أنطونان أرتو Antonin Artaud شاعر مسرحي فرنسي، ولد في مرسيلية، وتوفي في إيفري - سور - سين Ivry- sur- seine. ترك أثراً كبيراً في الأدب الفرنسي المعاصر لطريقته في التعبير عن حياته الداخلية، من جهة، ولمفهومه للمسرح «مسرح القسوة» Théâtre de la cruauté من جهة ثانية.
ظهرت على أرتو،منذ سن المراهقة، أعراض مرض عصبيّ غير معروف، وقد تنقَّل بين عدد من مشافي الأمراض العقلية، ثم تفرغ للرسم بعد شفائه.
انتقل إلى باريس عام 1920 وهو يحلم بمستقبل كبير في عالم الأدب. فعمل موظفاً في مجلة «الغَد» Demain ثم تسلَّم إدارة العدد الثالث من «الثورة السريالية» La Révolution Surréaliste وكان على أرتو أن يعمل من أجل كسب عيشه، فالتقى لوني - بو Lugné- Poe وعمل معه في التمثيل في السينما.
أرسل أرتو بعض قصائده إلى المجلة الفرنسية الجدية Nouvelle Revue Française لكن المجلة لم تنشرها. وأخذ يراسل جاك ريفيير Jacques Rivière مدير المجلة بغية إقناعه بأن هذه القصائد لها الحق في الوجود، لأنها تشكل مِزَقاً استطاع أن ينزعها من العدم. أصر مدير المجلة على عدم نشر القصائد، ولكنه عَرَض نشر المراسلات المتبادلة حولها. ذلك أن هذه المراسلات كانت تنم في رأيه عن صفاء ذهني مدهش ومثير. وقد تم نشر القصائد أيضاً فيما بعد بعنوان «نَرْد السماء» Tric Trac du ciel.
عاش أرتو تجربة تمزق الذات والفراغ الذهني والمادي التي يقول عنها: «هذا التشتت في قصائدي، هذه العيوب في الشكل، هذا التراخي المستمر في فكرتي ذلك كله لا يعود على قصور في التمرين أو إلى قلة معرفة بالأداة التي أستعملها، أو إلى ضعف في النمو العقلي، وإنما يعود إلى انهيار في النفس، إلى نوع من التفتت في الفكر:تفتت أساسي وهارب في الوقت نفسه».
هذا التمزق الذي عاشه أرتو في أعماقه، أوحى إلى الشاعر بـ «مركز اليمبوس» L'Ombilic des limbes و«مقياس الأعصاب» Le pèse- nerfs عام 1925، وهو التمزق نفسه الذي أدى به إلى الحكم على السريالية [ر] بالسلبية لاحقاً: «ماذا تعني بالنسبة إليّ ثورة العالم، إذا كنت سوف أستمر وأنا أعيش حياة الآلام والبؤس ضمن دائرتي، إن ما يبعدني عن السريالية والسرياليين هو أنهم يحبون الحياة بقدر ما أحتقرها... ولكن هل يختلف التقشف عن السحر الحقيقي: مهما كان السحر قذراً، مهما كان شيطانياً». والسحر عند أرتو هو ما يجذبه نحو علوم التنجيم، نحو الكيمياء القديمة (السيمياء)، نحو أسرار الديانات الشرقية، نحو الوصول إلى ما لايُدرك بالعقل، ويتم ذلك عن طريق التصوُّر والأفيون والإثارة الجنسية «هيليوغابال أو الفوضوي المتوَّج» Héliogabale ou l'anarchiste couronné (1934). التقشف هو في رأيه التجربة الداخلية للكلمة: «إن ما أسمّيه شعراً اليوم، هو معرفة المصير الداخلي والديناميكي للفكرة» هذه التجربة يحاول أرتو أن يعكسها في مجموعة صور مادية. إن أرتو الذي لم يدرس شيئاً ولكنه عاش كل شيء يقرر أن الكلام الحقيقي يظل غامضاً، وأن اللغة تظل بعيدة عن الواقع. من هنا تنشأ ضرورة اللجوء إلى الحيلة، إلى التعبير عن طريق إيمائية لم ينل منها الفساد.
إن «مسرح القسوة» يجب أن يكون اختلاجياً فيقوم على جمال سحري للصوت، على روعة التعبير، إنه سوف يعرّف الإنسان ليس على أحد وجهي الفكرة فقط، ولكن على الوجه الآخر أيضاً. هذه الصيحة الانفعالية، أطلقها أرتو عند تأسيس مسرح ألفريد جاري Alfred Jarry الذي شارك فيه عام 1935، وكررها في مسرحيته «عائلة تشنشي» Les Cenci، حتى تحولت إلى صرخة قوية في كتابه «المسرح وبديله» Théâtre et son double Le عام 1938 ثم انطلقت دفعة واحدة كاللهب في محاضرة استغلها الكاتب للقيام بتمثيل مأساته الذاتية.
وقبل ذلك، على أية حال، كان أرتو قد هرب تماماً من عالم يعده زائفاً. فكان السفر إلى المكسيك عام 1936 بغية تعرف هنود «التاراهومارا» Tarahumaras الذين تدور حياتهم حول طقوس البيتول (بديل الأفيون). ثم إلى إيرلندة عام 1937 حاملاً ما قيل له إنه عصا القديس باتريك، شفيع الإيرلنديين، السحرية. ولكن سرعان ما تمّ طرده من إيرلندة وتمّ إدخاله مشفى الأمراض العقلية في مرفأ «الهافر» Le Havre الفرنسي عند نزوله من الباخرة، وبذلك تبدأ طريق الآلام من جديد، فيقضي الكاتب تسع سنوات متنقلاً من مشفى إلى آخر إلى أن يستقر في مشفى «روديز» حيث تمت معالجته بالصدمات الكهربائية وكتب «رسائل روديز» Lettres de Rodez.
غادر أرتو المشفى فيما بعد، ولكنه كان قد أصيب بالسرطان فعدّ نفسه ضحية المجتمع وتراءت له صورة إنسان منطوٍ على نفسه، يقاسي آلاماً شديدة تشبه لوحة فان غوغ [ر] Van Gogh «ذلك الذي نحره المجتمع» Le Suicidé de la société (1947). وفي هذا الكتاب تبرز أفكار في حديثه عن فان غوغ: «إنه لم ينتحر في لحظة جنون تملكته فيها خشية عدم الوصول إلى هدفه ولكنه على العكس كان قد توصل إلى غايته واكتشف حقيقة كيانه، عندما عاقبه المجتمع على خروجه عليه، فنحره...».
وفي السنوات التي قضاها أرتو في مشافي الأمراض العقلية، وفي مراحل صفاء ذهني متقطعة، كتب أعمالاً مدهشة في جرأتها تختلط فيها روح الدعابة بالمكر وبالتفكير السليم. وعبَّر الكاتب عن ذلك كله بأسلوب متميز قلّ نظيره في الأدب الفرنسي [ر].
جهاد هواش
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث