افتتح مسرح آبي Abbey Theatre في دبلن (إِرلندة) عام 1904 ليكون مقراً للجمعية الوطنية للمسرح الإِرلندي بمساعدة مالية من آني إِليزابيث فردريكا هورنيمان Horniman (1860-1937م) التي عرفت برعايتها للنشاط المسرحي في إِنكلترة وإِرلندة أوائل القرن العشرين وبدعمها المباشر لمسارح عدة في لندن ومانشستر ودبلن.
 
    يقترن اسم مسرح آبي بالحركة المسرحية الإِرلندية, وهي من أهم الحركات المسرحية العالمية في القرن العشرين فقد قدمت للمسرح العالمي أعمالاً بارزة لوليم بتلرييتس William Butler Yeats (1865-1939) وإِيزابيلا غريغوري Gregory (1852-1936) وجون ملنغتون سينغ John Millington Synge (1884-1909) وشون أوكيسي Sean O Casey (1884-1964) وآخرين. كانت هذه الحركة جزءاً من النهضة الثقافية الفكرية الإِرلندية التي كانت جزءاً من نضال الشعب الإِرلندي من أجل الحرية والاستقلال.
 
    وما كان مسرح آبي إِلا وجهاً من وجوه الصراع من أجل توكيد الهوية الثقافية الوطنية التي تجلت في تأليف جمعيات وروابط أدبية ومسرحية وثقافية كانت تلتقي على ضرورة إِبراز الشخصية القومية المميّزة للثقافة الإِرلندية التي كادت تنحسر أمام الهيمنة الثقافية والفنية واللغوية الإِنكليزية.
 
    لم يكن مسرح آبي مجرد مكان لتمثيل الأعمال الدرامية, بل كان مدرسة مسرحية قائمة بذاتها لها شخصيتها وصفاتها الخاصة. ولم يكن الكتّاب المسرحيون يعملون منفردين ضمن هذه المدرسة بل كانت تربطهم روابط وثيقة كثيراً ما جعلتهم يشتركون في كتابة بعض المسرحيات, حتى إِن ييتس كان يقول إِنه من الصعب تحديد مقدار إِسهامه هو أو إِسهام الليدي غريغوري في مسرحية كاثلين ابنة هوليهان Cathleen ni Houlihan (1902). وأوجد هذا المسرح مفهومات وأسساً اعتمدها مؤسسوه ومن تبعهم, هي الإِيمان بالتراث الإِرلندي وبالخيال الحي الخلاق وباللغة الإِنكليزية الإرلندية, وبالواقعية المبنية على حياة الشعب اليومية.
 
    كان الاهتمام بالتراث أحد مظاهر الحركة الوطنية الإِرلندية عامة. ولكن الحركة الأدبية تبنته وجعلته من مقوماتها. فقامت الليدي غريغوري بترجمة عدد من الأساطير والملاحم والقصائد الإِرلندية السلتية القديمة, واستقت من هذه الأساطير مادة مسرحياتها الشعبية التاريخية, كذلك فعل ييتس وسينغ وغيرهما ممن لم يجدوا في تراث إِرلندة مادة سهلة الاستغلال فقط, بل رابطاً يربط ماضي الشعب بحاضره أيضاً, ورأوا أن هذا التراث هو منطلق الشعب الإِرلندي في بنائه لثقافته الحديثة وفي تحقيقه لنهضته. ولقد عبرت الرغبة في إِحياء التراث عن رغبة في العودة إِلى ماض غني مجيد وفي إِعادة الفكر الإِرلندي إِلى بيئته الحقيقية وتحريره من ضغط ثقافة أخرى وعوائقها. وما كانت هذه الرغبة بالعودة رومانسية الطابع بل محاولة جادة في سبيل التخلص من تأثيرات متأخرة كادت تطيح بالثقافة الوطنية والروح الوطنية.
 
    ولقد أراد بعضهم أن يجعل من لغة هذا التراث الأدبي القديم لغة الأدب الحديث والمسرح الحديث. وكان في مقدمة من دافع عن وجهة النظر هذه أعضاء العصبة الغالية The Gaelic League ورئيسها الدكتور هايد Douglas Hyde الذي كتب عدداً من المسرحيات باللغة الإِرلندية السلتية, وأصبح فيما بعد أول رئيس لجمهورية إِرلندة الحرة. أما الليدي غريغوري وييتس فقد دافعا عن ذلك اللون من اللغة الإِنكليزية الذي تتكلمه أغلبية سكان إِرلندة ولاسيما الجزء الغربي منها. وهذه اللغة, التي اصطلح على تسميتها باللغة الإِنكليزية - الإِرلندية, هي لغة إِنكليزية في جوهرها إِلا أنها إِرلندية في صورها وبناء جملها وطرائق تعبيرها. ولقد وجد كُتّابُ مسرح آبي الأوائل, وفي مقدمتهم ييتس, أن هذه اللغة الحية هي وحدها التي تستطيع أن تعبر عن خيال الإِرلندي الحي. فهي لغة لم تمتد إِليها يد الفساد, ولم تتأثر بلغة الصحف ولا بلغة من تأثروا بها أو ورثوا لغتهم عن أشخاص فسدت لغتهم وجدبت.
 
    كان إِيمان كُتّاب مسرح آبي باللغة الإِنكليزية الإِرلندية يرتبط بإِيمانهم أولاً بعامة الشعب والريفيين منهم خاصة وثانياً بالشعر يعدّونه خير واسطة للتعبير المسرحي.
 
    كان ييتس وزملاؤه يؤمنون بأن الشعر لا يزال يعيش في مجتمع إِرلندة الريفي, وأعاد ذلك إِلى أذهانهم صورة العصور الذهبية لآداب الأمم الأخرى حين كانت اللغة حية غنية. وربط بعضهم بين نهضة المسرح في تلك العصور واستعمال الشعر في الأعمال المسرحية, فاعتمدوا اللغة الشاعرية التي وجدوا فيها أصول الشعر الحقيقي النابض بالحياة والعفوية. ونظم بعضهم هذه اللغة نظماً كييتس والليدي غريغوري, في حين استعملها آخرون مثل سينغ وشون أوكيسي كما وجدوها, فكانت ريفية لدى الأول وحضرية - مدنية لدى الثاني, وذلك تبعاً للمجتمعين المختلفين اللذين ألّفا إِطار مسرحياتهما.
 
    وإِذا اتفق جميع كتاب الحركة المسرحية الإِرلندية على استعمال لغة الشعب الواقعية فإِنهم اختلفوا حول مدى التصاق العمل الفني بالواقع ومدى معالجته لمشكلات هذا الواقع. فقد أراد بعضهم كإِدوارد مارتين Eduard Martin (1859-1924) وجورج مور George Moore (1852- 1933) أن ينحو المسرح الإِرلندي منحى مسرح إِبسن, وأراد بعضهم كييتس وسينغ أن تكون المسرحية وأشخاصها بعيدين بعض البعد عن الواقع لتصبح المسرحية في متناول الجميع في كل زمان ومكان, أو كما قال ييتس يمكن أن يكون الموضوع بعيداً بعض البعد عن الواقع من دون أن يكون بعيداً عن النفس البشرية سواء في إِرلندة أو خارجها, ذلك لأن واقعية الروح أقوى وأكثر استمراراً من واقعية الأشكال والحوادث. وكتب سينغ فيي مقدمة مسرحية «زفاف الصفّاح» (السمكري) The Tinker's Wedding (1908) حول هذا الموضوع معبراً عن رأيه ورأي ييتس بمسرح إِبسن وشو قائلاً: «إِن ما يجعل العمل المسرحي عملاً جدياً ليس هو مدى اهتمامه بالمشكلات الجدية بقدر مدى ما يعطيه هذا العمل من ذلك الغذاء الصعب التعريف الذي يعيش عليه الخيال. فارتيادنا المسرح يجب أن يختلف عن ذهابنا إِلى صيدلية, وأن يكون شبيهاً بذهابنا إِلى حفل عشاء لنأكل الطعام الذي نحتاج إِليه بمتعة وشغف. هكذا كان الأمر في إِسبانية وإِنكلترة وفرنسة حين وصل المسرح فيها إِلى أوجه. أما في هذه الأيام فإِن المسارح ملأى بالأدوية لمشكلات الحياة وأمراضها... إِن المسرحية, كالسمفونية, لا تعلِّم ولا تبرهن على شيء, فالمحللون ومسائلهم والمعلمون وأنظمتهم سرعان ما يتركهم الزمان وراءه كما ترك عقاقير غالينوس وإِبسن والمسرحيين الألمان».
 
    ولكن الاتجاه العام كان نحو مسرح واقعي يعتمد الحياة الإِرلندية أساساً من دون السماح للّون المحلي بأن يطغى, فيجعل من هذا المسرح مسرحاً محلياً إِقليمياً. وهذا الاتجاه واضح في كتيب صغير اسمه «نصائح للكاتب المسرحي» كان مسرح آبي يرسله إِلى كتّاب المسرحية الشباب وفيه:
 
    «كي تصبح مسرحية ما صالحة للتقديم على مسرح آبي عليها أن تحتوي على نقد للحياة مبني على التجربة أو الملاحظة الشخصية للكاتب, أو على رؤية للحياة, وتفضل الحياة الإِرلندية, وعلى الكاتب المسرحي أن يطرد من ذهنه أية فكرة تقول بوجود عناصر معينة ضرورية لإِعطاء المتعة الدرامية كمطارحة الغرام في المسرح الشعبي, لأن أية عقدة للحوادث فيها عواطف عنيفة وصراع في الإِرادة تصلح مادة للمسرحية. وبقدر ما تبدو مثل هذه العقدة غير مسرحية في البداية بقدر ما يرجى منها من خير في النهاية. وعلى الكُتّاب الشباب أن يتذكروا أن عليهم أن يستقوا جميع مؤثراتهم من التعبير المنطقي لموضوعهم لا عن طريق إِضافة حوادث خارجية, وأن العمل الفني لا يمكن أن يكون له أكثر من موضوع واحد, وأن هذا العمل, وإِن كان يجب أن يكون له تأثير الطبيعة, فإِنه, بحسب تعبير غوته, فني وليس هو الطبيعة. وعليهم أن يذكروا أيضاً أنه لابد للعمل الفني من وحدة تختلف عن غنى الطبيعة العرضي. إِن مسرح آبي كثيراً ما ترسل إِليه مسرحيات تدل على أن كتابها لم يدركوا بعدُ أن تحقيق هذه الوحدة عن طريق بناء العقدة وإِعادة بنائها المستمر هو عمل الكاتب المسرحي الأساسي وليس كتابة الحوار».
 
    وتقول الليدي غريغوري: «إِن حركتنا عودة إِلى الشعب... والمسرحية التي تعطيهم متعة طبيعية هي تلك التي تحدثهم عن حياتهم أو عن تلك الحياة الشعرية التي يرى فيها كل إِنسان صورته».
 
    ولكن نصائح مسرح آبي للكتّاب الشباب لم تقتصر على مادة المسرحية ووحدتها شكلاً وموضوعاً بل تطرقت إِلى غاية المسرح في المجتمع التي يمكن تلخيصها بكلمات ييتس:
 
    «علينا أن نكتب أو نجد مسرحيات تجعل من المسرح مكاناً يثير الفكر ويحرره كما حررته مسارح اليونان وإِنكلترة وفرنسة في مراحل معينة من تاريخها. وإِذا أردنا تحقيق هذه الغاية كان علينا أن نؤمن بأن الجمال والحقيقة يسوّغان نفسيهما بنفسيهما وأن إِيجاد مسرح يقدم خدمة لوطننا أعظم من تلك التي تقدمها تلك الكتابة التي تضحي بأحدهما في سبيل ما يبدو أنه خدمة لقضية ما... إِن الجمال والحقيقة يحكمان على الأشياء ولكنهما يبقيان فوق الحكم. إِنهما يسوّغان الأشياء من دون أن يحتاجا إِلى تسويغ».
 
    أراد ييتس وزملاؤه أن تكون نهضة المسرح الإِرلندي نهضة فكرية شاملة لا تحدّ منها وطنية ضيقة, وأرادوا للفكر في تفتحه واتساعه أن يعكس رغبتهم في حركة قومية غير مغلقة على نفسها. بل لقد أدخلوا إِلى القومية الإِرلندية نظرة إِنسانية عالمية فرضتها ثقافتهم الأوربية, ولكن هذه النظرة جلبت لهم الكثير من النقد اللاذع والهجوم العنيف من قبل الجماهير ورجال الدين الذين هاجموا مسرحية ييتس «الكونتيسة كاثلين» Countess Cathleen (1892) على أنها منافية لتقاليد إِرلندة الدينية وكان أن مثلت تحت حماية الشرطة, وهاجموا مسرحية سينغ «في ظلال الوادي» In the Shadow of the Glen (1903) لأنها, كما ادعوا, توجه إِهانة للمرأة الإِرلندية. وتعرضت مسرحية سينغ الأخرى «فتى الغرب المدلّل» The Playboy of the Western World (1907) لهجوم عنيف أدى إِلى إِغلاق مسرح آبي ثم محاكمة المسرحية في جو من المظاهرات والاضطرابات. وكان ذنب المسرحية أنها عالجت خيال المجتمع الإِرلندي المفرط, الباحث عن البطولة إِلى درجة أنه يجعل من قاتل أبيه بطلاً عظيماً. ولم ينج أوكيسي, وهو المناضل العمالي في ميدان الأدب والسياسة, من سخط الوطنيين الذين لم يرق لهم تصويرُه أبطالَ ما يُعْرف بثورة عيد الفصح في «المحراث والنجوم» The Plough and the Stars (1926) فهاجموه وقاموا بأعمال شغب أدت إِلى رفض مسرح آبي لمسرحيته التالية «الكأس الفضية» The Silver Tassie (1928) التي تدين الحرب إِدانة صريحة. وحين زارت فرقة مسرح آبي الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1911-1912 قاطعتها الجالية الإِرلندية هناك وناصبتها العداء, لأن هذه الجالية, كما قال برناردشو فيما بعد, وجدت في انتقاد السخافات الإِنسانية إِهانة للأمة الإِرلندية, لأن هذه الأمة هي الإِنسانية بكاملها, وليس لها أي عيوب, بل إِنها تقف نقية صافية وجميلة كالقديس لتضطهدها إِنكلترة باستمرار.
 
    وكان بين الحركة الأدبية الإِرلندية والحركة السياسية صراع يشتد أحياناً ويضعف أخرى. وكان هذا الصراع نتيجة استهلاك الاهتمام السياسي لطاقات المجتمع الإِرلندي فلم يترك مجالاً كبيراً للاهتمامات الفكرية والأدبية. وأدى هذا بدوره إِلى شبه انعدام للتجربة الفنية لدى الجماهير عامة, فكان أن أساءت هذه الجماهير فهم بعض الأعمال المسرحية نتيجة لحكمها عليها بمقاييس وطنيتها الضيقة التي أراد الكاتب المسرحي التحرر منها. يقول ييتس: «إِنني لأفضل أن يخفق مسرحنا بسبب إِعراض المشاهدين وعدائهم عن أن يحقق انتصارات هائلة على حساب حريته. وإِنني لا أطالب بشيء لم يطالب به أسلافي ولكنني أطالب بكل ما أعطوه, وأنا لا أرغب في أية مساعدة قد تحد من حريتنا سواء على أيدي الرسميين أو الوطنيين, وإِن كنت في الوقت نفسه أرحب بمساعدة كل من يحب الفن إِلى درجة العزوف عن الرغبة في وضعه في الأسر, حتى لو كان في هذا الأسر عزيزاً مكرماً. إِن الوطني الحق هو في رأيي ذلك الذي لا يتردد في بذل الكثير في سبيل المحافظة على ذلك الجزء من ممتلكات وطنه الذي أناطت به الظروف حراسته, فالمسرح الذي تهب فيه الروح العفوية المنطلقة حيثما تشاء له هو وحده أن يدعو نفسه مسرحاً قومياً».
 
    حافظ مسرح آبي على روحه القومية الإِرلندية حتى بعد وفاة ييتس عام 1939, وكان إِرنست بلايت الذي عمل مديراً للمسرح في الآونة الواقعة بين 1941 و1967 يردد أن مهمه هي أن يحفظ هوية إِرلندة القومية. إِلا أن هذا التوجه أدى إِلى إِلحاح جديد على اللغة الغالية وانتقل هذا الاهتمام باللغة الإِرلندية فيما بعد إِلى مسرح البيكوك الذي أُلحق بالآبي عام 1967 ليكون مختبراً مسرحياً تجريبياً. وقد أتى حريق على مسرح آبي عام 1951 إِلا أنه لم يقض على تقاليده ودوره في الحياة الثقافية الإِرلندية فأعيد بناؤه ومازال مسرح آبي الجديد يعنى بتقديم الإِرلندي من المسرحيات قديمها وجديدها.
 
غسان المالح

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث