انتشرت الزخرفة العربية محمولةً على المخطوطات والقطع الفنية المتنوعة، وأطلق عليها اسم أرابيسك Arabesque، وهو مصطلح يعني النسبة إلى عربي، ولقد اعتُمد هذا المصطلح للدلالة على الأشكال المجردة أو المحورة عن الواقع، والتي يبتكرها الصانع في رسمه أو نقشه أو حفره، مستوحاة من الجمالية العربية. ويقابل هذا المصطلح بالعربية كلمة «الرقش العربي» وفي اللغة رقَشَ تعني زوّق الكلام والصيغ، رسمها محسنة مزينة، أي نمّقها. ويختلف هذا الفعل عن فعل «رَقَنَ» أي زين الكتاب بالرسوم والصور الواقعية المبسطة. والترقين illustration يختلف عن النمنمة[ر].
 
محراب الجامع الأموي الكبير في دمشق 
 
 
ينتسب هذا الرسم العربي إلى الفنون التشكيلية الإبداعية ضمن نطاق النزعة التجريدية التي توسع انتشارها مع الحداثوية في هذا العصر، ويعتقد بريون M.Brion «أن التجريدية في الفن الحديث أخذت معينها من الرقش العربي، أي الزخرفة العربية. 
 
استعملت كلمة أرابيسك للدلالة على الخطوط الانسيابية المنغّمة في الرسم التشبيهي، كما فعل ماتيس Matisse المصور الفرنسي، واستعملت في رقص الباليه للدلالة على حركة إحدى الرجلين مشكلة في الفضاء حركة انسيابية متناغمة أيضاً، واستعملت الكلمة في الموسيقى بهذا المعنى كتشبيه لإيقاع النغم بخطوط الرسم العربي. 
 
التجريد تعبير عن المطلق 
 
لم تكن التجريدية في الفن الإسلامي نتيجة التحريم كما يرى بعض الباحثين، بل إن التجريد إرثٌ تشكيلي قديم، ولكنه في الإسلام أصبح أكثر انسجاماً مع العقيدة التوحيدية التي تحذر من رسم الكائنات الحية، خشية مضاهاة الله بمقدرته على الخلق كما في الحديث الشريف «إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله». 
 
اتجه الفنان المسلم بنظرته الحدسيّة إلى الكشف في الرقش عن الجوهر الكوني المطلق الذي لا يقبل التجزئة ولا التباين، ويتم الكشف بإزالة الجوانب الحسية العرضية عن صورة الإنسان وعن صورة الطبيعة على السواء، إذ إن الجوانب الحسية تعوّق الحدس عن إدراك غايته في الجوهر الحق، بل تصرفه إلى التعلق بالمظاهر الواقعية والمكانية، فتجعل الرسم حسياً مرتبطاً بالغرائز والميول وليس بالمثل والقيم. 
 
وتلاقى هذا الاتجاه التجريدي في الرقش العربي مع اتجاه التجريد في الفن الحديث، ولكن، مع اختلاف في المبدأ والقصد، فالتجريد العربي يرمي إلى التعبير عن المطلق، أما التجريد الحديث فهو يقصد إلى التعبير عن «اللاشيء» كما يذكر سوفور Sophor. وكثيراً ما هبط التجريد الغربي إلى مستوى العبث، بينما يتطلع الرقش العربي إلى الجوهر فهو ثمرة التوق الإسلامي. 
 

دلالات الرقش

 
صحن مصري يتوسطه طيران متقابلان على خلفية نباتية وهندسية وحيوانية 
 
 
يرتبط الرقش العربي بالحدس أي الإدراك الحسي، وبالتعالي والإطلاق، ولا يعني هذا أنه فن ديني طقوسي، وإنما هو صيغة من صيغ التعامل مع الواقع، صيغة غير مادية تعتمد على حرية الفنان في قراءة الواقع قراءة حدسية، ونقله بصيغة جمالية مجردة. 
 
وبالمقابل ليس الرقش مجرد عملية تحلية وتزويق، بل إنه حامل لشيفرات رمزية، وبهذا يقول غرابار Grabar: «إن الالتجاء إلى الرقش هو انتقال إلى مستوى القيمة الثقافية للعمل الفني، إذ يلغي العلاقة بين الشيء المرئي ودلالته العادية ومعناه المتداول».
 
ويكمن وراء الصورة الظاهرية للرقش نسق كامل من الإشارات التي تُعرض تاركة حق التأويل، أي إن ثمة معاني كثيرة في الرقش العربي تنتظر تفسيرها، مما يعطي التجريدية في الرقش قيمة تعبيرية غير محددة. 
 
تبدو دلالات التجريد في الرقش العربي واضحةً في أسلوبين سار الرقش في مسارهما، الأسلوب الأول هو «التوريق» ويقوم على تأويل النبات من أغصان وأوراق وزهور مختلفة الأنواع تأويلاً يصل إلى حدود الصيغ الرمزية، وقد تمادى الفنان للوصول إليها بالخروج عن الواقع للاكتفاء بالصورة الجمالية التي أتقن نسيجها برشاقة وتناسق، وبتكرار الفنان لهذه الصيغ بإلحاح إيقاعي ينتظم نبض الابتهال والتبتل. وكثيراً ما ربط النقاد هذا التكرار «بالذكر الصوفي»، كما يقول بيرابين Biraben: «إن الصيغة المكررة المتخيلة أو المنفذة في الرقش تثير الشعور بأبدية الانطلاقات والعودات ممثلة بذلك علاقة الظاهر بالجوهر، مما يقترب من ممارسة الذكر». 
 
والأسلوب الثاني، ويطلق عليه اسم « الخيط»، يعتمد على الأساس التشكيلي للأشياء، وهو أساس يبدو رياضياً لاعتماده على الأشكال الهندسية، المثلث والمربع والمخمس، ولكن هذه الأشكال تصير في الرقش العربي أوعية لمضامين رمزية لا تخلو من معانٍ قدسية أو صوفية أو وجودية. 
 
وسواء أكان الرقش نباتياً أم هندسياً فإنه يبقى محاولة للتعبير عن ملكوت الخالق والإيمان به، فهو أقرب إلى التبتل الجمالي منه إلى التزويق المجاني. 
 
ولكن إذا كان نظام الرقش الهندسي قد تشابك وفق إسقاطات الأشعة البصرية الكونية، فإن الرقش النباتي يتطلع من خلال رموز الطبيعة، إلى الوصول إلى الفردوس الأرضي والمتعة الجمالية. ويجب أن لا يفهم من ذلك أن الرقش العربي ممارسة صوفية، بل هو رسم يتسامى على النسبية والتحديد والتشبيه، كما أنه ليس ممارسة رياضية علمية، بل هو تشكيلات روحية إبداعية خالصة من التشبيه والتشيّؤ (تحويل الرمز إلى شيء). 
 
وإلى جانب الدلالات المعنوية في الرقش العربي، تقف دلالات جمالية متميزة تؤكد المعنى الأساسي للفن الإبداعي، فهو يعكس مقولات جمالية فنية مثل: الجميل، واللطيف، والرائع، ومقولات قيمية، مثل: البساطة، والنعومة، والشفافية، واللطافة، وثمة مقولات موسيقية كالإيقاع والشاعرية، فالرقش العربي هو لغة خاصة تحمل أعمق المعاني وأرقاها، ثم هو كالشعر يحمل كل خصائص الوزن والإيقاع واللحن. 
 
النجمة في الرقش الهندسي 
 
من روائع الزخرفة الإسلامية 
 
 
من روائع الزخرفة الإسلامية
 
 
اعتمد الرقش الهندسي على الأشكال الأساسية المجردة لتكوين نجمة سداسية أو ثمانية أو عشارية، فمن تعارض مثلثين تشكلت النجمة السداسية تعبيراً عن الكون المؤلف من السماء ممثلاً بالمثلث وقاعدته في الأعلى، ومن الأرض ممثلاً بالمثلث وقاعدته في الأسفل. 
 
ومن تعارض مربعين تشكلت النجمة الثمانية، تعبيراً عن الكون المؤلف من مربع يمثل الجهات الأربع، ومن مربع يمثل العناصر الأربعة: الهواء والماء والتراب والنار، وفي كلٍ من النجمتين تمتد الأضلاع متشابكة لكي ترسم أشكالاً هندسية متنوعة بين مجموعة من النجوم المتلاحمة. ويُرى في هذا النسيج المتشابك بل المتداخل تعبير عن موقف الإنسان من عالم غيبي مطلق، عالم متوازن متناغم. ولكن عندما يخرج هذا النسيج عن أن يكون مجرد خيط هندسي، لكي يصبح مساحات لونية من الأحجار الملونة أو الأصبغة، أو من التنزيل الخشبي والصدفي والمعدني، فإنه يتم الحصول على لوحة فنية متحركة جابذة ونابذة، محمولة على أطياف ألوان تتحاور لتؤلف تشكيلاً جديداً. 
 

من روائع الزخرفة الإسلامية

 
 
وعندما يكون هذا التشكيل خلفية لسلسبيل ماء فإن الحركية المستمرة تتجاوز روعة الفن البصري الذي يمارسه فنانو الحداثة اليوم. 
 
وفي تفسير النجمة في الرقش الهندسي يقول بيرابين: «يعاني الرقش العربي (الأرابيسك) همَّ البحث عن الوحدة، ويلاحظ ذلك في التكوينات الإشعاعية (النجوم) فهي إشعاع نابذ وجابذ بوقت واحد، وفي الحالتين فإن هذه التكوينات تنطلق من الجوهر الواحد، وتعود إلى الجوهر الواحد». 
 

بين الرقش والخط العربي 

 
كثيراً ما يدخل الخط العربي في صيغ الرقش، بل ثمة أواصر قديمة بين الخط المُزوي (القائم على شكل زاوية) والرقش الهندسي من جهة وبين الخط اللين والرقش النباتي من جهة أخرى، ويعد الخط العربي فناً تشكيلياً إبداعياً أيضاً، على الرغم من محموله البياني، وكثيراً ما يُرى مع الرقش العربي حروف وكلمات تداخل تكوينها التشكيلي مع الرقش، فأصبحا لحمة واحدة ذات دلالة رمزية أحياناً. وقد تحدث عبد الكريم الجيلي عن دلالات الحروف العربية، كما تحدث ابن مقلة والتوحيدي عن أشكال الحروف وعلاقتها بالتشكيل الفني. 
 
ويقف الرقش في نقطة التقاء الخط العربي بالتصوير، فالخط هو تجويد في رسم الحروف والكلمات التي تحمل معاني محددة، والتصوير رسم لأشكال تمثل حدثاً أو مشهداً أو كائناً، ويبقى الرقش محصلة الفنين، فهو مآل الخط وقد انتقل من حمل المعنى إلى تمثل صورة، ثم هو مآل الصورة وقد انتقلت من حمل الواقع إلى الاندماج بالجوهر. 
 

بين الرقش والزخرفة 

 
انتشر الرقش العربي محمولاً على جدران العمارة وعلى صفحات المخطوطات وعلى سطوح الأواني المنقولة، وهو فن إبداعي محصور بالشكلين الهندسي والنباتي. ومع أن الرقش يزيد السطوح جمالاً ورونقاً، فهو ليس مجرد زخرفة تزويقية، لأنه يعبر عن خصيصة تشكيلية تعتمد الجمالية الإسلامية، وتبقى الزخرفة نشاطاً تشكيلياً يعني التزويق والتنميق حصراً ولا يخص الفن الإسلامي وحده، بل هو شائع في جميع الفنون التطبيقية في العالم، ومن هنا كان لا بد من التمييز بين الرقش والزخرفة[ر] على الرغم من خطوط التلاقي بينهما، ولاسيما فيما يتعلق «بملء الفراغ» في نسيج الزخرفة والرقش، وقد فسر ذلك تفسيراً خاطئاً عندما قرر أحد المستشرقين أنه محاولة للهروب من عبث الشيطان أن يحتلَّ الفراغ في الصورة. والواقع أن سبب ملء الفراغ هوسعي الفنان الرقاش خاصة لتأكيد الصورة المثلى بصيغة جميلة شفافة، فالخط الممتد سرمدياً والمتمثل بالتوريقات، والخيط الهندسي والتكرار، هو خط اللانهاية الذي يرسمه الفكر التوحيدي. 
 
عفيف البهنسي

المراجع

موسوعة الأبحاث العلمية

التصانيف

الأبحاث