برتولت بريخت (بريشت) Bertolt Brecht كاتب مسرحي وقاص وشاعر ومنظّر ومخرج مسرحي ألماني ولد في آوغسبورغ Augsburg وتوفي في برلين. كان والده بروتستنتياً ومديراً لمصنع ورق، أما أمه فكانت كاثوليكية متدينة، أمضى بريخت مرحلة تعلمه حتى الثانوية في آوغسبورغ، ثم انتقل إلى كلية الطب والعلوم الطبيعية في ميونيخ (1917). وبدأ بكتابة الشعر والنثر في المرحلة الثانوية. وشارك في ثورة تشرين الثاني 1919 عضواً في «لجنة العمال والجنود» ثم تابع دراسته حتى 1923 إلى جانب حضوره محاضرات في كليات الأدب والفلسفة وتاريخ الفن، ثم انتقل إلى ميونيخ ليعمل مشاوراً مسرحياً (دراماتورغ) في «مسرح الحجرة» Kammerspiele حتى عام 1924 حين انتقل إلى برلين.
إن كتابات بريخت المبكرة لا تنتمي إلى تيار التعبيرية الذي كان مهيمناً آنئذ، كما ورد في بعض الدراسات النقدية غير الألمانية، فهي أكثر واقعية وشاعرية، وأشد وضوحاً من المسرحيات التعبيرية التي كانت تستند أساساً إلى تفكيك (تشريح) اللغة بما هي أداة توصيل. فمسرحيته الأولى «بعل» (1918) Baal تصور سلوك شاعر يفضل الحياة غير التقليدية -حسب الأعراف السائدة- على أن يصبح موضوعاً للاستغلال. ومسرحيته «طبول في الليل» (1919) Trommeln in der Nacht تعكس خيبة أمله في مسار الثورة الألمانية؛ بيد أنه لم يوضح فيها أسباب إخفاق هذه الثورة. وفي عام 1922 حاز بريخت جائزة «كلايست للأدب» عن هذه المسرحية. أما مسرحية «حياة إدوارد الثاني ملك إنكلترة» Edward II المقتبسة عن كريستوفر مارلو[ر] فهي نتاج صداقته وعمله في التأليف المسرحي مع الروائي ليون فويشتفانغر Lion Feuchtwanger الخبير باللغة والأدب السنسكريتيين أي بالمسرح الهندي القديم تحديداً. وقد حاول بريخت بهذا العمل أن يكسر تقاليد عرض مسرحيات شكسبير [ر] في ألمانية، ورسخ الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تأليفاً وإخراجاً. ونتيجة لنجاحاته اللافتة للنظر استدعاه المخرج المسرحي ماكس راينهارت Max Reinhardt في عام 1924 ليعمل معه مؤلفاً مسرحياً في «المسرح الألماني» في برلين، حيث احتك بريخت بالمثقفين اليساريين. وفي عام 1926 بدأ بدراسة أدبيات الفكر الماركسي والعلوم الاقتصادية. وفي مسرحيته التالية «في أدغال المدن» (1923) Im Dickicht der Städte يصور بريخت رغبة الإنسان في الصراع في ذاته، في صورة مضحكة ومبالغة ساخرة.
وبين عامي 1924و1926 كتب مسرحية «رجل برجل» Mann ist Mann التي صور فيها تأثير الجماعة الفاسدة -العصابة- على سلوك الفرد القابل للتكيف مع الأحوال الطارئة، ملمحاً بذلك إلى عصابات القمع الهتلرية.
إن مسرحيتي «أوبرا القروش الثلاثة» Die Dreigroschenoper المقتبسة عن الإنكليزي جون غاي John Gay ، و«ازدهار وسقوط مدينة ماهاغوني» Aufstieg und Fall der Stadt Mahagonny المؤلفتين بين عامي 1928و1929 اللتين وضع موسيقاهما كورت فايل Kurt Weil، تبرزان بوضوح نتائج دراسة بريخت للاقتصاد. ففيهما طرح المؤلف موضوع سلطة المال على السلوك البشري في مشاهد وأغان استفزازية، في إطار حبكات درامية ذات صبغة جماهيرية.
وفي المسرحيات التي كتبها بين 1924و1929 حاول بريخت أن يظهر تناقضات العلاقات السائدة، مبالغاً في تصوير لا معقوليتها، بهدف تحطيم الأوهام والفكر الأيديولوجي السائد والتحريض عليه؛ لكن سمات توجهه النقدي لم تكن قد تبلورت بعد. وبين عامي 1929 و1930 أصبحت تحليلاته المشهدية أكثر دقة، بسبب طابعها الجدلي. ومع مسرحيتي «جان دارك قديسة المسالخ» Die heilige Johanna der Schlachthöfe و«القرار» (1934) Die Massnahme بموسيقا هانس آيسلر Hans Eisler يكون بريخت قد انتقل إلى مواقع الأدب الاشتراكي. ففي «القرار» لجأ بريخت أول مرة إلى استخدام أساليب النضال الثوري. وخلافاً لبقية مسرحياته التعليمية الكثيرة تعد مسرحيتا «القرار» و«الاستثناء والقاعدة»Die Ausnahme und die Regel عملين تدريبيين مدرسيين يحملان عناصر أساسية من المسرح الدعائي التحريضي Agitprop. أما السمات التعليمية فقد توضحت في أجلى صورها في مسرحية «الأم» (1930-1931) Die Mutter المقتبسة عن رواية غوركي[ر].
اضطر بريخت عام 1933 وبسبب ورود اسمه في اللائحة السوداء التي وضعها النازيون إلى مغادرة ألمانية إلى الدانمرك مع زوجته الممثلة هيلينا فايغل Helena Weigel حيث استقر حتى عام 1939، ثم غادرها إلى السويد حتى عام 1940، ثم إلى فنلندة حتى عام 1941، واضطر إلى مغادرتها بعد ذلك عبر الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة -كاليفورنية- وفي مرحلة المنفى ناضل بريخت ضد الفاشية الهتلرية مستخدماً المسرح والسينما والإذاعة والصحافة ومنابر الخطابة من دون أن تؤثر فيه انتصارات هتلر المرحلية. فأكثر ما يلفت النظر في مرحلة المنفى هو أن أهم مسرحياته ظهرت في أثنائها. ففي عام 1934 أنهى مسرحيتين أمثوليتين «الرؤوس المستديرة والرؤوس المدببة» Die Rundköpfe und die Spitzköpfe و«الهوراسيون والكورياسيون» Die Horatier und die Kuriatier اللتين تناقشان قضية الحرب الظالمة والحرب العادلة. وبعد «رعب وبؤس الرايخ الثالث»Furcht und Elend des dritten Reiches و«بنادق الأم كارار» (1939) Die Gewehre der Frau Carrar اللتين صور فيهما سلوك الفرد في مواجهة الهيمنة الفاشية، نشرت الصحف خبر تمكن العلماء الألمان من تفتيت الذرة، ومنه استلهم بريخت (1934) موضوع مسرحيته «حياة غاليليه» Leben des Galilei. في الصيغة الأولى يظهر غاليليه مؤسس الفيزياء الحديثة عالماً يتخاذل أمام محاكم التفتيش، لكنه يتابع عمله كي يتمكن حتى تحت نير الدكتاتورية من الوصول إلى الحقيقة وترويجها. وبعد إلقاء الأمريكيين القنبلة الذرية على اليابان وضع بريخت صيغته الثانية للمسرحية يدين فيها تخاذل غاليليه. فقد أدرك بريخت جدلياً مدى الخطر الناجم عن التطور العلمي المحض إن استمر بمعزل عن التطور الاجتماعي.
في عام 1939 كتب «الأم الشجاعة وأولادها» Mutter Courage und ihre Kinder التي استمد أحداثها من «حرب الثلاثين عاماً» للكاتب غريملزهاوزن[ر] Grimmelshausen. تحكي المسرحية قصة البائعة الجوالة التي تريد تحقيق ربحها الصغير من الحرب الكبيرة، فتخسر جميع أولادها وممتلكاتها، من دون أن تعتبر من الدروس القاسية التي تلقتها. وبذلك ترك بريخت العبرة الحقيقية للمشاهد. وفي العام نفسه كتب مسرحيته الإذاعية «محاكمة لوكولوس» Das Verhör des Lukullus التي حولها فيما بعد إلى أوبرا بعنوان «إدانة لوكولوس» Die Verurteilung des Lukullus وقد وضع موسيقاها باول ديساو Paul Dessau .وفي كلا العملين يناقش المؤلف موضوعة الحرب العادلة والحرب الظالمة.
وبين 1938و1940 كتب بريخت «إنسان ستشوان الطيب» Der gute Mensch von Sezuan التي تطرح مقولة أنه يستحيل على المرء أن يكون إنساناً في ظل أحوال وعلاقات لا إنسانية، وفي الوقت نفسه يستحيل استئصال طيبة البسطاء. وبين عامي 1940 و1941 ظهرت مسرحية «السيد بونتيلا وتابعه ماتي» Herr Puntila und sein Knecht Matti المأخوذة عن قصة ومسرحية الكاتبة الفنلندية هيللا فولي يوكي Hella Wuolijoki، وهي مسرحية شعبية عن إقطاعي فنلندي يكتشف إنسانيته بتأثير الخمر، ويعود إلى مطامعه الاستغلالية في حالة الصحو.
وفي مسرحيتي «رؤى سيمون ماشار» Die Gesichte der Simone Machard و»شفيك في الحرب العالمية الثانية» (1941-1944) Schweyk im zweiten Weltkrieg يضع بريخت شخصيتين من الأدب العالمي في مواجهة الحرب الفاشية، مستخدماً إياهما لإبراز أساليب متعددة لمكافحة الفاشية. أما آخر مسرحيات المنفى فهي «دائرة الطباشير القوقازية» (1944-1945) Der kaukasische Kreidekreis وهي أمثولة مقتبسة عن حكاية صينية قديمة تطرح مقولة أن الأرض لمن يفلحها ويزرعها ويحصد ثمارها، وليس لمن يملكها بوثيقة ورقية.
في عام 1947 تمكن بريخت من مغادرة الولايات المتحدة بعد اضطراره إلى المثول أمام محكمة ماكارثي. فعاد عابراً سويسرة إلى برلين الشرقية وأسس فيها متعاوناً مع زوجته وبإشراف الدولة «مسرح البرلينر انسامبل» (1949) Das Berliner Ensemble، وأخرج أهم مسرحياته مستنداً إلى نظريته في المسرح الملحمي[ر] Das espische Theater. وفي سنوات قليلة أصبح هذا المسرح من ركائز الحركة المسرحية العالمية، فانتشر منهج عمله في التأليف والإخراج في معظم بلدان أوربة وترك فيها آثاراً مازالت فاعلة حتى اليوم، كما في أعمال فريش[ر] ودورنمات[ر] السويسريين، وبيتر هاكس وهاينر موللر الألمانيين، وجون آردن وإدوارد بوند البريطانيين على سبيل المثال لا الحصر. ومن أوربة امتدت موجة المسرح الملحمي إلى بقية أنحاء العالم فوصلت إلى اليابان وأمريكة اللاتينية والعالم العربي.
وفي مستقره الأخير في برلين كتب بريخت «أيام الكومونة (مجلس العموم)» (1949) Die Tage der Commune و«توراندوت أومؤتمر غاسلي الأدمغة» (1954) Turandot، كما أعد لمسرحه «أنتيغون» Antigone عن سوفوكليس[ر]، و«معلم القصر»Der Hofmeister عن لنتس[ر] و«كوريولان» Coriolan عن شكسبير[ر] و«محاكمة جان دارك» Das Verhör der Jeane d'Arc عن آنا زيغرس و«دون جوان» Don Juan عن موليير[ر] و«طبول وأبواق» Pauken und Trombeten عن فاركار.
كان بريخت في برلين عضواً في أكاديمية الفنون، ثم أصبح رئيسها حتى وفاته عام 1956، كما كان رئيساً لـ «مركز القلم» في الألمانيتين، وحصل عام 1951 على الجائزة الوطنية، وفي عام 1954 على جائزة لينين الدولية للسلام.
تهدف نظرية بريخت في «المسرح الملحمي» إلى تعميق وعي المشاهد بتناقضات الواقع، بهدف تغييره، فهي تختلف وتتعارض مع الدراما البرجوازية السائدة ذات التقاليد الأرسطية التي تبغي تحقيق التطهير Katharsis في إطار ما هو قائم. وعنصر التغريب Verfremdung يشكل محور النظرية، وقد طوره بريخت عن جملة عناصر تعرف فاعليتها في المسرح الياباني والصيني والهندي القديم، وكذلك في الملهاة اليونانية ومسرح شكسبير، من حيث تقنيات كتابة النص اعتماداً على العنصر السردي الحكائي، وتقنيات العرض المسرحي من حيث تضافر مكوناته تمثيلاً وإلقاءً وغناءً وديكوراً وإضاءة وبالاعتماد كذلك على الموسيقى المرافقة التي تسهم إسهاماً فعالاً في تغريب المشهد المسرحي وتحقيق مقولته.
نبيل الحفار
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث