شاع مفهوم التنمية، مثله مثل مفهوم التخلف، غداة الحرب العالمية الثانية للتعبير عن طموح الدول المستقلة تباعاً إلى تحسين أحوالها والسير على طريق التقدم. ومنذ ظهوره، أثار مفهوم التنمية جدلاً واسعاً ومتناقضاً حال دون الاتفاق على تعريف واحد له، فهناك من عدّ مفهوم التنمية مفهوماً معيارياً نسبياً لا يمكن وضع حدود له، وهناك من ركز على النمو الاقتصادي وعدّه جوهراً لعملية التنمية، وهناك من نظر إلى التنمية بوصفها عملية تؤدي، في مدة طويلة من الزمن، إلى زيادة الدخل القومي ونصيب الفرد منه.
ومع تصاعد أزمة التنمية في العالم الثالث في أواخر الستينات وبروز ملامح فكر تنموي جديد، صار يُنظر إلى التنمية بوصفها ظاهرة كلية، لها جوانب اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، وهي، في جوهرها، عملية تحرير ونهضة حضارية شاملة، ترمي إلى تخليص البلدان المستقلة حديثاً من ظواهر التخلف وتحريرها من علاقات التبعية، وتعبئة طاقاتها الذاتية وتوظيفها في إقامة بنيان اقتصادي واجتماعي وسياسي جديد، يضمن أولاً إشباع الحاجات الأساسية، المادية والمعنوية، لجماهير الشعب، كالغذاء والكساء والمسكن والتعليم والعلاج والحاجات الثقافية والإعلامية، ثم يسعى إلى رفع مستوى رفاه الناس باطراد.
إن ما يسمى «نظريات التنمية» هي مجموعة من الكتابات غير المتكاملة وغير المتناسقة، كتبها عادة كتاب غربيون بهدف تقديم «بنى نظرية» لتحليل الأوضاع الغالبة في بلدان العالم الثالث وتبيان كيفية تجاوز حالة التخلف. ومن أبرز هذه النظريات:
ـ نظرية «مراحل النمو» (و. و. روستو W.W.Rostow) التي حاولت أن تعالج التنمية (والتخلف) من منطلق تاريخي، مفترضة أن المجتمعات تمر في تطورها بخمس مراحل هي: مرحلة المجتمع التقليدي، ومرحلة التهيّؤ للانطلاق، ومرحلة الانطلاق، ومرحلة التقدّم نحو النضج، ومرحلة الاستهلاك الواسع، وأن البلدان المتخلفة ستصل إلى مرحلة الاستهلاك الهائل التي وصلت إليها البلدان الغربية المتقدمة، بقطع هذه المراحل من النمو الطبيعي والتلقائي الذي يحركه التطور التقني أساساً.
ـ نظرية «التنمية المتوازنة» (راجنار نوركس R.Norkse)، وهي تقترح أن يتم كسر «الحلقة المفرغة» للتخلف بتوجيه النمو أساساً نحو السوق الداخلية، وذلك بتوظيف رؤوس الأموال في عدد كبير من القطاعات الإنتاجية مما يؤدي إلى مضاعفة حجم العمالة، ويزيد مداخيل السكان، ويوسِّع إطار السوق الداخلية. ومع أن «نوركس» يعطي الأولوية لتطوير الصناعات المنتجة للمواد الاستهلاكية، إلا أن هناك من يرى أنه يمكن إعطاء دفعة قوية، في الوقت نفسه، لقطاعي إنتاج سلع الاستهلاك ووسائل الإنتاج، بل لجميع قطاعات الاقتصاد.
ـ نظرية «التنمية غير المتوازنة» (أ. هيرشمان A.O.Hirshman)، وهي تنطلق من أن النمو المتوازن الذي يتطلب استثمارات ضخمة هو فوق طاقة البلدان المتخلفة، وتدعو إلى تركيز الجهود الإنمائية على عدد محدود من القطاعات التي تولد الحاجة إلى تطوير قطاعات أخرى، مفترضة أن الاستثمار غير المتوازن يكمل عدم التوازن القائم فعلاً بين القطاعات الاقتصادية. ويرى هيرشمان أن أفضل وسيلة لتحقيق النمو الاقتصادي هي توليد اختلال متعمد في الاقتصاد. ويشير إلى أن التنمية في البلدان الرأسمالية المتقدمة انطلقت بداية من بعض الأنشطة والقطاعات التي حفزت أنشطة قطاعات أخرى.
ـ نظرية «التنمية القطبية» (فرانسوا بيرو F.Perroux)، وتنطلق من أن النمو لا يمكن أن يظهر دفعة واحدة في كل مكان، وأن من الضروري التركيز على قطب أو أقطاب للتنمية، يتشكل من مجموعة من الصناعات المتحلقة حول صناعة رئيسية تتمتع بأثر تحريضي كبير.
ـ نظرية «التكامل الاقتصادي العالمي» (غونار ميردال G.Myrdal)، وهي تنظر إلى التكامل الاقتصادي بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة بوصفه أساساً لحل مشكلة التنمية، وتدعو إلى إحداث تغييرات رئيسية على الهيكل الاجتماعي في البلدان المتخلفة، بما يؤدي إلى زيادة الادخار على حساب الاستهلاك لاسيما الاستهلاك الطفيلي غير المنتج.
ـ نظريات أنصار «مدرسة التبعية» التي ترى في التخلف والتنمية هيكلين جزئيين لنظام اقتصادي عالمي واحد، يقوم على أساس وجود «مركز» يتمثل في البلدان الرأسمالية المتقدمة، و«أطراف» تتمثل في البلدان المتخلفة في «القارات الثلاث»، وتؤكد أن سعي «الأطراف» إلى فك ارتباطها بـ«المركز» والتخلص من علاقات التبعية شرط لابد منه لضمان سيرها على طريق التنمية.
إن هدف سياسات التنمية هو إحداث تغيير في بنى اقتصاد البلد المتخلف وبناء اقتصاد جديد متجانس قادر على توليد ديناميته الخاصة ودفعه حثيثاً على طريق التحرر من علاقات التبعية. ولذلك، فإن هدف سياسات التنمية هو التخلص من الخصائص البنيوية الثلاث المميزة للتخلف وهي: التفاوت الكبير في التوزيع القطاعي للإنتاجية، وتفكك النظام الاقتصادي والتبعية الخارجية.
ويتطلب بناء اقتصاد جديد ومتجانس، وفق رأي بعض المختصين، التركيز على تنظيم النقل التدريجي للسكان النشيطين من القطاعات ذات الإنتاجية الضعيفة إلى القطاعات ذات الإنتاجية العالية، أي من الزراعة التقليدية إلى الزراعة الحديثة، ومن ثم السعي إلى تحسين إنتاجية الزراعة التقليدية، وهو ما يتطلب إجراء تغيرات عميقة وصعبة التحقيق لاصطدامها بالبنى الاجتماعية وبأنماط الحياة والثقافة المرتبطة بالتقنيات التقليدية. وينبغي أن تتجه الخيارات التنموية اتجاهاً يضمن تجانس الاقتصاد الجديد حتى تكون قطاعاته المختلفة متكاملة ومتضامنة فيما بينها، بما يسمح بتطوير الجسم الاقتصادي كله، وانطلاقاً من الأوضاع الملموسة للبلد المعنيّ، ينبغي أن تراعي الخيارات التنموية التوازن الدقيق في كل مرحلة من مراحل التطور، بين الزراعة والصناعة الخفيفة الاستهلاكية والصناعة الثقيلة القاعدية. كما ينبغي لتوفير دينامية تطور خاصة للاقتصاد الجديد وتحريره من علاقات التبعية، تحويل بنى التجارة الخارجية جذرياً، وتحديد دور التمويل المحلي، الخاص والعام ومكانته، إزاء التمويل الخارجي.
وتتطلب كل هذه الخيارات التنموية بطبيعة الحال اللجوء إلى تقنيات حديثة في التخطيط الاقتصادي، الذي يمر بثلاث مراحل متكاملة، هي:
1ـ مرحلة صوغ استراتيجية التنمية، أي مرحلة تحديد طبيعة الصعوبات الرئيسية التي تعترض التحولات البنيوية، وتعيين وتائر هذه التحولات ومراحلها، وتحديد التكلفة الاقتصادية للخيارات التي تم تبنيها.
2ـ مرحلة تحديد الأهداف القطاعية، لتكون أهدافاً متجانسة وواقعية، تأخذ في الحسبان حجم الموارد البشرية والمادية وطبيعتها، وطبيعة العلاقات الخارجية.
3ـ مرحلة تحليل المشروعات التي يتم فيها تحديد الأهداف الملموسة على مستوى المؤسسة الإنتاجية.
وكان عدد كبير من الاقتصاديين المعنيين بقضايا التخلف والتنمية يرى أن التصنيع أساس عملية التنمية الاقتصادية، وأن تطوير وسائل الإنتاج، ولاسيما صناعة الآلات والمكائن، هو جوهر التصنيع، وكان التصنيع على أساس «الإحلال محل الواردات» أول سياسة للتنمية، تهدف إلى إنتاج بدائل محلية للمنتجات المستوردة، وإشباع حاجات السوق المحلية في ظل درجة عالية من الحماية الجمركية، وقد راهن عدد من بلدان أمريكة اللاتينية طويلاً على هذه السياسة، التي بدأت تلوح في الأفق بوادر إخفاقها في تغيير الهيكل الاقتصادي القديم جوهرياً منذ أواسط الستينات، إذ عجزت البلدان التي انتهجت هذه السياسة عن استكمال كل حلقات التصنيع وبقيت صناعتها مقتصرة على إنتاج المواد الاستهلاكية الخفيفة أو «نصف المصنعة» مع استمرار تبعيتها للخارج ولاسيما في مجال استيراد منتجات الصناعات الكبيرة والثقيلة.
وحاولت بلدان نامية أخرى السير على طريق التصنيع على أساس سياسة تنمية الصادرات، متخلية، منذ البداية عن التركيز على إشباع حاجات السوق المحلية. غير أن هذه السياسة أدت إلى تفاقم المشكلات الداخلية لهذه البلدان، وأبقتها أسيرة علاقات التبعية للخارج ولاسيما في الميدان التقني.
وفي الآونة الأخيرة، أخذ يزداد عدد الاقتصاديين المشككين في موضوعة أن التصنيع لاسيما الثقيل، هو أساس عملية التنمية الاقتصادية، والداعين إلى رفض السياسات التي تؤدي إلى الانصراف إلى المشروعات العملاقة الكثيفة رأس المال، وتتطلّب الاقتراض واستيراد التجهيزات المكلفة المعقدة. وبحسب وجهة نظر هؤلاء الاقتصاديين، ينبغي التركيز أولاً في عملية التنمية على تطوير القطاعات القادرة على إنتاج السلع والخدمات المتعددة التي تلبي حاجات السكان الأساسية ما يفرض إعطاء الأولوية للزراعة والاهتمام بتنمية الصناعة التحويلية في الوقت نفسه.
تبقى عملية التنمية مشروطة بطبيعة النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي القائم في هذا البلد أو ذاك، أي إنَّها تتحدد، في التحليل الأخير، بشكل ملكية وسائل الإنتاج وبطبيعة علاقات الإنتاج الغالبة. وعلى هذا الأساس برزت ثلاثة أنماط تاريخية للتنمية الاقتصادية: نمط رأسمالي، ونمط اشتراكي، ونمط «ثوري قومي» تباينت الآراء في وصفه، وأطلقت عليه تسميات كثيرة منها «نمط التطور اللارأسمالي» أو«نمط التوجه الاشتراكي». وفي الآونة الأخيرة، ونتيجة لانهيار الاتحاد السوفييتي وأنظمة بلدان شرقي أوربة، برزت صعوبات جديدة في وصف طبيعة تلك الأنظمة المنهارة وتحديد أنماط التنمية التي تبنتها. ويمكن تصنيف تجارب التنمية التي شهدتها بلدان العالم الثالث في ثلاثة أنماط:
ـ نمط استند إلى التخطيط الشامل.
ـ ونمط استند إلى آليات السوق، وشجع المبادرة الذاتية لرأس المال المحلي والأجنبي.
ـ ونمط ثالث صار شائعاً كثيراً في السنوات الأخيرة، قام على أساس المزاوجة بين التخطيط وآليات السوق، وضمان التكامل بين أدوار القطاعات الثلاثة، العام والخاص والمشترك.
ويعّد نموذج هارود ـ دومار Harrod-Domar من أبسط النماذج التي تحدد معدل النمو بالاستناد إلى دور الادخار، واستخدم هذا النموذج، أوّل مرة في البلدان النامية، لتحديد معدلات النمو في سنوات الخطة الخمسية الأولى في الهند (1951- 1956). ويؤخذ على هذا النموذج إهماله دور زيادة إنتاجية العمل والموارد الطبيعية في تحديد معدلات النمو، وإغفاله تبعية اقتصاديات بلدان العالم الثالث للسوق الرأسمالية العالمية. أما النموذج الآخر المعروف بـ«نموذج قانون النمو الطبيعي» فهو يقوم على افتراض أن نمو الدخل الوطني في وحدة الزمن (السنة عادة) يتناسب وحجم الدخل الوطني نفسه. ويؤخذ على هذا النموذج أنه يبقي النمو الاقتصادي عاماً وغامضاً، لا تُعرف أسبابه وعوامله، ولا التناسبات بين هذه العوامل المختلفة.
وبغض النظر عن مدى التباين في تقويم أثر العوامل الخارجية في ترسيخ تخلف بلدان العالم الثالث، فإن هناك شبه إجماع على أن الهيكل الغالب للعلاقات الاقتصادية الدولية، الذي تكون على مدى عقود من السنين ليعبر عن مصالح الدول الرأسمالية المتقدمة في الأساس، يضع عراقيل كثيرة أمام بلدان العالم الثالث الساعية إلى التنمية الاقتصادية.
ولجأت دول العالم الثالث إلى التكتل لتغيير نمط علاقاتها الاقتصادية بالدول الغربية الغنية، ودعت بدءاً من أواسط الستينات إلى إقامة نظام اقتصادي دولي جديد على أساس إدخال إصلاحات في ثلاثة مجالات رئيسية هي: مجال السلع الأولية، ومجال التنمية الصناعية ومجال التمويل والاقتراض الخارجي، ما يضمن استقرار الأسعار العالمية للسلع الأولية، ويزيد صادرات البلدان النامية، من تلك السلع، ويحسن شروط شراء ونقل التكنولوجيا المتقدمة إلى هذه البلدان، ويزيد فرص بيع منتجاتها الصناعية في أسواق البلدان الغنية ويساعد أخيراً، على تيسير شروط الاقتراض من الخارج وإعادة جدولة الديون وصولاً إلى إصلاح النظام النقدي الدولي الراهن.
ومع أن عقد السبعينات شهد بعض الخطوات العملية على طريق إقامة مثل هذا «النظام الاقتصادي الدولي الجديد»، وصدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في ربيع العام 1974 وثيقتان تاريخيتان بهذا الخصوص، إلا أن التوجه لتغيير هيكل العلاقات الاقتصادية الدولية القائم بقي يصطدم بمعارضة الدول الغربية الغنية، وبغياب التوافق التام بين دول العالم الثالث التي عجزت عن تأليف جبهة عريضة توحد أهدافها وتدافع عن مصالحها، علماً بأنه توافرت في العام 1974 نفسه فرصة فريدة لبلدان منظمة «الأوبك» لاستعمال قوتها المالية التي تضاعفت عدة مرات في دعم مطالب إصلاح النظام الاقتصادي العالمي، وإحداث تغيير ملموس في موازين القوى بين الدول الصناعية الغنية والدول المصدرة للسلع الأولية. ويمكن القول إن موقع البلدان النامية ازداد ضعفاً وهشاشة في إطار هيكل العلاقات الاقتصادية الدولية بعد التغيرات العاصفة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة. فقبل وقوع هذه التغيرات، كانت أوضاع قطبي المعسكرين الشرقي والغربي والحرب الباردة تسمح بارتباط البلدان النامية بأحد هذين المعسكرين ويتيح لها هامشاً واسعاً للتحرك. أما اليوم، فقد ضعفت أهمية عدد كبير من دول العالم الثالث في نظر البلدان الغربية الغنية، وصار التعامل معها على أنها خارج دائرة التقدم والإنتاج. وقد أدت المحاولات المكشوفة لتهميش دول العالم الثالث هذه إلى زيادة حدة الاضطرابات والنزاعات الداخلية وتعطيل مشاريع التنمية فيها كلياً.
وبغض النظر عن الخلل القائم اليوم في هيكل العلاقات الاقتصادية الدولية، فالحقيقة التي ستزداد رسوخاً مع الأيام هي أن تصفية الآليات التي تكبح عملية التنمية في بلدان العالم الثالث غدت أمراً حيوياً للبشرية وللحضارة الإنسانية كلها. وإذا لم يتم العمل سريعاً على إعادة بناء نظام العلاقات الاقتصادية الدولية بجملته على أساس ديمقراطي عادل، واستمرت عمليات نهب الثروات الطبيعية وتشويه البُنى الإنتاجية وتخفيض أسعار المواد الخام وفرض شروط قاسية على تسديد الديون، فإن الأوضاع في العالم الثالث ستنفجر حتماً، وستترك انعكاسات سلبية خطيرة على البلدان الغربية الغنية نفسها، وللحيلولة دون وقوع مثل هذا الانفجار، طرحت على بساط البحث مقترحات عدة منها على سبيل المثال اقتطاع نسبة معينة من المبالغ الهائلة التي تُنفق على التسلح لتمويل مشروعات التنمية، ووقف انتشار مناطق المجاعة في آسيا وإفريقية، والعمل على إلغاء ديون العالم الثالث، وإصلاح النظام النقدي العالمي وتشجيع إبرام عقود ثابتة برعاية الأمم المتحدة بين البلدان المنتجة للمواد الخام والبلدان المستوردة لها، ما يضمن تحديد أسعار عالمية مناسبة ومستقرة لهذه المواد.
إنّ حصاد التجربة التنموية في بلدان العالم الثالث، في مدى نحو نصف قرن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، جاء قاصراً جداً عن الأهداف التي وضعتها هذه البلدان. وترجع الأزمة التنموية العميقة التي تواجهها معظم بلدان العالم الثالث إلى مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية المتشابكة، وإلى عدد كبير من الأخطاء التي اقتُرفت في مجالات تعيين أهداف التنمية وأولوياتها واستراتيجياتها، وتحديد الأجهزة والجهات القائمة بها وطبيعة مهماتها، ووضع السياسات والأدوات العملياتية الملائمة لها.
وأمام إخفاق معظم تجارب التنمية في العالم الثالث وتفاقم أزمة نظرية التنمية، تتصاعد الدعوات اليوم إلى انتهاج مسارات تنموية جديدة تطلق عليها تسمية «التنمية البديلة» أو«التنمية المستقلة» أو«التنمية بالاعتماد على الذات».
وتظهر ملامح هذه التنمية البديلة في:
1ـ إيلاء العناية الخاصة لتحديد الهدف الجوهري لاستراتيجية التنمية.
2ـ أن يكون التوجه الأساسي لهذه التنمية نحو الداخل وليس الخارج.
3ـ إن التنمية المستقلة تتحقق بالاعتماد على الذات أساساً.
4ـ إن تنمية تتوجه إلى الداخل، وتعتمد على الذات، لابد أن تكون تنمية يقوم بها الشعب.
5ـ إن خطورة الاعتماد على الاستيراد الأعمى للتكنولوجيا من الخارج، تتطلب السعي إلى إيجاد تكنولوجيا محلية ملائمة واستثمار الطاقات والإمكانات العلمية المحلية وتطوير نظم التعليم والبحث العلمي.
وعلى الجاذبية الشديدة التي تتمتع بها هذه «التنمية البديلة» و«المستقلة»، فإنّ هناك من يعتقد أن هذه الرؤية الجديدة للتنمية تنطوي على قدر كبير من الطوباوية، وأن الاعتماد على الذات في ظل النظام العالمي الراهن هو استراتيجية لن تقوى على النجاح. ويقترح عدد من الاقتصاديين أن يٌسار نحو مثل هذه «التنمية البديلة» بخطوات تدريجية تحقق مزيداً من الاستقلال وحرية الإرادة الوطنية وتضمن التحويل التدريجي لعلاقات الارتباط بالسوق العالمية من موقع التبعية إلى موقع التفاعل والتعاون وتبادل المصالح.
وفي الآونة الأخيرة، استقطب النجاح التنموي الذي حققته بعض بلدان شرقي آسيا اهتمام الاقتصاديين في بلدان العالم النامي الأخرى، بعد أن تبين أن هذه البلدان لم تحقق نمواً اقتصادياً متسارعاً فحسب، بل ضمنت كذلك، وإلى هذا الحد أو ذاك، المشاركة في جني ثمار هذا النمو، إذ ضاقت فجوة التفاوت في الدخول فيها. ومع ذلك، لا يبدو أن من الممكن استخلاص «وصفات جاهزة» للنجاح التنموي الذي حقّقه النموذج الذي صار يعرف بـ«نموذج شرقي آسيا»، ولاسيما أن البلدان الثمانية المنضوية في نطاق هذا «النموذج» اتبعت خليطاً من السياسات التنموية المختلفة وقامت بتغيير توجهاتها التنموية عدة مرات، ولم يجمعها سوى قاسم مشترك واحد تمثل في الحفاظ على معدلات متدنية للتضخم، ومستويات عالية من الادخار واستثمار كبير في ميدان التعليم، ولاسيما التعليم الابتدائي والثانوي.
تزداد قناعة الاقتصاديين في بلدان العالم الثالث بأن آفاق تنمية هذه البلدان ترتبط، إلى حد كبير، بتوجهاتها نحو إقامة أشكال من التكامل الاقتصادي فيما بينها أو فيما بين مجموعاتها المختلفة. وتزداد أهمية مثل هذا التكامل الاقتصادي في ضوء التغيرات الكبيرة التي تحدث على هيكل الاقتصاد الدولي، والتي تتمثل في زيادة تدويل الحياة الاقتصادية واتساع قواعد التكتلات الاقتصادية الكبيرة.
يحقق التكامل الاقتصادي لبلدان العالم الثالث ميزات كثيرة، إذ إنَّه يحسّن في استغلال الموارد المادية والبشرية، ويسهم في رفع إنتاجية العمل وتقليص التكاليف وتحسين النوعية، ويوسع الأسواق المحلية، ويقلِّص الاستيراد ويزيد التصدير، ويوفر فرصاً أنسب للإفادة من منجزات الثورة العلمية ـ التقنية. والأهم من ذلك كله أن التكامل الاقتصادي يعزز الموقف التفاوضي لبلدان «الجنوب» في علاقاتها مع بلدان «الشمال»، ويضمن لها تدريجياً التخلص من الموقع غير المتكافىء في إطار تقسيم العمل الدولي.
ولتجاوز هذه العراقيل التي تعترض طريق التكامل الاقتصادي يقترح بعضهم التدرج في السير نحو هذا الهدف، إذ يمكن البدء بأشكال بدائية من التعاون الاقتصادي، مثل خلق منطقة جمركية واحدة وإقامة المشروعات الإنتاجية المشتركة، والتعاون في مجال البحث العلمي واستيعاب التكنولوجيا الحديثة.
ففي الوطن العربي مثلاً اتسعت المساعي في عقد السبعينات على هذه الطريق، فأقيم في عام 1973 صندوق عربي للإنماء الاقتصادي الاجتماعي، ثم أقيم صندوق النقد العربي، وانعقدت في عام 1980 قمة عمّان الاقتصادية العربية التي أكدت أهمية الاعتماد الجماعي على الذات وتعزيز التكافل القومي ومنح الأولوية للعلاقات العربية ـ العربية، وتبنت ميثاقاً للعمل الاقتصادي القومي يقوم على أساس تحييد العمل الاقتصادي وإبعاده عن الخلافات السياسية، كما تبنت استراتيجية للعمل الاقتصادي العربي هدفت إلى توفير مقومات الأمن القومي في المجالات الغذائية والتكنولوجية والعسكرية والثقافية، والسعي من أجل القضاء على واقع التخلف والتبعية، وأقرَّت «عقد التنمية» الذي نصَّ على تمويل مشروعات التنمية في الأقطار العربية الأقل نمواً طوال عشر سنوات.
ومع أن التعاون الاقتصادي العربي حقَّق في العقود الأربعة المنصرمة عدداً من النتائج الإيجابية، إلا أنه لم يرق إلى مستوى الآمال التي انعقدت عليه، وبقيت معظم القرارات التي اتُخذت لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية حبراً على ورق.
وإذا كان في الماضي هامش يسمح للأقطار العربية بإبقاء أكثر القرارات المتخذة لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي حبراً على ورق، فإن تحديات المستقبل جعلت من تحقيق هذا الهدف مهمة لا تقبل التأجيل. فالتكامل الاقتصادي العربي هو وحده الذي سيمكّن العرب من القضاء على مظاهر التخلف والتبعية والسير في طريق التنمية، وهو وحده الذي سيتيح للأقطار العربية أوضاعاً مناسبة لنسج علاقات متكافئة وتبادل المنفعة مع بلدان العالم وتكتلاته الاقتصادية المختلفة، ولاسيما أنَّا نواجه العولمة[ر] بكلِّ إيجابياتها وسلبياتها.
مع أن الجمهورية العربية السورية ما تزال بعيدة عن تحقيق الأهداف النهائية للتنمية الاقتصادية التي تطمح إليها، فقد حققت، في مسيرتها التنموية، إنجازات مهمة أدت إلى رفع مستوى حياة سكانها باطراد وتحسين الخدمات المقدمة لهم في مجالات الحياة المختلفة، وباتت الجمهورية العربية السورية اليوم من بين دول العالم الثالث القليلة التي نجحت في ضمان أمنها الغذائي. وبالرجوع إلى المجموعات الإحصائية السورية لعام 1992، والصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء لدى رئاسة مجلس الوزراء، يمكن تعرُّف بعض مؤشرات التنمية في الجمهورية العربية السورية:
ـ ارتفع الناتج المحلي الصافي بأسعار 1995 الثابتة وبملايين الليرات، بين عامي 1970 و2000، من 136325 إلى 640753، وارتفع نصيب الفرد الواحد من هذا الناتج من 19436 ليرة بأسعار 1995 الثابتة إلى 38036 ليرة.
ـ ارتفع إنتاج القمح من 1656.4 (بآلاف الأطنان) في عام 1987 إلى 3105.5 في عام 2000.
ـ ازداد عدد الجرارات، التي تعمل بطاقة أقل من خمسين حصاناً من 12123 جراراً في عام 1987 إلى 32551 جراراً في عام 2000.
ـ ازداد حجم النفط الخام المستخرج من 13365 (ألف متر مكعب) في عام 1987 إلى 31688 (ألف متر مكعب) في عام 2000.
ـ ازداد طول الطرق الإسفلتية من 12969 كيلومتراً في عام 1980 إلى 32028 كيلومتراً في عام 2000.
ـ ارتفع عدد طلبة الجامعات من 138743 طالباً في عام 1987 إلى 169913طالباً في عام 1991.
ـ ازداد عدد المشافي والمصحات من 202 في عام 1986 إلى 393 في عام 2000 وازداد عدد أسرّتها من 12382 في عام 1986 إلى 19669 في عام 2000، وازداد عدد أطباء الصحة من 6993 في عام 1986 إلى 22408 في عام 2000، وتدنّى متوسط عدد السكان لكل طبيب من 1518 في عام 1986 إلى 728 في عام 2000.
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث