علم المستحاثات paleontology، أو علم الأحافير (مفردها أحفورة)، علم أساسي من العلوم الجيولوجية لا يقل أهمية عن دراسة صخور الأرض ومعادنها وفلزاتها والعوامل المؤثرة فيها. تتألف كلمة paleontology في الأصل من ثلاثة مقاطع يونانية وهي logos وontos وpalaios وتعني ترجمتها علم الكائنات القديمة. يدرس هذا العلم، كما تدلّ هذه الترجمة، الكائناتِ الحية التي عاشت في الأزمنة الجيولوجية التي سبقت العصر الحالي من خلال دراسة هياكلها وأصدافها وقواقعها وانطباعات أجزائها الرخوة التي انحفظت في الصخور الرسوبية على شكل مستحاثات fossils.
وكلمة مستحاثة في اللغة العربية مشتقة من كلمة أحاثَ الأرضَ واسْتحاثَها أي أثارَها وطلبَ ما فيها واستحاثَ الشيءَ حرّكه (القاموس المحيط)، واستحاث الشيءَ استخرجه، وعلم المستحاثات هو علم استخراج ما في باطن الأرض من مطمورات (قاموس المنجد).
أشار إلى وجود المستحاثات عدد كبير من الجيولوجيين على مر العصور، بعضهم عدّها في البداية من ألاعيب الطبيعة، وأنّ التشابه بينها وبين هياكل الكائنات الحية وقواقعها وأصدافها ما هو إلاّ مصادفة محضة. غير أنّ بعضهم الآخر عرف طبيعتها الحقيقية وبيّن أنّها هياكل أو قواقع الكائنات الحية البائدة وبقاياها التي كانت تعيش في الأزمان الغابرة في البحر وعلى البر، وحُفظت بعد طمرها ضمن صخور رسوبية بحرية أو قارية المنشأ تكوّنت في أحواض مائية قديمة أو بعد طمرها بسرعة على البر بمواد صخرية.
ويبدو أنّ إنسان كرومانيون Cro-Magnon الذي عاش قبل نحو 20 ألف سنة اكتشف المستحاثات وجمعها واستخدمها منذ أقدم عصور ما قبل التاريخ. فقد عُثر على عقد مؤلّف من قواقع جوراسية، عمرها أكثر من 135 مليون سنة، محفوظ على عنق هيكل عظمي لأحد أفراد هذا الإنسان.
لم يتّخذ علم المستحاثات منهج العلم الذي يُعرف اليوم إلاّ في منتصف القرن التاسع عشر؛ عندما بدأ العلماء بوصف أعداد كبيرة من المستحاثات التي تمّ جمعها ثم تسميتها وتصنيفها. وقد وجد العلماء فيما بعد أمام العدد الهائل من المستحاثات وانتمائها إلى مجموعات مختلفة من الكائنات الحية أنّه من الأنسب تقسيم هذا العلم بحسب المستحاثات التي يدرسها إلى: علم المستحاثات الحيوانية paleozoology أو علم الحيوان القديم، وعلم المستحاثات النباتية paleobotany أو علم النبات القديم. ويمثّل هذان العلمان ما يُعرف بعلم الأحياء القديمة paleobiology. وعلى الرغم من ذلك بقي علم المستحاثات paleontology بمعناه الواسع يدلّ على علم المستحاثات اللافقارية invertebrate paleontology، وعلم المستحاثات الفقارية vertebrate paleontology.
وقد أدّى تطوّر الأجهزة البصرية فيما بعد إلى ظهور فرع جديد في بداية القرن العشرين سُميّ بعلم المستحاثات المِكروية (المجهرية) micropaleontology. يَستَخدم هذا العلم المكبّرات والمجاهر المختلفة بل أحدث المجاهر الإلكترونية لدراسة ووصف المستحاثات المِكروية والنانوية أو بقاياها التي لايمكن تعرّف خصائصها أو رؤيتها بالعين المجرّدة. وعلى الرغم من أنّ أبواغ النباتات المستحاثة وحبوب إلقاحها تُدرس مع موضوعات علم المستحاثات المكروية إلا أنه أُفرِد لها علم جديد أيضاً يدعى علم حبوب الإلقاح palynology [ر: الطلع (علم ـ)].
أهمية المستحاثات
1ـ المستحاثات وسيلة لتحديد الأعمار النسبية للطبقات الرسوبية، فقد اعتمد تحديد الأعمار النسبية للطبقات الرسوبية في بادئ الأمر على مبدأ التنضيد. فكل طبقة بحسب هذا المبدأ تكون أحدث من الطبقة التي تحتها وأقدم من الطبقة التي فوقها، شريطة أن تبقى الطبقات على وضعيتها الأصلية التي ترسّبت فيها، ودون أن تتعرّض لحركات تكتونية لاحقة قد تقلبها أحياناً رأساً على عقب. واعتماداً على هذا المبدأ يدلّ تتالي الطبقات الواحدة بعد الأخرى على تقدّم الزمن.
طُبّق هذا المبدأ فقط على المناطق التي بقيت فيها الطبقات أفقية أو شبه أفقية؛ أي على المناطق التي لم تتعرّض لحركات تكتونية شديدة كما هي الحال في الحوض الباريزي وحوض لندن والحوض الألماني حيث وضعت أسس المقياس الزمني الجيولوجي. فقد تبيّن في أثناء دراسة التعاقب الطبقي في هذه الأحواض أنّ المستحاثات التي عُثر عليها في مختلف طبقاته تبدي مظاهر حقيقية عن تغيّرها وتطوّرها مع تقدّم الزمن الذي يتمثّل هنا بتتالي الطبقات أو ما يسمّى بالعمود الطبقي. فكل طبقة أو مجموعة من الطبقات تتخصّص بمستحاثة أو بمجموعة من المستحاثات تميّزها من الطبقة أو الطبقات التي فوقها أو تحتها. ولذلك فإنّ المحتوى المستحاثي لكل طبقة هو الذي يُحدّد عمرها النسبي بالنسبة إلى بقية الطبقات، سواء حافظت مجموعة الطبقات على ترتيبها الأصلي أم تعرّضت لتشويه بفعل الحركات التكتونية. ولاتقتصر فائدة هذا المحتوى المستحاثي المحفوظ في الصخور الرسوبية على تحديد عمر الطبقات الرسوبية، وإنما يساعد أيضاً على تعرّف الطبقات التي تحوي المستحاثات نفسَها في الأماكن المختلفة المتباعدة ومعرفة العلاقة بينها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تغيّر أشكال الحياة القديمة مع الزمن كان الأساس في وضع مقياس الزمن الجيولوجي وتقسيمه إلى أحقاب eras، وكان الأساس أيضاً في تسمية هذه الأحقاب، إذ استخدم المقطع zoic ـ الذي يعني الحياة مع صدورٍ prefix مثل paleo ـ ويعني القديم، وmeso ـ ويعني المتوسط، وceno- ويعني الحديث؛ لتسمية حقب الحياة القديمة paleozoic وحقب الحياة المتوسطة mesozoic وحقب الحياة الحديثة cenozoic.
2ـ المستحاثات سجلّ للأحياء البائدة، إذ تمثّل المستحاثات المحفوظة في الصخور الرسوبية سجلاّ للأحياء القديمة التي عاشت على الكرة الأرضية منذ أن حُفظت بقاياها على شكل مستحاثات، أي على الأقل منذ 570 مليون سنة. وهذا السجلّ يتكامل تدريجياً كلّما اكتشفت مستحاثات جديدة.
فالحيوانات والنباتات الحالية التي يدرسها علم الحياة biology لا تُمثّل إلاّ نسبة محدودة من مجموع الكائنات الحية التي ظهرت وازدهرت على الكرة الأرضية. إنّ هذا العلم الأخير لا يُعطي فكرة عن المجموعات الكثيرة التي انقرضت في العصور الجيولوجية المختلفة مثل الغرابتوليتات Graptolites التي انقرضت في الدور الكربوني الأسفل، وثلاثيات الفصوص Trilobites التي انقرضت في نهاية البرمي، والعمونانيات Ammonoids التي انقرضت في نهاية الكريتاسي، والسراخس البذرية Pteridosperms من النباتات التي انقرضت في الجوراسي. وهو أيضاً لا يُعطي فكرة عن عدد أنواع بعض المجموعات التي عاشت في الأزمنة الجيولوجية والتي لا تُمثَّل حالياً إلاّ بعدد قليل ومحدود نسبياً. والأمثلة على ذلك كثيرة يذكر منها عدد أنواع الزنبقانيات[ر] Crinoids المنقرضة الذي تجاوز 5 آلاف نوع، في حين يبلغ عدد أنواعها الحالية نحو800 نوع، وعدد أنواع عضديات الأرجل[ر] Brachiopods المنقرضة الذي تجاوز 15 ألف نوع في حين يبلغ عدد أنواعها الحالية نحو 225 نوعاً. وهذا ما يُلاحظ أيضاً في رأسيات الأرجل[ر] Cephalopods، فعدد أنواعها الحالية لا يتجاوز 300 نوع، في حين يصل عدد أشكالها المنقرضة إلى نحو 10 آلاف نوع. والشيء نفسه ينطبق أيضاً على الزواحف[ر] من الفقاريات[ر] إذ لم يبق من رتبها الكثيرة التي تجاوزت 50 رتبة إلاّ أربع رتب في العصر الحالي.
3ـ المستحاثات برهان على تطوّر الكائنات الحية: لابدّ من أن تذكر أهمية المستحاثات في دعم فكرة التطوّر بما قدّمته وما تقدّمه من براهين ومستندات، ما يدعو إلى لمس التطوّر الذي طرأ على الكائنات الحية الحيوانية والنباتية لمساً واقعياً أقنع جميع العلماء بأنّ التطوّر هو أمر واقع، وكل مناقشة في حقيقته لا معنى لها. إنّ متابعة شريط الأحداث التطورية عبر الأزمنة الجيولوجية مكّنت من رؤية معظم التغيرات التدريجية التي طرأت على الكائنات الحية، فصفوف الفقاريات (اللافكيات والأسماك[ر] والبرمائيات[ر] والزواحف[ر] والطيور[ر] والثدييّات[ر]) لم تظهر دفعة واحدة وإنّما تدريجياً بترتيب تزداد فيه درجة التعقيد والتخصّص. كما مكّنت أيضاً من العثور على أشكال متوسطة ساعدت على ربط أفراد هذه الصفوف التي تظهر في العصر الحالي مختلفة ومتميّزة. فالطائر المستحاث المسمّى الطائر القديم[ر] Archaeopteryx الذي وجدت بقاياه في صخور الجوراسي الأعلى، يبدي صفاتٍ تدلّ على الزواحف، وهذا ما يؤكّد صلة الطيور مع الزواحف. إنّ هذه الأشكال المتوسطة تبيِّن أنّ المستحاثات هي الوسيلة الوحيدة التي تبيِّن العلاقات التطورية بين فصائل الكائنات الحية وأجناسها وأنواعها المختلفة، وتقود إلى إملاء الثغرات في علم التصنيف الحيواني والنباتي. كما تُبرهن على أنّ الأنواع تتغيّر مع الزمن ويشتق بعضها من بعض بتحوّلات تدريجية تدلّ على تطوّرها مع الزمن، فالأشكال المعقدة أتت من أشكال أبسط سبقتها.
4ـ المستحاثات وسيلة لتعرّف البيئات القديمة: إذ تختلف الكائنات الحية الحالية بعضها عن بعض باختلاف البيئات التي تعيش فيها. فكل كائن حي تكيّف ليعيش في بيئة معيّنة محدّدة تُوفِّر له الوسائل اللازمة لحياته وحمايته وتكاثره وحفظ نوعه واستمراره. ويبدو أنّ هذا التكيّف قد اكتسبته الكائنات الحية بصورة مبكّرة منذ نشأتها وحافظت عليه في أثناء تطوّرها. ونتيجة لذلك فإنّ لكل بيئة على سطح الأرض كائنات حيّة تدلّ عليها وتُميزها من غيرها من البيئات.
وكذلك فإنّ الكائنات المستحاثة كلها كانت قد تكيّفت، مثل الكائنات الحية الحالية، للعيش في بيئات قديمة معينة ومحدّدة. ويمكن من دراسة المستحاثات المحفوظة في الصخور الرسوبية ودراسة طبيعة رواسب هذه الصخور تعرُّف البيئات القديمة التي كانت في كل عصر من العصور الجيولوجية. وهذه الدراسة تقود إلى علم البيئة القديمة paleoecology الذي يستخدم المستحاثات لتعرّف البيئات القديمة، ومن دونها تصبح القدرة على فهم هذه البيئات محدودة جداً.
5 ـ المستحاثات وسيلة لتعرّف الجغرافيا القديمة: يمكن الحصول على خريطة جغرافيا قديمة (باليوجغرافية) لمنطقة من المناطق في زمن محدّد من التاريخ الجيولوجي، إذا ما دُرست المستحاثات التي يُعثر عليها في طبقات ذلك الزمن. فإذا ما حدّدت بدقة على خريطة تلك المنطقة البيئات القديمة وما تحويه من مستحاثات بحرية كالقنفذانيات وعضديات الأرجل وغيرها من الكائنات الحية التي كانت تعيش في بحار ذلك الزمن أو على البر، كعظام الديناصورات[ر] أو عظام المستودون (من الفيلة المستحاثة)، أو بقايا النباتات البرية المتفحمة وغيرها من المستحاثات الدالة على البيئة البرية؛ أمكن تعرّف خطوط الشواطئ القديمة وبالتالي تعرّف الجغرافيا القديمة في ذلك الزمن.
ويمكن من دراسة المستحاثات تعرّف المناطق العميقة أو الضحلة من البيئة البحرية في زمن محدّد أو التعرّف على بعض البيئات البرية مثل سهول الفيضان القديمة، حتى البحيرات القديمة، وتحديد حدودها. وقد يؤدّي العثور على أصداف بعض صفيحيات الغلاصم Lamellibranches التي تعيش في المياه العذبة في الرواسب النهرية القديمة إلى تحديد مجاري الأنهار القديمة. وقد يدلّ مزيج من المستحاثات البحرية والبرية على وجود مصب نهر قديم. كما يدلّ انتشار مستحاثات برية تنتمي إلى جنس واحد على طرفي مضيق من المضائق البحرية على وجود الجسور البرية التي كانت تهاجر عبرها الحيوانات البرية من قارة إلى أخرى. ويذكر على سبيل المثال أنّ دراسة توزع المستحاثات على جانبي مضيق بهرنغ الذي يفصل أمريكا الشمالية عن آسيا والذي يبلغ عرضه 80كم وعمق مياهه 50م، يدل على أن هذا المضيق كان جسراً برياً في فترات متعدّدة من حقب السنوزوي، عندما كانت سويات البحر منخفضة، انتقلت عبره الحيوانات البرية. ويبدو أنّ آخر اتصال برّي تمّ بين أمريكا الشمالية وآسيا عبر هذا الجسر كان منذ نحو 15 ألف سنة عندما استخدمه صيادو العهد الحجري عند عبورهم إلى أمريكا الشمالية. إن دراسة المستحاثات دلّت أيضاً على أنّ أمريكا الجنوبية كانت منفصلة عن أمريكا الشمالية في عصر الميوسين (أي منذ 25 مليون سنة) قبل أن تتصلا فيما بعد بأرخبيل بنما في البليوسين الأعلى. إنّ العثور في الرواسب البرمية البحيرية على هياكل الزاحف المائي مزوصوروس Mesosaurus على طرفي المحيط الأطلسي في كل من المناطق الغربية من إفريقيا والمناطق الشرقية من أمريكا الجنوبية يؤيّد نظرية تكتونية الصفائح وانزياح القارات، ويدلّ على أنّ الجغرافيا القديمة (باليوجغرافيا) في العالم كانت مختلفة في الدور البرمي عن جغرافية العصر الحالي، كما يدلّ على أنّ أمريكا الجنوبية كانت ملتصقة بإفريقيا ومشكلة جزءاً من قارة غندوانا، إذ لايمكن لأفراد هذا الزاحف الذي تكيّف للعيش في البحيرات أن يهاجر إلى أمريكا الجنوبية عبر المحيط الأطلسي، وخاصة أنّ هذا المحيط لم يكن قد انفتح بعد في الدور البرمي.
6ـ المستحاثات وسيلة لتعرّف المناخ القديم. هناك طرائق متعدّدة تُمكّن من الحصول على معلومات تتعلق بالمناخ القديم وتغيّره في الأزمنة الجيولوجية المختلفة اعتماداً على المستحاثات. يُذكر منها دراسة أبواغ النباتات القديمة وحبات طلعها التي حُفِظَتْ على شكل مستحاثات في الطبقات الرسوبية المتعاقبة. فهي تُعطي أدلّة واضحة على المناخ القديم، فيما إذا كان دافـئاً أو معتدلاً أو بارداً؛ لأنّ أشكالها تختلف باختلاف النباتات؛ وهذه الأخيرة تختلف باختلاف المناطق المناخية التي تكيفت لها، فكل منطقة مناخية تتميّز بنباتات خاصة بها تميّزها من المناطق المناخية الأخرى. فإذا اختلفت الأبواغ وحبات الطلع في هذه الطبقات المتعاقبة دلَّ ذلك على التقلبات المناخية التي كانت سائدة في الفترات الجيولوجية التي ترسّبت فيها تلك الطبقات.
وتُقدّم أيضا مختلف المستحاثات الحيوانية أدلة على تغيّر المناخ في العصور الجيولوجية المختلفة. فمن المعلوم أنّ الأرصفة المرجانية الحالية، على سبيل المثال، لا تعيش وتزدهر إلاّ في البحار الدافئة التي لا تقلّ حرارة مياهها عن 18 ْس، ويفترض أنّ الأرصفة المرجانية القديمة قد تكيّفت مع هذه الشروط البيئية. فوجود طبقة غنية بهياكل المرجانيات في صخور الجوراسي في شمال أوروبا يدلّ على أنّ المناخ الذي كان يسيطر على هذه المنطقة في الجوراسي كان يختلف عن المناخ الحالي.
بيّنت الأبحاث الحديثة أنّ قواقع بعض أنواع المُنَخْرَبات[ر] Foraminifers المستحاثة تختلف في الحجم أو في اتجاه التفافها اليميني أو اليساري أو في تركيبها الكيمياوي باختلاف درجة حرارة مياه البحار. وقد دلّت الدراسات على اختلاف نسبة الأكسجين 16 إلى نظيره الأكسجين 18 في كربونات الكلسيوم التي تفرزها هذه المُنَخْرَبات لبناء قواقعها حسب الفترات الباردة والدافئة. ويعود ذلك إلى تناقص نسبة الأكسجين 16 في مياه البحار عندما تتحوّل كميات كبيرة من مياه البحار إلى ثلج يهطل على القارات ويختزن آلاف السنين على شكل جليديات. وهذا ما يجعل نسبة الأكسجين 18 في قواقع المنخربات المحفوظة في الطبقات التي ترسبت في الفترات الباردة أعلى من قواقع المنخربات المحفوظة في الطبقات التي ترسّبت في الفترات الدافئة. وقد بيَّنت الأبحاث الحديثة أنّ بعض أنواع المنخربات تكيّف للعيش في المياه الباردة وبعضها الآخر للعيش في المياه الدافئة. ومن هنا تأتي أهمية دراسة المستحاثات المأخوذة من القوارات cores الصخرية المستخرجة من السبور التي تمّ حفرها في قيعان البحار والمحيطات في تعرّف التقلبات المناخية التي حدثت في العصور الجيولوجية وعلى الخصوص عصر البليستوسين من الحقب الرابع.
7ـ المستحاثات وسيلة لتعرّف السويات الطبقية (الستراتيغرافية) المختلفة التي يتوصل إليها الحفر:
تعتمد الجيولوجيا الاقتصادية، عند التنقيب، في السبور، عن المواد المفيدة (المياه والفحم الحجري والنفط والغاز والفوسفات والبوتاس وبعض الفلزات ores المعدنية الأخرى)؛ تعتمد على المستحاثات وخاصة على المستحاثات الميكروية كالمنخربات والصدفانيات (الأوستراكودا). إذ لا يمكن معرفة السوية الطبقية التي توصّل إليها الحفر إلاّ بدراسة المستحاثات الموجودة في الكُسارات cuttings أو القُوارات cores التي تستخرج من السبور. واعتماداً على نتائج هذه الدراسة يُقرّر الجيولوجي متابعة عمليات الحفر أو إيقافها لأنّه يعرف مسبقاً السوية الطبقية التي وجدت فيها المادة المفيدة في المناطق المجاورة. وهذا أمر مهم جداً إذ لا جدوى من متابعة عمليات التنقيب المكلفة إذا تجاوز الحفر السوية الطبقية المبحوث عنها.
8 ـ تعدّ المستحاثات أحياناً قيمة اقتصادية: تعدّ المستحاثات، عند تجمّعها، مواردَ طبيعية تسهم إسهاماً كبيراً في اقتصاديات بعض البلدان المحتوية عليها. فمناجم الفحم الحجري، ما هي إلاّ تجمعات أشجار الغابات القديمة التي تفحّمت، ومكامن النفط التي تعود إلى أزمنة جيولوجية مختلفة والمنتشرة في أرجاء مختلفة من العالم، وبصورة خاصة في مناطق الخليج العربي، ما هي إلاّ تجمعات بقايا الكائنات الحية التي تخمّرت بعد دفنها في الرواسب بمعزل عن فعل الهواء المخرّب. وكذلك مناجم الفوسفات، المحتوية على الفسفوريت المستخدم سماداً في الزراعة، ما هي إلاّ تشكيلات رسوبية نتجت من تحوّل هياكل الفقاريات وأسنانها بتأثير المتعضيات المكروية. ولبعض الصخور التي تتألّف كلها من هياكل بعض المستحاثات أهمية كبيرة في الصناعة، مثل صخر الدياتوميت diatomite المؤلّف من هياكل المشطورات Diatoms السيليسية. ويجب ألا يُغفل عن الأهمية الكبيرة للمستحاثات في تكوين الصخور الرسوبية، إذ إنّ تجمّع قواقع الحيوانات وأصدافها وهياكلها عبر العصور الجيولوجية المختلفة يقوم بدور مهم جداً في تكوين كثير من الصخور الرسوبية التي تستخدم، بعد قطعها وصقلها، في تشييد الأبنية أو أحجار زخرفة. ولابدّ من ذكر أنّ الكهرمان amber (الراتنج النباتي المستحاث) هو حجر شبه كريم يستخدم في صناعة الحلي.
شروط
الاستحاثة
لكي تُحفظ الكائنات الحية بعد موتها على شكل مستحاثات لابد من توافر شرطين رئيسين: وجود هيكل صلب، وتوفير دفن سريع.
1ـ وجود الهيكل الصلب: إنّ معظم الكائنات الحية التي حُفظت بقاياها على شكل مستحاثات هي الكائنات التي كانت مزودة بهياكل أو أصداف أو قواقع أو دروع، وبتعبير آخر الكائنات التي كان فيها أجزاء صلبة. أمّا الكائنات الحية المؤلفة من أجزاء رخوة فقط فلم تُحفظ بقاياها إلاّ إذا تحنّطت بمادة راتنجية أو أسفلتية أو إذا تجمّدت في الجليد.
يفرز كثير من الكائنات الحية أنواعاً مختلفة من المركّبات الكيمياوية الصلبة لحماية أجزائها الرخوة ودعمها. وأهم هذه المركبات: كربونات الكلسيوم التي يفرزها كثير من شعب النباتات والحيوانات اللافقارية على شكل كلسيت أو أراغونيت، والسيليكا التي تفرزها المشطورات والشعاعيات والإسفنجيات السيليسية وأخيراً فوسفات الكلسيوم التي توجد في عظام الحيوانات الفقارية وأسنانها وبعض هياكل عضديات الأرجل ومفصليات الأرجل.
2ـ الدفن السريع: على الرغم من أنّ وجود الهياكل أو الدروع ضروري في عملية الاستحاثة، فإنّ حفظها على شكل مستحاثات لايمكن أن يتم إلاّ إذا دُفنت في رواسب تمنع تخرّبها بتأثير الهواء أو المياه. وتمثل البحار والبحيرات، على هذا الأساس، بيئات ملائمة لتوفير الطمر السريع الضروري لعملية الاستحاثة. ولذلك فإن وجود هياكل ودروع الحيوانات والنباتات المائية على شكل مستحاثات يكون أكثر شيوعاً وأوسع انتشاراً من هياكل الكائنات البرية التي تعيش على اليابسة. وانحفاظ هذه الكائنات الأخيرة يكون نادراً لندرة الأماكن التي يتم فيها الطمر السريع. فقد يتم هذا الطمر بالاندفاعات البركانية أو في رمال المناطق الصحراوية أو تحت الانهيارات الأرضية المفاجئة التي تحصل نتيجة الزلازل.
أشكال حفظ المستحاثات
تُحفظ بقايا الكائنات الحية، التي عاشت على مر الأزمنة الجيولوجية، في الصخور الرسوبية، بأشكال تراوح بين الحفظ الكامل لأجسامها وبين حفظ مخلّفات تركتها في الصخور الرسوبية بعد موتها وفنائها.
فقد حفظ الماموت ـ الذي عاش منذ نحو 25 ألف سنة ـ كاملاً في جليديات سيبيريا وآلاسكا، كما حفظت الحشرات محنطة في الكهرمان (راتنج مستحاث) في صخور الكريتاسي والميوسين. وحفظت أيضاً الأبواغ وحبوب الطلع في الصخور الرسوبية دقيقة الحبيبات التي تنتمي إلى أزمنة جيولوجية مختلفة.
أمّا هياكل ودروع وقواقع معظم الحيوانات المؤلفة من كربونات الكلسيوم أو من السيليس أو من فوسفات الكلسيوم فقد تحفظ من دون أي تغيير، فقد احتفظت قواقع العمونيات بطبقتها الصدفية الأصلية، كما احتفظت أصداف عضديات الأرجل ببنية جدارها الأصلي وتركيبه.
وفي معظم الحالات، يطرأ على أجزاء الحيوانات الصلبة المذكورة، في أثناء استحاثتها، تبدّل في بنية مادتها الفيزيائية الأصلية أو في تركيبها الكيمياوي أو في الاثنين معاً. فقد تتفحّم النسج الحيوانية والنباتية بعد طمرها بمعزل عن الهواء في الرواسب. وأهم المستحاثات التي تتفحم هي الغرابتوليتات ومفصليات الأرجل والأسماك ومعظم النباتات. ويحصل في بعض الأحيان تدعيم بعض الأجزاء الصلبة المحتوية على فراغات، مثل عظام الفقاريات[ر] وهياكل شوكيات الجلد[ر]، بمواد لاعضوية من طبيعة الهيكل نفسه أو مختلفة عنه، وهذا ما يجعلها أكثف وأكثر مقاومة وقدرة على الحفظ.
وقد تنحل بعض الأصداف المؤلفة في الأصل من الأراغونيت ويحل محلّها الكلسيت الذي هو أقل انحلالاً وأكثر ثباتاً من الأراغونيت. وقد يتم نزع الماء من الأوبال الذي يؤلّف هياكل الشعاعيات والإسفنجيات ويتبلور ثانية على شكل كلسيدون chalcedony.
وقد تنحل مادة الهياكل والأصداف الأصلية، وتترسب مكانها مواد لاعضوية تختلف تماماَ عنها. فقد يستبدل بالهياكل الكلسية البيريت أو الغلوكوني أو الهماتيت أو الليمونيت أو السيدريت وحتى الفضة والنحاس. وقد تتحول الهياكل الكلسية إلى دولوميت أو إلى سيليس.
ويمكن في حالات نادرة أن تستبدل المواد السلولوزية في النباتات السيليس الذي يحافظ على بنية النبات الأصلية ويسمح بدراسة نسيجية لها، وهذه هي الحال في الأشجار المتحجرة التي تحوّلت إلى أغات agate. وقد تترك المستحاثات انطباعاتها الخارجية وقوالبها بعد انحلال أجزائها الصلبة التي تكون عادة من طبيعة كيمياوية مختلفة عن طبيعة الرواسب المحيطة بها. وهذه القوالب والانطباعات تعكس الأشكال الخارجية للهياكل والأصداف وما عليها من زخارف، ويمكن إعادة بنائها بقالب من الجبصين. وبهذه الطريقة أمكن الحصول على شكل دماغ بعض الثدييّات المستحاثة.
وقد يترسب الكلسيت على الكائنات الحية التي تعيش في أمكنة انبثاق الينابيع الغنية بثنائي كربونات الكلسيوم بعد انطلاق غاز ثنائي أكسيد الكربون. وعندما تفنى المواد العضوية الأصلية وتزول قد تمتلئ الفراغات التي تخلّفها هذه المواد برواسب أخرى، فتتشكلّ على هذا الأساس قوالب طبيعية تعكس أشكال الأجزاء الأصلية وزخارفها. فقد عثر على قوالب للحشرات وأوراق النباتات وأزهارها وثمارها تعود أعمارها إلى عدة ملايين من السنين.
ويعدّ الأثر الذي تركته الكائنات الحية في أثناء سيرها (انطباعات الأرجل) أو تنقلها (الأخاديد التي حفرتها الزواحف والحيوانات اللافقارية) على الرواسب الرخوة قبل تحجرها من المستحاثات وله ما للمستحاثات نفسها من فائدة. ومن أمثلة هذا الأثر يذكر انطباعات أقدام الديناصورات ومسارات بعض الحيوانات اللافقارية على الأراضي الغضارية القديمة الناعمة الحبيبات. وتنتمي إلى هذا الشكل من حفظ المستحاثات بيوض الزواحف، التي عثر عليها متحجرة في بقاع مختلفة من العالم وفي أزمنة مختلفة من التاريخ الجيولوجي، وروث بعض الحيوانات التي تدعى كوبروليت coprolite التي عثر عليها في طبقات رسوبية مختلفة واستخدمت في مقارنة هذه الطبقات في الأماكن المتباعدة.
المراجع
موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث