طمأنينة وسعادة.
المراجع
مكيافيلي:_مختارات_من_كتاب_"الأمير"
التصانيف
فلسفة