توماس هوبس (1588 - 1679)


كان للعوامل والظروف السياسية والدينية التي رافقت حياة توماس هوبس (Thomas Hobes) منذ ولادته حتى أواخر أيامه، أثر كبير في تحديد طبيعته وتكوينه الفكري. فالقرن السابع عشر الذي عايشه توماس هوبس كان يتميّز بعصر الثورات والحروب. فبعد حرب الثلاثين سنة (1618 - 1648) نشبت الحرب الفرنسية الأسبانية والتي استمرت حتى عام 1659. في هذا الوقت بالذات كانت بريطانيا تشهد حروبها وثوراتها الأهلية الخاصة بين الفئات الدينية والسياسية المختلفة. وفي ظلّ هذه الأحوال والظروف التي عاشتها أوروبا بشكل عام وبريطانيا بشكل خاص، عاش هوبس ليستوحي أفكاره حول الإنسان والمجتمع والسلطة.
ولد هوبس عام 1588 وقبل موعده. وسبب ذلك الخوف الذي أثارته استعدادات ملك أسبانيا الكاثوليكي لإرسال أسطوله إلى الشواطئ الإنجليزية لإخضاع ملكتها اليزابيث الأولى البروتستانتية. وبالرغم من أنّ إنجلترا استطاعت أن تردّ الأسبان وأسطولهم على أعقابهم فإنّ الجو الحربي المرعب أثار الخوف في قلب والدة هوبس فوضعته قبل أوانه. ولهذا نراه يقول في وصف نفسه "أنا والخوف توأمان".
إضافة إلى ظروف ولادته وإلى الأجواء السياسية السائدة كان هوبس خلال متابعته الدراسة في جامعة أكسفورد يستمع بامتعاض وبكراهية للمناقشات السياسية والدينية حول السلطة الملكية وحول قضية تفسير الكتاب المقدس والحقوق الفردية. لقد كان يرى أنّ هذه المناقشات لا يمكن أن تساهم إلا بتوسيع الهوّة بين المواطنين، وزعزعة أركان السلطة، والتمهيد للحروب الأهلية في إنجلترا.
وبعد أن نشر كتابه الأول "الهيئة السياسية" الذي وضعه أثناء انعقاد البرلمان الإنجليزي ليبرهن ضرورة الحاجة إلى السيادة غير المنقسمة، تبيّن له في عام 1640 أنّ الحرب الأهلية أصبحت وشيكة الوقوع في إنجلترا فتملّكه الخوف من عواقب كتابه، وهرب إلى فرنسا حيث بقي فيها أحد عشر عاما، التقى خلالها ديكارت، كما أعطى دروسا في الرياضيات لشارلز الثاني الذي كان منفيّا في فرنسا. وفي باريس نشر أعظم أعماله الفلسفية "اللفياثان" -Leviathan- (1651) والذي أثارت الآراء الواردة فيه انتقادات شديدة من جانب الملك شارلز الثاني والكنيسة الكاثوليكية. أمضى هوبس بقية حياته في لندن بعد أن تعّهد بعدم الاشتغال بالسياسة وتوفي في عام 1679.

هوبس: مختارات من كتاب "التنين"


مــــن المقدمة


يحاكي فن الإنسان الطبيعة، وهي ذلك الفن الذي بموجبه خلق الله الكون ولا يزال يحكمه، في أمور كثيرة من ضمنها أنه قادر على صنع حيوان اصطناعي. فبما أن الحياة ليست الا حركة الأعضاء، حيث تكون بدايتها في عضو داخلي رئيسي، ألا يجوز القول إن لجميع الماكينات (تلك المحركات التي تحرك نفسها بمساعدة النوابض والعجلات، كما هي الحال في ساعة اليد) حياة اصطناعية؟ فما هو القلب ان لم يكن نابضا، والأعصاب ان لم تكن أوتارا، والمفاصل ان لم تكن عجلات تعطي الحركة للجسم كله حسب قصد الفنان (أو الصانع)؟ ولكن الفن يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يحاكي ذلك الكائن العاقل والرائع الذي صنعته الطبيعة، ألا وهو الإنسان. فبالفن يتم خلق ذلك "التنين" الذي يسمى "الدولة" أو "المجتمع" (وباللاتينية civitas). والذي لا يعدو كونه إنسانا اصطناعيا، وان كان أكبر قوة وأعظم شأنا من الإنسان الطبيعي، الذي يهدف إلى حمايته والدفاع عنه. في هذا الكائن، السلطة السيادية هي الروح الاصطناعية التي تعطي الحياة والحركة لكل الجسم، الحكام وبقية موظفي القضاء والتنفيذ هم المفاصل الاصطناعية، العقاب والثواب (اللذان يربطان كل مفصل وعضو بمقعد السلطة السيادية ويحركانه لأداء مهمته) هما الأعصاب، التي تقوم بنفس المهمة في الجسد الطبيعي، الثروة والغنى لجميع الأعضاء هما قوته، أمن الناس هو عمله، المستشارون الذين يزودونه بكل ما يحتاج معرفته هم الذاكرة، العدل والقانون هما العقل والإرادة الاصطناعيان، الوئام هو الصحة، الفتنة هي المرض، والحرب الأهلية هي الموت. وأخيرا، فان العهود والمواثيق، والتي بواسطتها تم في البدء صنع أجزاء هذا الجسم السياسي فانها مجتمعة تشبه ذلك الأمر الإلهي "ليكن هناك إنسان" الذي صدر عن الله عند خلق الكون.
ولوصف طبيعة هذا الإنسان الاصطناعي، يتوجب النظر إلى:
أولا، مادته وصانعه، وكلاهما الإنسان.
ثانيا، كيف، وحسب أي مواثيق، يصنع، وما هي الحقوق وما هي السلطة أو الصلاحية العادلة التي يتمتع بها صاحب السيادة، وما الذي يحافظ عليه أو يؤدي إلى انحلاله.
ثالثا، ما هو المجتمع المسيحي.
وأخيرا، ما هي مملكة الظلام.
الجزء الأول: عن الإنسان
ما يشتهيه الناس نقول أيضا إنهم يحبونه، وما ينفر منه الناس، نقول أيضا انهم يكرهونه، ولذا فإن الشهوة (desire) والحب هما شيء واحد، سوى أن الشهوة تدل على غياب الموضوع، بينما يدل الحب عادة على وجوده، وكذا بالنسبة للنفور (aversion) الذي يدل على غياب الموضوع خلافا للكراهية التي تدل على حضوره.
...
ولأن جسم الإنسان في تغير دائم، فمن المحال أن تثير نفس الأشياء دائما نفس مشاعر الشهوة والنفور في الإنسان. ومن المحال أيضا أن يتفق جميع الناس على شهوة نفس الموضوع.
...
ولكن مهما يكن موضوع الشهوة أو الرغبة عند الإنسان، فان هذا الشيء المشتهى يسمى "الخير" بينما يسمى موضوع النفور أو الكراهية "الشر"، وموضوع الاحتقار يسمى "الحقير" أو " التافه". وهذه الكلمات (الخير، الشر، الحقير) تكون دائما نسبية إلى الشخص الذي يستعملها، إذ لا يوجد شيء كهذا ببساطة وبصورة مطلقة. كما لا يوجد مقياس مشترك للخير والشر يمكن أن يستمد من طبيعة الأشياء ذاتها. مثل هذا المقياس يمكن أن يستمد فقط من شخص الإنسان (في حالة غياب المجتمع أو الدولة)، أو من الشخص الذي يمثل المجتمع أو الدولة، أو من المحكم أو القاضي الذي يتفق الناس على تعيينه، والذين يحصلون من حكمه قاعدة ومقياسا.

