القِيــاسُ

 
 
 
القياس: هو المصدر الرابع من مصادر التشريع الذي اتفق جماهير المسلمين على الأخذ به، وعدوه مصدراً رئيسياً للأحكام الشرعية، وهو ذو أهمية خاصة، لأن النصوص في أي تشريع متناهية، والوقائع غير متناهية،فلا يمكن أن يحيط المتناهي بغير المتناهي، فتظهر الحاجة والضرورة الحتمية للقياس في الأحكام في الشرائع والقوانين، بل في جميع قضايا الحياة.
 
وسَدَّ هذا المصدر باباً كبيراً في بيان الأحكام الشرعية، وتمت صلاحية الشريعة به لخلودها وصلاحها لكل زمان ومكان.
 

تعريف القياس

 
القياس في اللغة:التقدير، أي معرفة قدر الشيء، مثل: قست الثوب بالذراع، أي عرفت مقداره، والتقدير بين شيئين يقتضي المساواة بينهما، فالمساواة لازمة للتقدير، ويتعدى بالباء وبعلى، ويكثر في الفقه تعديه بعلى، فيقال: قاس الورق النقدي على النقد بالذهب.
 
وفي الاصطلاح الفقهي والأصولي عرّفه ابن الحاجب المالكي أنه: «مساواة فرع لأصل في علة حكمه»، وهذا التعريف يتضمن أركان القياس.
 
وفي تعريف آخر هو: «إلحاق أمر غير منصوص على حكمه الشرعي بأمر منصوص على حكمه، لاشتراكهما في علّة الحكم».
 
فالقياس يُظهر ويكشف حكماً لمسألة أو واقعة لم يرد فيها نص في القرآن أو السنّة، وذلك بإلحاقها بحكم واقعة ثبت حكمها في القرآن أو السنّة، عند وجود علّة مشتركة بينهما وشبه ظاهر، مما يغلب على ظن العالم أن الواقعتين مشتركتان في الحكم، كقياس النبيذ على الخمر في التحريم لأنهما يشتركان في الإسكار والأضرار والمفاسد التي نص عليها القرآن، وقيـاس الوصية على الميراث، في حرمان الموصى له من الوصية إذا قتل الموصي قياساً على حرمان الوارث من الإرث إذا قتل مورثه، لأن كلاً منهما استعجل الشيء قبل أوانه فعوقب بحرمانه. وهو رأي جمهور العلماء في هذه الوصية غير الشافعية.
 

أركان القياس

 
القياس له أربعة أركان، ولكل ركن شروط خاصة، وهي:
 

1ـ الأصل

: هو النص الدال على الحكم، أو هو محل الحكم المشبّه به، كالخمر في المثال الأول الثابت في القرآن بقوله تعالى:]إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ والْأَنْصَابُ والْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاْجْتَنِبُوُه[(المائدة 90)، والقتل في المثال الثاني الثابت في السنّة «لا يرث القاتل»، رواه أحمد ومالك وأبو داود.
 

ويشترط في الأصل حتى يتم القياس الشرعي عليه ما يأتي:

 
1ـ أن يكون شرعياً، واقعة كان أو أمراً، أي ثابتاً في القرآن، أو السنة، أو إجماع المسلمين، لأن المطلوب إثبات حكم شرعي.
 
2ـ أن يكون غير منسوخ، لأن النسخ يبطل الحكم، فلا يقاس عليه.
 
3ـ ألا يكون فرعاً من أصل آخر، فالفرع لا يقاس على الفرع، وإنما يقاس على الأصل الآخر.
 

2ـ الفرع

: وهو الواقعة أو الحادثة التي يُراد معرفة حكمها، ولم يَرد فيها حكم أصلي في القرآن أو السنة أو الإجماع.
 

ويشترط في الفرع ما يأتي:

 
ـ ألا يكون حكمه متقدماً على حكم الأصل.
 
ـ ألا يكون له حكم في نص أو إجماع، فإن ثبت حكمه بالنص أو الإجماع، فلا يحتاج للقياس.
 
ـ أن يساوي الأصلَ في العلة المشتركة بينهما، بأن يتوافر التماثل في علة الفـرع مع علة الأصل، فيتساويا فيها.
 
ـ أن يساوي حكمه حكم الأصل بعد القياس، فيكون حكمهما واحداً.
 

3ـ حكم الأصل

: وهو الحكم الشرعي بالوجوب أو الندب أو الإباحة أو الكراهة أو الحرمة، الذي ثبت في القرآن أو السنّة أو الإجماع.
 

ويشترط في حكم الأصل حتى يصح القياس عليه ما يأتي:

 
ـ أن يكون ثابتاً بنص القرآن أو نص السنة أو إجماع المسلمين، فإن كان ثابتاً بقياس فلا يقاس عليه.
 
ـ أن لا يكون دليله شاملاً لحكم الفرع، فإن كان حكم الأصل عاماً مثلاً ويشمل الفرع، فيكون الفرع داخلاً فيه بالنص، وليس بالقياس.
 
ـ أن يكون حكم الأصل معقول المعنى، أي يدرك العقل علته ليتم القياس عليه، فإن كان غير معقول المعنى، وهو الحكم التعبدي، كأعداد الركعات، ومقادير الزكاة، والكفارات، فلا يقاس عليه، لأنه لا تُعرف علته التي شرع من أجلها، وتُعرف حكمته فقط وهي المشقة، أو التخفيف، والحكمة لا يقاس عليها لأنها متفاوتة بين الأشخاص وحسب الظروف.
 
- ألا يكون حكم الأصل معدولاً به عن سَنَن القياس، أي مستثنى من قاعدة عامة، كقبول شهادة خزيمة وحده، فإنه خاص به، وخصوصيات رسول اللهr، فلا يقاس عليها.

4ـ العلة

: وهي الوصف الجامع أو المشترك بين الأصل والفرع. ويشترط فيها ما يأتي:
 
ـ أن تكون العلة وصفاً ظاهراً للعالم، فلا يقاس على الوصف الخفي.
 
ـ أن تكون العلة منضبطة، ويمكن تحديدها ومعرفة ضوابطها، حتى لاتكون سائبة غير محددة.
 
ـ أن تكون العلة معرِّفة للحكم أي تدل عليه، ويدور الحكم معها في جميع الحالات، فيوجد الحكم في كل واقعة تتوافر فيها العلة.
 
ـ أن تكون العلة مطردة، أي مطبقة في مسائل عدة ووقائع مختلفة، فإن كانت تصلح في حالة ولا تصلح في أخرى، فلا يصح الاعتماد عليها.
 

حجية القياس

 
احتج العلماء على عد القياس مصدراً شرعياً للأحكام بأدلة كثيرة منها:
 
1ـ الكتاب: قال الله تعالى: ]فَاعْتَبِرُوْا يَا أُوْلِى الأَبْصَارِ[ (الحشر 2)، والاعتبارهو القياس، أي تأملوا وانقلوا حكم ما جرى لغيركم عليكم، فما جرى عليهم يجري عليكم، وهو أمر بالاعتبار، وقد وردت آيات كثيرة تبين قصص الأمم السابقة للاعتبار بها، وقياس الأمة الحاضرة عليها.
 
2ـ السنّة: وردت أحاديث فعليّة كثيرة طبق فيها رسول اللهr القياس، حتى جمعت الأحكام التي استعملها في ذلك بكتاب اسمه: «أقيسة النبيr».
 
كما وردت أحاديث قولية، منها أنه بعث معاذاً إلى اليمن، وقال له: «كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنّة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي» والاجتهاد يشمل القياس وغيره، وفي رواية أقيس الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملت به، فقال: أصبت رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وقال الشوكاني: «وقد قيل: إنه مما تلقته الأمة بالقبول».
 
3ـ الإجماع: ثبت أن صحابة رسول اللهr اجتهدوا رأيهم، وقاسوا الأمور على أمثالها، تكرر ذلك وشاع، ولم ينكر عليهم أحد، فكان إجماعاً منهم على حجية القياس، فقاس أبو بكر في شأن الكلالة الواردة في القرآن في آخر سورة النساء:176، قاس الوالد على الولد ليرث الإخوة عند عدمهما، وقال عمر: «اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك»، وسار على ذلك سيدنا علي وابن عباس وزيد بن ثابت وابن مسعود وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم.
 
4ـ المعقول: إن الحوادث لا تنتهي، والنصوص محصورة، فلا بدَّ من القياس ليجري على الشيء ما يجري على مثيله بحكم العقل والمنطق، ويكون للوقائع المتماثلة أحكام متماثلة، ولأن العقل يدرك أن أحكام الشرع معللة بالمصالح ومعقولة المعنى، ومرتبطة بالأسباب، فتكون العلة موجبة لنقل الحكم من الأصل إلى الفرع، حتى تعم الشريعة للأحداث جميعاً، لتكون صالحة لكل زمان ومكـان، وأن الوقائع المتشابهة يضبطها حكم متشابه، وهو ما يجري في القوانين المعاصرة.
 
محمد الزحيلي

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث