خالد بن سعود البليهد
عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَقِيلَ: أَبِي عَمْرَةَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ t قَالَ: "قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَك؛ قَالَ: قُلْ: آمَنْت بِاَللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ" . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
هذا الحديث في بيان مقام وفضل الإستقامة على طاعة الله. وفيه مسائل:
الأولى : فيه بيان فقه الصحابي سفيان رضي الله عنه في سؤاله حيث سأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا دقيقا عن أهم أمر في الدين بحيث يكون وصية جامعة له يكفيه عن سؤال غيره وهذا يعتبر من آداب السؤال المستحبة أن يسأل المرء سؤالا مركزا في الأمر الذي يريد فقهه وتصوره وإدراكه يوصف جامع يغنيه عن كثير من الكلام العام الذي لا يحقق مطلبه وإذا أحسن طالب العلم صياغة السؤال نال جوامع العلم بأقل زمن وأيسر كلفة واختصر له الشيخ العلوم والمسائل مما يغنيه عن مطالعة كثير من الكتب ومن رزق فقه السؤال فتح عليه في الفقه والفهم لمسائل الدين وكثير من الطلاب يعتني بالسؤال عن الفوائد والملح وفضلة العلم ولا يعتني بالسؤال عن أصول العلم وزبده فيفوته خير كثير.
الثانية : أرشد النبي السائل إلى جملتين عظيمتين من جماع الخير وهما الإيمان والاستقامة وهذا من كمال نصحه وفصاحته وجوامعه صلى الله عليه وسلم وقد كان النبي يراعي مقام السائل وحاله وهذان الأمران يرجع إليهما صلاح العبد وهدايته وتوفيقه في الدنيا والآخرة ويترتب عليهما كل الخير والفلاح والفوز في الآخرة كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). فأما الإيمان بالله ففيه صلاح القلب وزكاته وهدايته من الظلمات وعمارته بالأقوال والأعمال الجليلة وتطهيره من الشرك والدنائس والشبهات وأما الإستقامة ففيها صلاح الجوارح وهدايتها واشتغالها بالطاعات وحمايتها من الذنوب الظاهرة والباطنة والشهوات ومن حقق هذين الأمرين فاز وأفلح ونجا ومن تركهما بالكلية خسر وخاب ومن قصر فيهما أو أحدهما لحقه من الذم والوعيد بقدر تقصيره.
الثالثة : الوصية الأولى التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله وهو الإقرار الجازم بوجود الله وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ولا يصح إلا بثلاثة أركان الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح وعلى هذا أجمع أئمة أهل السنة والجماعة والإيمان بالله يقتضي الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان له ستة أصول لا يصح إيمان العبد إلا بالإتيان بها جميعا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره والإيمان بالله وتوحيده من أعظم الأصول في الدين وله أثر عظيم في توفيق المؤمن وهدايته وسعادته في الدنيا والآخرة ولا يصح عمل المؤمن إلا بركيزة الإيمان ومن فقده أو أنكره خسر الحياة الطيبة في الدنيا والنعيم في الآخرة.
الرابعة : الوصية الثانية التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم الاستقامة ومعناها في الأصل لزوم الطريق المستقيم ومعناها في الشرع التزام المؤمن بفعل الطاعات الظاهرة والباطنة وترك المنهيات الظاهرة والباطنة وهي ثلاثة أنواع استقامة القلب على الإيمان واللسان على الذكر والجوارح على الطاعة وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يدور كلام السلف قال أبو بكر رضي الله عنه في تفسير: (ثم استقاموا). لم يشركوا بالله شيئا (. وقال عمر رضي الله عنه: ( استقاموا واللّه للّه بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب.( وقال ابن عباس رضي الله (استقاموا على أداء فرائضه). وقال قتادة : (استقاموا على طاعة الله). وكان الحسن إذا قرأ قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا). قال: (اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة). والحاصل أن عمل الإستقامة يتعلق بالقلب واللسان والجوارح ولا يصدق وصف الاستقامة إلا بالثبات عليها حتى الممات ولذلك روي في الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا). ثم قال: (قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام). نسأل الله لنا ولجميع المسلمين الثبات وحسن الختام.
الخامسة : من أعظم مراتب الإستقامة الإستقامة على التوحيد بحيث يخلص المؤمن عمله لله ويجتنب الشرك الصغر والأكبر ووسائل الشرك ولا يلتفت قلبه لغير الله ولا يتقرب لأحد رجاء ولا خوفا ولا رغبة ولا رهبة إلا لله ثم الإستقامة على السنة بحيث يتبع المؤمن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في كل قول وفعل ويهجر البدع وأهلها ويتبرأ من جميع الطرق المحدثة ثم الإستقامة على شرع الله بحيث يمتثل المؤمن فعل الفرائض وترك النواهي طاعة لله ويتجنب الفواحش والمنكرات وصحبة أهل الباطل وهناك طائفة من أهل الإيمان تحقق التوحيد ولا تعتني بإتباع السنة وتوالي أهل البدع وتتبع طرائقهم وتثني عليهم وطائفة أخرى تلتزم ظاهر الشرع وتحرص على المواظبة على الفضائل والنوافل ولا تعتني بتحقيق التوحيد والسنة وتتساهل في ملابسة الشرك ووسائله وتتبع الدجالين دعاة الشرك والبدعة وينبغي للمؤمن أن يستقيم على هذه المراتب الثلاثة ويحقق أولا مرتبة التوحيد ثم مرتبة السنة ثم مرتبة الشرع ليحقق وصف الإستقامة ظاهرا وباطنا.
السادسة : من معاني الإستقامة وخصائصها الوسطية والإعتدال بأن يتبع المؤمن الطريق الوسط ويلزم جادة أهل السنة في كل أبواب الدين من غير إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا جفاء وأهل السنة أتباع السلف من أسعد الناس في تحقيق وصف الوسطية فهم وسط في باب الوعد والوعيد بين الخوارج والمرجئة ووسط في باب القدر بين الجبرية والقدرية ووسط في باب الأسماء والصفات بين المعطلة والمشبهة ووسط في باب طاعة الإمام بين الخوارج التاركين لطاعته وبين الغلاة في طاعته ووسط في باب الصحابة بين الخوارج والرافضة ووسط في باب كرامات الأولياء بين المعتزلة والصوفية. وينبغي للمؤمن أن يدرك أنه إذا ورد الأمر من الله كان للشيطان فيه طرفان الزيادة والنقصان فليحذر كلا الطرفين وليسلك الوسط بينهما قال بعض السلف: (ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأيها ظفر). وقل من يوفق من الناس إلى سلوك الطريق الشرعي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلا تغتر بكثرة من ضل عن الطريق.
السابعة : لا يشترط في ثبوت وصف الإستقامة للمؤمن لزوم الشرع في جميع الأوقات والأحوال لأن الإنسان معرض للخطأ والتقصير والنفس تضعف والشيطان يتسلط والعبرة بغالب الحال ولا يؤثر الأمر العارض ولا يكاد يسلم المؤمن من التفريط ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرص على لزوم الإستقامة على حسب القدرة والتوفيق فإن تعذر ذلك فليحرص على المقاربة من حال الإستقامة فقال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة(. متفق عليه. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها). رواه الترمذي. ولما أثنى الله على المتقين ذكر أنه يقع منهم وقوع الفاحشة وظلم أنفسهم فقال تعالى وتقدس: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ). ولكن حال أهل الإستقامة عدم الإصرار على الذنوب والإنابة والتوبة والرجوع إلى الله وفعل الحسنات إذا حصل منهم تقصير وتفريط.
الثامنة : ينبغي على المؤمن المستقيم على الشرع ظاهرا وباطنا أن يكون على خوف من الإخلال في القصد وعلى وجل في عدم قبول عباداته فلا يغتر بكثرة عمله وإحسانه ولا يأمن مكر الله ولا يحمله ذلك على الإدلال والمنة على الله لأن المنة لله وحده في توفيقه وإعانته وتيسير العمل له ولأن الله جل جلاله لا ينتفع بطاعته وينبغي في سيره إلى الله أن ينظر إلى تقصيره في إخلاص القصد لوجه الله وفي تقصيره في قيامه بالعبادة على أكمل وجه وفي تقصيره في قيامه بالشكر للمنعم وفي تقصيره بالوقوع بالفغلة عن ذكر الله والإلمام بالذنب في بعض الأحايين وفي التفات القلب لغير الله والإفتتان بما يشغل عن طاعة الله وذكره فيوجب ذلك النظر إلى مقت النفس واتهامها ومراقبتها ولومها في ذات الله فينتج عن ذلك تجريد الإخلاص والإجتهاد في الطاعات والتواضع وانكسار القلب وافتقاره إلى عون الله وهدايته وتوفيقه على سبيل الدوام. قال الحسن البصري: (إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة وإن المنافق جمع إساءة وأمنا). وقد بين الله حال أهل الإستقامة فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ).
قالت أم المؤمنين عائشة:) يا رسول الله (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة). هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل. قال : (لا يا بنت أبي بكر يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل ). رواه أحمد. فأهل الإستقامة محسنون في عملهم مشفقون من ذنوبهم وجلون ألا تقبل عباداتهم. أما من استقام في الظاهر واغتر بعمله وفرح بكثرة عمله ولم يعمر باطنه ولم يراقب قصده ولم يتهم نفسه فليس من أهل الإستقامة حقا.
المراجع
saaid.net
التصانيف
فنون أدب أدب إسلامي الدّيانات