( من الفصل 6)


لا أعني بعبارة "الآداب العامة" (manners) هنا آداب السلوك مثل كيف يتوجب على المرء أن يحيِّي الآخر، أو كيف يتوجب عليه أن يغسل فمه أو ينقب أسنانه أمام الجماعة، أو غيرها من صغائر التصرف اللائق. ولكنني أعني تلك الصفات الإنسانية التي تعنى بعيش الناس سوية في وحدة وسلام. ولهذا الغرض، علينا أن نلفت النظر إلى أن السعادة في هذه الحياة لا تكمن في راحة النفس التي ارتوت. فليس هنالك هدف نهائي (finis ultimus) أو خير أعلى (summum bonum) كما جاء في كتب فلاسفة الأخلاق القدماء، فلا حياة لمن أتت شهواته إلى نهايتها، مثلما لا حياة لمن توقفت حواسه وخياله عن العمل. السعادة هي التقدم الدائم للشهوة من موضوع إلى آخر، حيث يكون الحصول على الأول محطة للوصول إلى التالي. والسبب في ذلك هو أن هدف الشهوة عند الإنسان ليس التمتع مرة واحدة وللحظة واحدة فقط، وإنما التأمين الدائم لطريق الشهوة المستقبلية. ومن هنا فان الميول والأعمال الإدارية لجميع الناس لا تهدف فقط إلى الحصول على، وإنما أيضا إلى تأمين حياة راضية. السبل فقط تختلف، وذلك مرده، جزئيا، إلى اختلاف عواطف الناس، وجزئيا إلى التفاوت في المعرفة وفي الآراء حول السبب الذي يؤدي إلى النتيجة المرغوبة.
وبادئ ذي بدء، فإنني أعتقد بوجود نزعة عامة لدى جميع الناس: شهوة مستمرة لا تهدأ من أجل الحصول على القوة والمزيد من القوة، شهوة لا تتوقف الا في حالة الموت. والسبب في ذلك ليس دائما لأن الإنسان يطمع في لذة أشد قوة مما حصل عليه من قبل، أو لأنه لا يكتفي بالقوة التي في حوزته، ولكن لأنه لا يستطيع تأمين القوة والوسيلة المتوفرتين للعيش الكريم بدون الحصول على قوة إضافية. ولهذا السبب، فإن أكثر الملوك قوة لا يكفون عن بذل الجهود الكبيرة من أجل تأمين القوة داخليا بواسطة القوانين، وخارجيا بواسطة الحروب، ومتى أنجزوا ذلك، تثور شهوة جديدة لديهم، لدى البعض من أجل الشهرة الناجمة عن انتصار (أو احتلال) جديد، أو من أجل الراحة والملذات الحسية، ولدى البعض الآخر، من أجل الحصول على الإعجاب والإطراء وعلى التميز في أحد الفنون أو إحدى القدرات الذهنية.
التنافس على الثروة، الشرف، السيطرة، أو على قوة أخرى، يثير النزعة نحو الخصام والعداء والحرب، وذلك لأن الواحد يحصل على مبتغاه عن طريق قتل أو إخضاع أو قمع أو صد الآخر. وعلى وجه الخصوص، فان التنافس على المديح يثير النزعة نحو احترام القدماء. وذلك لأن الناس يتخاصمون مع الأحياء، وليس مع الأموات الذين يغدق عليهم أكثر مما يستحقون مما يمكن من التعتيم على مجد الأحياء.
الرغبة في الراحة وفي ملذات الحواس تثير في الناس النزعة للانصياع إلى قوة (سلطة) مشتركة. وبسبب هذه الرغبات يتنازل الإنسان عن الحماية التي يأمل في الحصول عليها بجهده وسعيه الذاتيين. الخوف من الموت ومن الإصابات يثير نفس النزعة، وللسبب ذاته. وعلى نقيض ذلك، فان المحتاجين الجسورين الذين لا يقبلون بوضعهم الحالي، وكذلك جميع الناس الذين يطمحون إلى السيطرة العسكرية، ينزعون إلى استدامة أسباب الحرب وإثارة المتاعب والفتن. وذلك لأن الإنسان لا يحصل على الشرف العسكري الا بالحرب ولا أمل له في تحسين حظه في اللعبة الا إذا أعاد خلط الأوراق وتوزيعها.
الرغبة في المعرفة وفي فنون أيام السلم تثير في الناس نزعة الانصياع إلى سلطة مشتركة. وذلك لأن مثل هذه الرغبة تنطوي على رغبة في وقت الفراغ، وتبعا لذلك، على رغبة في الحماية من قِبل قوة غير القوة الذاتية.




المراجع

موسوعة الفلسفة والفلاسفة

التصانيف

فلسفة