يعد أوديلون ريدون Redon Odilon، المصور والرسام والحفار والرسام بالألوان المائية والطبّاع الحجري lithographe، من أعظم الفنانين الفرنسيين الرمزيين.
أمضى أبوه القسم الأكبر من حياته «نازحاً» طلباً لجمع الثروة، فدرج الابن وترعرع في رعاية عمه. يدين ريدون، بمصدر إلهامه، إلى انطباعات طفولته الهشة والخاضعة إلى الذات في أجواء بيرلباد Peyrelebade المسكونة بالأشباح في تخوم ميدوك Medoc واللاند Landes المحفوفة بالغابات البرية والمستنقعات. فكان في كل عام، حتى سنة 1899، يعود إلى موطن طفولته الذي صار، فيما بعد، موطن إبداعه، ليتمارى ويتأمل ذاته عبر جذوره.
أوديلون ريدون: «الدرع» (1891)
بدأ ريدون الرسم بمساعدة غوران الذي زرع فيه حب آثار كورو[ر]، ودولاكروا[ر] وغوستاف مورو[ر]. وبعد تردده في تحديد ميوله واستعداداته هجر دراسة العمارة والنحت والتحق بمرسم جيروم فصدمته جهالة الأستاذ، فهجره ليتتلمذ على يد الفنان برسدان Bresdin الذي ترك فيه كبير الأثر. وراح ريدون يتعلم تقانات الحفر والطباعة الحجرية، ولكن شخصية برسدان النافذة وتعاليمه والأصداء التي أثارتها في نفسه أعمال الأستاذ الفنية، وجهته كلياً نحو فن حر، بعيداً عن المذهب الطبيعي وتقاليده الرسمية، فن يعبر عن رؤى الفنان الذاتية وتفسيره الخاص للحلم. إن أعمال الحفر بالماء القوي التي عرضها في صالات العرض في بوردو، ورسومه بقلم الرصاص، وأعمال الفحم الأولى مثل «دانتي وفرجيل»، و«في الحلم»، و«إلى إدغار بو»، و«البيت المسكون بالأرواح»، و«تحية إلى غويا» تظهر مدى تأثره بأستاذه، وتضعه في عداد الإبداعيين (الرومنسيين)، وتحدد مكانته في الفن المعاصر.
«الخيال والحلم أعظم أهمية للفن من تمثيل الطبيعة على طريقة الانطباعيين» تلك هي الرسالة التي تركها ريدون الذي آلى على نفسه أن يضع «الواقع المرئي في خدمة اللامرئي»، عالم سحري يهيمن فيه الخوف من القوى الغامضة، ورؤى غريبة انتشرت، عبر الطباعة الحجرية والرسوم الفحمية التي كان يدعوها «السوداء»، إلى ما وراء الحدود الفرنسية، ومنحت الفنان تقدير مقتنيي اللوحات المستنيرين، والكتّاب الرمزيين، والجيل الجديد من المصورين الفرنسيين أمثال غوغان[ر]، وإميل برنار، والأنبياء Les Nabis.
في سن العشرين ذهب الفنان إلى باريس، وبعد سنوات عشر التحق بالجيش وحارب البروسيين. وفي سن الأربعين تزوج بفتاة من المستعمرات. وفي مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر، ومع تغلبه على قلقه وسوداويته، تغير كل شيء في حاله، إذ انتهت المرحلة المظلمة وانتهت معها اللوحات السوداء والطباعة على الحجر والرؤى الغامضة التي تضمنتها، وغدت ألوان لوحاته براقة باهرة ذات أجواء جذابة فاتنة.
أوديلون ريدون: «روجر وأنجيليك» (1910)
لما عجز الجمهور، كما النقاد، عن الإمساك بالعلاقة بين مظهري نتاجه الفني المتغايرين، فقد شعبيته. ولكن المعارض التي أقيمت له، فيما بعد، وما نشره النقاد عنه، أسهما في رد الاعتبار له، ووضعاه في المكان الذي يستحقه، إذ رأى المستنيرون فيه فنان رؤى وواهب الحركة السريالية[ر] بعض مظاهرها.
في عام 1886، وجهت إليه الدعوة للمشاركة في معرض جماعة في بروكسل، والذي كان منطلقاً للطليعة العالمية avant garde، وسرعان ما فتحت صالات العرض أبوابها لاستقبال أعماله، وتوافد محبو جمع اللوحات لاقتناء كل ماينتجه، في فرنسا وبلجيكا وهولندا وسويسرا حتى أمريكا. وللدفاع عن أعماله دوّن أفكاره حول سيرته الذاتية، ونُشرت بعد وفاته بعنوان «إلى الذات» وقد عُد هذا المؤلَّف، لمزاياه الأدبية والفنية، واحداً من أكثر الوثائق تميزاً وشعبية.
بدأت مرحلة إبداع جديدة عندما قارب الستين من عمره، تميزت بتطلعه إلى الخارج، فسافر إلى بريطانيا، والشاطئ اللازوردي، وهولندة، وسويسرة، وإيطالية، وشارك في معارضها بلوحاته الزيتية والطباشيرية pastel، وقد تجلت فيها مهارته في مزج الألوان. وبلغ في أعماله الغرافيكية[ر] مملكة المخيلة وأسرارها، إذ أسلم قياده كما كان يقول: «إلى قوانين خفية، دفعتني إلى الخلق والابتكار وفق أحلامي، ووهبتني أشياء وضعت فيها كل ذاتي». وقال أيضاً: «ولكن تصويري الآن قادني إلى الإمساك بعجائب العالم المرئي»، وعالمه المرئي هذا ليس مملكة للوهم، بل هو مصدر للإيحاء والإشارات الخفية والسرية أحياناً.
ندى خباز
المراجع
موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث