إدوارد سعيد Edward Said كاتب وناقد ومفكر سياسي، ولد في القدس لأبوين فلسطينيين كانا يعيشان مع أولادهما بين القدس والقاهرة لطبيعة عمل الوالد، وذلك قبل أن تجعل نكبة 1948 من مصر ولبنان أمكنة إقامة دائمة لهذه العائلة. التحق إدوارد سعيد في القاهرة بعدد من المدارس، وتميزت سيرته الدراسية بالتفوق من جهة، وعدم التكيُّف مع هذه المدارس التي أقامها الاستعمار الإنكليزي في مصر من جهة أخرى. وهذا ما دفع أسرته لأن ترسله إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته، الأمر الذي تيسّر لـه، لأنَّ والده كان قد جاء إلى أمريكا في شبابه وحصل على الجنسية الأمريكية.
بدأت مسيرة إدوارد سعيد في أمريكا عام 1951 بالتحاقه بمدرسة داخلية في ولاية ماساتشوستس مدة سنتين أنهى فيهما دراسته الثانوية. التحق بعد ذلك بجامعة برنستن Princeton حيث درس الأدب الإنكليزي والتاريخ، ثمّ أنهى تمرسَّه الأكاديمي في هارفرد، حيث قدَّم أطروحته لنيل الدكتوراه في الأدب المقارن عن الروائي الإنكليزي البولندي الأصل جوزيف كونراد Joseph Conrad، قبل أن ينتقل إلى جامعة كولومبيا التي ظل يدَّرس فيها الأدب الإنكليزي والأدب المقارن حتى وفاته.
تحولت أطروحة الدكتوراه التي قدَّمها إدوارد سعيد إلى كتابه الأول الذي صدر عام 1966 بعنوان «جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية» Joseph Conrad and the Fiction of Autobiography، ودقّق في هذا الكتاب في رسائل كونراد ورواياته القصيرة فوجد كثيراً من التقاطعات، من حيث إحساس المنفى، والوجود داخل اللغة وخارجها، والشك الجذري وانعدام اليقين، والإحساس الدائم بأن شيئاً رهيباً غامضاً على وشك الحدوث. وقد اعتمد في هذا الكتاب على منجزات مدارس نقدية أوربية وأميركية مهمَّة. ورأى أنَّ صيرورة المرء كاتباً هي ضَرْبٌ من المشروع أكثر منها مهنة أو عملاً، فالكاتب إذ يسكب ذاته في سلسلة من الأعمال إنما يترك لهذه الأعمال أن تحدد هويته.
صدر كتاب إدوارد سعيد الثاني، «بدايات: القصد والمنهج» Beginnings: Intention and Method عام 1975، وهو تأمل في مشكلة البدايات في كلٍّ من الرواية الكلاسيكية والأدب الحداثي والأعمال النقدية الجديدة، تأملٌ يربط البدايات بالاستمرارية وميل الذات إلى التطور والتغير. ويبدو في هذا مقدار تأثره بالفيلسوف الإيطالي جامباتيستا فيكو Giambattista Vico، الذي رأى أن البدايات لا تُكتَشَف بل تُخلَق وتُصاغ وتتفاعل وتتطور. لكنَّ هذا الكتاب ظل عصياً على القراءة، نظراً لأسلوبه المكثَّف ومادة موضوعاته المجرَّدة والفلسفية وإحالاته إلى كثير من المفكرين الآخرين. ويلاحظ قارئ كتب إدوارد سعيد اللاحقة أنه انتقل عامداً إلى أسلوب أكثر يسراً في الوصول إلى القارئ. ثمة تواريخ مهمَّة بين صدور مؤلفي إدوارد سعيد تركت أبلغ الأثر لديه. ففي عام 1967 كانت هزيمة العرب أمام إسرائيل. وفي عام 1969 جاء إدوارد سعيد إلى الأردن ليشهد في العام التالي أحداث أيلول الأسود، ويتبلور تعاطفه مع حركة المقاومة الفلسطينية. ثم غادر إلى بيروت حيث تزوج من سيدة لبنانية، ودرس اللغة العربية على يد أنيس فريحة، ونهل من التراث العربي قديمه وحديثه، قبل أن يشهد حرب تشرين 1973، ويكتشف عيانياً الفرق بين ما يجري على الأرض وما تصوِّره وسائل الإعلام الغربية. وقد أدّى ذلك كله إلى تبلور تفكير إدوارد سعيد في الخطاب الاستشراقي، ما أثمر في العام 1978 كتاب «الاستشراق» Orientalism الذي زلزل المؤسسة الاستشراقية وغيَّرها من حال إلى حال. ويستكشف إدوارد سعيد هنا تلك الصورة التي ابتدعها الغرب عن الشرق، ويبيِّن أنَّ الخطاب الاستشراقي ليس مجرد فرع علمي حيادي، بل تخترقه علاقات القوة والسلطة. فالأوربيون، وبعدهم الأمريكيون، الذين كتبوا عن «الشرق»، فعلوا ذلك بطرائق كان لا مفرَّ من أن يؤطِّرها ويتحكم فيها اندفاع بلدانهم لإخضاع الشعوب الشرقية واستغلالها. وقد ظهر في هذا الكتاب مدى تبحُّر إدوارد سعيد، فضلاً عن تأثره الخاص بكلٍّ من أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci الإيطالي وميشيل فوكو Michel Foucault الفرنسي.
ويمكن القول إنَّ ما يدور حوله كتاب «الاستشراق» ومعظم أعمال إدوارد سعيد اللاحقة، هو العلاقة بين التمثيل وبناء الصور والسرديات من جهة وما يتخلَّل ذلك من ممارسة القوة والسلطة من جهة ثانية، وتعالج هذه الأعمال العلاقة بين الثقافة والسياسة، إذ ينظر إدوارد سعيد إلى السياسة على أنها قضية سرديات متصارعة يحاول فيها كل طرف إضفاء الشرعية على رؤيته للعالم عن طريق بناء سرد خاص به، ومن أهمِّ الأمثلة على ذلك: الصراع العربي ـ الإسرائيلي، إذ تحاول الرواية الصهيونية إسكات الرواية العربية وإنكار وجودها، في حين تصرُّ الأخيرة على وجودها وعلى إعادة سردها من البداية.
هذا هو الإطار الذي يمكن أن توضع ضمنه أعمال إدوارد سعيد: «قضية فلسطين» (1979) The Question of Palestine ، وكذلك «تغطية الإسلام» (1981) Covering Islam، الذي يستكمل فيه نقد خطاب الاستشراق بنقد الصور النمطية الزائفة التي تلجأ إليها وسائل الإعلام الأمريكية لدى تناولها موضوعات الإسلام والشرق، وأيضاً مؤلف «بعد السماء الأخيرة» (1986) After the Last Sky ، الذي اشتمل على صور التقطها جان مور Jean Mohr وكان نوعاً من التأمل الألمعي في الهوية الفلسطينية، و«لوم الضحايا: الأكاديمية الزائفة ومسألة فلسطين» (1988) Blaming the Victims ، الذي أشرف عليه بالاشتراك مع كريستوفر هتشنز Christopher Hitchens وضمَّ له ثلاث مقالات إلى جانب كُتَّابٍ آخرين.
قبل ذلك، كان إدوارد سعيد قد أصدر كتابه «العالَم، النص، الناقد»The World, the Text, and the Critic ، حيث طور مفاهيم نقدية جديدة مثل «النقد العلماني أو الدنيوي» (1983) secular criticism الذي يشير إلى أن اللغة هي عن التجربة وليست عن نفسها. ولذلك، فإنه ليس بمقدور النقد أن يقصِر نفسه على النص وحده، و لابد للناقد أن يعرف كيف يقرأ النص وشرطه الدنيوي الذي ينشبك فيه، وإلا اندفع النقد لأن يكون « نقداً دينياً» ينسخ الثقافة إلى شعائر وشعائر مضادَّة، وإلى يافطاتٍ مطْلَقة. أما مفهوم «ارتحال النظرية» traveling theory فيرى أن الأفكار والنظريات تسافر مثل البشر، منطلقة من لحظة ميلاد ونقطة بدء في مسار رحيل وشروط وصول ومقتضيات رحيلٍ جديد، مع كل ما يطرأ عليها في هذه الرحلة من تحوُّلٍ وتغيُّر تبعاً لما يكتنفها من ظروف.
في عام 1991 شُخِّصَ لدى إدوارد سعيد مرض سرطان الدم الذي قاومه حتى وفاته في نيويورك، فقد واصل الكتابة، والمحاضرة، والظهور في البرامج الإعلامية، والسفر الكثيف مدافعاً عن قضية فلسطين وعن أفكاره النظرية بنشاطٍ أقرب إلى الأعجوبة. وفي العام نفسه صدر كتابه «إحكاماتٌ موسيقية» Musical Elaborations، وكان التأمل الأعمق في اهتماماته الموسيقية التي شغلته منذ الطفولة، ليس عازف بيانو مهماً وحسب بل منظِّراً موسيقياً أيضاً.
وفي العام 1993 أصدر إدوارد سعيد كتابه «الثقافة والامبريالية» Culture and Imperialism موسِّعاً منظوره، ومؤكداً على استمرار الإمبراطورية مع اهتمام هذه المرَّة بالشعوب المستعمَرة التي لم تظل على خَرَسِها بل أفصحت عن مقاومة يتتبعها الكاتب لدى عددٍ متنامٍ من الكتّاب الذين ردُّوا على الامبريالية بفصاحةٍ ومن دون انغلاق، مثل فرانز فانون Frantz Fanon، وإيميه سيزير Aimé Césaire. والمفتاح المنهجي في هذا الكتاب هو مفهوم «الطباقية» contrapuntalism الذي يستمدُّه من الموسيقى، وفيه تتبارى وتتصادم ألحان (موضوعات) متنوعة من دون أن يكون لأيٍّ منها امتيازٌ إلا بصورة مؤقتة لا تحول دون ظهور سواها كخلفية أو محيط أو دون انطواء تعدد النغمات على تلاؤم ونظام. وهذه هي الطريقة التي يقرأ بها سعيد الأرشيف الإمبريالي. فالطباقية تعني هنا فهم تجارب متباينة لكلٍّ منها جدول أعماله وسرعة تطوره، وتكويناته الداخلية، وتماسكه، ونظام علاقاته الخارجية الخاصة، وجميعها متعايشة ومتفاعلة إحداها مع الأخرى. وما ينطوي عليه هذا المفهوم هو الإقرار بأنَّ كلاً من الشعوب المسيطِرة والتابعة في الامبريالية تتقاسم العالم العلماني ذاته، فليس ثمة سوى فضاء ثقافي عالمي واحد، ملكية مشتركة للبشرية بأجمعها، وكذلك لغة كونية من الحقوق والمُثُل، يُشَنُّ فيها النضال من أجل التحرر والتئام الشمل دون تعصُّب ولا أصولية.
في عام 1994 صدر كتاب إدوارد سعيد «تمثيلات المثقف» Representations of the Intellectual، وهو في الأصل مجموعة محاضرات تنظِّمها هيئة الإذاعة البريطانية BBC لشخصية مهمة في كل عام. ويتابع سعيد في هذا الكتاب خيوط ارتحال النظرية، ودور المثقف التقدمي، خاصةً دوره في قول الحقيقة في وجه القوة. وفي العام نفسه صدر كتابه «سياسة التجريد» The Politics of Dispossession، وفي 1995 «السلام ومنغصَّاته» Peace and Its Discontents. وفي 1999 صدر «خارج المكان» Out of Place: A Memoir، الذي يروي بعضاً من سيرته الذاتية، وذلك الإحساس الطاغي الذي ظلَّ يلازمه بأنه «خارج المكان على الدوام». أما في عام 2000 فقد صدر «نهاية عملية السلام» The End of the Peace Process ثم «تأملات حول المنفى» Reflections on Exile and Other Essays، الذي جمع فيه مقالاته ومراجعاته الأطول المكتوبة على مدى خمسة وثلاثين عاماً.
وبين الأعوام 2001 و 2003 صدر كتاب سعيد «القوة، السياسة، الثقافة» Power, Politics, and Culture، وهو مجموعة حوارات فكرية، وكذلك «القلم والسيف» The Pen and the Sword، وهو مجموعة حوارات أصغر حجماً. وفي عام 2003 صدر كتابه الصغير «فرويد وغير الأوربيين» Freud and the non-European، آخر إصدار لـه في حياته، وهو نصُّ محاضرة ألقاها في متحف فرويد في لندن، وكان من المفترض أن يُلقيها في فيينا، لكن الضغوط الصهيونية حالت دون ذلك بحجة ظهور صورة له في جنوب لبنان بعد تحريره، وهو يلقي الحجارة على موقع إسرائيلي قرب بوابة فاطمة. وتناولت هذه المحاضرة فكرة الهوية في كتاب فرويد «موسى والتوحيد».
إضافة إلى المقالات التي كتبها إدوارد سعيد في معارضة شرسة لأعمال حلف الأطلسي في كوسوفو ولغزو العراق سنة 2003، أعدّ لإصدار مجموعة من الكتب السياسية، وكتاب عن الأوبرا، ودراسة عن فكرة «الأسلوب المتأخر»، فضلاً عن دراسة شاملة عن النزعة الإنسية في الولايات المتحدة، صدرت في أواسط عام 2004 بعد وفاته بعنوان «الإنسيّة والنقد الديمقراطي» Humanism and Democratic Criticism، يهتم فيها بالتغيرات الحاصلة في الجامعات ومراكز البحث العلمي والمؤسسات الثقافية بتأثير أحداث 11 أيلول 2001.
أدّت مواقف إدوارد سعيد الفلسطينية إلى تعرُّض مكتبه لعمليات تخريب، فضلاً عن تهديدات بالقتل له ولأفراد عائلته. وقد أطلق عليه الإعلام المنحاز لإسرائيل لقب «بروفسور الإرهاب» وشكَّك في فلسطينيته واتهمه بمعاداة السامية. ومن ناحية أخرى، فقد استقال إدوارد سعيد عام 1991 من المجلس الوطني الفلسطيني الذي سبق أن دخله شخصية مستقلة، كما شجب اتفاقية أوسلو واتفاق غزة ـ أريحا، ورفض حضور حفلة التوقيع.
يُعدُّ إدوارد سعيد من أهم الكتّاب والمفكرين في هذا العصر. فقد كان لكتاباته تأثير هائل على نطاق العالم بأسره، علمياً وعلى مستوى النقاش العام، حيث تُقتبَس أعماله، ويُبنى عليها، ويستوحى منها، وتُهاجَم أو يُدافَع عنها في أوساطٍ متنوعة أشد التنوع ولدى جمهور واسع. ولا عجب في ذلك، فقد ضمَّ نطاق خبراته واهتماماته فروعاً أكاديمية، وأشكالاً فنية، ومناخاتٍ سياسية حافلة، ولذلك كان لـه تأثيره العميق في النقاشات حول التاريخ والسياسة والأنثروبولوجيا والجغرافيا وسطوة وسائل الإعلام وأغراض التربية ومسؤوليات المثقف والأفكار حول الهجرة والمنفى والتعددية الثقافية والدين واللغة والحرب والفنون البصرية والمتاحف والرواية والسينما، والموسيقى وسوى ذلك الكثير، مما جعله مفكراً كونياً محلِّقاً ونموذجاً مثالياً للمثقف النقدي، الذي لا يني يوبِّخ التخصص الأكاديمي الضيق، ويدعو إلى التغيير، ويجهر بالحقيقة في وجه القوة والسلطة.
كان إدوارد سعيد علاّمةً متبحراً بين العلماء، وناقداً للامبريالية ألمعياً لايلين، ومناضلاً فلسطينياً مستقلاً في ثقافة عامة تهيمن عليها نزعة الانحياز للصهيونية، وقد غيَّرت كتاباته خارطة الحياة الفكرية المعاصرة أعمق التغيير وأشدَّه اتصافاً بالأخلاقية والانتصار للإنسان.
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث