(1908ـ 1970)
ولد أحمد عثمان في القاهرة، ويعود أصله إلى منطقة بلاد النوبة، تخرج في مدرسة الفنون والزخارف بالحمزاوي عام 1926، والتحق ببعثة متحف بنسلفانيا الأمريكية رساماً ليسجل الآثار المكتشفة في فلسطين، ثم أوفد في بعثة إلى روما عام 1927 لدراسة فن النحت، وعاد منها عام 1933، ثم اشتغل بالتدريس في كلية الفنون التطبيقية عام 1936، وفي عام 1937 عُيِّن رئيساً لقسم النحت في كلية الفنون الجميلة في القاهرة، ثم عميداً لكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1957.
كان أحمد عثمان رائداً من رواد النحت العربي المعاصر، وأستاذاً من أهم المربين الذين خرَّجوا أجيالاً في فن النحت في كل من مصر والأقطار العربية، إذ اجتمعت في شخصه أهم الخبرات الميدانية في مجالات التربية والتعليم، وتطوير آفاقها في ميادين التصنيع.
تتسم أعمال النحات أحمد عثمان بطابع الحياة الشعبية في الريف المصري بكل ما فيها من بساطة وعفوية وصدق في اختيار الأشخاص والملابس وتعابير الوجوه وحركات الأيدي والسواعد مع الأدوات التي يحملونها، حتى في تفاصيل ملامح الوجوه: العيون والأنف والشفاه وبروز الخدين وعرض الفكين من الأسفل، مما يرسخ فكرة التأثر بملامح المرأة المصرية الفرعونية القديمة.
أحمد عثمان:«نزهة» (1950)
إن أهم ما يميز فن أحمد عثمان هو قدرته على التوفيق بين طرفي المعادلة الصعبة: التراث والمعاصرة، وقد عرف طبيعة تراثه ومكانته فأعجب به، وحاول أن ينفرد بأسلوب خاص به وحده، مستمداً أصول النحت والقيم التشكيلية الثابتة والأساسية من التراث المصري العريق. وكان من أبرز القواسم المشتركة بين أعماله النحتية والنحت المصري القديم هو المحافظة على تماسك الكتلة، والابتعاد عن الفراغات في تناوب الحجوم بين الكتلة والفراغ في أكثر أعمال النحت المعاصر.
ورغم رسوخ الخامة المستخدمة وتماسك كتلتها، وثباتها على الأرض من القمة إلى القاعدة، فقد اشتغل أحمد عثمان في سطح هذه الخامة، فحرك السطح بخطوط انسيابية ومساحات لينة ومتماوجة ومتماسكة ومتكاملة، مستخدماً الموضوعات الإنسانية ذات الطابع الشعبي والمحلي والبيئي الذي يقدم صورة واقعية مشرقة عن حياة الإنسان في مصر في مزاولة حياته اليومية، بملابسه البسيطة المألوفة، وحركة الأيدي وتعابير الوجه العفوية والصادقة والمتكاملة مع الحركة التي تدل على مغزى التمثال ومضمونه، إضافة إلى استثمار بعض التفاصيل التجميلية مثل: الأواني الفخارية، وشعر المرأة، والبرقع الذي يغطي نصف وجهها وقد زركش بالخطوط والتجاويف الصغيرة التي تدل، بمقارنتها مع الكتلة الثابتة والصماء، على ذكاء الفنان وبراعته في التوفيق بين الكتلة الكبيرة الثابتة والصماء التي لا يخترقها الفراغ، والعناصر الزخرفية التي تزين سطحها، فأكد بذلك جمالية الاثنين معاً, وهذا غير موجود في النحت المصري الفرعوني القديم.
درس أحمد عثمان أيضاً علاقة الملابس بالجسد، واهتم برشاقة الخطوط وانسيابية المساحات وربطها بين مختلف أعضاء الجسد: الرأس والرقبة والصدر والساعدين والأصابع، ونجح الفنان باستثمار الوشاح الرقيق والشفاف الذي يغطي الفلاحة المصرية من رأسها حتى معصميها، مروراً بالصدر والساعدين، فأظهر مفاتن الجسد على نحو مقبول ومحتشم دون أن يؤثر في وقار الكتلة النحتية الراسخة في الأرض، باعتماده التبسيط وحركة الأيدي والأصابع، واستبعاد التناظر والتكرار، وتجاوز الكثير من التفصيلات ولاسيما في العيون والأنف والشفاه التي تستشف من تحت البرقع الشفاف.
وقد لخص أحمد عثمان مجمل خبراته النحتية في أعمال النحت البارز داخل دار الأوبرا المصرية تخليداً لذكرى الريحاني ومحمد تيمور وغيرهما، إذ أوحى بالبعد الثالث دون إظهاره بمجموعة من العلاقات النحتية البارزة، وقد تجلى هذا الإيحاء في اللوحة الجدارية التي وضعتها الدولة في مدخل برج القاهرة، ويلاحظ فيها ما يسمى بالمنظور القصير في النحت، أي إن الكتلة تبدو من الأمام بأبعادها الثلاثة وكأنها مستمرة في العمق، فيتخيل المتلقي حركة الساعدين أو الأرجل أو أي عضو من أعضاء جسم الإنسان أو الحيوان، تلك الحركة التي تبدأ بارزة أمام العين ثم تغيب عموديّاً في عمق اللوحة النحتية الجدارية.
ومن أهم أعماله لوحات النحت البارز في دار الأوبرا، وقناع توت عنخ آمون الذهبي الذي أهدته الحكومة المصرية إلى متحف ميونيخ، وتمثال أحمد شوقي ومحمد زكريا، وتمثال النزهة في حديقة السباحة في هوليوبوليس بالقاهرة، وترميم تمثال رمسيس الثاني في باب الحديد بالقاهرة، وتجميل برج القاهرة بلوحة نحت بارز، وقد حاز الجائزة الأولى في معرض بينالي الاسكندرية الدولي لأعماله في النحت المصري المعاصر.
للفنان أيضاً أعمال محفوظة في متحفي القاهرة والاسكندرية، وتمثال «سرس الليان» ويرمز إلى العلم والصحة، وواجهة نادي الضباط.
وأنجز أحمد عثمان أكبر عمل حضاري في تاريخ مصر الحديث، إذ وافقت منظمة اليونسكو على مشروعه دون غيره، وتبنت طريقته في نقل آثار معبد «أبو سنبل» إلى هضبة مجاورة ارتفاعها 200م حتى لا تغمرها مياه السد العالي، وكان ذلك في عام 1958م، ونفذته اليونسكو بنشر المعبدين بطريقة المنشار السلكي المتبع حاليّاً في المحاجر.
ولم يصل أحمد عثمان إلى هذا الحل إلا بعد أن درس كيف كان الفنان المصري الفرعوني القديم يصنع المسلات وينقلها بوساطة آلية طوعت الأحجار البازلتية الثقيلة الضخمة ونقلتها من مكان إلى آخر بيسر وسهولة.
شُغل أحمد عثمان، إلى جانب إنتاجه الفني، بتأسيس كلية الفنون الجميلة وإنشائها بالاسكندرية، وبذل في سبيلها كل طاقته، مع اهتمام خاص بالتراث المصري القديم، فشارك في تطويرها وصوغ رسالتها بحيث تجمع بين الدراسات الفنية الخالصة والتعليم الحرفي المهني، وتعميم فنون النحت في المرافق العامة وفي الأماكن والحدائق والمؤسسات كافة، على غرار مدرسة الباوهاوس في ألمانيا وبعض معاهد الفن الأكاديمية والحرفية في فرنسا وإيطاليا وأمريكا.
وبعد أن أحيل على التقاعد عُيِّن أول عميد لمعهد ليوناردو دافنشي في القاهرة، وفي نهاية الشهر الحادي عشر من عام 1970م اصطدم القطار الذي يقله في محطة الاسكندرية وكان الضحية الوحيدة بين ركابه أحمد عثمان.
غازي الخالدي
المراجع
موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث