أما ان يستنير جمهور بنفسه فهذا يدخل أكثر من ان يستنير شخص بمفرده كما تبينه الفقرة السابقة في حيز المحتمل، بل ان هذا الاحتمال لا يمكن تجنبه إذا ترك للجمهور قدر كاف من الحرية، إذ لا بد من وجود عدد من الناس يفكرون بأنفسهم ضمن الأوصياء الرسميين على الجموع، أولئك الذين تخلصوا من نير حالة القصور، وطفقوا ينشرون بين الناس روحا تجعلهم يقدرون قيمتهم الخاصة، وجنوح كل إنسان إلى التفكير بنفسه. وعلينا ان نلاحظ ان الجمهور الذي كان تحت سلطة هؤلاء الأوصياء سوف يجبرهم بعد ان تحرر منهم على البقاء في وضع أدنى حين يدفعه بعض من الأوصياء الآخرين، ممن عجز على التمتع بمزايا الاستنارة، إلى الانتفاضة العنيفة، وذلك يدلنا على مضار الأحكام المسبقة والتي تنتقم ممن زرعها أو ممن سيأتي بعده، لأن الجمهور لا يصل مرحلة الاستنارة الا على مهل: فبإمكان الثورة ان تسقط الاستبداد الفردي، والاضطهاد المستغل أو الطموح، ولكنها لن تأتي أبدا بإصلاح حقيقي لطريقة التفكير، بل تولد، بالعكس، أحكاما مسبقة جديدة تشكل مع الأحكام المسبقة القديمة تخوما تفصل الثورة عن الجموع الكبيرة المحرومة من التفكير.
أما بالنسبة للاستنارة فلا شيء مطلوب غير الحرية، بمعناها الأكثر براءة، أي تلك التي تقبل على استخدام علني للعقل في كل الميادين. إلا أني أسمع الآن وفي كل اتجاه من حولي صيحة تقول: "لا تفكروا. فالضابط يقول: "لا تفكروا، عليكم ان تنفذوا..."، (هناك سيد والمسؤول المالي يقول: "لا تفكروا عليكم ان تدفعوا"، ورجل الدين يقول: "لا تفكروا عليكم ان تؤمنوا" واحد في العالم يقول: "فكروا قدر ما تشاؤون، وفيما تشاؤون ولكن عليكم ان تطيعوا3). في كل مكان يوجد تحديد للحرية. ولكن أي تحديد يناقض الاستنارة؟ وما هو التحديد الذي لا يناقضه بل والذي يمكن ان يكون لصالحه؟ أجيب فأقول ان الاستخدام العام لعقلنا لا بد ان يكون حرا في جميع الحالات، وهو الذي يستطيع وحده ان يأتي بالاستنارة إلى البشر، غير ان الاستخدام الخاص لعقلنا لا بد ان يخضع لتحديد صارم جدا دون ان يكون ذلك من الموانع المحسوسة في طريق الاستنارة.
وأقصد بالاستخدام العام لعقلنا ذلك الذي يقوم به المرء حين يكون عالما، في اتجاه الجمهور الذي يقرأ. أما الاستخدام الخاص (لعقلنا) فهو الذي يعطينا الحق في ممارسته والعمل به من موقع مدني، أو أي وظيفة محددة تم تكليفنا بها، إذ يوجد، ضمن مسائل عديدة تخص المصلحة العامة للمجموعة، جهاز آلي معين يحتم على بعض من أعضاء هذه المجموعة القيام بحركات لا إرادة لهم فيها، توجهها الحكومة (بفضل إجماع اصطناعي) نحو تحقيق الأهداف العامة أو (على الأقل) لكي تمنع القضاء على هذه الأهداف. هنا لا يُسمَح بالتفكير، بل تجب الطاعة. ولكن إذا كانت هذه القطعة من الجهاز الآلي عضوا في المجموعة، أو في المجتمع المدني العالمي، بصفته عالماً في الوقت نفسه، وإذا توجه هذا العضو بكتابات استند فيها إلى فكره، ففي هذه الحال يمكنه ان يستخدم عقله دون ان يؤثر ذلك على الشؤون التي كُلف بها خلال جزء من وقته كعنصر سلبي. وأن يرغب الضابط، الذي تلقى أمرا من رئيسه، في إعمال عقله ضمن مهمته للبحث عن جدوى هذا الأمر أو فائدته، فهذا أمر خطير ولا بد لهذا الضابط ان يمتثل. ولكن إذا أردنا ان نكون منصفين نقول ان لا شيء يحظر عليه، إذا كان عالما، إبداء ملاحظاته حول الأخطاء الواردة في الجهاز الحربي وتقديم هذه الملاحظات لجمهوره حتى يحكم فيها. ولا يمكن للمواطن ان يرفض أداء الضرائب المفروضة عليه سيما وأن نقداً لاذعاً لهذه الواجبات، ان لزمه قبولها، يعرضه للعقاب، بسبب الفضيحة التي يمكن ان تتولد عن نقده (وما ينجر عن ذلك من اضطراب شامل في النظام)، أما وقد وضعنا هذا التحفظ، فلا نرى تناقضاً مع الواجبات ان عبر هذا المواطن، بوصفه عالماً، وبصفة علنية عن نظرته في رعونة ذلك النوع من الجباية أو في جور من فرضها. كذلك يجب على رجل الدين ان يقوم بتعليم رعيته، وفي معبده، بحسب رمز الكنيسة التي يخدمها أنه انتدب بحسب هذه الشروط، ولكنه يتمتع، كعالم، بكامل الحرية (إن لم نقل ان ذلك من واجبه) في ان يمد الجمهور بكل الأفكار، بعد ان يزنها بثبات ونيّة حسنة، حول ما يراه خاطئاً في هذا الرمز، وفي ان يقدم لهذا الجمهور مشروع رؤيته لتنظيم أفضل للشؤون الدينية والكنائسية. وفي هذا أيضا لا يوجد ما يمكن ان يثقل ضميره، لأن ما يعلمه وفقا لوظيفته كممثل للكنيسة لا يقدمه إلا كآمر لا حرية له في إبداء الرأي فيه وإنما كتعاليم قد التزم بتدريسها باسم سلطة أجنبية عنه.
ولسوف يقول "هذا ما تعلمه كنيستنا وها هي الحجج التي تستعملها في ذلك". وقد يُبرز، بهذه المناسبة، لرعيته الميزات العملية من الأطروحات التي لا يتفق معها عن اقتناع كامل والتي التزم، رغم ذلك، بعرضها، إذ من الممكن ان يكون قد وجد فيها بعض الحقيقة الكامنة أو، على الأقل، لم يجد فيها ما يتعارض مع الإيمان الذاتي عنده أما إذا تعرض لشيء من هذا القبيل فلا يمكن له عند ذلك الاحتفاظ بمهامه والبقاء على اتفاق مع ضميره، وعليه، إذن، ان يعتزل عمله. ونتيجة ذلك ان المربي إذا استخدم عقله أثناء عمله وأمام من حضر دروسه لا يقوم إلا باستعمال خاص للعقل لأن المسألة تخص اجتماعاً عائلياً، مهما بلغ حجم هذه العائلة. وهو يتصرف أمامها على أنه رجل دين غير حر، ولن يكون حراً، لأنه يؤدي مهمة خارجة عن نطاقه. أما إذا اعتبرناه عالِما يخاطب بكتاباته الجمهور الحقيقي، أي العالَم، (كعضو في مجمع ديني ضمن استخدام عام لعقله) فإنه يتمتع بحرية لا حدود لها في استعمال عقله والتحدث باسمه الخاص. والادعاء القائل بأن الأوصياء على الشعوب (في الأمور الدينية) لا بد ان يظلوا قُصراً هم أنفسهم، يُعَد سخافة ساهمت في تأييد السخافات الأخرى.
ولكن ألا يحق لمثل هذه الجمعية الدينية، سواء كانت مجمعاً كنائسياً أو طبقة من الآباء (كما تُسمى في هولندا) ان تلجأ إلى دعوة أعضائها إلى تأدية اليمين على رمز معين ثابت، لكي تسلط وصاية أعلى، دائمة، على كل عضو، وحتى تؤيد هذه الوصاية من خلالهم؟ أقول ان هذا الأمر مستحيل تماماً، لأن مثل هذا النوع من التعاقد يقرر الاستغناء نهائياً عن كل تنوير جديد يمكن للجنس البشري ان يستقبله، ويظل على هذا الأساس لاغياً وغير ذي مفعول، حتى وإن كان زكي من سلطة أسمى، أي من البرلمانات أو من المعاهدات السلمية الأكثر جلالاً. ذلك لأنه لا يمكن لقرن ما ان يولد اتفاقاً يقيد القرن الذي يليه بوضع يجعله غير قادر على توسيع معارفه (بخاصة منها تلك التي تتعلق بمصلحة هذا القدر من الخطر) ويحرمه من التخلص من أخطائه، والتقدم، بصفة عامة، على طريق الاستنارة. إنها لجريمة في حق الإنسانية التي يحملها قَدَرُها الأصيل نحو هذا التقدم بالذات. لذا يحق للخَلَف ان يرفض تماماً مثل هذه القوانين وأن يحتج على ذلك بجهل من قام بسنها وطيش دوافعه. فحجر الزاوية في كل ما يمكن تقريره لصالح شعب ما، في شكل قانون، يكمن في السؤال التالي: "هل يقبل هذا الشعب ان يهب نفسه قانوناً كهذا القانون؟". من الجائز ان يكون القانون المعني ممكناً لمدة محددة قصيرة، في انتظار قانون أفضل، وتحسباً لإدخال تنظيم معين، ولكن على شرط ان يُترك لكل مواطن (وبخاصة لَرجُل الدين ان كان عِالماً) الحرية في صياغة الملاحظات حول العيوب التي تحتوي عليها المؤسسة الحالية، على ان تكون هذا الصياغة علنية، أي في شكل كتابات، مع الإبقاء على النظام القائم. وذلك حتى يأتي يوم يتقدم فيه البحث في هذه الأشياء أشواطاً بعيدة تجعله يتأكد بما فيه الكفاية، فيُرفع أمام العرش مشروعٌ مدعمٌ باتفاق أغلبية الأصوات (ان لم نقل جميعها) يهدف إلى حماية المجموعات المتضامنة، بحسب آرائها الخاصة، والمتفقة على تغيير المؤسسة الدينية، دون ان يُلزم ذلك أولئك الذين ظلوا أوفياء للمؤسسة القديمة، إنما ان يكون الاتفاق على دستور دائم لا يأتيه الشك، حتى ولو كان ذلك لمدة تعادل عُمر إنسان، مما يقضي على الإنسانية، ردحاً من الزمن، بالعقم في توقها إلى التقدم ويضر بالأجيال القادمة، فهذا ما هو محظور إطلاقاً.
ويمكن لشخص ما، فيما يتعلق به شخصياً، ان يؤجل الحصول على معرفة لا بد له من الحصول عليها. أما ان يُعرض عنها وأن يحرم منها الأجيال المقبلة، فهذا ما يُسمى بالتجني على حقوق الإنسانية المقدسة ودوسها. ويبقى ما حُرم على الشعب تقريره، محرماً، من باب أولى، على الحاكم، لأن سلطة الحاكم في التشريع مُنبثقة من الشعب وهو يستمد إرادته الخاصة من إرادة الشعب العامَة. فليسهر الحاكم على إبقاء الإصلاح، المنجَز أو المفَترض، متفقاً مع النظام المدني، وليترك الحرية لرعاياه في البحث عما يجب عليهم القيام به ليحصلوا على نجاة أرواحهم في الآخرة. فليس هذا الأمر من شأنه وإنما عليه، بالمقابل، ان يمنع البعض من الشعب من حرمان البعض الآخر، بالقوة، من العمل على تحقيق النجاة والإسراع بها بكل ما أوتي من جهد. والحاكم يضر بهيبته ان هو تدخل في هذا الشأن وأعطى تكريساً رسمياً للكتابات التي يحاول فيها رعاياه توضيح آرائهم. فإن فَعَلَ انطلاقاً من سلطته الشخصية فهو يتعرض للوم القائل "إن قيصر ليس أرفع شأناً من النحويين" وإن هو حمى في دولته الاستبداد الكنسي وبعضا من المستبدين على بقية رعاياه فهو يَضعف من قدرته العالية.
وإذا سُئلنا بعد كل هذا: "هل نحن نعيش الآن قرناً مستنيرا؟" فإن إجابتي تكون على النحو التالي: "لا. لأننا في الواقع نعيش قرناً يسير نحو الاستنارة"، فنحن لما نَزَل في مرحلة تفتقر إلى عناصر كثيرة أخرى تحمل الناس إلى حالة تمكنهم من ممارسة تفكيرهم الخاص في الأمور الدينية بإحكام وقدرة ودون نجدة الآخرين.
ولكن ان يكون للناس الآن مجال أرحب في ممارسة هذا التفكير الخاص بحرية، وأن يكون عدد العقبات أقل من ذي قبل نسبياً، في الطريق نحو عصر شامل للاستنارة يخرج بالناس من حالة القصور التي يبقون هم المسؤولون عنها، فهذا ما لنا عليه مؤشرات مؤكدة. من هذا المنطلق يمكن القول ان هذا القرن هو قرن الاستنارة وقرن الملك فريدريك. فالأمير الذي لا يتأفف عن التصريح بأن من واجبه ان لا يأمر بشيء في الأمور الدينية، وأنه يترك للناس كامل الحرية في ذلك، والذي يَعرِض عن لفظة التسامح المتعالية، يبقى هو نفسه مستنيراً: فهو يستحق، إذن، إجلال معاصريه واعتراف الأجيال المقبلة بجميله، لأنه أول من أخرج الجنس البشري من حالة القصور، من وجهة نظر إدارية على الأقل، وترك لكل شخص الحرية في استعمال عقله الخاص في أمور العقيدة. ففي عهده أصبح من حق رجال الدين الأجلاء، إذا كانوا علماء، ان يتفوهوا بأحكامهم وآرائهم التي تخالف الرمز الرسمي، دون ان يكون لذلك انعكاس سيئ على واجباتهم تجاه وظائفهم. كما أصبح من حقهم ان يعرضوا علانية هذه الأحكام والآراء على اختيار العالم، وهذا ينسحب، بالطبع، على كل شخص لا يتقيد بأي التزام تجاه وظيفته. وقد انتشرت روح الحرية هذه في الخارج حتى وإن هي تعرضت لعقبات موضوعية أقامتها الحكومة التي لم تستوعب دورها بعد. وما نحن فيه حكومة فريدريك يقوم مثلاً أمام كل حكومة لم تفهم ان لا خوف إطلاقاً على العهد السياسي، ولا على وحدة المؤسسة العامة من توفير جو الحرية، حيث سيبذل الناس كبير الجهد حتى يخرجوا من حالة الصلافة، ان لم يكن هناك من يجتهد في إبقائهم عليها.
لقد ركزتُ اهتمامي في بحثي حول حلول عصر الاستنارة، على ذلك النوع من الاستنارة الذي يحرر الناس من حالة القصور التي يبقون هم المسؤولون عليها، ووقفتُ على المسائل الدينية، ذلك لأنه لا مصلحة لحكامنا، في ما يخص الفنون والعلوم، في ان يقوموا بدور الأوصياء. ثم ان حالة القصور هذه الدينية التي تناولتُها، هي الأكثر ضرراً والأدهى خزياً. ويذهب منهج التفكير عند رئيس الدولة الذي يشجع الاستنارة إلى أبعد من هذا فيعترف، من منطلق تشريعه أيضاً، ان لا خطر عليه في ان يسمح لرعاياه باستخدام علني لعقلهم حتى يقدموا للعاَلم ما أنتجوه من أفكار تشير إلى بناءٍ أفضل لهذا التشريع، حتى ولو كان ذلك من خلال نقد صريح للتشريع الذي تم سَنَه. ان لنا في هذا لمثل كريم لم يتجاوزه أي ملك عدا الذي نُجله.
وهذا الملك المستنير هو الملك الوحيد الذي لا يخشى البقاء في الظل وقد مَسَك بجيش عتيد حسن التنظيم، يضمن به الطمأنينة العامة، وهو الملك الوحيد الذي يَقِدر على التصريح بما لا تجرؤ أي دولة حرة أخرى على التصريح به: "فكروا قَدرَ ما تشاؤون وفي ما تشاؤون، وعليكم ان تطيعوا".
هكذا تأخذ الأمور الإنسانية مجرىً مثيراً غير منتظر. ومهما يكن من أمر، وإذا اعتبرنا سياق الأمور في جملتها، نرى ان كل شيء تقريبا يثير الإحساس بالمفارقة: فالحصول على درجة أعلى من الحرية الَمدَنية يبدو مفيداً لحرية الفكر عند الشعب في الوقت نفسه الذي يفرض عليه حدوداً لا يمكن له تخطيها. ومن ناحية أخرى فإن درجة أدنى توفر له الفرصة في ان ينشر نفوذه الكامل. وما ان تُحرر الطبيعة، من تحت قشرتها الصلبة، بذرة الميل والتأهب للفكر الحر حتى تحدوها بعطفها وتجعل منها ذلك النزوع الذي سيؤثر تدريجياً وبمفعول رجعي على مشاعر الشعب (ومن خلال هذه المشاعر يزيد الشعب شيئاً فشيئا من الاستعداد للسلوك بحرية). وسوف يؤثر هذا النزوع بدوره، آخر الأمر، على أسس الحكم الذي سيرى من صالحه ان يعامل الإنسان (وهو الذي لم يعد مجرد آلة) حسب التقدير الذي يستحق.
المراجع
عصر_الاستنارة
التصانيف
فلسفة