كلمة العبث Absurde في أصولها اللاتينية تعني ما هو نشاز ويخرج عن المنطق العام، وتستخدم في علم المنطق للدلالة على التناقض الذي يؤدي إلى نتائج خاطئة. كذلك هناك أصداء للعبث في الفلسفة وعلى الأخص في الوجودية[ر] التي أبرزت شعور عدم الجدوى والإخفاق المتكرر للوجود والمصير البشري.
 
 
 

فلاديمير وإستراغون في "بانتظار غودو" لييكيت

 
أما تيار العبث في الأدب فقد كان نتيجة مباشرة لمناخ الحربين العالميتين اللتين زعزعتا قناعة المفكرين الغربيين بوجود معنى ومنطق في الحياة، في حين تزايد الإحساس بوجود هوة تفصل بين المفاهيم والمُثل التي سارت عليها الحضارة الغربية وبين الواقع المناقض لذلك. فالتطور الصناعي بدلاً من أن يحمل السعادة للإنسان حوّله إلى آلة تعيش بلا إنسانية، وولّد حرباً مدمرة حملت الفوضى والموت. يتبدى هذا الشعور بالمأزق الذي وصلت إليه الحضارة في «أسطورة سيزيف» Le Mythe de Sisyphe لألبير كامو[ر] Albert Camus، إذ ينشأ شعور العبث من غياب التغيير والعودة المتكررة إلى نقطة البداية، وفي رواية «المحادثة» La Conversation لكلود مورياك Claude Mauriac تتوالى الأجيال لتتابع الثرثرة الفارغة نفسها عن الوجود، وفي أعمال كافكا[ر] Kafka التي تعكس الشعور باستحالة الخلاص وتؤكد الإحساس بالذنب. لكن أفضل من عبّر عن شعور العبث بالمعنى الوجودي هو صموئيل بيكيت[ر] Samuel Beckett الذي رسم في أعماله الروائية والمسرحية بنية دائرية تنغلق على ذاتها وعلى الشخصيات داخلها لتخلف شعوراً بالفراغ والعدم، ولتجعل من الأفعال البشرية أمراً مجانياً لا يرتبط بخط التاريخ ولا يؤثر فيه. يظهر هذا الشعور على نحو واضح في مسرحية «بانتظار غودو» En attendant Godot حيث يأتي فلاديمير وإستراغون كل مساء لانتظار غودو.
 
 
 

"الملك يموت" ليونسكو

 
ولأن المسرح كان المجال الذي تجلى فيه العبث بمظهره الأمثل أطلق الناقد البريطاني مارتن إسلين Martin Esslin في عام 1962 تسمية «مسرح العبث» Theatre of the Absurd على كتابه الذي صنّف فيه أعمال بعض المؤلفين الدراميين من عقد الخمسينيات. والواقع أن كتّاب مسرح العبث لم يكوّنوا مدرسة أو تياراً لأن أعمالهم جاءت على نحو متفرق وفردي ومن دون اتفاق. لكن الصفة المشتركة بينهم تظل الرغبة في قطع الأواصر مع المفاهيم التقليدية للمسرح الغربي، وعلى الأخص الطابع السيكولوجي للشخصيات والبنية المنسجمة للتطور الدرامي والحبكة المتطورة ضمن علاقات السببية والحوار المنطقي الذي يؤدي إلى تواصل مفهوم بين الشخصيات. من هذا المنطلق تتوافر ملامح مسرح العبث في أعمال مؤلفين مسرحيين من أنحاء العالم كافة، أشهرهم بيكيت ويوجين يونسكو[ر] Eugène Ionesco وفرناندو أرابال Fernando Arrabal وآرتور أدموف[ر] Arthur Adamov في مسرحياته الأولى، وبوريس فيان Boris Vian وروبير بِنجيه Robert Pinget وفاينغارتن Weingarten وهارولد بنتر[ر] Harold Pinter وإدوارد أَلبي Edward Albee. إضافة إلى ذلك فإن هذا المفهوم يجد أساسه في الكتابات النظرية لأنطونان آرتو[ر] Antonin Artaud وخاصة «المسرح وقرينه» Le Théâtre et son double ت(1938)، وفي الكتابات النظرية ليونسكو وخاصة «ملاحظات وعكس الملاحظات» Notes et contre-notes.
 
كانت اللغة المجال الذي تجلت فيه ملامح العبث على نحو كبير. فبدلاً من أن تعقد علاقة بين الشخصيات، تتحول اللغة إلى لعبة غير مفهومة وإلى جمل مفككة تباعد بين الشخصيات ولا تحقق التواصل. كذلك فإن العالم الذي تظهره هذه المسرحيات يتحول إلى مكان كابوسي تتراكم فيه الأغراض والأشياء لتثقل على الشخصيات وتخنقها، ومنها مسرحيات يونسكو «الخراتيت (وحيدو القرن)» Rhinocéros و«المستأجر الجديد» Le Nouveau locataire. أما الشخصيات الأساسية في هذا المسرح فتبدو على نقيض الصورة التقليدية للبطل، لأنها تعيش حالة من البؤس الميتافيزيقي وتبدو تائهة بلا هدف أو وجهة وكأنها حبيسة قوى غير مرئية في عالمٍ معادٍ.
 
انتشر مسرح العبث في العالم بأسره في الستينيات من القرن العشرين، وقد أخذ ملامح متنوعة منها الغرابة وخرق السائد والهجاء والسخرية، أو العدمية والسوداوية المطلقة. وقد تأثر المسرح العربي بالعبث عن طريق ترجمة أعمال يونسكو وبيكيت وعرضها، كما أن توفيق الحكيم[ر] أطلق تسمية مسرح اللامعقول على مسرحياته «ياطالع الشجرة» و«مصير صرصار» و«الطعام لكل فم» و«رحلة الربيع والخريف».
 
حنان قصاب حسن

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث