الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:

فقد جاء الإسلام والناس في جاهلية جهلاء، جاهلية في المعتقد، جاهلية في العبادات، جاهلية في المعاملات، جاهلية في الأخلاق، جاهلية بكل ما تحمله كلمة جاهلية من معنى، فأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجور والظلم إلى القسط والعدل، ومن المعتقدات الفاسدة إلى العقيدة الصحيحة، عقيدة خلاصتها (لا معبود بحق إلا الله)، ومن الأخلاق المنحلة إلى الأخلاق الحسنة.

جاء الإسلام فوضع الضوابط، وقعد القواعد، وأصل الأصول، لحياة البشرية؛ ومن القواعد التي وضعها الإسلام؛ قاعدة: أنَّه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى؛ فعن أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق، فقال: (يا أيها الناس: ألا إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت؟)؛ قالوا: بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-...1. واسمع إلى الحق-جل وعلا- وهو يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}سورة الحجرات: (13).

جاء الإسلام وكان أصحاب الجاهلية لديهم بعض الأخلاق الحسنة من نجدةٍ الملهوف، وإكرام الضيف، ونصر للمظلوم، وغيرها، وجاء الإسلام لتثبيت ذلك والحث عليه. ولكن الإسلام جاء وعند أصحاب الجاهلية أخلاق سمجة قبيحة مستهجنة، ومن الأخلاق التي كانت في الجاهلية؛ خلق العصبية للقبيلة على الباطل، فجاء الإسلام ونفّر منها، وصور ذلك الفعل القبيح  تصويراً بليغاً، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (مثل الذي يعين عشيرته على غير الحق مثل البعير ردي في بئر فهو يُنْزع بذنبه)2. وفي الحديث الشريف: (من قاتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب لعصَبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقُتل فقِتْلةٌ جاهليةٌ)3، والعمية هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه. وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} سورة المجادلة: (22). قال أهل العلم في سبب نزول هذه الآية: إنها نزلت في أبي عبيدة حين قتل أباه يوم أحد، وفي أبي بكر حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر، وفي عمر حيث قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر، وفي علي وحمزة حين قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر4.

جاء الإسلام والقبائل متناحرة فيما بينها، كل قبيلة تحط من شأن الأخرى، كل فرد أفراد القبيلة يقاتل من أجل قبيلته، ويفرح لفرحها ويغضب لغضبها؛ حاله كما صوره دريد بن الصمة:
وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد
فعمل الإسلام على غرس ربطة الدين، ووشيجة العقيدة،لأنها هي الوشيجة التي "يتجمع عليها الناس في هذا الدين، ليست وشيجة الدم والنسب، وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم و العشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة ولا الجنس والعنصر، ولا الحرفة والطبقة إنها وشيجة العقيدة". فقد جمعت هذه العقيدة صهيباً الرومي، وبلالاً الحبشي، وسلمان الفارسي، وأبا بكر العربي القرشي تحت راية واحدة، راية الإسلام، وتوارت العصبية، عصبية القبيلة والجنس والقوم والأرض، وهاهو مربي هذه الأمة وقائدها -عليه الصلاة والسلام- يعلم ويربى إذ يقول لخير القرون كلها مهاجرين وأنصار: (دعوها فإنها منتنة)..

وما هي؟
صيحة نادى بها أنصاري: ياللأنصار، وردَّ مهاجري: ياللمهاجرين فسمعها رسول الله فقال: (ما بالُ دعوى جاهلية؟) قالوا: يا رسول الله كسَعَ رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: (دعوها فإنها منتنة)5. حقاً إنها منتنة..
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منَّا من دعا إلى عصبية، وليس منَّا من قاتل على عصبية، وليس منَّا من مات على عصبية)6. فانتهى أمر هذا النتن، وماتت نعرة الجنس واختفت لوثة القوم.. ومنذ ذلك اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض، وإنما وطنه هو دار الإسلام تلك الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحده7. فالعقيدة تذيب العصبية، وتستفيد من رابطة القرابة، وتستعلي على المصلحة الشخصية والقبلية، ويكون المسلم ضد هواه، صلته بربه قوية، علاقته مع إخوانه المؤمنين وطيدة.. وكلما ضعف رابط العقيدة، وتخلخل صفاء التوحيد، برزت العصبية من جديد، والهوى والنزوات8. والله الموفق

الخطبة الثانية:

الحمد لله العلي الأعلى الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعد:
كما ذكرنا سابقاً أن التعصب للقبيلة على الباطل خصلة من خصال أهل الجاهلية، فقد قال النبي-عليه الصلاة والسلام- لأبي ذر الغفاري-رضي الله عنه- لما بلغه أنه عير بلالاً بأمه: (إنك امرؤٌ فيك جاهلية) أي ما زال فيك خصلة من خصال الجاهلية؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بالأحساب، ويطعنون في الأنساب؛ كما جاء في الحديث الصحيح: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)9. وعن أبي هريرة-رصي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)10. ففي قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية) بطلان ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق الرديئة، والعقائد الفاسدة، وهو ما ورثته بعض طوائف المسلمين اليوم، فنراهم يفتخرون بمزايا آبائهم وأجدادهم، وهم بعيدون عنهم كل البعد، فهذا يقول: كان جدي الشيخ الفلاني، وهذا يقول: جدي العالم الرباني، وذاك يقول: أنا من القبيلة الفلانية، وما إلى غير ذلك، وما تنفعك قبيلتك أو أبوك أو أمك عن عذاب الله، ألم تسمع إلى قول الحق -جل في علاه-: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} سورة المؤمنون:(101). وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} سورة عبس: (34-37). والذي  يحزن له الإنسان حزناً كبيراً أن هذا المرض الذي هو مرض الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب قد يصاب به بعض من ينتسبون إلى العلم من الطلبة، فتجدهم يتمازحون أو يتفاخرون فيقولون بكلمات نابية، فلان مصري، وفلان سوداني، أو صومالي، وفلان كذا وكذا. على وجه السخرية، والفخر والعجب، لا على وجه التعريف، والتمييز..
فيأيها المسلم ويا أيها الأخ المبارك: إذا كنت ولا بد مفتخراً فافتخر بالإسلام، وليكن الإسلام بالنسبة لك فوق كل اعتبار، ولتعلم أنك عبدٌ لله؛ فإذا سئلت عن قدوتك، قلت: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } الأحزاب:21، وإذا سئلت عن مذهبك وطريقتك، فقل:{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } يوسف: 108، وإذا سئلت عن بزتك لباسك، فقلت: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } لاأعراف: 26، وإذا سئلت عن مقصودك ومطلبك، فقلت: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } الكهف: 28، { إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} الشعراء: 51، وإذا سئلت عن رباطك، فقلت: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} سورة النــور: ( 36- 37). وعن نسبك قلت:
أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تيم11
فكن -يا عبد الله- متلبساً بلباس التقوى، {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} سورة الأعراف: (26). وكن متزوداً بزاد التقوى، {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} سورة البقرة: (197). واسمع إلى الحق-جل وتعالى- وهو يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات: (13). وقال صلى الله عليه وسلم-: (أكرمهم عند الله أتقاهم)12.
ما يصنع العبد بعزّ الغنى *** والعزُّ كل العز للمتقى
من عرف الله فلم تغنه *** معرفة الله فذاك الشقي
فإنَّ بتقوى الله-عز وجل- تكون الولاية من الله للعبد؛ قال الله- تعالى-: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}يونس: (62-63). وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- جهاراً غير سراً يقول: (إنَّ آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنَّما وليي الله وصالح المؤمنين)13. ولذلك فإنَّ النسب الشريف، أو الحسب المنيف؛ بدون تقوى الله –عز وجل- لا ينفع، والنسب الوضيع مع وجود التقوى أفضل وأشرف وأرفع؛ فهذا بلال الحبشي لما أسلم وحقق التقوى لله رفع الله قدره، وأعلى منزلته، وبل وسمع النبي-صلى الله عليه وسلم- دف نعليه في الجنة14، وهذا سلمان الفارسي لما خالط الإيمان بشاشة قلبه، واتقى خالقه، وخاف سيده ومولاه، أيضاً رفعه الله، وحصل في الدنيا مبتغاه وتقلَّد جائزة: (سلمان منا آل البيت)15.
وفي المقابل هذا أبو لهب القرشي لما كذب وأبى وكفر وطغى، ولم يعبد الملك الأعلى، وضعه الله في الدنيا والأخرى، وأنزل فيه آيات إلى يوم القيامة تتلى، قال الله -تعالى-: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ( ) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ( ) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ( ) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ( ) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ( ) }سورة المسد.
لعمُركَ ما الإِنسانُ إِلا بدينهِ *** فلا تتركِ التقوى اتكالاً على النَّسَبْ
فقد رفعَ الإسلامُ سلمانَ فارسٍ *** وقد وَضَعَ الشِّرْكُ الشريفَ أبا لهب16
يقول أبو العتاهية:
أَلاَ إنّما التَّقْوَى هو العزّ والكَرَمْ *** وحُبُّك للدّنيا هو الفقر والعَدَمْ
وليس على عبدٍ تَقِيٍّ نقيصةٌ *** إذا صحّح التّقوى وإِن حاك أو حَجْم
ولما فاخر أبا العتاهية رجل من كنانة، واستطال الكناني بقوم من أهله، قال أبو العتاهية:
دَعْنَي من ذِكْرِ أبٍ وجَدِّ *** ونَسَبِ يُعْلِيكَ سُورَ المجدِ
ما الفخرُ إلا في التُّقَى والزُّهدِ *** وطاعةٍ تُعطي جِنَان الخُلْدِ17
فكان لزاماً علينا -عباد الله- أن نتق الله، في السر والعلن، وأن نقول لأصحاب النعرات الجاهلية؛ ما قاله رسول الله -صلى الله لخير هذه الأمة: (دعوها فإنها منتنة!)18.
نسأل الله أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم توفنا وأنت راض عنَّا. ربنا تقبل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
 
1 - أخرجه أجمد، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح.
2 - مسند الإمام أحمد(1/401)، وفي مسند أبي داود(7/17) مختصر المنذري، وقد سكت عنه المنذري.
3 - صحيح مسلم بشرح النووي(12/238).
4 - أسباب النزول للواحدي، صـ (236)، وتفسير ابن كثير (8/79) نقلاً عن كتاب الولاء والبراء صـ(228).
5 - رواه البخاري.
6 - رواه مسلم.
7 - انظر: معالم في الطريق، صـ(143)، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، صـ(142).
8 - راجع: مقالاً بعنوان: "موقف الإسلام من العصبية القبلية"؛ لمحمد الناصر. المصدر: مجلة البيان، العدد(7) صـ(50).
9 - أخرجه مسلم كتاب الجنائز، باب النياحة في الميت، رقم (1550). من حيث أبي مالك الأشعري.
10 - أخرجه مسلم كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة، رقم (100).
11 - راجع: مدارج السالكين لابن القيم(3/174). الناشر : دار الكتاب العربي – بيروت. الطبعة الثانية(1393). تحقيق : محمد حامد الفقي.
12 - أخره البخاري ومسلم.
13 - أخرجه مسلم.
14 - الحديث في ذلك أخرجه البخاري.
15 - أخرجه الحاكم في المستدرك.
16 - راجع الشعر في مجمع الحكم والأمثال.
17 - راجع الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني(4/7). الناشر: دار الفكر- بيروت. الطبعة الثانية. تحقيق: سمير جابر.
18 - أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له.

المراجع

موسوعة امام المسجد

التصانيف

المعرفة