للاتباعية في الموسيقى تفسيران متداخلان معنى وتعبيراً. والاتباعية أصلاً مصطلح عام لأسلوب منهجي كتبت موسيقاه في حقبة خلفت عصر الباروك[ر] Baroque وسبقت عصر الإبداعية[ر] romanticism، أي منذ الربع الثالث من القرن الثامن عشر حتى نهاية الربع الأول من القرن التاسع عشر. ويبدأ هذا العصر، الموصوف بالعصر الذهبي، مع هايدن Haydn، ويستمر مع موتسارت، وينتهي مع بتهوفن[ر] Beethoven، ويعد الثلاثة من أساطين هذا العصر، في إطار الثقافة الموسيقية «الفيينوية» (نسبة إلى مدينة فيينة). إضافة إلى بعض الموسيقيين الإيطاليين مثل بوكّريني[ر] Boccherini وكلمنتي Clementi وفيوتي Viotti وبعض الموسيقيين الفرنسيين مثل غريتري Grétry وميول[ر] Méhul. ويعد بعض النقاد عام 1760 فاصلاً بين الباروكية والاتباعية، ونقطة تحول في فن الموسيقى. ففي هذا العام، انتقل هذا الفن إلى بداية عهد هايدن ومدرسة مانهايم Mannheim الشهيرة بفرقتها الموسيقية المتكاملة- وقتئذ- وخطوات موتسارت الموسيقية الأولى، وأعمال غلوك[ر] Gluck في الأوبرا، ووفاة كل من هندل[ر] Handel قبل عام، وباخ[ر] Bach قبل عشرة أعوام، فكان أن توافرت لروح التحديث آنذاك، معالم فنية جديدة ساعدت على إنشاء أسلوب حديث يناسب المطالب الروحية الخاصة بعصر جديد. وفي الموسيقى، كما في الأدب، أطلق مصطلح «الاتباعية» بعد «الإبداعية» التي كانت سبباً في ظهور الأولى. وبعد غوته Gothe، أثار هذان المصطلحان «الاتباعية» و«الإبداعية»، المتقابلان في الموسيقى، مشاعر الأدباء والفنانين ولاسيما الكتاب منهم.
تتميز الموسيقى الاتباعية من الموسيقى الشعبية الفولكلورية أو الخفيفة Light Music أو غيرها من الأشكال الموسيقية الأخرى، بالأناقة والتركيب والالتزام. فهي موسيقى غريبة في أسلوب علمي جاد يكون هدفها الأعلى تحقيق بناء موسيقي تغلب فيه المهارة الفنية في الفكر والإحساس والصيغة والبناء والانسجام[ر] harmony والتعبير في السير اللحني في قوة وبساطة، واستخدام الإيقاعات غير المعقدة، وفي التوازن والوضوح، وكل ذلك في بناء متكامل وتناسق متوافق. وفي الطرف المقابل تقع الإبداعية التي تؤكد التعبير الخاص عن الشعور والإحساس الإنساني الذاتي الذي هو هدف رئيس فيها. وقد وجدت هذه العناصر في الاتباعية تعبيرها الأسمى في موسيقى الآلات، وإن كانت قد ظهرت مفاهيم مماثلة سابقة في الأوبرا عند غلوك ثم مع موتسارت وبتهوفن وكيروبيني[ر] Cherubini وسبونتيني Spontini.
واتخذت الاتباعية معنى آخر أيضاً غير مرتبط بالعصر الذي جاء فيه، وأصبحت تطلق على الأعمال الموسيقية الجادة التي استقرت مع الزمن دليل على جودتها وقيمتها الفنية المستمرة سواء أتت في الزمن الذي سبقها أم في العصور اللاحقة.
وقد سبقت الاتباعية أساليب فنية تعد جديدة على عصر الباروك، وقد أخذت هذه الأساليب بالظهور قبل منتصف القرن الثامن عشر. وكان الأسلوب المتعدد الأصوات «البوليفوني»[ر. الانسجام] Polyphony الذي ساد عصر الباروك، وبلغ أوجه في أعمال باخ وهندل، وقد مهد السبيل إلى ظهور اتجاهات فنية جديدة تتيح للطبقات الشعبية الوسطى، التي زادت أهميتها، الاستمتاع بالموسيقى بدلاً من حصرها في قصور الملوك والنبلاء. ولم تعد الجماهير تحرص على الفخامة في حياتها الأدبية والفنية والاجتماعية، بل أصبحت تقتنع بالبساطة والإقلال من التعقيد في التعبير، واتباع أساليب أقل تكلفاً. وازدادت الرغبة أيضاً في الحصول على أشياء تتميز بالدقة والصقل. فلم يعد الموسيقيون مثل كوبران[ر] Couperin الفرنسي، وتيليمان Telemann الألماني، وسكارلاتي[ر] Scarlatti الإيطالي، ويتقيدون بالتركيبات الصوتية الأفقية، كالقواعد «الطباقية» Counterpoint الصارمة للعصر الباروكي، بل تحرروا منها وأصبحت الخطوط اللحنية تعتمد التوافقات الصوتية العمودية «الانسجامية»، وأدخلوا عليها زخارف لحنية متنوعة في أسلوب منمق اتسم بالرشاقة في التعبير عرف باسم «الأسلوب المتأنق» galant style، وكما أسماه كارل فيليب إيمانويل باخ[ر] C.P.E.Bach أحد أبناء باخ[ر] الكبير بـ galanter stil بالألمانية، أو «الروكوكو» rococo للتشابه بين هذين المصطلحين في التزيينات والزخارف التي تميزت بها بعض الفنون التشكيلية آنذاك. فكان هذا الأسلوب الجديد، وما فيه من سحر ورقة ورشاقة، همزة وصل بين الباروكية والاتباعية، ومرحلة تنظيمية انتقالية بين عهدين مختلفين. وهكذا، لم تكن الاتباعية اتجاهاً مفاجئاً، ولكنها اتخذت شكلها النهائي في العصر الذي سمي باسمها.
كان من خصائص العصر الاتباعي وبروز معالمه ما عرف في عالم الموسيقى بمذهب مدرسة فيينة، إذ كانت فيينة مركز الإشعاع الفني طيلة ذلك العصر. ولم يكن الأمر في النمسة، مقصوراً على دعم البلاط الإمبراطوري للفن والفنانين. فقد كانت هناك فرق موسيقية خاصة في قصور الأمراء والنبلاء وكبار الأثرياء، وكان الموسيقيون يعيشون داخل هذه القصور يكتبون موسيقاهم ويعزفونها تلبية لرغبة أصحابها، منهم: هايدن وموتسارت وبتهوفن. وقد توافرت في تلك المرحلة عوامل عدة، مثل وفرة المواهب الموسيقية، وافتتان الطبقات العليا في المجتمع النمسوي بالموسيقى، وشدة التنافس بين الأمراء في مدى تفوق فرقهم الموسيقية الخاصة، واستخدامهم أشهر المؤلفين والعازفين وقادة الفرق الموسيقية لديهم. وكان ذلك مما ساعد على توطيد الحركة الموسيقية، ولاسيما الآلية منها، إضافة إلى تطوير صناعة الآلات الموسيقية، فحل البيانو[ر] Piano محل الأرغن[ر] Organ والكلافسان Clavecin أو harpsichord وأصبح الآلة المثلى من بين الآلات من ذوات لوحة الملامس Keyboard التي استقطبت الموسيقيين في كل مكان. وكذلك تطورت صناعة آلات النفخ الخشبية والنحاسية منها. وهكذا تركز اهتمام المؤلفين الموسيقيين، في العصر الاتباعي، ولاسيما في النمسة وألمانيا، على الموسيقى الآلية. فكانت السوناتا[ر] sonata، التي زحزحت الفوغة[ر. الصيغ الموسيقية] fugue عن عرشها التقليدي في العصر الباروكي، من أبرز الصيغ الموسيقية الآلية التي اتصفت الاتباعية بها مع ضروب أخرى مقترنة بها مثل: الحوارية[ر] «الكونشرتو» concerto، والسمفونية[ر] Symphony (وتعد سوناتا لفرقة موسيقية كبيرة)، وأصناف أخرى من موسيقى الحجرة Chamber music مثل: الثلاثية trio، والرباعية quartet (وهي من أهمها)، والخماسية quintet وغيرها، إضافة إلى الافتتاحية[ر] overture، واللحن الرئيس theme وتنويعاته variations، وسادت هذه النماذج من الصيغ الموسيقية القرن التاسع عشر بأكمله، أما في إيطالية، فكانت الموسيقى الغنائية، ولاسيما الأوبرا، مركز الاهتمام مما أدى إلى إغفال شأن الموسيقى الأوركسترالية، إذ لم يصادف الفن السمفوني فيها الاهتمام حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي فرنسة عامة، وباريس خاصة، كان الاهتمام كبيراً بالأوبرا[ر] والبالية[ر] Ballet, وقد تميزت الحياة الموسيقية الفرنسية آنذاك بإيثارها المسرح، وبتخلفها في عالم الإبداع السمفوني حتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر.
إضافة إلى مدرسة فيينة، كانت قد نشأت مدرسة موسيقية ألمانية في مدينة مانهايم، نحو منتصف القرن الثامن عشر، بزعامة شتاميتس J.Stamitz وكانت مدرسة مانهايم هذه بموسيقييها الألمان والبوهيميين، قد أسهمت بجهد كبير في تطوير الأداء الموسيقي الآلي، والارتقاء بمستوى الكتابة الأوركسترالية، وقد برزت في هذه المدرسة عدة صفات في مقدمتها الاعتماد على آلة الكمان[ر] violin في أداء الألحان الرئيسة في الأوركسترا، والتركيز على أسرة هذه الآلة من «الوتريات» Strings مجموعة رئيسة في الفرقة الموسيقية، وزيادة عددها على عدد آلات النفخ والإيقاع في الأوركسترا الواحدة، والتلوين الأدائي، مثل تبدل درجات شدة الصوت في الارتفاع والخفوت، والبطء والسرعة في الحركة، وتضمين السير اللحني بعض السكتات، والاستغناء عن طريقة استخدام «الباص المرقّم» figuered bass التي كانت سائدة في عصر الباروك، واتباع أسس التآلفات الانسجامية.
وهكذا، استطاع شتامتس أن يجعل من أوركسترا مانهايم أبرع الفرق الموسيقية في أوربا، في ذلك العصر، أداءً وتعبيراً، وأن يسهم في تطوير الأسلوب الأوركسترالي السمفوني مع زملائه مثل ريختر (F.X.Richter (1709-1789 وفيلتس (A.Filtz (1730-1760، وكانابيخ( Ch. Cannabich (1731-1798، ولم يكن أساتذة مانهايم الوحيدين في تعبيد الطريق للموسيقى الأوركسترالية. فقد أسهم موسيقيون أوربيون آخرون في عملية التطوير الموسيقي ومهدوا الطريق لموسيقى الآلات ومنهم: ألبينوني (T.Albinoni (1671-1750 الإيطالي، الذي جاء قبل نصف قرن تقريباً من هايدن، وألف السمفونية من أربع حركات، مستخدماً الأسلوب نفسه الذي جعل منه هايدن أساساً للعمل السمفوني. وكان سامارتيني (Sammartini (1701-1775، الموسيقي الإيطالي الآخر، الذي جعل من مدينة ميلانو مركزاً مهماً لدراسة الموسيقى، خير ممهد لمدرسة فيينة، وهايدن، الذي كتب نحواً من ألفي عمل موسيقي، وتتلمذ لـه عدد كبير من الموسيقيين من جنسيات أوربية مختلفة مثل: غلوك الفرنسي، ويوحنا كريستيان باخ أحد أبناء باخ الكبير الألماني، وموتسارت النمسوي. وكان رامو[ر] J.Ph.Rameau الفرنسي، الذي عاصر ألبينوني، قد ترك أيضاً أثراً كبيراً في عالم الموسيقى بنظرياته في أسس الانسجام.
حسني الحريري
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث