قصيدة "لديني .. لديني لأعرف" ونبوءة العودة إلى الأم الأولى": يعد ديوان محمود درويش "ورد أقل" الذي أصدره عام 1986م من الدواوين المميزة في مسيرة الشاعر الإبداعية، ففي هذا الديوان رسم الشاعر المأساة الفلسطينية من جانبها الإنساني البحت، وتنفس بعمق خلال تلك القصائد، فكان النفس الشعري فيها هادئا، والصوت خفيضا، واللحن حزينا، والمعنى واقعيا، واللغة آسرة والتصوير أخاذا، والإبداع متجليا في أبهى حلة وأجمل تعبير.
لقد اعتنى درويش بهندسة المعمار الفني للديوان، فجاءت قصائده متناسقة يسودها الإيقاع الموحد، فقد شكلت كل قصيدة من قصائده الخمسين متتالية شعرية مكونة من عشرة أسطر شعرية، ما خلا قصائد قليلة لا يبلغ عددها عدد أصابع اليد الواحدة، ولا يجد المرء عنتا في تعليل ذلك الاختلاف، فقد تحمل انتهاء السطر الممتد أفقيا بعضا من هذا التجاوز، ولو كانت الأسطر متسعة المجال الأفقي لما وجدنا ذلك إلا في قصيدة واحدة فقط، لنجدها مكونة من تسعة أسطر شعرية، وقصيدة أخرى زادت قليلا لتبلغ اثني عشر سطرا شعريا.
واقتضت هذه الهندسة الشكلية في قصائد هذا الديوان أن لا يتمدد جسد القصيدة إلا خلال فضاء الصفحة الواحدة، وجاءت العناوين كذلك لافتة للنظر، إذ كل عنوان من عناوين تلك القصائد هو مفتتح قصيدته، ولذا تجد أن هذه العناوين كلها موزونة وزن قصائدها، وكأن هناك تجانسا بين الرأس والجسد، بتناغم تام نصي وإيقاعي، وقد جاءت ثمان وأربعون قصيدة من قصائد الديوان على البحر المتقارب، والقصيدتان الباقيتان لم تبعدا كثيرا عن دائرة هذا البحر، فقد سكبهما الشاعر في تفاعيل البحر المتدارك، الذي يشكل هو والمتقارب دائرة عروضية واحدة.
لقد كشف درويش في هذه القصائد عن الضنك الإنساني الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، حيث التشرد والاغتراب، وازدياد إحساس الفلسطينيين بالوحدة والضياع بعد الخروج من بيروت عام 1982، ولذا تجد أن بعض قصائد الديوان تمتلئ بالمرارة والحسرة والسخرية المرة وفقدان الثقة بالآخرين، كل ذلك صبه الشاعر شجنا حزينا في تلك القصائد المكثفة، التي تبتعد عن الضجيج والردح الذي تكدسه البلاغة الجوفاء، وقد اختار الشاعر فعلا أن ينقل لنا هذا الإحساس حتى في الشكل المجسد على بياض صفحات الديوان؛ إذ كتبت أغلب القصائد على شكل فقرات نثرية، وزاد الإحساس بهذا تلك الانسيابية في جمل القصيدة الواحدة، تبدأ من العنوان فتجده في المفتتح، وتتصل كل الجمل بذلك المفتتح، وجملة وراء جملةٍ، وإذا بك تنهي القصيدة دون شعور بأن النفس يجب أن يقف، وتزداد الشحنات العاطفية كلما قرأت أكثر، وإذا ما أتممت الديوان تفاجئك المأساة بإنسانيتها وتعدد وجوهها، وكأنه أراد تحريك الضمير الإنساني من غفوته أو بلادته، أو أنه أراد أن يسجل نقطة سوداء على ذلك الضمير الميت.
ومن تلك القضايا الإنسانية التي جسدها درويش في قصائد ديوان "ورد أقل" قضية الغربة والتشرد والإحساس بالضياع بعيدا عن وطنه وأهله، وخصوصا أمه، وهذا ما يجده المرء موضوعا حاضرا في قصيدة "لديني .. لديني لأعرف".
يختار الشاعر للقصيدة هذا الفعل "لديني"، وهو فعل أمر مسند إلى ياء المخاطبة، والتي هي أمه، مبينا الهدف من هذا الخطاب، ومؤسسا لرؤية القصيدة، إنها الولادة الاختيارية ذات غاية، إنها من أجل المعرفة، لذلك كان العنوان على هذه الصيغة "لديني.. لديني لأعرف"، ويتضح من خلال النص كذلك الهدف من المعرفة؛ إنها ليست المعرفة المطلقة الفلسفية المجردة، إنها معرفة الأرض التي سيموت فيها ويبعث فيها حيا كذلك:
"لديني ... لديني لأعرف في أي أرض أموت وفي أي أرض سأبعث حيا"
ويأخذ درويش من خلال النص بسرد وقائع هذه الولادة التي تعني له العودة إلى أرضه الذي خرج منها منفيا شريدا، ليمارس حياته الطبيعية مع أمه، حياة البسطاء من الناس المهمشين في الريف الفلسطيني حيث تسكن والدته، ولذا تراها يذكر نار الصباح، وحليب البلاد، والغيم والشجر والحديقة، فيحن إلى صوت أمه وخبزها وتراويدها في هدهدتها لابنها، مجسدا خوفها الفطري عليه بسبب ولغير سبب، شاعرا في ثنايا ذلك كله أنه هو الطفل الذي ما زال محتاجا لرعاية أمه وحنانها، فالغربة وما عاناه فيها من أهوال تدفعه لقول هذا الشجن الموجع والحزين في الوقت نفسه.
لعل الشاعر من وراء هذا الموقف تجاه الأرض التي أنبتته، والأم التي أنجبته، قد أدى رسالة مصاحبة للرسالة الأولى، أو ما يجوز لنا أن نطلق عليه المستوى الأول من المعنى، وهذه الرسالة الثانية شعوره بالضياع والوحدة وتخلي الناس عنه قريبا وبعيدا، وكأنه يقدم موقفا احتجاجيا ضد من خذلوه وخذلوا قضيته، وقد رأى ذلك بأم عينيه، عقب أحداث بيروت وحصارها، وخروج المقاومة المسلحة منها بعيدا عن الوطن والإحساس بأنه ما زال على بعد بعض الشعر من هذا الوطن، إذ كان يعيش حلما رومانسيا جميلا، فصحا وإذا به في المعمعة وحيدا تنهشه الذئاب، ولا حول له ولا قوة، وهذا ما أوضحته قصائد أخرى في الديوان، وأهم تلك القصائد قصيدة "أنا يوسف يا أبي"، التي غدا عنوانها كفيلا بإيضاح رسالتها ولا يحتاج معه المرء إلى زيادة في الحديث.
وأما الرسالة الثالثة التي تقرأ من بين ثنايا النص المكتوب، هو تعبيره عن مدى الإحساس بالاغتراب، وليس الغربة فقط، فلا أحد يسمعه أو يهتم بشؤونه، عدا أنه يتعرض لكثير من التقلبات السياسية وأمزجة الأنظمة الحاكمة، فهو يشعر بأنه الآخر المستهدف في وجوده، فلا أحد يريد أن يعترف به كيانا إنسانيا له مطالب إنسانية واحتياجات بشرية كبقية خلق الله، وهذا أيضا ما عبرت عنه بشكل أوضح قصيدة "مطار أثينا"، حيث لم يجد ذلك الشاب مكانا ليمارس حياته الزوجية مع عروسه الجديدة، فالفكرة على بساطتها إلا أنها صادمة للوعي الإنساني المعاصر، فكيف يموج العالم بالأفكار ورومانسية هذه الأفكار، وتنسى أن تطبق على هذا المسكين البائس المتشرد؟
لقد توسل الشاعر باللغة القرآنية ليحمل النص بعضا من معانيه ورسائله إلى القارئ، فقد استعار موقفا إنسانيا دالا تحدث عنه القرآن الكريم، وهو قصة السيدة مريم العذراء وولدها الصبي عيسى عليهما السلام، وفي ظني أن هذه الاستعارات تحمل دلالات معنوية غاية في الفنية، فقد ربط الشاعر حديثه مع أمه بلغة حديث القرآن عن مريم عليها السلام، وكأنه يريد إسباغ صفات مريم على أمه، فمريم هي الطاهرة النقية البتول، التي سلمت من كل ما يشين سمعتها، وكذلك هي أمه إنها الطهارة في أسمى تجلياتها الإنسانية حيث الارتباط بالوطن ومفرداته:
"لديني ... لديني لأعرف في أي أرض أموت وفي أي أرض سأبعث حيا"
سلام عليك، وأنت تعدين نار الصباح، سلام عليك، سلام عليك"
إنها استعارة من ألفاظ القرآن الكريم، فقد ورد في سورة مريم على لسان سيدنا عيسى: "وبرا بوالدتي، ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا"، أما الشاعر نفسه فقد جعل من نفسه مسيحا آخر، فلم يتعذب عذابه أحد، ولم يتشرد في البلاد أحد كما تشرد، ولم يتعرض لمحاولات الاغتيال والإهانة شخص كما تعرض هو كفلسطيني أو كشعب كامل، ذلك فهو مسيح العصر، وهنا يفصح الديوان عن هذه القضية بشكل أوضح في قصيدة بعنوان "إلهي إلهي، لماذا تخليت عني" في الديوان نفسه.
وتكشف القصيدة من جانب آخر بعدا إنسانيا وشخصيا لدى الشاعر محمود درويش ، ذلكم هو تلكم العلاقة التي تجمعه بأمه، فهو عندما يحن إليها فكأنه يحن إلى نفسه، وعندما يستطيع الرجوع إلى راحتيها هو يعود إلى نفسه كذلك، ويعيد الشاعر هنا التذكير بهذا الحنين القديم لأمه، ليقدم البرهان على أنه ما زال كما عهدته، فقد كتب الشاعر قصيدته "إلى أمي" قبل عشرين عاما من كتابة هذه القصيدة، والآن يعيد تذكير نفسه والقارئ بها، فقد سبق أن قال في تلك القصيدة:
أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة
أمي، وتكبر في الطفولة يوما على صدر يوم"
وهنا تراه يقول:
أحن إلى خبز صوتك أمي! أحن إلى كل شيء. أحن إليّ أحن إليك"
إنه الحنين الشامل هنا، وليس بعضه المجسد قبل عشرين عاما بالقهوة والخبز واللمسة، أنه يحن إلى كل شيء، وإلى نفسه، يا له من وَلَهٍ!
ويبدو أن درويش الشاعر قد رأى في أمه العارفة والمتنبئة، وليس فقط تلك الأم البسيطة، فعندما يعبر الشاعر عن إحساسه تجاه من عرف من النساء، ليكتشف أنهن سراب وظل ورمل، يؤكد الشاعر ذلك الجانب في تلك الأم، فقد أبان درويش عن ذلك في قصيدة بعنوان "تعاليم حورية"، فما قال درويش في القصيدة هنا:
"أضعت
يديا على خصر امرأة من سراب. أعانق رملا أعانق ظلا"
وأعاد ذلك في قصيدة "تعاليم حورية"، لنقرأ وصية أمه هناك:
تقول لي مثلا:
تزوج أية امرأة من الغرباء، أجمل من بنات الحي. لكن،
لا تصدق أية امرأة سوايَ
ها قد وضحت الرسالة أيها الشاعر، إنه البر إذن بأمك وفلسطين، ولذلك تصر على أن تعود إليهما صبيا طفلا لا ترى نفسك، وقد جاوزت الأربعين- وقت كتابة القصيدة- إلا طفلا محتاجا إلى لمسة حنان ولهفة شوق، فالعودة والبقاء في فلسطين والعيش في كنف الأم هو الذي يجعل الطفل ينمو نموا طبيعيا، حتى يصل إلى مرحلة الرجولة، فكيف يعيش الرجولة، وقد حرم من طفولته الطبيعية؟ يا لها من مأساة أيها الشاعر الكبير، أن يهرم الإنسان وفي داخله إحساس بأنه كان في الإمكان العيش بأبسط مما عاش، وأن لا يرى ما رآه في منافي البلاد طولها وعرضها!
وهكذا، ظهر لي خلال هذه القراءة في تلك القصيدة "لديني.. لديني لأعرف" أنها كانت قصيدة مركزية في الديوان من حيث الفكرة والهدف، فما أجمله هنا وأشار إليه قد فسره في مواقع أخرى من الديوان، أو ادخره لقصائد لاحقة، دون أن يكرر الشاعر نفسه، بل طور أفكاره، وخطا خطوات أبعد في التعبير عن المعاني، إنه الشاعر الذي لن يفقد صوته، وإن رحل عنا إلى عالم الخلود، إنه باق بقاء الحياة نفسها، عازفا نشيدا عذب الصور، يقول لنا في كل غدوة ورواح:
"ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا".
وأخيرا لقد نال الشاعر ما كان يريده، فقد ولد على أرض طاهرة، وتجذر فيها كشجرة زيتون، وحظي بلقاء أمه، فقد عرف الشاعر في أي أرض مات، ومن أي أرض سيبعث حيا، أيقونة عابقة بأريج الأمل، لنحيي معا ذكرى مولده السبعين، فكل ذكرى وأنت المغرد يا درويش.
--------------------------------------------------------------
. ديوان محمود درويش ، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، ط1، 1994، ص352.
. الديوان، المجلد الثاني، ص359
. السابق، ص332.
. القرآن الكريم، سورة مريم الآيتان (31-32).
. الديوان، ص361.
. الديوان، المجلد الأول، دار العودة، بيروت، ط14، 1994، ص93، والقصيدة من ديوان (عاشق من فلسطين)، الصادر سنة 1966.
. ديوان لماذا تركت الحصان وحيدا، دار رياض الريس، لندن، ط1، 1995، ص80، وحورية هو اسم والدة الشاعر.
. الديوان، المجلد الثاني، ص 371.
المراجع
موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث