ولد ليوناردو دافنشي Leonard de Vinci بالقرب من فلورنسة في إيطالية، فكان مولده سبباً في شهرة مسقط رأسه، شهرة لا تدانيها شهرة أكبر العواصم، وتوفي في فرنسة بالقرب من آمبواز. كان ليوناردو مزيجاً رائعاً من الحكيم والفيلسوف والفنان، اجتمع في شخصه المصور والنحات والمعماري والمهندس والموسيقي ورجل العلم، حتى إن المُطّلع اللبيب على كتاباته وآثاره الفنية وابتكاراته العلمية، يستشف بوضوح ولع الفنان الواضح بالمعرفة وشغفه بالبحث العلمي.
 
كان مركز والده، موثق العقود الشاب سير بييرو، لا يتناسب والنشأة البائسة لأمه كاترينا، ولذلك فقد انتُزع الابن غير الشرعي من أحضان أمه، ليربى في منزل الأب. وقد اهتم فرويد اهتماماً بالغاً بهذه الأوضاع التي أحاطت مولد ذلك العبقري وأجرى عليها دراسات تحليلية مسهبة.
 
ومع ذلك، فإن ليوناردو المثقف في عهد النهضة الإيطالية، لم يكن يعرف اللاتينية، وكان يصف نفسه بقوله إنه «رجل بدون ثقافة أدبية»، لكن هذا الوصف لا ينطبق على شخصية ليوناردو الذي كتب كثيراً وقرأ الكثير من مؤلفات معاصريه ومؤلفات الأقدمين التي نشرت بالإيطالية.
 
استخلص الدارسون لشخصية دافنشي، من واقع ذوقه، وميوله للرسم والتخطيط، أنه كان فناناً يتردد كثيراً في استخدام الكتابة، وقد يبدو ذلك صعب التصديق، عندما تُستعرض مخطوطاته التي لا تقتصر على الرسوم، ولكنها تشتمل كذلك على أعداد لا حصر لها من الملاحظات، التي أمكن بوساطتها معرفة آرائه فيما يتعلق بالكثير من الموضوعات، والفنون الجميلة والرياضيات والميكانيكا وعلم طبقات الأرض والكونيات والبصريات وغير ذلك. ومن الظواهر الأخرى التي انفرد بها دافنشي أن كل ملاحظاته مكتوبة بخط عكسي (مرآوي)، أي إنها لا تقرأ إلا من خلال مرآة.
 
تعلم ليوناردو الفن على يد أستاذه الكبير فيروكيو، وسرعان ما صار الرسامَ الرئيس في مشغله، ويروي فازاري كيف صور ليوناردو الملاك الجاثي في لوحة تعميد المسيح، وكيف روّع الأستاذ بجمال الصورة، فتخلى الأستاذ عن الرسم ليخصص جهوده للنحت. وفي مرسم فيروكيو تمرن ليوناردو على صقل ميوله المتنوعة، بدءاً من تصوير رافدات المذبح والمأطورات Panneaux، وانتهاء بالنحت النصبي على البرونز والرخام. وفي عام 1472 انضم إلى الجمعية الأخوية للمصورين في فلورنسة.
 
ترك دافنشي محترف أستاذه في عام 1478 ليستقل في محترف خاص به. كان أول عمل كُلفه ولم يتمه رافدة مذبح كنيسة بالاتسو فيكيو Palazzo Vecchio، كما ينسب ذوو الاطلاع إلى الفتى ليوناردو: لوحة «مادونا بينوا» Madone benois، (نحو عام 1478، متحف الإرميتاج، سان - بطرسبورغ)، و«البشارة» (نحو عام 1475، متحف الأوفيس، فلورنسة)، وصورة «جينفرا بنشي» Genevra Benci (عام 1481، الصالة الوطنية، واشنطن)، و«القديس جيروم» غير المنجزة (نحو عام 1481، متحف الفاتيكان).
 
التحق ليوناردو نحو عام 1482 بخدمة دوق ميلانو بلودفيك سفورتسا Sforza للعمل في الهندسة الشاملة، والعمارة، والأعمال المائية، وفن حصار المدن وتخطيطها. ولم يكن امتهان الفن لديه إلا طريقة من طرائق كثيرة أخرى لاكتشاف العالم، وإخضاع المعرفة للتجربة العملية. وقد اتسمت بداية المرحلة الميلانية بطابع بالغ الأهمية في الجودة وغزارة الإنتاج: «عذراء الصخور» بنسختيها (الأولى منفذة نحو عام 1483، في متحف اللوفر، والثانية نفذت بين عامي 1503 و1506، في المتحف الوطني بلندن)، وقد امتازت هذه اللوحة، إضافة إلى التكوين الفراغي الخاص جداً، باستخدام المنظور الهوائي بأصالة، والمعروف باسم سفوماتو Sfumato أي الضبابية الموحية بالغور، إذ تتدرج الظلال في رقة ويسر من الفاتح إلى القاتم، مما يضفي على الأشكال لمسة شاعرية غير مسبوقة.
 
وفي لوحة «العشاء السري» التي رسمها بين عامي 1495 و1497، وهي رسم جداري كبير المساحة لتزيين حجرة طعام دير سانتا ماريا دل غراتسه في ميلانو، تعرضت المواد التي اختبرها ليوناردو في هذا الأثر النفيس (تامبرا مع البيض على طبقة سميكة جداً) لمشكلات جمة في صيانتها. كان موضوع اللوحة جليلاً فاخراً، ولكنه كان من وجهة نظر الفنان محفوفاً بالمخاطر. وقد أعد ليوناردو للرسل عدداً لا يحصى من الرسوم التحضيرية التخطيطية، رسوم بلغت من الرقة والقوة درجة لا تضارعها إلا رسوم رامبرانت[ر] وميكلانجلو[ر]، وبما أن ليوناردو مفكر وفنان معاً، فقد كان يتجنب التصوير على الجص لأنه لا يتفق مع رويته وتفكيره، وذلك بأن التصوير على المواد الطرية وعلى الجص الموضوع تواً لابد من أن يكون سريعاً قبل أن يجف. وكان ليوناردو يفضل التصوير الزلالي على جدار جاف، أي التصوير بألوان ممزوجة بمادة هلامية، لأن هذه الطريقة تتيح له فرصة التفكير والتجريب، ولهذا فإن الطلاء بدأ يتقشر ويتساقط في أثناء حياة ليوناردو نفسها، وباستخدام أكثر تقانات الترميم إتقاناً ومهارة، وفق برنامج امتد بين عامي 1977 و1999، أمكن الكشف عن الألوان الأصلية والتفاصيل الخفية. لا يمثل العشاء السري فقرة من فقرات الأناجيل، ولا يحكي قصة من قصصها، ولكنه سعى إلى إشراك المشاهد في موقف خاص أثاره حدث جمعي في حالة محددة. حتى إن استخدام المنظور الخطي هنا ما جاء إلا عن قصد ذي معنى، ودليل نقد لقواعد التصوير ومنهجه الرائج والمألوف.
 
بدا ليوناردو إبان إقامته المديدة في ميلانو مجتهداً واسع النشاط، إذ ترك كثيراً من اللوحات والرسوم (فقد معظمها)، ومخططات للمسرح، ولويحات معمارية، ونماذج لقبة الكاتدرائية في ميلانو، كما عهد إليه بتنفيذ مشروع «الفارس» وهو نصب عملاق من البرونز تمجيداً لفرانشيسكو سفورتسا Francesco Sforza. شرع ليوناردو دراسة تشريح الحصان وحركاته وطبيعته، فرسم للحصان مئة صورة تخطيطية، ثم راح يصنع نموذجاً له من الجص انتهى العمل فيه بين عامي 1493-1494، ولم يبق إلا أن يصب التمثال من البرونز، وعُرض النموذج على الجمهور، ودهش الناس من ضخامة حجمه ومن روعته، فقد كان الحصان وراكبه يعلوان في الجو ستة وعشرين قدماً، وأنشأ الشعراء قصائد يتغنون فيها بمدحه، ولم يكن أحد يشك في أن التمثال حين يصب سيفوق في قوته ومطابقته للحياة آيات الأولين جميعاً، ولكنه لم يُصَب، وتُرك النموذج في العراء ليتخذه الجند الفرنسيون، الذين استولوا على المدينة وطردوا حاكمها،هدفاً لهم، فحطموا قطعاً كثيرة منه.
 
العودة إلى فلورنسة
 
 
دافنشي: «جينفرا بنشي» (1478)
 
 
 
دافنشي: «الموناليزا أو الجوكندة» 
 
(1503-1506)
 
قصد الفنان، الذي كانت شهرته قد ذاعت في كل أوربة، أسرة إيست في مانتوا، ولكنه لم يستقر هناك، ثم التحق في عام 1502 بخدمة سيزار بورجيا، القائد العام للبابا ألكساندر السادس، وأشرف بوصفه معمارياً ومهندساً رئيساً، على الأشغال الجارية في حصون الأراضي الكنسية في وسط إيطاليا.
 
بقي ليوناردو في فلورنسة حتى عام 1506 حيث صور لوحتين من أجمل لوحاته، هما «القديسة آن» و«الموناليزا» أو «الجوكندة» (1503- 1506، متحف اللوفر) التي تعد من أكثر اللوحات شهرة في العالم، إذ اجتمع فيها نبض الحياة، وعمق الفكر، وسحر غامض، ومسحة من حزن، وابتسامة ساخرة، ونظرات ناعسة مبللة بالدموع، وجفنان ينم ما تحتهما على حساسية مرهفة وأعصاب رهيفة تحجبها بشرة رقيقة. كما عهدت إليه الولاية تصوير معركة أنغياري Anghiari لتزيين غرفة جلوس الهيئة الحاكمة، فطلب ميكلانجلو أن يكلف هو أيضاً تزيين الجانب المقابل، وقبلت الهيئة عرضه، لأن ليوناردو كان بطيئاً.
 
ومن الغريب أن ليوناردو أوفى بالتزامه، وقدم الرسم التحضيري في الوقت الملائم، وعندما قارب العمل على الانتهاء بعد طول عناء في رسم الجند والجياد المتصارعة بالألوان المتوهجة في تكوين هندسي متميز، راح يفكر بتقانة تجفف الألوان اللزجة التي تجذب التراب والحشرات، فأشعل ناراً ذهبت بالعمل وبالآمال معاً. وهكذا كان ليوناردو ضحية فضوله في الاكتشاف والاختراع، ورغبته في تقديم تقانات جديدة تقف والمألوف على طرفي نقيض، ومع ذلك فإن عالم الفن اليوم يدين للفنان الكبير روبنز[ر] بتخليد اللوحة التالفة في لوحة زيتية نقلاً عن رسوم ليوناردو التحضيرية.
 
تنقل ليوناردو في أكثر من مكان قبل انتقاله إلى روما ليعيش بين عامي 1514-1516 في حماية البابا ليون العاشر، فأقام بقصر بلڤدير Belvedere بالفاتيكان مكرساً جل وقته لتجاربه العلمية، وفي عام 1516 عاد إلى فرنسة والتحق بخدمة فرانسوا الأول، ليمضي الأيام الأخيرة من حياته في قصر كلو - لوسيه بالقرب من آمبواز حيث توفي في الثاني من أيار.
 
ارتكزت نظريات ليوناردو العلمية، كما ابتكاراته الفنية، على الملاحظة الدقيقة والتوثيق الدقيق، ومع ذلك فإنه لم يترك بحثاً متكاملاً بخط يده، إذ اقتصر إسهامه على ملاحظات جمعت في دفاتر عدة.
 
يقال إن ليوناردو مهندس قبل أن يكون أي شيء آخر، وإنه في كل يوم كان يصنع نماذج ويضع رسوماً لنقل الجبال وشقها في يسر، ويستعين على جر الأحمال الثقال بالروافع، ويبتكر الوسائل لتنظيف الموانئ ورفع الماء من الأعماق، ويصمم أول مدفع آلي، وآلات لنقل الحركة ولف المعادن وتدويرها، وقاعدة متحركة لآلة الطباعة، ويقضي نصف حياته يفكر في مشكلة طيران الإنسان، فدرس حركات أجنحة الطير وذيولها، والطرق الآلية لارتفاعها وانخفاضها، ووضع عدة رسوم لآلة لولبية يستطيع الإنسان إذا ضغط عليها بقدميه أن يحرك جناحيها بسرعة تكفي لارتفاعه في الهواء.
 
يقول ليوناردو: «ليس ثمة حقيقة مؤكدة، إذ لا تستطيع تطبيق أي من العلوم الرياضية أو العلوم الأخرى التي تستند إلى الرياضيات»، هذا الرأي يدلل على الدرجة التي تحرر بها من عقلية القرون الوسطى، وعلى كونه من أكثر رجال عصره معرفة، وكل ما في الأمر، أن طبيعة تفكيره لم تكن لتقوده إلى اكتشاف العموميات التي هي من سمة عظماء الرياضيين، بل كان يستخدم الأدوات الهندسية، أكثر من اهتمامه بالمفهومات والقواعد، فهو القائل: «إن جنة العلوم الرياضية هي الميكانيكا» كان شديد الاهتمام بالحركة، وبقوانين التوازن، كما كان يهتم بالاحتكاك وبالقذائف. كانت القوة المحركة لمياه القنوات والأنهار تبدو له عنصراً من عناصر التقدم التي يمكن استغلالها والإفادة منها.
 
في مجال الرسم، اهتم ليوناردو، بدرجة كبيرة، بالدورة الدموية وبالرؤية، وحاول أن يتفهم آليتها. وكان يريد أيضاً أن يتمكن من تمثيل الطبيعة بأقصى قدر من الأمانة في لوحاته ورسومه، الأمر الذي جعله يتوصل إلى ملاحظات عدة في العلوم الطبيعية، سواء فيما يتعلق بعلم وظائف الأعضاء، أم بالنبات في المناظر الطبيعية. واهتم أيضاً بالتشريح الإنساني والحيواني، إذ قدم توضيحاً للمخ والعضلات والأعضاء في أجمل صورة، مع دقة تعبير رائعة بالنسبة لعصره، ومع أن كثيراً من تصميماته قد فقد أو تلف، إلا أن ما بقي منها يتجاوز الثلاثة آلاف رسم لأجهزة متباينة في ميادين الهندسة المدنية والحربية والعلمية كالأفران والساعات والمضخات والسفن. بل لقد ذهب إلى حد تصميم جهاز للكشف تحت الماء، ورسم مشروعات للغوص، وعوامات، وغواصات. ومما يجب ذكره أيضاً آلاته الحربية: مدافع متعددة الطلقات بقذائف أسطوانية، وعربات الهجوم التي تجرها الجياد، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى.
 
إن عالم الطاقة النووية، ورحلات استكشاف الكواكب، لم تعزل دافنشي «الرجل الشمولي» في عالم الآثار القديمة، بل ستظل أمجاد هذا العبقري حية، فهو الذي كتب يوماً يقول: «العلم هو القائد، وهو التطبيق، وهو الجنود».
 
فائق دحدوح 

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث