ظل إشكالية المنهج، باعتبارها مدخلا للدراسات الأدبية، إحدى أهم الإشكاليات التي ما فتىء النقاد يمرقون أمامها بدعواهم التي يعرضونها- تصريحا أو تلميحا- مضمنة في أن الصرامة المنهجية قد تفقد العمل الأدبي ألقه وبهاءه المتجلين في أهم خاصية له، وهي: أن إنتاجه يشكل أرقى مستويات التحقق وقراءته تمثل أهم ركيزة لشموليته. وهي الدعوى التي يعترض عليها بعضهم الآخر جاعلا من التطبيقات المنهجية بآلياتها الإجرائية وآفاقها التأويلية، مدخلا حقيقيا لتلقي المنتج النصي الذي لم يكتب أساسا إلا للإجابة على السؤال الذي ما فتىء يتكرر منذ أن طرحه سارتر " لمن نكتب" ؟ في سياق تساؤله عن ماهية الأدب.
بين دعوى هؤلاء العارضين وحجج أولئك المعترضين كان النقد الأدبي يؤسس لذاته أفقا جديدا متمثلا هذه المرة في تجاوز مساءلة النص إلى مساءلة ما كتب عنه (نقده)، خالقا ذلك التراكم المنهجي والنقدي الذي احتفت به كثير من كتب نقد النقد.
لقد وجد النص الأدبي والنقد الأدبي نفسيهما معا معرضين لسلطة نقدية تتأسس على إنتاج خطاب على خطاب وشواهد هذا الإنتاج يحفل بها المشهد النقدي الغربي وقبله وبعده المشهد النقدي العربي. وهو الإطار الذي يمكننا أن نفهم من خلاله غائية كتابة كتاب " الرؤى المموهة " للدكتور يحي عبابنة. يقسم يحي عبابنة كتابه إلى أربعة أقسام هي : القسم الأول : خصصه لما أ سماه صورة عرار وشعره من منظور من أعجب بشعره وشخصيته من الدارسين متخذا يعقوب العودات نموذجا ممثلا لهم. القسم الثاني : أفرده للحديث عن الرؤى في شعر عرار متحدثا فيه عن هذه الرؤى من خلال تيمات نصية أهمها الخمر والنور والنساء والوطنية …الخ القسم الثالث : وصفه بالاتساع وخصصه للحديث عن التشكيل اللغوي عند عرار. القسم الرابع : وسمه بشعرية العبث اللغوي في شعر عرار.
ولا يفوت النافد أن يتحدث عن إجرائية تأليفه للكتاب ممثلة في تصريحه:" أرجو أن تفهم هذه الدراسة على الوجه الذي دفعني إلى كتابتها ، وهو تسليط الضوء على شعر عرار بما يخدم هذا الشاعر الكبير نقديا ، بعيدا عن الروح الوجدانية والمحبة العميقة التي نكنها لشاعر استطاع أن يقف على واجهة شعراء العرب وأن يحتل مكانا مرموقا فيهم " (1).
بعيدا عن هذا الاحتراز النقدي الفطن ، يمكن أن نظر للقسم الأول من الكتاب باعتباره نقدا لنقد فهو قراءة في كتاب البدوي الملثم ويبدو من خلال ما يقترحه عبابنة لعنونة الفصل أن الناقد المنقود مزج في نقده بيم بعدين أحدهما عقلي والثاني عاطفي ، ويعدنا عبابنة ضمنيا- لكي لا نقول يوهمنا- بأنه سيوضح الحدود بينهما من خلال عنونة القسم ب " حدود الموضوعية و مؤثرات العاطفة : قراءة في كتاب البدوي الملثم (عرار شاعر الأردن) "، ويتعرض الناقد في تمهيد القسم إلى كرونولوجية التلقيات النقدية لشعر عرار معتبرا إياها ذات طابع احتفالي ، ويرفضها مؤكدا على ضرورة إنجاز دراسة نقدية بعيدا عن الذات التاريخية / حياته انطلاقا من المتن الشعري ، وبالتالي فإن الناقد يعلن ميله إلى منهج نصي مستبعدا كل المؤشرات خارج النصية.
ويستعمل الناقد في دراسة كل المحاور التي تناولها بنيات نفي أو بنيات إثبات عبر التأكيد أو المعارضة أو التصحيح مميزا الشخصي عن العام والشعري عن التاريخي والحكم المسبق عن الحكم المستنبط من النص كقوله : "… ولك الحكم على موقفه من الدين لا يكون بهذه الحرارة والحميمة، بل بالرجوع إلى والبحث عن رؤيته للدين ن وهذا لا يعيب شعريته من حيث هو موقف ، فكثير من الشعراء الكبار كانت لهم هذه الصفة ، فهذا بشار بن برد و أبو نواس والوليد بن يزيد وغيرهم ، وكلهم متهم في دينه ، ولكن هذا لم ينقص من شعريتهم ومنزلتهم بين الشعراء " (2).
ويسوق الدكتور يحي عبابنة قصصا ترتبط بتاريخ وشخصية الشاعر ساقها البدوي الملثم ، معترضا على الخلط بين الذات الإنسانية والذات المبدعة "…وأنا هنا لا اعترض على صدق هذه الحادثة ، ولكن لي الحق في أن أثبت هنا أن البدوي الملثم لم يفرق بين عرار الشخص وعرار الشاعر " (3) ، وبالمنهج نفسه القائم على بنيات النفي والإثبات يتناول بقية المحاور: عرار والخمر – عرار والنور …الخ
غير أن ما يؤخذ على الناقد هو أن تبنيه للمنهج النصي كبديل للمنهج التاريخي لا يؤكده بشواهد تحليلية توضح مدى اقتناعه بهذا الإجراء وتؤكد مصداقية تبنيه مكتفيا بالإشارة إلى تخصيصه في ما يلي من أقسام نماذج لهذا الإجراء التحليلي أو ذاك (4).
بالانتقال إلى القسم الثاني من الكتاب " انحراف الرؤية في شعر عرار " يتم الانتقال من نقد النقد إلى النقد حيث سنلفي يحي عبابنة ناقدا مطبقا لمنهج لا كما وجدناه من قبل ناقدا لمنهج . ويستند الناقد في مستهل هذا القسم على تعارف معجمية لا سيما من لسان العرب للتمييز بين الرؤية والرؤيا معتبرا أن " لا فرق بينهما في المقصود فكلا المصطلحين يعني الدلالة نفسها (…) فقد أطلق عبد المحسن طه بدر على هذه الدلالة مصطلح الرؤية وتابعه بعض النقاد في حين استعمل محي الدين صبحي مصطلح الرؤيا مفضلا إياه على مصطلح الرؤية ، وتابعه في هذا الاستعمال آخرون " (5) . وهنا لابد أن نبدي تحفظنا على هذا التمييز من منظورين: أولهما : لغوي سياقي يجعل الأولى ترتبط بالجانب البصري والثانية ترتبط بالجانب الذهني ، بحيث ترتكز أولا هما على حاسة البصر والنظر اللاتأملي والمعاينة وكل أفعال المشاهدة المقابلة لأفعال الإنجاز بينما ترتكز الثانية على الحكم في جزئيته لا في عموميته مه اختلاف بينها وبين الحلم في التحقق باعتباره هو شكلا رؤيويا شيطانيا وهي شكلا رؤيويا نبويا تحققيا، ينعت في ثقافتنا الدينية بالمبشرة (الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له) ثانيهما :اصطلاحي نقدي تجعل كلتاهما لا تستقلان بذاتيهما في الاستعمال النقدي ، إلا عند من يخلط بينهما وبين الموقف والغائية أو المقصدية لا سيما عندما ترتبط "الرؤية" بالعالم في النقد الاجتماعي الجدلي وينظر إليها باعتبارها " مجموع التطلعات والأفكار المعبرة عن طائفة ما و التي تجعل تقف في مواجهة طوائف أخرى." أو ترتبط الثانية بالمقصدية وبالسؤال النقدي " لماذا نكتب" ؟ الذي عمقته الفينومينولوجيا الهوسرلية.
ويميز عبابنة بين رؤية عامة وأخرى خاصة ، يعتبر الأولى " الموقف الذي ينطلق الشاعر منه لتقديم نظرته إلى أمر من الأمور في شعره عامة … ونطلق هذا المصطلح على موقف الشاعر العام من هذه الأمور ، فإذا كان شاعرا قوميا تم تقلص موقفه إلى زاوية إقليمية ، فإننا نقول إن رؤيته قد انكسرت 6 وبين رؤيا خاصة وهي " الموقف الخاص " الذي ينطلق منه الشاعر لإبداع نصه الشعري (…) فمثلا إذا انطلق من موقف عام سياسي مثلا تم تركه ودخل في موقف ذاتي فإن المستوى الشعوري قد أصيب بالخلل 7 وهنا بالرغم من أن الشاعر لا يعلن عن منهج بعينه فإننا نجده يمزج بين ما هو تاريخي كاستشهاده بناصر الدين الأسد وما هو اجتماعي أثناء حديثه عن الرؤى وما هو نفسي أثناء تمييزه بين المستويات الشعورية وما هو نصي أثناء حديثه عن انحراف الرؤية والبنية الإيقاعية وهو ما يحاول تطويره في قسم التشكيل اللغوي "دراسة في الحقول الدلالية في شعر عرار " من خلال ترددات ألفاظ بعينها اعتمادا على معطيات إحصائية أو البحث في أشكال تناصية بمحاولة ردها إلى أصولها مرتبا الحقول وفقا لعدد المفردات وعدد الترددات ، وقد كان بإمكان الناقد أن يدرس جوانب أخرى لولا انه نظر إلى للوحدات اللغوية على أنها هي الألفاظ والقول المفرد وغاب عنه النظر إليها باعتبارها عناصر لغوية ذات معان ، وقد لا تكون ذات معان فهي أنساق من الأصوات مما يجعلها إما :
1- كلمات.
2- أجزاء ذات معان من الكلمات .
3- مجموعة من الكلمات.
وهي في كل هذا تتكامل مع المنهج النحوي المتناول للمعنى من جهة ، والذي يمكن اعتباره من جهة ثانية جامعة بين ما أصواتي وما هو تشكيلي فونولوجي وما مورفولوجي وبذلك جاء نظره للدلالة في حالتها السانكرونية الثابتة لا في حالتها الدياكرونية الدينامية. ويحترز الناقد مرة أخرى احترازا ذو حدين: يجعله من جانب يترك لنفسه هامشا من الخطأ العلمي باعتباره صفة محمودة العواقب ويجعله من جانب آخر يصف منهجه وصفا غير الذي انطلق منه تطبيقا " وأود أن أشير في نهاية هذا الفصل أن ما ورد فيه من آراء ما هو إلا اجتهادي الذي وصلت إليه نتيجة هذا المنهج الأسلوبي الذي اصطنعته لنفسي 8.
و في القسم المعنون بشعرية العبث اللغوي : يعتبر الشعرية تحققا للعبث بالدلالة لا باللفظ والواقع أن الشعرية تنطلق من سؤال مركزي حدد Denis Farcy في كتابه " معجم النقد" هو ما الذي يجعل من موضوع ما موضوعا شعريا ولو كان هذا الموضوع غير شعري؟ ويبدو أن الأستاذ عبابنة يعتبر الشعرية هي المنجز الشعري للدلالة أو اللفظ لذلك وجدناه أثناء التحليل يميل إلى البحث في الألفاظ ، وقد كان بمقدوره أن يتحدث في مستويات أخرى للشعرية كان قريبا منها كشعرية اللغة أثناء حديثه عن آلية العبث اللغوي . أما صفة العبث فتحتمل غير قليل من الإبهام لا سيما وأن تحديداتها المفهومية كما أوردها الناقد دون نعت هي حينا خرق وآخر شكل تأويلي وحينا ثالثا مظهرا رمزيا وهي في أحيانها الثلاثة لها مرجعيات نقدية خاصة كالبنيوية والتأويلية وعلم الدلالة ، ونقدم نموذجا لتحليله لما أسماه ب" ألية" العبث اللغوي : " قال(يتحدث عن عرار) مصورا رحلة من بيروت الى لارنكا في قبرص :
من رأس بيروت حتى ثغر لرناكا
لقد فركت مع الحسناء تنباكا
المعنى المعجمي لهذا البيت هو أنه رافق حسناء من بيروت إلى لرناكا وقد استمر مع هذه الحسناء بفرك التنباك طوال الرحلة ، فقد يؤخذ المعنى على هذا التفسير على أنه من قبيل لطيف الدعابات ولا يحمل رؤية ما .و هذا ما صرح به صديق الشاعر البدوي الملثم …وأما ما يمكن أن نقوله هنا فهو أن الشاعر قصد إلى أن الشاعر يسير في رحلة محددة من بيروت/ لارنكا برفقة حسناء جميلة ، وهذه الرحلة معادلة لرحلة الإنسان في الحياة المبتدأ المنتهى والحسناء معادلة للحياة الحلوة ..فمؤدى العبثية في هذا البيت هو رسم صورة الرحلة الإنسان في هذه الدنيا "9
وعموما فإن كتاب "الرؤى المموهة" يكتسب قيمة من وجهين اثنين، أولاهما : موضوعه الذي هو قراءة الشاعر عرار وتلمسه متنه الشعري الذي يحتاج إلى أكثر من قراءة لا سيما ديوانه "عشيات الوادي اليابس".
ثانيهما : علمية صاحبه الدكتور يحيى عبابنة المتجلية في إيمانه بالاجتهاد وقدرته على تأسيس الأفق الجديد المتمثل في تجاوز مساءلة النص إلى مساءلة ما كتب عنه .
الهوامش :
1- يحي عبابنة – الرؤى المموهة ، دراسات ، منشورات أمانة عمان الكبرى ، الطبعة الأولى 2001 ص 7.
2- نفسه ص 15.
3- نفسه ص 15-16.
4- كإشارته في ص 22 إلى تخصيصه دراسة لحقل الخمر ، وفي ص 29 للنشكيل اللغوي أثناء حديثه عن النور.
5- يحي عبابنة – م.س- ص 33.
6- نفسه ص 35
7- نفسه ص 36.
8-نفسه ص 128
9- نفسه ص142.
المراجع
موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث