جورج أورويل George Orwell من أبرز أعلام الرواية والمقالة في إنكلترة في العصر الحديث. وجورج أورويل هو الاسم المستعار لـ إيريك بلير Eric Blair. ولد في إقليم البنغال في الهند لأب إنكليزي كان يعمل موظفاً في حكومة الهند البريطانية. انتقل أورويل إلى إنكلترة عام 1911 وانتسب إلى مدرسة داخلية في ساسكس Sussex ثم حصل على منحة دراسية مكنته من الانتساب إلى كلية إيتون Eton College، وهي من أكثر المؤسسات التعليمية شهرة في بريطانية، وقد ظهرت في مدة دراسته هناك بين عامي 1917 و1921 بوادر اهتماماته بالكتابة، ونشر كثيراً من المقالات في مجلة الكلية، وتبلورت في المدة ذاتها بعض ملامح بنيته النفسية التي تجلّت فيما بعد في كتاباته إذ ظهرت فيها بوادر التمرد وغرابة الأطوار. اعتذر عن قبول منحة تمكنه من استكمال دراسته الجامعية وقرر السفر إلى بورمة Burma عام 1922 والانخراط في سلك الشرطة الإنكليزية ـ الهندية. كانت تجربته في بورمة منعطفاً مهماً في حياته إذ بدأ بعد مدة وجيزة من وجوده هناك يتعاطف مع الأهالي، وأبى أن يكون أداة في يد السلطة الاستعمارية، ومالبث أن عبّر عن رفضه سلوك تلك السلطة باستقالته من وظيفته في نهاية عام 1927. وعاد إلى إنكلترة يحمل عداء للقوى الامبريالية ورفضاً لأسلوب الحياة البرجوازية، وبدأ يصف نفسه آنذاك بالفوضوي. ومع بداية الثلاثينات، انتهج الاشتراكية[ر] وتعززت لديه القناعة بأن مجتمعاً تسوده المساواة هو وحده المرتع الخصب للحرية. حاول أورويل التكفير عن شعور بالذنب منشؤه الحواجز العرقية والاجتماعية المبنية على فوقية المستعمر التي تحول دون أي اختلاط بالشعوب المُستلَبة بانتحاله شخصية متشرد وانغماسه في حياة الفقراء والمضطهدين من أهالي إنكلترة وفرنسة. وفي عام 1936، سافر إلى إسبانية لكتابة المقالات والتحقيقات الصحفية حول الحرب الأهلية الدائرة هناك، وسرعان ماشعر بضرورة الدفاع عن الديمقراطية فانضم إلى صفوف الجمهوريين المناهضين للفاشية[ر]، وأصيب إصابة بالغة في حنجرته لازمته آثارها بقية حياته. عاد أورويل من إسبانية عام 1937 يحمل عداء للفاشية والشيوعية، أما ميوله الاشتراكية فقد ازدادت رسوخاً. ولما نشبت الحرب العالمية الثانية، التحق أورويل بالقسم الهندي في هيئة الإذاعة البريطانية، وكتب كثيراً من البرامج حول الحرب والعلاقة بين السياسة والأدب. وفي عام 1943، أصبح عضواً في هيئة تحرير صحيفة تريبيون Tribune ذات الاتجاه اليساري، وكتب عدة مقالات في زاوية تحمل عنوان «كما أحب» وتشمل موضوعات سياسية وأدبية ونقدية. توفي بمرض السل في لندن.
كانت كتابات أورويل وثيقة الصلة بطبيعة حياته الشخصية وبمواقفه السياسية، وقد سعى من خلالها إلى تحقيق تزاوج بين الحقيقة والخيال الأدبي. ومن أهم أعماله «تشرد في باريس ولندن» Down and Out in Paris and London الذي نشر عام 1933، وهو عمل أشبه بتحقيق صحفي أعاد فيه الكاتب، لخدمة أغراض فنية، ترتيب الأحداث التي عاشها في تجربة التشرد، وقد اختار هذا التوقيت لبدء استخدام اسمه المستعار الذي انطوى على إعلانه اتخاذ موقف معاد لبريطانية الامبريالية وتحوله إلى متمرد سياسي وأدبي. وفي عام 1937 كتب «الطريق إلى رصيف ويغان البحري» The Road to Wigan Pier، وهو تقرير صحفي ينتقد فيه بشدة الوضع الاقتصادي في شمالي إنكلترة حيث كان عمال المناجم يعيشون حالة بؤس، كما يشرح أسباب تبنيه الاشتراكية والتناقض المتمثل في كونه اشتراكياً مع أنه من أبناء الطبقة الوسطى. وفي عام 1934 كتب «أيام بورمية» Burmese Days، وتندرج هذه الرواية في إطار السيرة الذاتية، وهي ذات هدف سياسي واضح يعرض الكاتب بها نتائج الاستعمار البريطاني. وتنم الرواية على سخط الكاتب إزاء الاستعمار وتعلو نبرة سخطه إلى درجة توحي بأن أورويل كاره للجوانب السلبية للحالة الإنسانية، مما يجعل الرواية تتعدى إطارها المكاني والتاريخي لتتوجه بشمولية إلى البشرية عامة. وكان نتاج تجربته في إسبانية «تحية إجلال إلى كاتالونية» Homage to Catalonia عام 1938، وهو عمل يجمع بين مقومات السيرة الذاتية والتقرير السياسي. فهو إلى جانب تحليله العميق لمجريات الأحداث على الساحة الإسبانية يبرز نمو الوعي السياسي والنفسي لدى الراوي. ويتمحور العمل حول الصراع بين الفكر والفعل، السياسة والحرب، الأمل وخيبة الأمل ولاسيما حين تصبح جبهة الحرب ثلاثية القوى المتحاربة بعد وقوف الشيوعيين والاشتراكيين في خندقين متصارعين إلى جانب صراعهما المشترك مع الفاشية. ويعد هذا العمل من أهم الأعمال الروائية الإنكليزية التي اتخذت من الحرب الأهلية الإسبانية مضموناً سياسياً. وقد شهد عام 1945 مولد رواية «مزرعة الحيوانات» Animal Farm، وهي رواية هجائية توظف الخيال الجامح «الفنتازيا» أداة للنقد السياسي والاجتماعي. تتخذ الرواية من الفكر الماركسي منطلقاً لها وتقوم على دراسة العلاقة بين الطبقة المستغِلة والطبقة المستغَلة، وعلى حث الأخيرة على الثورة للحصول على فائض القيمة. ويحكي أورويل أن نواة الرواية بدأت في مخيلته حين رأى صبياً يقود حصاناً ورأى في الحيوان تمثيلاً للقوى البروليتارية وفي الإنسان تمثيلاً للرأسمالية فراح ينسج روايته من منظور الحيوان. وفي الرواية، تنجح الحيوانات في مزرعة في محاولة انقلاب على سادتها البشر المتسلطين وتُنصَّب الخنازير حكاماً على المزرعة وتُرفع شعارات الديمقراطية والحرية والعدل والمساواة لكن سرعان ماتفسدها السلطة فتشرع في ممارسة الديكتاتورية عينها التي سببت الثورة في المقام الأول. ويهدف أورويل إلى إظهار المعضلة الناجمة عن كون الفوضوية مرفوضة، وكون السلطة ضرورة ملحّة، إلا أن روايته تنطوي على تحذير من النتائج العكسية المترتبة على النظام السياسي إذا ما أضحت السلطة غاية بذاتها. ويرى أورويل أن التاريخ حافل بقصص كثيرة عن عمليات خداع تُحفَّز فيها الجماهير العريضة على الثورة، أملاً في بناء مدينة فاضلة، لتُستغَل مجدداً حين وصولها الظاهري إلى هدفها المنشود من قبل سادة جدد. ويوجه أورويل من خلال هذه التورية السياسية نقداً لاذعاً للإيديولوجية الشيوعية، ويهاجم الستالينية والثورة الروسية، ويأخذ على عاتقه تحطيم ما أسماه الكذبة الروسية بهدف إحياء الجوهر الحقيقي للاشتراكية والحث على تقويم أنماط الممارسة غير السليمة والانحراف عن المبادئ .
اختتم أورويل مسيرته الكتابية عام 1949 برواية «ألف وتسعمئة وأربع وثمانون» Nineteen Eighty-Four؛ وتنطوي على رؤيا مستقبلية أشبه بالنبوءة، تحذر من الآثار السلبية للدولة الكُليَّانية Totalitarian، ذات النظام السياسي المبني على إخضاع أفرادها لديكتاتور ومصادرة أفكارهم، وانتهاك حرماتهم. وترسم الرواية صورة قاتمة للحال التي يمكن أن تؤول إليها البشرية إذا ما ترك زمام السلطة في يد الديكتاتوريين وتعرضت الاشتراكية لعمليات تشويه. ويعتقد الكاتب أن جذور الاستبداد متأصلة، ولذا حاول وضع تصور مستقبلي لما يمكن أن تنبته هذه الجذور إذا ما أتيحت لها فرص النمو. وتعرض الرواية مأساة الإنسان الذي يعاني القهر والكبت والخوف والعزلة ويعيش مسحوقاً في ما أسماه أورويل «قمامة» التاريخ، وتبرز الرواية حالة شخصية يفككها النظام الاستبدادي القائم ويعيد تركيبها على النحو الذي يشتهي.
تكمن أهمية أورويل في رؤيته الثاقبة للمشهد السياسي والاجتماعي المعاصر، وفي مواكبته لروح عصره، واهتمامه بالقضايا العامة، وفي نزعته الإنسانية التي تملي عليه ضرورة مناصرة المضطهدين، والإصرار على وجوب الارتقاء بجميع مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية بدءاً من بريطانية وانتهاء بالعالم أجمع. ويستمد إسهامه في الحياة الأدبية قيمته من التزامه وصدقه وشعوره بالمسؤولية تجاه صنّاع التاريخ المعاصر. ويرى أورويل أنه لا وجود لأدب غير سياسي في العصر الحديث الذي تزدحم فيه المخاوف وتتصارع الأضداد، كما يؤكد العلاقة الوثيقة المتبادلة بين مضمون العمل الروائي واللحظة التاريخية التي يولد فيها، وقد هدف أورويل إلى جعل الكتابة السياسية فناً وأدباً، وأكد مراراً توخيه الشروط التقنية في كتاباته، ورأى أن إحدى مهمات الكاتب تتلخص في ضرورة شحذ وعي الجماهير لما يجري خارج دائرة حياتها الضيقة، وفي وجوب تجريب تقنيات جديدة من أجل تحقيق هذه الغاية. وقد نجح أورويل حقاً، عن طريق صوغ أفكاره في قالب روائي، في الوصول إلى قاعدة جماهيرية عريضة. ويتصف أسلوبه بالبساطة والمباشرة والتحرر من الحذلقات الأدبية فيأتي رشيقاً واضحاً معبراً بصدق وفاعلية عن رؤاه. ويجمع النقاد على أنه إذا ما أخذت عبارة الكتابة السياسية بمدلولها الواسع لتشمل كتابات المعلقين على الشؤون العامة؛ ومؤلفي المنشورات pamphleteers، والفلاسفة والمحللين السياسيين الذين يحتلون مكانة بارزة في الأدب الإنكليزي فسوف تتردد على نحو لا يقبل الجدل ثلاثة أسماء: توماس هوبز[ر] Thomas Hobbes وجوناثان سويفت[ر] Jonathan Swift وجورج أورويل.
ندى زين الدين
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث