تعود أولى الدلائل على وجود الجنس البشري على الأراضي البيلوروسية إلى العصر الحجري القديم الأوسط (100-35 ألف سنة). و كان الإنسان في العصر الحجري الوسيط يحصل غذاءه عن طريق الصيد والالتقاط. وفي العصر الحجري الحديث بدأ سكان المنطقة بممارسة الزراعة. وفي العصر البرونزي، بُدئ بصنع الأدوات المصنوعة من البرونز، مع استمرار إنتاجه للأدوات الحجرية. أما الأدوات الحديدية فقد بدأت بالظهور على الأراضي البيلوروسية بدءاً من القرن السابع ق.م. وفي هذه المرحلة بدأت بالظهور هنا مجموعات قبلية يربطها الباحثون بالقبائل السلافية القديمة. وفي الألف الأول ق.م، كانت المناطق الوسطى والقريبة من بيلوروسية مسكونة بمجموعة من القبائل الناطقة بلغة تنتمي إلى مجموعة اللغات البلطيقية، لكن هذه القبائل ذابت شيئاً فشيئاً مع القبائل السلافية التي بدأت بالتغلغل إلى مناطقها بدءاً من القرن الثاني الميلادي.
بيلوروسية بين القرنين التاسع والتاسع عشر
خضعت الأراضي البيلوروسية في القرن التاسع الميلادي لسلطة إمارة كييف ـ روس. وتعاظم أثر الإقطاعيين، ممثلين بالأمراء وكبار رجال الكنيسة، وتطورت في هذه المرحلة الحرف إلى حد كبير، وانقسم الحرفيون إلى فئتين: فئة تعمل لحسابها، وفئة أخرى تعمل لحساب بعض الإقطاعيين. ومع تطور الحرف، اتسع نطاق المبادلات التجارية، وظهرت نتيجة لذلك مدن جديدة مثل بريست ومنسك التي يعود أول ذكر لها لعام 1067.
وبنتيجة ضعف إمارة كييف ـ روس وانحسار نفوذها، ظهر على الأراضي البيلوروسية مجموعة كبيرة من الإمارات الإقطاعية الصغيرة. خضعت هذه الإمارات للحكم البولوني ـ اللاتفي لمدة قرون، ففي القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين كانت أراضي بيلوروسية تنحصر بين الأجزاء الشمالية الشرقية والأجزاء الشرقية من الأقاليم الحديثة الحاضرة (بولتسك وفيتبسك وماغليف)، وفي وقت لاحق امتدت سيطرتها على بقية الأنحاء وبدأت تأخذ تسميتها الراهنة بيلوروسية (روسية البيضاء)، وظلت أراضيها التي كانت تقع ما بين الدولة الموسكوفية والبولونية، طوال بضعة قرون حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، منطقة مشتعلة وحلبة للصراع بين هاتين الدولتين.
وحين اتحدت أوكرانية[ر] مع روسية[ر] عام 1654، تمكنت القوات الروسية من تحرير معظم الأراضي البيلوروسية، ولكنها اضطرت للانسحاب منها مع انشغالها بالحرب إزاء السويد، وعادت بيلوروسية لتخضع مجدداً للحكم البولوني. ولكن بعد الهزائم التي لحقت بالجيوش البولونية ـ اللاتفية، في أواخر القرن الثامن عشر على يد القوات الروسية، واقتسام بولونية مع بروسية والنمسة، ضمت الأراضي البيلوروسية إلى الامبراطورية الروسية، التي احتلت في عام 1772 القسم الشرقي منها، وفي عام 1793 القسم الأوسط ومدينة منسك، وفي عام 1795 القسم الجنوبي الغربي، وبذلك خضعت سائر المناطق البيلوروسية لحكم روسية القيصرية. وكان هذا الضم إيجابياً من ناحية، إذ وضع الاقتصاد البيلوروسي في إطار اقتصاد الدولة الروسية، مما سمح بتنشيط هذا الاقتصاد، ولكن من ناحية أخرى، حاولت الحكومة القيصرية محو اسم بيلوروسية من الوجود وصدر مرسوم عام 1840 بمنع استخدام هذا الاسم.
بيلوروسية في الحرب العالمية الأولى والعهد السوفييتي
كانت بيلوروسية في الحرب العالمية الأولى، مسرحاً لعمليات حربية واسعة، فاحتل الجيش الألماني عام 1915 الأجزاء الغربية من بيلوروسية. وأثناء ما عرف بثورة شباط عام 1917، انقسم البيلوروسيون إلى مناصرين للثورة، وآخرين مؤيدين للحكومة المؤقتة المدعومة من قبل البيض. أعقبتها ثورة أكتوبر (تشرين الثاني) 1917 التي لاقت استجابة سريعة في منسك، حين أُعلن عن قيام السلطة السوفييتية فيها. وفي الأول من كانون الثاني 1919 أعلنت الحكومة البيلوروسية، قيام جمهورية بيلوروسية الاشتراكية السوفييتية. وفي الحرب الأهلية بين العامين 1918-1920 خضعت أجزاء واسعة من بيلوروسية للاحتلال البولوني، ولمقاومة هذا الاحتلال أعلن في شهر شباط 1919 الاتحاد بين بيلوروسية ولاتفية، وبنتيجة تدخل الجيش الأحمر في بيلوروسية، تحررت من الاحتلال البولوني، ودخلت القوات المنتصرة مدينة منسك في 11 تموز 1920. وفي 31 منه أُعلن حل الوحدة اللاتفية البيلوروسية، ثم أعلن انضمام بيلوروسية إلى اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية في 30 كانون الأول 1922، ولكن القسم الغربي ظل خاضعاً لسيطرة الحكومة البولونية، ولم تُضم أراضي بيلوروسية الغربية إلى الشرقية والاتحاد السوفييتي إلا في عام 1939.
وفي الحرب العالمية الثانية تعرضت أراضي بيلوروسية للغزو النازي (1941) الذي أدى إلى تدمير نحو 209 مدن و9200 قرية وعشرة آلاف منشأة صناعية. وفي تموز عام 1944 حُرِّرت أراضي الجمهورية بما فيها العاصمة منسك، وعاشت بيلوروسية جمهورية اتحادية تابعة للاتحاد السوفييتي، طوال مدة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى مطلع تسعينات القرن العشرين.
أعادت الحكومة السوفييتية في خلال الخطط الخمسية التي وضعتها، بناء كل ما دمرته الحرب العالمية الثانية. وحين أُسِّست الأمم المتحدة عام 1945 كانت بيلوروسية من الدول المؤسسة لهذه المنظمة الدولية، وكان لها صوت فيها.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي في آب 1991، أعلنت بيلوروسية جمهورية مستقلة، وغدت جمهورية رئاسية منذ عام 1994، يتألف برلمانها من مجلس للنواب (110 أعضاء) ومجلس للجمهورية (64 عضواً)، وينتخب رئيس الجمهورية كل سبع سنوات، وكانت من الدول المؤسسة لرابطة الدول المستقلة، التي أسست عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وجرت فيها انتخابات نيابية ورئاسية عام 1995 أسفرت عن فوز الشيوعيين السابقين بالأغلبية. وفي عام 1997 وقِّع على اتحاد فيدرالي بين بيلوروسية وروسية الاتحادية.
الحضارة والعادات والتقاليد: بدأت الملامح الحضارية الخاصة بالشعب البيلوروسي تتبلور في القرنين 14 و15 الميلاديين، وهي تتطابق في أساسها مع التقاليد والعادات والملامح العامة، التي تتصف بها معظم الشعوب السلافية الشرقية، إلى جانب وجود بعض الخصائص المميزة للسكان المحليين، كتلك التي تتعلق بالملابس التقليدية البيضاء المطرزة والمزينة بالألوان الزاهية، وكذلك عادات الزواج التي لا تزال تحتفظ بطابعها الشعبي، وخاصة في المناطق الريفية.
التعليم: خطت بيلوروسية بعد الثورة الاشتراكية خطوات كبيرة في مجال التعليم والثقافة بعد أن كان ثلثا السكان أميين في العهد القيصري، ولم يكن فيها أية مدرسة عليا، وكانت تخلو تقريباً من الصحف والمجلات الدورية. وقد قضي على أغلب مظاهر الأمية، وافتتحت أكثر من 31 مؤسسة تعليمية عليا، أهمها جامعة منسك الحكومية عام 1921، وكذلك نحو 135 معهداً متوسطاً. وفي عام 1929 أسست أكاديمية للعلوم البيلوروسية في العاصمة منسك. تصدر في الجمهورية الكثير من الصحف والمجلات الدورية والكتب المختلفة، وأُصدر 70 مليون كتاب باللغة البيلوروسية تُرجم الكثير منها إلى لغات مختلفة.
الآداب والفنون: تعود أقدم الآداب البيلوروسية المدونة إلى مدة خضوعها لحكم إمارة كييف ـ روس. وبين العامين (1517-1519) ظهرت أول الكتب المطبوعة باللغة البيلوروسية، ودخل الأدب البيلوروسي مرحلة من التراجع الشديد أثناء الحكم البولوني، إذ منع استخدام اللغة البيلوروسية وطباعة الكتب بها. وعادت الآداب البيلوروسية للازدهار مع إعلان انضمام بيلوروسية إلى روسية، وبلغ هذا الأدب أوجه في العهد السوفييتي، وصار جزءاً من الأدب السوفييتي.
وتعود أقدم الآثار الفنية التي عثر عليها على الأراضي البيلوروسية إلى العصور الحجرية. وإلى الألف الأول ق.م تعود المصنوعات الفنية المعدنية (البرونزية والحديدية). وفي النصف الأول من الألف الأول الميلادي ازدهرت عمارة البيوت الخشبية، وحين أعلنت المسيحية ديانة رسمية في بيلوروسية شيدت مجموعة رائعة من الكنائس الخشبية، وتعود مجموعة من الأيقونات المحفوظة حالياً في متاحف روسية وبيلوروسية إلى القرون الوسطى المتأخرة. ولكن الكثير من الآثار الحضارية البيلوروسية، دمرتها الحروب الكثيرة التي شهدتها بيلوروسية في تاريخها الطويل. أما الفنون والمعالم الحضارية الحديثة فلا تختلف عن مثيلاتها في الاتحاد السوفييتي السابق.
يصل عدد المسارح في بيلوروسية إلى 18 مسرحاً متخصصاً، موزعة في شتى أنحاء البلاد، أشهرها المسرح المسمى باسم الكاتب والشاعر الشعبي البيلوروسي يانكاكوبالا الذي أُسِّس عام 1920، والمسرح الدرامي باسم مكسيم غوركي في العاصمة منسك.
وأشهر الكتاب الشعبيين البيلوروسيين يانكاكوبالا ويعقوب غولاس اللذان عبّرا في مؤلفاتهم الشعرية والنثرية والدرامية عن معاناة الشعب البيلوروسي وتطلعاته. إلى جانب شعراء وكتاب آخرين ذاع صيتهم في جميع الأرجاء أمثال بتروسيابرانكا ومكسيم تانكا وميخاسالينكوف وموزما تشيرنا وإيفان شامياكين وإيفان ميلج وفاسيلي بيكون، ومن الكتاب المتخصصين في الكتابة المسرحية كرابيف وماكينكا. ويُعد بونيتسك مؤسس أول المسارح المتخصصة البيلوروسية.
وكان للأدب المسرحي الفضل الكبير في تطور الموسيقا الوطنية البيلوروسية، ومن أشهر المؤلفين الموسيقيين الموسيقار رغوفسك. وتشتهر الموسيقا البيلوروسية بغناها، ولاسيما في المجال الغنائي للأوبرا والباليه، التي تمثل في أغنياتها ورقصاتها التراث الشعبي والوطني البيلوروسي. وفيما يتعلق بفنّي النحت والتصوير فقد حققا نجاحاً واسعاً في العهد السوفييتي، واستطاع الفنانون البيلوروسيون إقامة المعارض العالمية في أوربة الشرقية والغربية والولايات المتحدة الأمريكية. وفي الجمهورية 67 متحفاً وأكثر من 6000 نادٍ ونحو 7000 مكتبة، وهذا دليل واضح على غنى الحياة الثقافية والحضارية فيها.
 
هيثم ناعس

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

أبحاث