إن فكرة المركزية الديمقراطية فكرة صاغها لأول مرة نظرياً وطبقها عملياً ماركس وإنجلز في بناء ونشاط اتحاد الشيوعيين والأممية الأولى، ثم طورها ومارسها لينين في عصر ثورة البروليتاريا. ويفيد القاموس السياسي أنها «مبدأ أساسي في البناء التنظيمي للحزب الشيوعي السوڤييتي»، وقد أصبحت بعد ذلك مبدأً أساسياً لكل الأحزاب الشيوعية في العالم والأحزاب الثورية تحت مسمى آخر هو الديمقراطية المركزية خوفاً من أن يفهم من التعبير السابق أن هنالك خللاً فيه يقود إلى طغيان المركزية واستبعاد الديمقراطية وقمع الرأي الآخر، وذلك من أجل التأكيد والتركيز بأنه مفهوم بحاجة دائمة إلى التطوير المستمر وفقاً للظروف وبما يعزز الديمقراطية فيه.

الهدف من المبدأ

 
تعدّ المسألة التنظيمية من أهم المسائل التي تواجه الأحزاب الثورية باستمرار، ويعدّ الاهتمام بها والنجاح في تطبيق أصولها من أهم الشروط اللازمة لقيام تنظيم سياسي قوي يمارس كامل نشاطاته على أساس من الوحدة التنظيمية المدعمة بالوحدة الفكرية، والسياسة المركزية الديمقراطية تشكل العمود الفقري لبناء الوحدة التنظيمية لهذه الأحزاب.
 
الانتماء إلى الحزب هو انتماء طوعي واختياري، وذلك يعدّ من الديمقراطية ومظهراً من مظاهرها، وهي تترسخ وتتعمق من خلال الحزب ذاته، فهو يمارس نشاطه على أسس تكفل إطلاق المبادرات الثورية لجميع هيئاته ومنظماته وأعضائه على أوسع مدى، والديمقراطية تعطي الحق للعضو مناقشة سياسة الحزب وتفسح المجال لوضع رأيه فيها وتطبيق تجربته عليها ويوضح ما يراه من نواحي صوابها وخطئها، فهي تعطيه الحق في ممارسة حق التعبير الحر عن الرأي وتحقيق أوسع مشاركة في حياته.
 
أما المركزية فتعني أن الاتجاه العام لسياسة الحزب تضعه الهيئات القيادية العليا فيه، وهي التي تشرف على تنفيذ هذه السياسة وحسن تطبيقها، وهي المسؤولة بالدرجة الأولى عن كل تعديل يدخل عليها، فالهدف من المركزية هو توفير وحدة التنظيم ووحدة الاتجاه، ووحدة أشكال العمل والنشاط وأساليبها، ومنع كل مظاهر الانحراف عن سياسة الحزب وعن وحدته التنظيمية والفكرية والسياسية، وضمان الالتزام والانضباط وعلى سائر المستويات في تنفيذ سياسة الحزب العامة، فالمركزية تكرس مبدأ التمركز في بنيان الحزب الفكري والتنظيمي والسياسي، وتراعي مبدأ الالتزام والانضباط الحزبي.
 
لا يتعلق تطبيق مبدأ المركزية الديمقراطية في حياة الأحزاب بالناحية التنظيمية فحسب، بل يتعداها ليشمل كل مظاهر البناء الحزبي، وإن ممارسة هذا المبدأ على نحو صحيح يُعدّ الشرط الأهم لبناء الحزب وتربية أعضائه وتثقيفهم وتكوين الملاكات القائدة وتطويرها واختبارها، وهو شرط لاستمرار حياة الحزب واستمرار نشاطه بين الجماهير، فروح وجوهر هذا المبدأ يتجلى بتحقيق وترسيخ وحدة الإرادة والعمل فيه وبذل المزيد من النشاط والحيوية لتقوية بنيان الحزب وتعزيز صلته بالجماهير وزيادة نفوذه في أوساطها، وانعدام ذلك المبدأ في صفوف الحزب يؤدي إلى انعدامه بين الجماهير، وبالتالي إلى انقسامه وتفككه وبعثرة إرادته الحقيقية المعبرة عن إرادة الجماهير، وبالتالي الافتقاد إلى أهم سبب لوجوده.
 
المركزية الديمقراطية هي حركة جدلية بين نقيضين
 
إن المركزية والديمقراطية مفهومان لبناء الحزب وأسلوب نشاطه، وهذان المفهومان متعارضان ومتحدان في آن معاً. إن كلاً منهما يعارض الآخر ولكن في الوقت نفسه يتممه ويشكل معه وحدة لا يجوز فصل أحد طرفيها عن الآخر، لأن الحرية التي يعبر عنها بالديمقراطية لا غنى عنها ولأن النظام والالتزام والانضباط الذي يعبر عنه بالمركزية لا غنى عنه أيضاً، فالديمقراطية تكفل حرية أعضاء الحزب وتفسح المجال أمامهم لممارسة حقهم في المناقشة والاقتراح والنقد الذاتي وانتخاب القيادة التي تعبر عن إرادة الحزب وتتحمل المسؤولية. أما المركزية فهي ضرورة ثورية يمليها الحرص على وحدة الحزب تنظيمياً وفكرياً وسياسياً وعلى تعزيز السلطة المركزية فيه بما يمكنها من بناء الحزب  وقيادته وتنفيذ استراتيجية ومقررات مؤتمراته، على أن تكون تلك المركزية هي نتاج تحقيق الديمقراطية وإجراء انتخابات حرة وواعية.
 
إن تطبيق هذا المبدأ وتحقيق الديمقراطية الموجهة في ظل المركزية يشير إلى العلاقة الجدلية والارتباط العضوي بين هذين المفهومين.
 
محاذير غلبة أحد جزأي المبدأ على جزئه الآخر
 
العلاقة الجدلية بين مكوني المبدأ والتعارض في مفهومهما يستدعي الحرص على التوفيق بين مفهومي الديمقراطية والمركزية حيث لا يطغى أحد المفهومين على الآخر، سواء بأن تتحول المركزية إلى ديكتاتورية أو تتحول الديمقراطية إلى نوع من الفوضى أو الثرثرة النظرية.
 
فالديمقراطية يجب ألا تؤدي إلى الفوضى والتسيب والسماح بالدعوة للآراء والأفكار المعادية للحزب أو السماح بوجود تكتلات داخله، همها التعريض بسياسته وممارسة النقد بصورة غير مشروعة، أو ممارسة أعمال التخريب ونشر الفوضى أو البلبلة والتفكك في صفوفه.
 
والتركيز الشديد على المركزية وغلبتها على مبدأ الديمقراطية يجر الحزب إلى وسيلة لفرض ديكتاتورية معينة فيه، أو لفرض أساليب ملتوية وبعيدة عن روح الديمقراطية المركزية وجوهرها، فيضعف الحزب وتتعطل فعاليته ويتهدد وجوده، كما يؤدي التركيز على المركزية إلى ظهور البيروقراطية التي قد تحول المركزية إلى مجرد أداة لإصدار أوامر وتعليمات بعيدة عن روح التفاعل وعلاقة الثقة بين القيادات المتسلسلة وبين المنظمات الأدنى والقواعد الحزبية، وبعيدة عن ممارسة القيادات لدورها الفعلي في حياة الحزب، والذي قد يحول الانضباط والالتزام والطاعة الحزبية إلى مجرد تنفيذ شكلي وطاعة عمياء بعيدة عن روح المبادرة والمشاركة الواعية والنشاط الفعال والعمل الموحد لمجموع الحزب.
 
والتجربة التطبيقية لمبدأ المركزية الديمقراطية تشير إلى طغيان المركزية على الديمقراطية فيه، ولم تستطع الأحزاب الشيوعية تحقيق ذلك التوازن المنشود بين المفهومين على الرغم من أن الفهم اللينيني للمبدأ هو ديمقراطي في أساسه، لذلك تخلت معظم الأحزاب الشيوعية عن هذا المبدأ، وأخذت معظم الأحزاب الثورية كحزب البعث العربي الاشتراكي[ر] به بصورة الديمقراطية المركزية للتأكيد على تعزز الديمقراطية فيه، فالديمقراطية هي التي يجب أن تحرك وتفعّل العمل الحزبي والجماهيري لا المركزية التي يقتصر دورها في الحفاظ على وحدة بناء الحزب.
 
       نطاق تطبيق المبدأ في الأسس التي يقوم عليها
 
المركزية الديمقراطية تعني نظرياً احترام حرية العضو في المشاركة في حياة الحزب ومصيره، والانتخاب الواعي للقيادات العليا من القواعد، مقابل تحمل تلك القيادات المسؤولية الحزبية أمام مؤتمراتها، كما تعني أن رأي الأكثرية هو رأي الحزب مع احترام كل من هؤلاء لرأي الأقلية، وتؤدي إلى ضرورة الالتزام الحزبي، وكل خروج عن ذلك يعرض المخالف للمسؤولية الحزبية. إلا أن التجربة التطبيقية لهذه الأسس التي يقوم عليها المبدأ جعلت بعضهم يشكك في صحته، فغالب التجارب التطبيقية ـ وخاصة في الأحزاب الشيوعية التي أعطت أهمية كبيرة للانضباط الصارم فيه نتيجة للظروف التي تعرضت لها عند نشأتها واستلامها السلطة ـ أدت إلى تغليب المركزية على الديمقراطية مما جعل بعض المفكرين يقول إن مشكلة هذا المبدأ تكمن في البند الذي ينص على إلزامية قرارات الهيئات الأعلى بالنسبة إلى الهيئات الأدنى في ظل شكل التنظيم الهرمي الذي يحرّم نقل الآراء التي لا تنسجم مع الرأي السائد أفقياً، ويسهّل إيصال الرأي الأوحد من الأعلى إلى القاعدة، ويسمح صورياً فقط بنقل الرأي الآخر من القاعدة إلى القيادة، أي إن المبدأ يحمل في طياته ميلاً إلى المركزية أكثر مما يحمل ميلاً إلى الديمقراطية، فأكثر الناس سماحة وديمقراطية وخيرة من المناضلين الشيوعيين تحولوا بعد أن تبوؤوا مراكز القيادة وخاصة بعد استلام السلطة إلى ديكتاتوريين وفقدوا ثقة شعوبهم. فهذه المركزية المفرطة سواء في الحزب أم في إدارة الدولة والاقتصاد إنما شكّلت أحد أهم أسباب انهيار تلك الأحزاب.
 
في حين يرى آخرون أن الخلل ليس في المبدأ بل في عدم الفهم الواعي لمكوناته مما أدى إلى سوء تطبيقه، وهنا يجب القول إنه من الضروري التشديد على التوازن والتفاعل الخلاق بين مكونيه، فلا يوجد تنظيم ما، حزبياً كان أم مؤسسة أم دولة، يمكن أن يكون فاعلاً ومؤثراً من دون أن يكون له مركز يقوده. والمهم كيف يتشكل هذا المركز وكيف تصاغ التوجيهات التي ينفذها وما هي الآليات التي تضمن مراقبة عمله، وإن تطوير الديمقراطية المستمر وتكوين الآليات الواقعية والممكنة في ظروف كل بلد، هي المسؤولة عن حماية الحزب من أن يتحول إلى بيروقراطية مدمرة تودي بحياته، والديمقراطية هذه يجب أن تفرضها الشعوب على النخب الحاكمة في المجتمعات والأحزاب، لذلك تم التأكيد على أن الديمقراطية هي التي يجب أن تحرك وتفعل المركزية وليس العكس، وتم تقديم أولوية الديمقراطية على المركزية في الأحزاب الثورية غير الشيوعية، ومع ذلك يمكن القول إن العبرة في المضمون والممارسة أكثر من التسمية الشكلية للمفهوم. 
 
 
 

المراجع

موسوعة الأبحاث العلمية

التصانيف

الأبحاث