الأديب السويدي آوغست سترندبرغ ( سترندبِري) August Strindberg هو الكاتب الأغزر إنتاجاً والأكثر تنوعاً في بلاده. أقام في العديد من بلدان أوربا وكتب عن أهلها وتأثر بالعديد من مفكريها وكتابها، كما أثّـر هو نفسه في آخرين، وأسهم إلى حد كبير في تطوير المسرح الأوربي، وكتب، إضافة إلى لغته الأم، بالفرنسية وحاول أن يجد لنفسه مكاناً بين الأدباء الألمان في برلين. 
 
ولد سترندبرغ في عائلة كبيرة لأب ينتمي إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة، وأم كانت تعمل خادمة، توفيت وهو في بداية سن المراهقة، إلا أنها نمّـت لديه إحساساً مرهفاً، وأضحت علاقته بوالده الصارم الذي تزوج من جديد شائكة زرعت لديه بذور الثورة والتمرد. وكان لهذه النشأة أثر كبير في مواقفه الحياتية، كما أدت نشأته في المدينة إلى اكتشافه الطبيعة حولها وعلى وجه الخصوص ساحلها Skärgården، المكون من آلاف الجزر الصغيرة والكبيرة، وهو بستان العاصمة ومتنفسها الذي ظل يعود إليه في كتاباته حتى آخر أيامه. انتسب إلى جامعة أُبسالا Uppsala عام 1867 لدراسة الطب، إلا أن العوز المادي دفعه إلى ترك الدراسة نهائياً عام 1872 والعمل في الصحافة. 
 
كانت أولى مؤلفات سترندبرغ مسرحيات من فصل واحد تعلم عن طريقها فن الكتابة، إلا أنه لم يدخل عالم الأدب فعلاً إلا نتيجة اطلاعه على فلسفة كيركغارد[ر] ومؤلفات شكسبير[ر] وغوته[ر] و إبسن[ر] الذين أخذ عنهم الكثير. ابتعد عن الطريقة التقليدية في الكتابة المسرحية السائدة حينئذ، فكانت باكورة مسرحياته المهمة «أولوف المعلم» (1872) Mäster Olof التي كتبها نثراً في البداية، وشعراً عام 1878 بهدف التخفيف من حدة الصبغة الواقعية والثورية فيها. وتتحدث المسرحية في الظاهر عن الثورة السياسية والإصلاح الديني في القرن السادس عشر، وعن الضغوط والمغريات التي يواجهها المصلح أولاوس بِتري Olaus Petri للتخلي عن رسالته، إلا أنها تتحدث في الواقع عن المؤلف نفسه وبحثه عن المنطق والحقيقة والتناغم مع الذات في وجه اللامنطق والوهم والتناقض. وللوصول إلى هدفه ضرب سترندبرغ بكل الأصول والقواعد عرض الحائط، فاستخدم الخاص بدلاً من العام واللغة النثرية المحكية بدلاً من الشعرية البطولية، ومزج الرفيع بالوضيع والجدي بالمضحك والأصلي بالمبتكر. ومع ذلك، أو ربما بسببه، رفضها المسرح الملكي ولم تعرض إلا بعد مرور عشرة أعوام. 
 
لوحة «الجحيم» Infeerno بريشة سترندبرغ
كان للمرأة أثر مهم في حياة سترندبرغ وإنجازاته الأدبية مع زواجه الممثلة الفنلندية ـ السويدية سيري فون إسّن Siri von Essen عام 1877 فطلاقهما عام 1881، فزواجه الصحفية النمساوية فريدا أُول Frida Uhl بين الأعوام 1893ـ1896، ثم الممثلة النروجية الشابة هارييت بوسـِّه Harriet Bosse بين أعوام 1901ـ1904 اللواتي أنجبن له خمسة أطفال وحصلن على حضانتهم مما آلمه كثيراً، وحمَّلهن كلهن أسباب الإخفاق ولم يغفر لهن يوماً عدم ارتقائهن إلى مستوى المثل الأعلى الذي كان قد وضعه للمرأة. كتب روايته «الزواج» (1884ـ1886) Giftas في جزأين ظهرت فيها بوضوح نزعته المعادية للمرأة والمعارضة لتحريرها ووصلت به حد الهوَس. وبسبب نقده اللاذع لمؤسسة الزواج وعرضه لموضوع العلاقة بين الجنسين اتّهـم بالتجديف والاستخفاف بتعاليم الكنيسة وحوكم ثم بُرّئ. ثم كتب مسرحيات اتسمت بالنـزعة الطبيعية[ر] منها « الأب» (1887) Fadren وموضوعها خلاف الأبوين حول تربية وتعليم الأولاد ولجوء الزوجة إلى تحطيم توازن زوجها النفسي عن طريق الإيحاء، و«الرفاق» (1888) Kamaraternaالتي يصير فيها الزوجان طرفين في التآمر وفي صراع الأفكار. أما في «الآنسة جولي» (1888) Fröken Julie، التي تعد من أفضل مسرحياته وأكثرها عرضاً على خشبات المسارح العالمية، يتعرض سترندبرغ من جديد لموضوع الصراع الطبقي والصراع بين الجنسين؛ إذ تستسلم جولي ابنة النبيل لإغواء خادم أبيها، الذي ينبذها بعد ذلك، فتؤثر الانتحار، وكتب أيضاً «المدينون» (1899)Fordringsägare، و«رقصة الموت» (1901) Dödsdansen، التي أدخل فيها عنصر الموسيقى، حيث لا انفكاك من هذا الصراع الأزلي إلا بالموت. 
 
كتب سترندبرغ روايته الأولى «الغرفة الحمراء» (1879) Röda rummetفكانت إيذاناً بدخول النـزعة الواقعية[ر] في الأدب السويدي [ر]. ومع روح الدعابة التي تمتعت بها، وبأسلوب ناقد إجتماعي آخر من مواطنيه هو ألمكفيست[ر]، صب جام غضبه على كل من رأى أنهم يقفون في وجه التطور الاقتصادي والاجتماعي، بدءاً من العائلة المالكة فالكنيسة والأكاديمية السويدية والأدباء وانتهاء بالمسرح والصحافة والتجار والصناعيين، فكانت نقداً اجتماعياً لاذعاً للوضع الراهن شفى غليل الكثيرين من مواطنيه فأضحى بطلهم، إلا أنه في الوقت نفسه أثار نقمة كثيرين آخرين. وتابع هذا النهج في «المملكة الجديدة» (1882) Det nya riket منتقداً سيطرة الدولة على حياة الأفراد. ثم بدأ كتابة سلسلة من المؤلفات حول سكان ساحل ستوكهولم، كانت أولى حلقاتها «أهالي هِمسـو» (1887) Hemsöborna، وهي وصف واقعي لحياة الناس البسطاء المكافحين في سبيل عيشهم اليومي، كتبها في وقت عصيب فكانت علاجاً له. ومع أنه لم يعدها آنئذ بين أفضل مؤلفاته إلا أنها لاقت استحساناً كبيراً لدى جمهور القراء وأضحت من التراث وصنعت منه زولا[ر] السويدي. كتب حلقات أخرى في هذه السلسلة، منها مجموعة الروايات القصيرة «حياة ساكن الساحل» (1888) Skärkarslif، ورواية «على ساحل البحر»(1890) I hafsbandet التي تغلب عليها نـزعة نيتشوية [ر. نيتشه] إذ يقول فيها بتفوق الإنسان المثقف. 
 
بعد محاكمته وتبرئته من تهمة التجديف شعر سترندبرغ بالحاجة إلى تسويغ مواقفه لقرائه فكتب سيرته الذاتية «إبن الخادمة» (1886ـ1909) Tjenstekvinnans son في خمسة أجزاء، على غرار «اعترافات» روسو[ر]، حلل فيها مراحل حياته اعتماداً على النظريات السائدة حينئذ في علم النفس، من تداع للأفكار والتركيب المعقد للأنا الإنسانية، محاولاً تبرئة ساحته والعودة بجذوره إلى الطبقة الدنيا في المجتمع ليخلق من نفسه بطلاً بروليتارياً. وكتب أيضاً « دفاع المعتوه عن نفسه» (1887ـ1888) Le Plaidoyer d’un fou بالفرنسية في محاولة لدرء تهمة الجنون عن نفسه التي روج لها بعض خصومه.
 
«سوناتا الأشباح» من إخراج انغمار برغمان 

 
عاش سترندبرغ بعد زواجه وطلاقه الثاني من فريدا أُول أزمة نفسية حادة فكتب «الجحيم» (1897) Inferno، وهي في السيرة الذاتية كتبها باللغة الفرنسية، وكانت محاولة للخروج من تلك الأزمة ولفهم العالم من حوله وللبحث عن الخلاص.
 
ولجأ أيضاً إلى دراسات شبه علمية وإلى الشعوذة وأمور ما وراء الطبيعة والأوكلتية Occultism، وأخيراً إلى فلسفة مواطنه الصوفي سويدنبورغ[ر] Swedenborg التي أوصلته إلى القناعة بوجود «قوى» خارجة عن إرادة الإنسان تسيره، وبأن العالم ما هو إلا وهم وحلم وما الحياة إلا جهنم على الأرض. ومن هنا نبعت ثلاثيته المسرحية المميزة «إلى دمشق» (1898ـ1904)Till Damaskus ، التي جدد فيها الدراما والمسرح، وترجمت إلى العربية عن الفرنسية بعنوان «الطريق إلى دمشق». وغالباً ما تُقدم الشخصية الرئيسية في المسرحية «الغريب» مرتدية قناع وجه على هيئة سترندبرغ نفسه ومعه شخصية «السيدة»، أو إيفا (حواء) كما يناديها هو، وفيها ملامح من زوجتيه الأولى والثانية. ويجول «الغريب» من محطة مسرحية إلى أخرى رجوعاً إلى نقطة البداية مجسداً تكرارية الحدث ودائرية الوجود وانعدام الزمان والمكان، في جو يشبه إلى حد بعيد جو الأحلام المتشابكة والتخيلات والهلوسات، ودخل الكاتب بذلك مجال المسرح التعبيري. 
 
من جملة إسهامات سترندبرغ الطليعية في المسرح «لعب الحلم» (1902) Ett drömspel، وهي مسرحيته الأهم والأكثر أصالة من حيث البناء الدرامي، أخذ فكرتها عن الفلسفة البوذية. وقد كتب فيها دور ابنة الإله إندرا Indra خصيصاً لزوجته الثالثة هارييت بوسـِّه. ففي حلم الشاعر تنـزل ابنة الإله إندرا إلى الأرض لتراقب البشر عن كثب، ولتنقل الصورة لأبيها حول ما إذا كانت شكوى البشر من صعوبة الحياة مبررة، فتعيش معاناتهم، وتصبح جملتها «واحسرتاه على البشر» اللازمة التي تصاحبها في انتقالها من مجموعة بشرية إلى أخرى. وقد حاول الكاتب، عن طريق استعمال الرموز الثابتة على خشبة المسرح وفي الحوار، تقليد عالم الأحلام حيث لا منطق ولا تسلسل، ويصبح اللاممكن ممكناً، وهو أسلوب طوره جويس[ر] في الرواية لاحقاً في ما سُمي بتيار الوعي. 
 
كتب سترندبرغ ما أطلق عليه اسم «مسرح الحجرة » Kammarspel، وهي تسمية اخذها عن المخرج المسرحي النمساوي ماكس راينهارت [ر]، عزز من خلاله مفهومه للمسرحية والمشهدية وأهمية الكلمة (الحوار) واختزال الديكور والأزياء إذ يقول «طاولة وكرسيان هو الوضع المثالي». ونتيجة لهذا التوجه أطلق سترندبرغ «المسرح الحميمي» Intima Teatern الذي افتتحه عام 1907 وقدم على خشبته عدداً من مسرحيات الحجرة منها «جزيرة الموتى» De dödas ö، و«سوناتا الأشباح» Spöksonaten التي تعد أفضلها، إذ تضمنت جميع الخصائص التي يجب أن تتوافر في المسرحية، وآذنت بالكثير مما آل إليه حال الدراما الأوربية في مابعد، ووصل بالمسرح الطبيعي إلى ذروته ومن ثم إلى التعبيرية[ر]. 
 
كتب سترندبرغ عدداً كبيراً من المسرحيات التاريخية استمدها من تاريخ ملوك السويد، منها «غُستاف ڤاسا» (1899) Gustaf Vasa، وعدداً من المقالات في التأمل الفلسفي في ما اسماه «كتاب أزرق» (1907ـ1912) En blå bok ، وأيضاً مسرحيته التعبيرية الأخيرة «الطريـق الكبيرة» (1909) Stora landsvägenالتي ضمت خلاصة خبرته الأدبية ووداعه للشعر. 
 
ليس هناك من سبيل لوضع حد يفصل سترندبرغ الكاتب عن مؤلفاته وشخصياتها، إذ يلغي هذا الحد بحثُه عن الحقيقة والسكينة والذات، والتداخل بين السيرة الذاتية والمتخيل. فالمسرح عنده هو الرواية، والشعر النثر، والواقع الحلم. 
 
من مسرحيات سترندبرغ الأخرى: «في روما» I Rom، «المطلوب» (1871) Den fredlöse ، «زوجة السيد بنكت» Herr Bengts hustru، «رحلة بير المحظوظ» (1882) Lycko-Pers resa ، «الأقوى» (1889) Den starkare، «حب الأم» Moderskärlek، «في حضرة الموت» Inför döden، «اللعب بالنار» (1893) Leka med elden، «الفصح» (1910) Påsk ، «الأرض المحروقة» Brända tomten، «البجع» Pelikanen، «العاصفة» (1907) Oväder ، «القفاز الأسود» (1909) Svarta handsken، «ساغافولكنغا» Folkungasagan، «إريك الرابع عشر» (1899) Erik XIV، «الملكة كريستينا» (1910) Drottning Kristina. ومن مؤلفاته في الرواية والرواية القصيرة والقصة القصيرة «مدن فاضلة في الواقع» (1885) Utopier i verkligheten، و«رايات سوداء» Svarta fanor، و«كبش الفداء» (1907) Syndabocken، و«مصائر ومغامرات سويدية»(1882ـ1891)  Svenska öden och äfventyr ، و«حكايات»         (1903) Sagor.كما كتب في مجال الشعر «قصائد شعرية ونثرية» (1883) Dikter på vers och prosa، و«لعب بالكلمات وفنون صغيرة» (1905) Ordalek och småkonst، وفي المقالة «تشريح» (1959) Vivisektioner بالفرنسية، وفي اليوميات «مذكرات أوكلتيه» (1977) Ockulta Dagboken, و«وحيداً»        (1903) Ensam ، وفي تاريخ اللغة «أصول لغات العالم» (1811) Världs-språkens rötter.
 
توفي سترندبرغ في ستوكهولم بعد مرض عضال، وسار وراء نعشه أكبر جمهور في تاريخ المدينة حتى ذلك الحين. 
 
طارق علوش
 
سترندبـرغ (آوغست ـ)
 
( 1849 ـ 1912)
 
 
 
الأديب السويدي آوغست سترندبرغ ( سترندبِري) August Strindberg هو الكاتب الأغزر إنتاجاً والأكثر تنوعاً في بلاده. أقام في العديد من بلدان أوربا وكتب عن أهلها وتأثر بالعديد من مفكريها وكتابها، كما أثّـر هو نفسه في آخرين، وأسهم إلى حد كبير في تطوير المسرح الأوربي، وكتب، إضافة إلى لغته الأم، بالفرنسية وحاول أن يجد لنفسه مكاناً بين الأدباء الألمان في برلين. 
 
ولد سترندبرغ في عائلة كبيرة لأب ينتمي إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة، وأم كانت تعمل خادمة، توفيت وهو في بداية سن المراهقة، إلا أنها نمّـت لديه إحساساً مرهفاً، وأضحت علاقته بوالده الصارم الذي تزوج من جديد شائكة زرعت لديه بذور الثورة والتمرد. وكان لهذه النشأة أثر كبير في مواقفه الحياتية، كما أدت نشأته في المدينة إلى اكتشافه الطبيعة حولها وعلى وجه الخصوص ساحلها Skärgården، المكون من آلاف الجزر الصغيرة والكبيرة، وهو بستان العاصمة ومتنفسها الذي ظل يعود إليه في كتاباته حتى آخر أيامه. انتسب إلى جامعة أُبسالا Uppsala عام 1867 لدراسة الطب، إلا أن العوز المادي دفعه إلى ترك الدراسة نهائياً عام 1872 والعمل في الصحافة. 
 
كانت أولى مؤلفات سترندبرغ مسرحيات من فصل واحد تعلم عن طريقها فن الكتابة، إلا أنه لم يدخل عالم الأدب فعلاً إلا نتيجة اطلاعه على فلسفة كيركغارد[ر] ومؤلفات شكسبير[ر] وغوته[ر] و إبسن[ر] الذين أخذ عنهم الكثير. ابتعد عن الطريقة التقليدية في الكتابة المسرحية السائدة حينئذ، فكانت باكورة مسرحياته المهمة «أولوف المعلم» (1872) Mäster Olof التي كتبها نثراً في البداية، وشعراً عام 1878 بهدف التخفيف من حدة الصبغة الواقعية والثورية فيها. وتتحدث المسرحية في الظاهر عن الثورة السياسية والإصلاح الديني في القرن السادس عشر، وعن الضغوط والمغريات التي يواجهها المصلح أولاوس بِتري Olaus Petri للتخلي عن رسالته، إلا أنها تتحدث في الواقع عن المؤلف نفسه وبحثه عن المنطق والحقيقة والتناغم مع الذات في وجه اللامنطق والوهم والتناقض. وللوصول إلى هدفه ضرب سترندبرغ بكل الأصول والقواعد عرض الحائط، فاستخدم الخاص بدلاً من العام واللغة النثرية المحكية بدلاً من الشعرية البطولية، ومزج الرفيع بالوضيع والجدي بالمضحك والأصلي بالمبتكر. ومع ذلك، أو ربما بسببه، رفضها المسرح الملكي ولم تعرض إلا بعد مرور عشرة أعوام. 
 
 
لوحة «الجحيم» Infeerno بريشة سترندبرغ
 
 
كان للمرأة أثر مهم في حياة سترندبرغ وإنجازاته الأدبية مع زواجه الممثلة الفنلندية ـ السويدية سيري فون إسّن Siri von Essen عام 1877 فطلاقهما عام 1881، فزواجه الصحفية النمساوية فريدا أُول Frida Uhl بين الأعوام 1893ـ1896، ثم الممثلة النروجية الشابة هارييت بوسـِّه Harriet Bosse بين أعوام 1901ـ1904 اللواتي أنجبن له خمسة أطفال وحصلن على حضانتهم مما آلمه كثيراً، وحمَّلهن كلهن أسباب الإخفاق ولم يغفر لهن يوماً عدم ارتقائهن إلى مستوى المثل الأعلى الذي كان قد وضعه للمرأة. كتب روايته «الزواج» (1884ـ1886) Giftas في جزأين ظهرت فيها بوضوح نزعته المعادية للمرأة والمعارضة لتحريرها ووصلت به حد الهوَس. وبسبب نقده اللاذع لمؤسسة الزواج وعرضه لموضوع العلاقة بين الجنسين اتّهـم بالتجديف والاستخفاف بتعاليم الكنيسة وحوكم ثم بُرّئ. ثم كتب مسرحيات اتسمت بالنـزعة الطبيعية[ر] منها « الأب» (1887) Fadren وموضوعها خلاف الأبوين حول تربية وتعليم الأولاد ولجوء الزوجة إلى تحطيم توازن زوجها النفسي عن طريق الإيحاء، و«الرفاق» (1888) Kamaraternaالتي يصير فيها الزوجان طرفين في التآمر وفي صراع الأفكار. أما في «الآنسة جولي» (1888) Fröken Julie، التي تعد من أفضل مسرحياته وأكثرها عرضاً على خشبات المسارح العالمية، يتعرض سترندبرغ من جديد لموضوع الصراع الطبقي والصراع بين الجنسين؛ إذ تستسلم جولي ابنة النبيل لإغواء خادم أبيها، الذي ينبذها بعد ذلك، فتؤثر الانتحار، وكتب أيضاً «المدينون» (1899)Fordringsägare، و«رقصة الموت» (1901) Dödsdansen، التي أدخل فيها عنصر الموسيقى، حيث لا انفكاك من هذا الصراع الأزلي إلا بالموت. 
 
كتب سترندبرغ روايته الأولى «الغرفة الحمراء» (1879) Röda rummetفكانت إيذاناً بدخول النـزعة الواقعية[ر] في الأدب السويدي [ر]. ومع روح الدعابة التي تمتعت بها، وبأسلوب ناقد إجتماعي آخر من مواطنيه هو ألمكفيست[ر]، صب جام غضبه على كل من رأى أنهم يقفون في وجه التطور الاقتصادي والاجتماعي، بدءاً من العائلة المالكة فالكنيسة والأكاديمية السويدية والأدباء وانتهاء بالمسرح والصحافة والتجار والصناعيين، فكانت نقداً اجتماعياً لاذعاً للوضع الراهن شفى غليل الكثيرين من مواطنيه فأضحى بطلهم، إلا أنه في الوقت نفسه أثار نقمة كثيرين آخرين. وتابع هذا النهج في «المملكة الجديدة» (1882) Det nya riket منتقداً سيطرة الدولة على حياة الأفراد. ثم بدأ كتابة سلسلة من المؤلفات حول سكان ساحل ستوكهولم، كانت أولى حلقاتها «أهالي هِمسـو» (1887) Hemsöborna، وهي وصف واقعي لحياة الناس البسطاء المكافحين في سبيل عيشهم اليومي، كتبها في وقت عصيب فكانت علاجاً له. ومع أنه لم يعدها آنئذ بين أفضل مؤلفاته إلا أنها لاقت استحساناً كبيراً لدى جمهور القراء وأضحت من التراث وصنعت منه زولا[ر] السويدي. كتب حلقات أخرى في هذه السلسلة، منها مجموعة الروايات القصيرة «حياة ساكن الساحل» (1888) Skärkarslif، ورواية «على ساحل البحر»(1890) I hafsbandet التي تغلب عليها نـزعة نيتشوية [ر. نيتشه] إذ يقول فيها بتفوق الإنسان المثقف. 
 
بعد محاكمته وتبرئته من تهمة التجديف شعر سترندبرغ بالحاجة إلى تسويغ مواقفه لقرائه فكتب سيرته الذاتية «إبن الخادمة» (1886ـ1909) Tjenstekvinnans son في خمسة أجزاء، على غرار «اعترافات» روسو[ر]، حلل فيها مراحل حياته اعتماداً على النظريات السائدة حينئذ في علم النفس، من تداع للأفكار والتركيب المعقد للأنا الإنسانية، محاولاً تبرئة ساحته والعودة بجذوره إلى الطبقة الدنيا في المجتمع ليخلق من نفسه بطلاً بروليتارياً. وكتب أيضاً « دفاع المعتوه عن نفسه» (1887ـ1888) Le Plaidoyer d’un fou بالفرنسية في محاولة لدرء تهمة الجنون عن نفسه التي روج لها بعض خصومه.
 
«سوناتا الأشباح» من إخراج انغمار برغمان 
 
 
عاش سترندبرغ بعد زواجه وطلاقه الثاني من فريدا أُول أزمة نفسية حادة فكتب «الجحيم» (1897) Inferno، وهي في السيرة الذاتية كتبها باللغة الفرنسية، وكانت محاولة للخروج من تلك الأزمة ولفهم العالم من حوله وللبحث عن الخلاص.
 
ولجأ أيضاً إلى دراسات شبه علمية وإلى الشعوذة وأمور ما وراء الطبيعة والأوكلتية Occultism، وأخيراً إلى فلسفة مواطنه الصوفي سويدنبورغ[ر] Swedenborg التي أوصلته إلى القناعة بوجود «قوى» خارجة عن إرادة الإنسان تسيره، وبأن العالم ما هو إلا وهم وحلم وما الحياة إلا جهنم على الأرض. ومن هنا نبعت ثلاثيته المسرحية المميزة «إلى دمشق» (1898ـ1904)Till Damaskus ، التي جدد فيها الدراما والمسرح، وترجمت إلى العربية عن الفرنسية بعنوان «الطريق إلى دمشق». وغالباً ما تُقدم الشخصية الرئيسية في المسرحية «الغريب» مرتدية قناع وجه على هيئة سترندبرغ نفسه ومعه شخصية «السيدة»، أو إيفا (حواء) كما يناديها هو، وفيها ملامح من زوجتيه الأولى والثانية. ويجول «الغريب» من محطة مسرحية إلى أخرى رجوعاً إلى نقطة البداية مجسداً تكرارية الحدث ودائرية الوجود وانعدام الزمان والمكان، في جو يشبه إلى حد بعيد جو الأحلام المتشابكة والتخيلات والهلوسات، ودخل الكاتب بذلك مجال المسرح التعبيري. 
 
من جملة إسهامات سترندبرغ الطليعية في المسرح «لعب الحلم» (1902) Ett drömspel، وهي مسرحيته الأهم والأكثر أصالة من حيث البناء الدرامي، أخذ فكرتها عن الفلسفة البوذية. وقد كتب فيها دور ابنة الإله إندرا Indra خصيصاً لزوجته الثالثة هارييت بوسـِّه. ففي حلم الشاعر تنـزل ابنة الإله إندرا إلى الأرض لتراقب البشر عن كثب، ولتنقل الصورة لأبيها حول ما إذا كانت شكوى البشر من صعوبة الحياة مبررة، فتعيش معاناتهم، وتصبح جملتها «واحسرتاه على البشر» اللازمة التي تصاحبها في انتقالها من مجموعة بشرية إلى أخرى. وقد حاول الكاتب، عن طريق استعمال الرموز الثابتة على خشبة المسرح وفي الحوار، تقليد عالم الأحلام حيث لا منطق ولا تسلسل، ويصبح اللاممكن ممكناً، وهو أسلوب طوره جويس[ر] في الرواية لاحقاً في ما سُمي بتيار الوعي. 
 
كتب سترندبرغ ما أطلق عليه اسم «مسرح الحجرة » Kammarspel، وهي تسمية اخذها عن المخرج المسرحي النمساوي ماكس راينهارت [ر]، عزز من خلاله مفهومه للمسرحية والمشهدية وأهمية الكلمة (الحوار) واختزال الديكور والأزياء إذ يقول «طاولة وكرسيان هو الوضع المثالي». ونتيجة لهذا التوجه أطلق سترندبرغ «المسرح الحميمي» Intima Teatern الذي افتتحه عام 1907 وقدم على خشبته عدداً من مسرحيات الحجرة منها «جزيرة الموتى» De dödas ö، و«سوناتا الأشباح» Spöksonaten التي تعد أفضلها، إذ تضمنت جميع الخصائص التي يجب أن تتوافر في المسرحية، وآذنت بالكثير مما آل إليه حال الدراما الأوربية في مابعد، ووصل بالمسرح الطبيعي إلى ذروته ومن ثم إلى التعبيرية[ر]. 
 
كتب سترندبرغ عدداً كبيراً من المسرحيات التاريخية استمدها من تاريخ ملوك السويد، منها «غُستاف ڤاسا» (1899) Gustaf Vasa، وعدداً من المقالات في التأمل الفلسفي في ما اسماه «كتاب أزرق» (1907ـ1912) En blå bok ، وأيضاً مسرحيته التعبيرية الأخيرة «الطريـق الكبيرة» (1909) Stora landsvägenالتي ضمت خلاصة خبرته الأدبية ووداعه للشعر. 
 
ليس هناك من سبيل لوضع حد يفصل سترندبرغ الكاتب عن مؤلفاته وشخصياتها، إذ يلغي هذا الحد بحثُه عن الحقيقة والسكينة والذات، والتداخل بين السيرة الذاتية والمتخيل. فالمسرح عنده هو الرواية، والشعر النثر، والواقع الحلم. 
 
من مسرحيات سترندبرغ الأخرى: «في روما» I Rom، «المطلوب» (1871) Den fredlöse ، «زوجة السيد بنكت» Herr Bengts hustru، «رحلة بير المحظوظ» (1882) Lycko-Pers resa ، «الأقوى» (1889) Den starkare، «حب الأم» Moderskärlek، «في حضرة الموت» Inför döden، «اللعب بالنار» (1893) Leka med elden، «الفصح» (1910) Påsk ، «الأرض المحروقة» Brända tomten، «البجع» Pelikanen، «العاصفة» (1907) Oväder ، «القفاز الأسود» (1909) Svarta handsken، «ساغافولكنغا» Folkungasagan، «إريك الرابع عشر» (1899) Erik XIV، «الملكة كريستينا» (1910) Drottning Kristina. ومن مؤلفاته في الرواية والرواية القصيرة والقصة القصيرة «مدن فاضلة في الواقع» (1885) Utopier i verkligheten، و«رايات سوداء» Svarta fanor، و«كبش الفداء» (1907) Syndabocken، و«مصائر ومغامرات سويدية»(1882ـ1891)  Svenska öden och äfventyr ، و«حكايات»         (1903) Sagor.كما كتب في مجال الشعر «قصائد شعرية ونثرية» (1883) Dikter på vers och prosa، و«لعب بالكلمات وفنون صغيرة» (1905) Ordalek och småkonst، وفي المقالة «تشريح» (1959) Vivisektioner بالفرنسية، وفي اليوميات «مذكرات أوكلتيه» (1977) Ockulta Dagboken, و«وحيداً»        (1903) Ensam ، وفي تاريخ اللغة «أصول لغات العالم» (1811) Världs-språkens rötter.
 
توفي سترندبرغ في ستوكهولم بعد مرض عضال، وسار وراء نعشه أكبر جمهور في تاريخ المدينة حتى ذلك الحين. 
 
طارق علوش

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث