المقاطعة الاقتصادية عموماً
يراد بالمقاطعة الاقتصادية economic boycott عموماً وقف العلاقات الاقتصادية والمالية مع دولة أخرى ورعاياها، بهدف ممارسة الضغط على هذه الدولة لتحقيق الأهداف المرجوة من ممارسة هذه المقاطعة، وتفيد  المقاطعة معنى العموم من حيث شمولها لحركة السلع من ناحية الاستيراد والتصدير، أو من حيث امتدادها إلى مختلف أنواع السلع والخدمات. ويرجع أصل كلمة المقاطعة إلى مدير الأملاك البريطاني Charles C. Boycott الذي اشتُهر بسوء السمعة بسبب استخدامه أساليب عنيفة في تجميع إيجار الأراضي الزراعية؛ فعندما طلب منه المستأجرون تخفيض قيمة الإيجار في حالة عدم نجاح المحصول، رفض طلب المستأجرين، فتعرّض لأول تكتيك ناجح للعزل الكامل من جانب المستأجرين في خريف عام 1880، ومنذ ذلك التاريخ شاع استخدام اصطلاح boycotting بوساطة العديد من لغات العالم.
وقد نص عهد عصبة الأمم على جزاء المقاطعة الاقتصادية في الفقرة الأولى من المادة السادسة عشرة، إذ تقرر فيها «أن الدولة التي تلجأ إلى الحرب، إخلالاً بالتزاماتها المنصوص عليها في المواد من 12 إلى 15 تعتبر كأنها قامت بعمل حربي ضد الدول الأعضاء، وتتعهد هذه الدول بأن تقطع كل علاقة تجارية أو مالية مع الدولة المخلة.». وتوجب هذه المادة أيضاً ضرورة التعاون بين الدول الأعضاء في تنفيذ جزاء المقاطعة الاقتصادية. ولم تمارس عصبة الأمم سلطتها في توقيع هذه الجزاءات حتى عام 1935،عندما استخدمتها لمواجهة العدوان الإيطالي على الحبشة، حيث تم توقيع هذه العقوبات على إيطاليا بموجب توصية صادرة عن الجمعية العامة للعصبة وبشكل جزئي محدود، علماً أن هناك شبه إجماع على أن إخفاق نظام العقوبات في العصبة في صدّ الغزو الإيطالي للحبشة كان النهاية الحقيقية للمنظمة.       
أما في ميثاق الأمم المتحدة: فقد جاء النص على المقاطعة الاقتصادية بوصفه جزاءً يتم فرضه على الدولة التي ترتكب جريمة العدوان أو أي عمل آخر من شأنه تهديد السلم والأمن الدوليين، وذلك لأن هذا الجزاء إنما ُيعدّ وسيلة مهمة للحفاظ على السلم والأمن الدولي، والإلزام على الالتزام بمبادئ الأمم المتحدة وأهدافها لمصلحة الإنسانية جمعاء، وقد نصت المادة الحادية والأربعون من الميثاق على هذا الجزاء (إضافة إلى غيره من الجزاءات القسرية غير العسكرية الأخرى المنصوص عليها في الفصل السابع).
وقد لجأت الأمم المتحدة إلى فرض جزاء المقاطعة الاقتصادية في العديد من المنازعات، ففرضت هذا الجزاء ضد جنوب إفريقيا بسبب سياسة التمييز العنصري، وذلك بموجب قرار مجلس الأمن رقم 232 في كانون الأول/ ديسمبر سنة 1966، ثم قرار مجلس الأمن رقم 253 في أيار/ مايو من عام 1968، كما لجأ مجلس الأمن الدولي إلى فرض هذا الجزاء إثر العدوان العراقي على الكويت عام 1990، وذلك بموجب قراره رقم 661 في آب/أغسطس 1990 والذي فرض مقاطعة اقتصادية شاملة على العراق.
وتتخذ المقاطعة شكل الإجراءات الرسمية التي تتولاها سلطة الدولة، أو قد تتخذ الشكل الشعبي عن طريق قيام الأفراد والجماعات بتنظيم أعمال المقاطعة ضد إقامة أي شكل من أشكال العلاقات مع دولة أخرى ومواطنيها.
تتضمن المقاطعة عديداً من التدابير والأفعال، كمنع الاستيراد والتصدير وتخفيض الاستيراد والتصدير وتنظيم الرخص وأساليب الرقابة المالية على النقد الأجنبي بما فيها الأرصدة في الخارج ونظم الملاحة، فهذه التدابير والجزاءات كلها تندرج ضمن المقاطعة الاقتصادية، ومن ثمّ فإن تعرض الدولة لجزاء المقاطعة سوف يؤدي إلى خلل قد لا يمكن معالجته بسهولة، وإن كان ذلك يتوقف على مدى الالتزام الدولي بفرض هذه الجزاءات وتنفيذها على الوجه المطلوب.
وقد لجأت الدول إلى فرض جزاء المقاطعة في علاقاتها المتبادلة في العديد من المناسبات، ومثال ذلك المقاطعة العربية لإسرائيل، وكذلك مقاطعة الولايات المتحدة الأمريكية ودول السوق الأوربية المشتركة واليابان لإيران في أثناء فترة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران بين عامي 1979-1980، ومقاطعة الولايات المتحدة الأمريكية لبولونيا في 23 كانون الأول /ديسمبر 1981 إثر استخدام السلطات البولونية القوة لقمع حركة التضامن التي ُأودع قادتها السجون.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه إذا كانت المقاطعة الاقتصادية كجزاء دولي يتم فرضه على الدولة المعتدية أو المخلة بالسلم والأمن الدوليين، وبمقتضى قرار صادر عن الأمم المتحدة استناداً إلى نص المادة 41 من الميثاق؛ أمراً لا يثير أي إشكالية  قانونية إذ إن الرأي مجمع على شرعية فرض هذا الجزاء، إلا أن الخلاف يثور بصدد اللجوء إلى فرض جزاء المقاطعة بمقتضى قرارات فردية صادرة عن الدولة في علاقاتها المتبادلة وبعيداً عن سلطة الأمم المتحدة في فرض هذا الجزاء .
فعلى الرغم من اتفاق الرأي حول مشروعية ممارسة أعمال المقاطعة في أثناء قيام حالة الحرب بين الدول، إلا أن هناك خلافاً في الرأي حول مدى مشروعية فرض مثل هذا الجزاء في حالة السلم أو من دون صدور قرار دولي عن الأمم المتحدة يقتضي فرض هذا الجزاء. والأرجح هنا أن مشروعية المقاطعة إنما تنشأ أساساً من مشروعية الدافع إليها والهدف المراد تحقيقه منها، فإذا كان الهدف مشروعاً فإن المقاطعة تعدّ عندئذ وسيلة مشروعة للدفاع عن الحقوق ورد العدوان . وهذا ما يتحقق في حالة المقاطعة العربية لإسرائيل على سبيل المثال.
المقاطعة العربية لإسرائيل: تعود جذور المقاطعة العربية لإسرائيل إلى ما مارسه عرب فلسطين منذ أوائل القرن العشرين من مقاطعة شعبية ضد المنتجات الصهيونية، وذلك رداً على حركة الاستيطان الصهيوني وما صاحبها من إنشاء صناعات يهودية في فلسطين، وعقب قيام جامعة الدول العربية التي أولت أهمية كبرى لموضوع المقاطعة العربية للمنتجات الصهيونية  في فلسطين، ولذلك قرر مجلس جامعة الدول العربية في 2 /12 / 1945: «باعتبار أن المنتجات والمصنوعات اليهودية في فلسطين غير مرغوب فيها في البلاد العربية، وأن إباحة دخولها للبلاد العربية يؤدي إلى تحقيق الأغراض السياسية الصهيونية» ودعا مجلس الدول العربية الأعضاء في  الجامعة إلى  اتخاذ الإجراءات التي تناسبها والتي تتفق مع أصول الإدارة والتشريع فيها لتحقيق غرض المقاطعة، وفي أيار 1951 أعلن مجلس الجامعة العربية تنظيم مقاطعة شاملة لإسرائيل، وأصدر القانون الموحد لمقاطعة إسرائيل بموجب قرار مجلس الجامعة العربية رقم 849 تاريخ 11/12/1954. وتقسم الدول العربية مقاطعتها ضد إسرائيل إلى ثلاث درجات: تتضمن الدرجة الأولى منع التعامل المباشر بين الدول العربية وإسرائيل ، وتتضمن الدرجة الثانية منع التعامل مع إسرائيل سواء بصورة مباشرة أم عن طريق وسيط ثالث، وأخيراً تتضمن المقاطعة من الدرجة الثالثة فرض عقوبات على الشركات التي تتعامل مع إسرائيل ووضعها في قوائم سوداء يحظر تعاملها مع أي دولة عربية، علماً أن بعض الدول العربية كانت قد خففت نسبياً من مستوى تلك العقوبات بعد مؤتمر مدريد للسلام في عام 1991، عندما ُخدع بعض العرب بدعوى السلام مع إسرائيل.
مكتب مقاطعة إسرائيل: أُنشئ بموجب قرار مجلس الجامعة العربية رقم 357 /د 14/ بتاريخ 19/ 5 /1951؛ الذي تضمن إنشاء جهاز يتولى تنسيق الخطط والتدابير اللازمة لمقاطعة إسرائيل والعمل على تحقيقها، يرأسه مفوض يعيّنه الأمين العام يعاونه مندوب عن كل دولة بصفة ضابط اتصال تعيّنه حكومته، على أن يكون هناك مكتب مركزي رئيس مقره دمشق، مهمته توفير الاتصال بالمكاتب المختصة بشؤون المقاطعة في كل دولة لتنسيق آليات العمل وتفعيل المقاطعة.
أما الموقف الأمريكي من المقاطعة فيبدو متناقضاً؛ ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تلجأ إلى فرض سلاح المقاطعة بصورة فردية على العديد من الدول المعارضة لتوجهاتها وسياستها الهادفة إلى الهيمنة على العالم وتعدّ هذا أمراً مشروعاً بل حقاً سيادياً خاصاً بها، فإن استُهدفت هي بهذا الإجراء أو ُوجِّه نحو الحليف الرئيس لها أي إسرائيل؛ أصبحت المقاطعة وسيلة غير مشروعة بل عدواناً يستوجب المواجهة والرد، هكذا تزعمت الولايات المتحدة الأمريكية  فرض عقوبة المقاطعة وسائر أنواع العقوبات الاقتصادية الأخرى على عدد من الدول، إذ يؤكد تقرير لرابطة الصناعيين الأمريكيين أن هناك 100 دولة تتأثر بالعقوبات الاقتصادية الأمريكية منها كوريا الشمالية وإيران وليبيا والسودان وكوبا ويوغسلافيا والعراق (قبل احتلاله عام 2003) وسورية (منذ عام 2004).
على العكس، أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تشريعات تحرّم الاستجابة أو التعاون مع أجهزة المقاطعة العربية لإسرائيل، من ذلك ما أصدره الكونغرس الأمريكي من تعديل لقانون مراقبة الصادرات المبرم عام 1949،إذ نص على معاقبة الشركات والأشخاص الذين يمتثلون لأحكام المقاطعة بالسجن والغرامة، كما ُمنعت الشركات الأمريكية من إعطاء التعهد الذي تقضي به مبادئ المقاطعة والذي ينص على نقل البضاعة على باخرة (لا تمر في ميناء إسرائيلي أو مدرجة في القائمة السوداء).
وهذا ما يكشف حقيقة الموقف الأميركي المتناقض والمنحاز دائماً وأبداً إلى إسرائيل، وبصورة تخالف جميع قواعد القانون الدولي ومبادئ الشرعية الدولية، تناقض لا يمكن أن يخفى على تتبع للأحداث.
 
 

المراجع

موسوعة الأبحاث العلمية

التصانيف

الأبحاث