تعتمد بلغارية ألحانها الشعبية أساساً ومنطلقاً لموسيقاها في كل حقبها التاريخية. وما تزال الموسيقى البلغارية الحديثة تستقي من التراث القديم للشعبين التراقي والسلافي اللذين هما من أقدم الأعراق البلغارية. وعندما اعتنق البلغار الديانة المسيحية عام 865م استلهم غناؤهم الديني ألحانهم الشعبية، وكانت موسيقاهم مجموعة من الأناشيد الدينية البيزنطية، وكان الأخوان الراهبان السلافيان كيريل Kiril وميتودي Methodi أول من ترجم نصوص تلك الأناشيد إلى اللغة السلافية، كما أنهما قاما بتأليف أناشيد دينية جديدة. وافتتح تلامذتهما مدارس لتعليم الغناء وتدوين الموسيقى وترجمة الأغاني وتأليف الأناشيد الدينية وإنشاء الجوقات الغنائية في الكنائس. وعندما توسعت الامبراطورية البلغارية، انفصلت كنيستها عن القسطنطينية، إلا أن بيزنطة عادت فأخضعت بلغارية عام 972 حتى احتلال الأتراك لها عام 1396. وكانت الموسيقى البيزنطية سائدة في بلغارية، وأدخل الراهبان كيريل وميتودي الشعائر الدينية الأرثوذكسية إلى البلاد فغدت جزءاً لا يتجزأ من الثقافة البلغارية التي بدأت تنعتق من مثيلتها البيزنطية وتتوسع داخل البلاد وخارجها. وأقيم دير بلغاري للرهبان في جبل آتوس Athos (في اليونان) ونشأت مدارس موسيقية في بعض المدن البلغارية، وشاعت أعمال الموسيقي البيزنطي الشهير آنذاك، يوهانس كوكوزيليس J.Kukuzelis (القرن 14م) الذي عُد بلغارياً بسبب مؤلفاته الموسيقية الدينية البلغارية.
وإبان الحكم العثماني لبلغارية، وضعت البلاد ـ من الناحية الدينية ـ تحت رعاية بطريركية القسطنطينية وأصبحت اليونانية لغة الإنشاد في الكثير من الكنائس البلغارية. إلا أن بعض الرهبان الذين لجؤوا إلى بعض الأديرة خارج البلاد، وخاصة إلى روسية، حافظوا على الإنشاد الديني البلغاري الطابع. وانقطعت بلغارية عن العالم الثقافي الغربي، مما حال دون تطور الموسيقى الجادة العلمية فيها، وبقيت الموسيقى الشعبية ثروة البلاد الأساسية. وبسبب اختلاف طابع الموسيقى الشعبية البلغارية عن الموسيقى الأوربية الغربية، فإن الموسيقى البلغارية تمتاز بالألحان الحية المتسلسلة النغمات، وبالإيقاعات اللامتماثلة التي سماها المؤلف الموسيقي الهنغاري بارتوك[ر] Bartók، «الإيقاعات البلغارية». وقد تستخدم الألحان البلغارية في بعض الأحيان (تعدد الأصوات) «البوليفونية» Polyphony [ر.الانسجام] بطريقة عفوية ذات تزيينات مختلفة في أساليب أوربية قديمة.
وترافق الأغاني الشعبية البلغارية آلات موسيقية[ر] مختلفة مثل «الغايدة» gaida الشبيهة بآلة مزمار الجراب، و«الكافال» kaval التي تشبه الناي العربي، و«الغودولكا» godulka أو «الغوسلا» gusla ذات الثلاثة أو الأربعة أوتار ويعزف عليها بوساطة القوس، و«البلغارية» أو«البَيْلما» baylama التي تشبه العود الصغير، وآلات إيقاعات رِقِّية متنوعة. أما أنواع الرقص فهي كثيرة جداً وهي ذات حركات نشطة وصعبة الأداء.
أخذت الموسيقى البلغارية تتجه نحو التطور في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وشاعت طباعة الأغاني الشعبية. وقام العالم الموسيقي البلغاري فاسيلي ستويين (1880- 1938) W.Stoin، عام 1926، بافتتاح متحف موسيقي في مدينة صوفية، ونشر نحو عشرة آلاف أغنية شعبية سجلها على آلات خاصة. ونشأت الموسيقى الجادة بعد أن تعرّف البلغار جوقات الجيش الروسي المحرر لبلادهم، وقيام بعض الموسيقيين التشيك بتأسيس فرق موسيقية عسكرية وممارسة مهنة التعليم الموسيقي. وهكذا أخذ الغناء الجوقي يتطور في المدارس والكنائس والمنشآت الخاصة لهذا الغرض. وتأسست، عام 1926، «جمعية الجوقات الشعبية»، وصارت عام 1953 «جمعية الغناء البلغاري» التي جمعت أغاني شعبية جديدة بعناية فيليب كوتيف (1903-) Ph.koutev.
وقف موسيقيو الجيل الأول البلغار نشاطهم على التعليم الموسيقي، وتأليف الألحان الشعبية وفق الأسلوب الغربي ومنهم: إيمانويل مانولوف (1860- 1902) E.Manolov الذي درس الموسيقى في موسكو وصار أول قائد فرقة موسيقية عسكرية وطنية، وألّف أول أوبرا بلغارية، وبايانو بيبكوف (1871-1942) P.Pipkov الذي درس في إيطالية وكتب أول أوبريت operette [ر.أوبرا] بلغارية للأطفال. وكان دوبري خريستوف (1875-1941) D.Christov، وهو تلميذ دفّورجاك[ر] Dvorak التشيكي، منظّراً وباحثاً موسيقياً، وألف نيكولا أتاناسوف (1886-1969) N.Atanassov أول سمفونية بلغارية. أما جورجي أتاناسوف (1881-1931) الملقب بالمايسترو (تلميذ مؤلف الأوبرا الإيطالي ماسكانيي[ر] Mascagni) فقد كتب ست أوبرات، وشكّل في صوفية بعد عام 1916، حفلات موسيقية عزفت فيها أنواع الموسيقى الاتباعية[ر] والإبداعية[ر] العالميتين. وساعد نشاط مغني الأوبرا كونستانتين ميخايلوف ـ ستويان (1856-1914) K.Michailov-Stojan في إنشاء دار للأوبرا عام 1904 صارت فيما بعد «دار الأوبرا الوطنية». وكانت قد أنشئت عام 1908 مدرسة موسيقية خاصة في صوفية غدت فيما بعد مدرسة حكومية. وتبع ذلك إنشاء مدارس ومعاهد موسيقية كثيرة منها «الأكاديمية الوطنية للموسيقى» (عام 1922)، و«المعهد الموسيقي» في أكاديمية العلوم (عام 1948). كما أنشئت «أوركسترا صوفية الوطنية» (عام 1926) التي تحولت إلى «الأوركسترا الفلهارمونية الحكومية» (عام 1944).
وحافظ موسيقيو الجيل الثاني على صلتهم بالموسيقى البلغارية الشعبية مع محاولة تجديدها مثل بتكو ستاينوف (1896-) P.Stajnov الذي درس في ألمانية وأصبح داعية لموسيقى ما بعد الرومنسية، وأندري ستويانوف (1890-1969) A.Stojanov الذي كتب أغاني من نوع الليد Lied [ر.الأغنية] وقطعاً موسيقية كثيرة للبيانو، وليوبومير بيبكوف (1904ـ1974) L.Pipkov الذي درس على يدي المؤلف الموسيقي الفرنسي بول دوكا[ر] P.Dukas وألف الكثير من الأوبرات والسمفونيات وموسيقى الحجرة ضمّن بعضها المبادئ الاشتراكية.
وحاول موسيقيو الجيل الثالث مواكبة الركب الحضاري الموسيقي الغربي مع محافظة بعضهم على طابع الموسيقى الشعبية مثل: ألكسندر رايسيف (1922-) A.Rajcev، وكونستنتين إلييف (1924-) K.Iliev، وسيمون بيرونكوف (1927-) S.Pironkoff. ومن أشهرهم: أندريه بوكورشلييف (1925-) A.Boucourechliev الذي هاجر إلى باريس ونال الجنسية الفرنسية وأصبح شهيراً في فرنسة مؤلفاً وناقداً وعالماً موسيقياً، وكانت معارفه الموسيقية قد تطورت نتيجة دراساته حول الموسيقى الحديثة «الموسيقى النسقية» أو «التقنية المسلسلة» serial technique، واتصالاته بـ«الشبيبة الموسيقية الإيطالية»، ومع المؤلف الفرنسي بيير بوليه P.Boulez. وتأكدت شهرة بوكورشلييف في مجموعته المتسلسلة «أرشيبيل» Archipels الأولى (1967) المؤلفة لاثنتين من آلة البيانو مع الإيقاع كتبها في أسلوب الموسيقى «الاحتمالية» aléatoire [ر.الموسيقى]. كما نال الجائزة الكبرى لمدينة باريس (عام 1976)، وصار أستاذاً في جامعة «إكس في بروفانس» Aix-en-Provance. وألّف أيضاً ثلاثة كتب حول حياة كل من المؤلفين الموسيقيين العالميين: بتهوفن وشومان Shumann وسترافنسكي Stravinsky.
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
أبحاث