كتابٌ من تأليف حسن العلوي
لعلَّ هذا الكتاب الذي صدر بدمشق عام 1986م ، وحظي بعناية خاصة من لدن وزارة الثقافة السُّورية يوم أزمع الشَّاعر الجواهري على إراحة ركابه في هذه الحاضرة العربية وتجنيبها بالمرَّة من أيَّما أيْن ٍ وعـَثـَر ٍ وسواهما من المفردات الملحوظة في هذه القصيدة أوتلك من شعره الذي فاق به نظراءه من حيث غزارته وإحكام نسجه عموما ً ، كما لهج بهذا المدَّعى أحد شانئيه من باب تثمينه له والتبجُّح بموضوعيته وتحاشيه الاستلال منه وعصمته من الابتذال والإسفاف ، وأنـَّه يرتكن إلى التجرُّد والنزاهة بعدما لم يدع لفظة مقذعة في قاموس الشَّتائم لم يكلها عبر كتيِّبٍ صدر في نهايات القرن الماضي ، ممَّا تعوده الشَّاعر وغدا مألوفا ً لديه على امتداد حياته ومترادفا ً هو وجنفه عن مألوفات وأحكام ومواضعات يخالها بالية ومتعسِّفة لم تعد تلائم حياة البشر في هذا المعمور ، قلتُ إنَّ كتاب الأستاذ حسن العلوي بخصوص ( الجواهري ديوان العصر ) هو الأخلى تقريبا ً ـ ولا أقول بالمرَّة ـ والأسلم أيضا ً من الأغاليط والهنات المطبعية الفظيعة التي استبانتْ في كتبه المبيعة في مكتبات شارع المتنبي وعلى الأرصفة ببغداد إثر اجتياح الأمريكان والمتحالفينَ معهم لبلادنا ، وجلها يعنى بتحليل الواقع الاجتماعي والسِّياسي أو يتقصى حوادث تاريخية وملابساتها من افتراقاتٍ وتقاطعاتٍ دينية ومذهبية وعنصرية يلذ للقراء أنْ ينقطعوا لها ويستغرقوا فيها ويجنوا المتعة منها لولا أنْ تصدمهم هذه الهفوات وتحرمهم من دوام الانتشاء وتواصله ، وشبه الشَّيء نجتليه غالبا ً على مؤلفات الدكتور علي الوردي والممتلئة المشحونة بالأخطاء النحوية والسَّقطات اللغوية ، الأمر الذي يحول دون حيازة عبارته للاسترسال والتدفق ويعين القارئ على سوغها متجاوزا ً ما يشوبها من نبو ٍ ونشاز ٍ ، والسَّبب فيه يرجع إلى مغالاته في تسفيه الأوضاع العربية وأحوال مجتمعاتنا في الأزمان الماضية ، وانتقاده لاهتمامات ذوي المواهب من بنيها وانشغالاتهم وأولاعهم ، أدَّى به كلُّ ذلك بمرور الزَّمن إلى كراهة العلوم العربية ومنها النحو ، وعزفتُ ـ من جانبي ـ عن البوح بفكرةٍ خطرتْ في بالي وهي أنْ تشكل لجنة من المشرفين اللغويين الأثبات لمراجعة كتب المرحوم علي الوردي وتشذيبها وتنقيحها من المزلات والهنوات ! ، والجدير بالذكر أنَّ الأستاذ صباح المندلاوي ذكر في سياق المقالات التي نشرتها جريدة ( الزَّمان ) قبل عامين وأكثر عن القراءات اليومية للجواهري في هذا المطبوع أو ذاك ، وكان منها بعض مؤلفات الدكتور علي الوردي ، أنـَّه حمد للمؤلف غزارة مادَّته وحسن إلمامه به ، لكنـَّه يأسى لوجود الأغلاط النحوية البيِّنة في تعابيره ممَّا لا يمكن التغاضي عنه ، ولم ين ِ عن التصريح بقوله انَّ مَن يبغي إيصال أفكاره إلى الناس يلزمه أنْ يتوسَّل لذلك بالعبارة المستوية المقبولة ويتحاشى الوقوع بهذه الهنات .
ولنستأنف تمحيصنا وتفرُّسنا وتفليتنا لهذا السِّفر الذي توافى لنا بحكم المصادفة بادئينَ ذلك بإخراجه الفني الجاذب لنظر القارئ بفعل هذا التغليف المزدان بصورتين ِ مزركشتين ِ للجواهري ومرسومتين ِ بشكل متقابل في أعلى صفحة الغلاف الخارجي من اليمين وأسفلها من اليسار ، من قبل واحد من الفنانينَ التشكيليينَ الثلاثة ، وهم :ـ جواد سليم ، ونوري الراوي ، وحميد المحل ؛ ممَّنْ تعاونوا فيما بينهم وطوَّعوا قابليَّاتهم وملكاتهم لتسهيل طباعة ديوان الجواهري عام 1949م ، غير مكترثينَ باعتراض أحد من المسؤولينَ يومذاك والقابضين بأزمَّة الحكم ، والشَّاعر يهدي مجموعه الشِّعري إلى ضحايا الحقد والجور والانتقام ممَّا تسبَّب فيه أولاء المتعنتون الباطشون ، وهذه مزية قد نقطع بأنَّ التنويه بها والإلماح إليها قد تكون فضلة لا يصحُّ درجها في سياق مقالةٍ تعريفية وتقريظية لهذه الدِّراسة المعيشة هي والجواهري في ولادته ونشأته وانتظامه في عداد تلامذة المدارس الدِّينية وتمرُّده على مشيئة أساتذتها والمشرفينَ عليها ومنهم ذووه الذين راموا التحكم بمصيره وتكييف مستقبله ، فزاغ عن خطتهم وخرج على معتادهم في التهيُّب إزاء كثير من مألوفات بيئتهم من رموز الرَّجعية والتخلف ، ورياضة نفوسهم على حياة النفاق والختل والتدليس ، ومن ثمَّ تفطن إلى تعرُّف كنه ذلك فوجده متمثلا ً في الاستبداد الموروث والمسلط على الجمهور في كلِّ مكان من لدن الاستعمار الأجنبي والمرتبطينَ به من الأذناب والأجراء ، فصدع بمهمَّة المدافعة دونه ورفع الحيف عنه ، معرِّضا ً نفسه للتنكيل والأذى والملاحقة والسَّجن والتقاطع مع مَنْ سمَّاهم الأستاذ العلوي أزلام المدرسة التركية الذين استأثروا بالمناصب والمراتب وامتلكوا الامتيازات والضّياع واقتسروا حقوق الأغلبية وأجحفوا بمعايشها ، فكان شعره صدىً عاكسا ً ومردِّدا ً لآلامها وآمالها وشجونها طوال الحقبة الملكية ، حتى إذا أعقبتها الحقبة الجمهورية المحفوفة بالأخطاء والعثرات والمزالق على حين كان الشَّعب ينتظر منها تعفية وتجاوزا ً لما كابده في الماضي من غبن وعسر وضيم ، غادرَتْ نفسه تلك التوقعات المستبشرة بأنْ تظِلَّ بلاده حياة تخلو من الانتهاك والعسف بدون وجه حق ، وأنْ يشيع العدل والاستقامة والنزاهة في الأحكام ، صار هذه المرَّة أمضى في الاستنكار والاحتجاج وأصرم في مناوأة الظلمة الجدد والحيدة عن طريقهم وتأليب سخط الجمهور على مغامراتهم وحماقاتهم ومجازفاتهم غير المدروسة بمعايشه ومصايره ، فلا مراء أنْ احتذى المؤلف وسار على خطة تصاقب الحوادث والهزاهز والوثبات والانتفاضات مرورا ً بسياسة الأحلاف ومهادنة المستعمرينَ ومنحهم الامتيازات النفطية واقتفائهم التمييز والتفريق بين مواطنيهم في التوظيف والبعثة والترشيح للمناصب الوزارية واستغلال بعض السِّياسيين المغامرينَ الذين لا يعرفون إلا ً ولا ذمَّة حين يكونون خارج الحكم لطيبة شيوخ العشائر الفراتية ، فيهيجون فيهم التمرُّد على السُّلطة التي يضطلع بها أندادهم وخصومهم السِّياسيون ، ومن ثم يتكرر الأمر بصورة معكوسة إثر سقوط الوزارة حيث يرتقي إليها المناكدون الأوائل ! ، وتلقي أثناء ذلك أكثر من نظرة لبؤس الشَّعب وما ينزل بساحه من إرهاق وتعسُّف ويتعرَّض الوعاة من أبنائه للتشريد والسَّجن ، هذا إلى الانفتاح والإطلالة مع كلِّ هذه الخطوب والغِيَر والتصاريف ، على كفاح الأمة العربية في فلسطين ومصر والجزائر وبلاد الشَّام والتصادي معها في تحسُّسها بأقيادها وتململها ممَّا تعنو لوقعه من ضغوط ، هذا إلى مثوله في الندوات ومحافل التكريم في غير حاضرة عربية والتي تـُكرَّس لإثابة قادة التنوير والوعي والشَّاخصين في كلِّ معتركٍ تحقق فيه مأمولها .
وكلُّ ذلك يسجِّل للعلوي إلمامه الواسع الجم بشعر الجواهري ووقوفه على شواهده ولقياته المنظومة حتى بعد الانتهاء من إنجاز طبعاته المتعدِّدة لأكثر من دار نشر وفي أكثر من عاصمة عربية ، وهذا قد يدلُّ على إجرائه تعديلاته في مضامين صفحاته الأوَل التي ترقى في أقل تقدير إلى عام 1967م ، حيث أشار إلى انتهائه منه في هامش كتابٍ قديم له عن الفنان عزيز علي بينما نجزم أنـَّه تأثر في غير موضع منه وهو يدون للماجريات التي شهدها العالم العربي طوال هذه السِّنين عبر الكثير من تحليلاته واستنتاجاته ، ثم انَّ لغة الكتاب تنضح بالجودة والمقبولية والرَّصانة ، وما ذاك إلا لشدَّة نفسه ووقوعه مسحورا ً بشعر الجواهري ، وكذا تتوافر دواع ٍ شتى لانصرافه للكتابة وتسطير بيان يمتاز بالسَّلاسة والإشراق والعذوبة ، ولا وجه لمَنْ يفترض أنَّ الكاتب عايش هذه المرَّة تطورا ً وتجديدا ً في أسلوبه وطريقته في التحليل والتفسير .
وما يعنُّ لنا من مآخذ وملاحظاتٍ نجمله في الآتي :ـ
•1. جاء في الصفحة ( 201 ) :ـ " أنَّ اليمين المتطرِّف استطاع أنْ يدفع ـ وفي عهد عبد الكريم قاسم ـ بواحد من غلاته هو السَّيد عبد الله الفياض صاحب جريدة ( الفجر الجديد ) التي تبنـَّتْ حملة التشهير بالجواهري " .
قلتُ إنَّ الاسم الحقيقي للمذكور أعلاه هو طه الفياض صاحب جريدة ( السِّجل ) التي أدركتها عام 1951م ، عبر مقال ينطوي على تنديد برائعة الجواهري الاستنهاضية ( تنويمة الجياع ) وقدح ٍ بما احتوته من تسفيهٍ لديدن الوعاظ والمتدينينَ لتنويم الجماهير وخداعها وترقيدها بانتظار المواعد الكاذبة على أمل أنْ تنجاب غاشية الظلم والخنوع من وراء صبرهم واستكانتهم ، بينما يمعن الظالمون في استنزافها واسترقاقها ويسدرون في شهواتهم ومتعهم ولذاتهم ، وقد أتى على ذكره الجواهري في مذكراته بهذا الاسم طه الفياض لا عبد الله الفياض ، ومن الطرافة أنْ يصدر عدد خاص من جريدة ( الفجر الجديد ) في زمن طاهر يحيى مكرَّس لشرح منجزات ثورة أكتوبر الاشتراكية وتشيد مقالاته المنشورة بموقف الاتحاد السُّوفيتي أثناء عدوان الخامس من حزيران .
•2. جاء في هامش الصفحة ( 201 ) أيضا ً :ـ " إنَّ توفيق السَّمعاني صاحب جريدة ( الزَّمان ) انتخب نائبا ً لنقيب الصُّحفيين في فترة تخلي الجواهري عنها ورحلته إلى براغ " .
قلتُ إنَّ الرَّجل دمثٌ ومسالمٌ ومتجرِّد من أيِّ اتجاهٍ سياسي ، وجريدته لم تـُمْنَ بالتعطيل حتى في أحلك الفترات لا سِيَّما غبَّ إخماد انتفاضة تشرين الثاني عام 1952م ، بفرض الأحكام العرفية من قبل فريق الجيش نور الدِّين محمود وإجهازه على مصادر النشر كافة ، مستثنيا ً جريدة ( الزَّمان ) لصاحبها توفيق السَّمعاني ، وجريدة ( الدِّفاع ) لصاحبها صادق البصام وزير الدِّفاع الأسبق الذي شُنِقَ الجاسوس الصُّهيوني ( عدس ) بإمرته تنفيذا ً للحكم العسكري الصَّادر بحقه صيف عام 1948م ، ثمَّ انـَّه رام السَّفر إلى سوريا مرَّة فمنعته سلطات الحدود من مواصلة سيره ، ولم تأخذ بدعواه أنـَّه لا يعترف بالحدود بين البلاد العربية ، والغريب أنـِّي ذكـَّرْتُ الصَّحفي المرحوم عبد القادر البرَّاك بهذه الواقعة فأنكرها بذريعة أنـَّه لم يغادر البلاد يوما ً ، علما ً أنـَّه اشتغل محرِّرا ً في صحيفته .
وإنصافا ً فإنَّ كلتا الجريدتين ِ ـ ( الزَّمان ) و ( الدِّفاع ) ـ مثلتْ منبرا ً ثقافيا ً تلاقتْ على صفحات كلٍّ منهما أقلام لشخصيات تتصف بالاتزان والحصافة والحكمة ، ولا ترسل العبارة على عواهنها بدون دليل ، ويكفي أنْ تجيء افتتاحية ( الزَّمان ) ممهورة بقلم رجل التنوير الشيخ محمد رضا الشّبيبي كما ينعته حسن العلوي ، ومن الكاتبينَ في جريدة ( الدِّفاع ) الأستاذ المرحوم عبد المجيد لطفي من آن ٍ لآن .
هذا إلى أنـِّي أبصرْتُ الأول ـ توفيق السَّمعاني ـ في حفل أقيم في قاعة سينما غازي في الباب الشَّرقي مؤبِّنا ً نقيب المحامين المرحوم جعفر حمندي بخطاب تغلب عليه الإنشائية الدَّالة على عدم إيغاله في المجافاة والعداوة لأيِّ طرف ، وانَّ الثاني ـ صادق البصام ـ هو الصَّديق الحميم للجواهري وعلى رأس الدَّاعين لعودته إلى الوطن من مصر حين لجأ إليها مغاضبا ً ورافضا ً لتعسُّف المتحكمين ، وقد عهد الشَّاعر له بالإشراف على تحرير جريدته ( الرَّأي العام ) أثناء غيابه كما جاء في مذكراته .
•3. جاء في الصفحة ( 363 ) :ـ " كتب الجواهري قصيدته في أمه لحظة مغادرته البيت مهاجرا ً إلى مصر عام 1951م ، بعد مضايقات تعرَّض لها أدَّت إلى تعطيل جريدة ( الرَّأي العام ) " .
قلتُ إنَّ الجريدة المعطلة هي ( الأوقات البغدادية ) والمجازة بامتياز لصحفي لا يحضرني اسمه الآن عهد للجواهري بتحريرها ، حتى إذا عاد من مصر وعاود اتصاله بدنيا الصَّحافة أصدر جريدة ( الثبات ) لصاحبها محمود شوكت ، والتي تعرَّضَتْ كذلك للتعطيل ، فتلتها صحيفة ( الجهاد ) وهي لصحفي آخر تنازل عن إجازتها للجواهري بصورة نهائية صيف عام 1952 م ، وفي نهايته تفاقمَتْ الأوضاع سوءا ً وتقدَّمَتْ الأحزاب العلنية إلى البلاط لتداركها وتفادي ما ينجم عنها من سخط ونقمة ومعهم الشيوعيون باسم أنصار السَّلام ، وهنا اصطدم الجواهري بالأحزاب وشنَّ عليها حملاته المتوالية خلال مقالات مطولة يوميا ً ، وبلغة غاية في السُّمو والصِّيال والملاسنة المشفوعة بالغضب والاستياء من اصطفافها وتحالفها مع الزُّمر المتسبِّبة في مصرع أخيه الشَّهيد جعفر أيَّام وثبة كانون الثاني .
وعلى أية حال فالجواهري كأيِّ شاعر إنساني إنسانٌ متشعِّب الجوانب متوزِّع الاهتمامات ، متعدِّد الأغراض الشِّعرية والمقاصد النثرية التي أحاط بها أدبه ولم يعنَ الأستاذ حسن العلوي به أو يقف عند أدائه النثري المتميِّز ، واقتصر في دراسته على تحليل شعره وتفسيره والتعريف ببواعثه ودواعيه وملهماته ومناسباته ، قلتُ إنَّ هذه البقية الباقية من الأدب العربي الصَّحيح بتعبير طه حسين تظلُّ أبدا ً من قبيل الموضوع الجاهز أمام أيِّ كاتب يستبطن في نفسه محض الثقة لأنْ يأتي بالجديد من التخريجات والتأويلات .
الجواهري ـ دراسة ووثائق )
كتاب للدكتور محمد حسين الأعرجي
هذا كاتب ينبي قارئه بمنتهى الصَّراحة وهو بعد في أوَّل الطريق ، وفي بدء مراسه لحرفة الأدب ، عن حظوته بترسُّخ صلته بالجواهري وتوثق آصرته به ، فخبر تصرُّفاته وأطوار سلوكه وتعامله مع أفراد مجتمعه ، ووقف على حالات من رضاه وغضبه ، وتردُّده في اتخاذ المواقف الحدية الصَّارمة ، أو بخلاف ذلك من مجازفته بالإقدام والرَّفض لكلِّ ما لا يلائم مزاجه ورغبته ، ويتنافى هو ونزوعه وطبعه ، وبالتالي عوَّل عليه الشَّاعر الكبير مرارا ً في إمضاء شؤون ومهمات تخصُّه ونجاز قضايا وأعمال تعود جدواها ومباشرتها لصالحه ، ممَّا يرتب هذا الحال أنْ يمحضه ثقته ويرسل نفسه على سجيَّتها وتلقائيَّتها بمشهدٍ منه ومن دون أدنى تحرُّج ، فتواتتْ له إمكانية تدارس شعره وتحليله واكتناه عناصر إبداعه وتجليه وإربائه على لداته من الشُّعراء المعاصرينَ ، في صياغته وتوشيته وتصويره لما يجيش في أعماقه من عاطفة وشعور ، ألفى فيهما الباحث من الصِّدق والالتهاب والفوران والحدَّة ومفارقة للتعمُّل والتكلف والانتحال والتصنع ، ما يؤهله لأنْ يوفي على التجويد والبراعة وامتلاك إعجاب كلِّ مَن يقف على شعره ويحيط منه بمقدار .
وأضيف إلى ما حظي به من هذه الصِّلة بالجواهري وشهود اجتماعاته وملازمته في غالب الأحيان متى ما احتوتهما حاضرة بعينها في أنحاء العالم الوسيع المترامي بفعل ما اقتضتهما الظروف مغادرة الوطن الأصلي ، وقسرتهما على النزوح والتغرُّب وغشيان بلاد الناس ، نجاءً من الأوضاع الشَّاذة ولكي لا ترى أعينهما من مشاهد العسف والانتهاك والذل ما يشيب لهوله فوْدُ الرَّضيع ، قلتُ إضافة إلى هذه الحظوة المسعفة المنجدة بطواعية الكتابة والفراغ منها على تمام الإتقان والصحة والدِّراية ، هناك هذه السُّرعة الزَّمنية التي جازها في استكمال تحصيله العلمي وحيازة المرتبة الرَّفيعة في السُّلم الدِّراسي ، فقد تنقل من الإعدادية إلى كلية الآداب وانخرط في الدِّراسات العليا راغبا ً في الحصول على الماجستير ثمَّ الدكتوراه دون أنْ يستأني فينصرف للتعليم الثانوي شأن أترابه على أنْ ينشدوا طموحهم بعده ، وتلا ذلك أنْ اشتغل مدرِّسا ً في جامعة الجزائر ليلتحق أستاذا ً في معهد الشَّرقين ِ الأوسط والأدنى ، بجامعة ( مسكيفج ـ بوزان ) ببولندا ، وبذا فقد أنِسَ طوال ثمانينينات القرن الفائت بالتحول من الشمال الأفريقي إلى رجأ في شرقي أوربا ، وتوالتْ مأثوراته ومصنفاته بين كتاب مرصود للبحث في تاريخ الأدب ، وانتقاد الشِّعر العربي القديم والمعاصر ، وآخر يشي بجهده ونصبه وتذليله العقبات لبلوغ أوفى نص ٍ شعري أو نثري على الضَّبط والموثوقية ، ممَّا يشتمل عليه سِفرٌ تراثي محقق ، ويندرج في هذا السِّياق بضعة دواوين لشعراء هم من المجاهيل لولا أنْ شفع لهم تألقهم وإبداعهم ، فلم يهنْ عليه أنْ يظلوا منسيينَ ومطموسين ، فابتدر لإحيائهم وإنباههم ، ملاقيا ً الترحيب والمقبولية من لدن دور النشر في بيروت ودمشق والجزائر وألمانيا .
أ فتكون حظوة في أيِّ ميدان من ميادين الحياة سموا ً وروعة وزهوا ً وافتخارا ً بانشداد آصرته بشاعر العصر ومصافاته وهو منه بمنزلة الحفيد ، ومن الوصول لما يبتغيه ويرنو له من كرائم الرَّغبات والآمال ، ومن الشُّخوص في المحافل الأدبية والفكرية قامة ً منتصبة ً لا يحوجها الاعتداد بما تأتى لها وتهيَّأ من مكوِّنات النبوغ غير المسرفة في الادعاء والتبجُّح ؟ .
نثر المؤلف اكتناهه وسرده لسيرة الجواهري من المولد وحتى نهايات ذلك العمر الطويل العريض ، متجاوزا ً تمني الحكيم ابن سينا أنْ يظفر بإحداهما وتكتب له ما دامتْ تزخر بالخطوب والوقائع العنيفة والحوادث المثيرة ويوفق في التغلب عليها ومواجهتها بثبات وبأس وجنان قوي ، وتحفل بالمواقف والاستجابات والمفاخر المشرِّفة في استهجان ما يتنافى هو والصَّفو والمروءة والعدالة في حياة الناس ، فقد كاد يعبر المائة عام ممتلئة بما يثقل ويشق حمله من المكاره والمآسي ، وما ليس سهلا ً التعامي والتغاضي عنه من غمط الحقوق واختلال القياس بحيث يداس الشُّعور وتمتهن الكرامة وتروَّض فطرة الإنسان الرَّهيف الحسِّ على ازدراء ذوي العقول الرَّاجحة وتجاهل كفاياتهم وقابلياتهم ، وبالتالي استبعادهم من كلِّ المهمات والوجائب في الحياة الاجتماعية ، والضنِّ عليهم بمستلزمات العيش الكريم ، ويعلوهم مَنْ هو في الصَّميم من انشداد صلته بالغباء ومتـِّه للجهالة بعرق ، ومَن لا يرتضونَ هم اصطحابه وبأنْ يكون لهم ندا ً ولا يهمُّهم أنْ يتقدَّم عليهم في امتلاك الثراء والوجاهة ، قلتُ نثر استقراءاته وآراءه المستخلصة من إدامة النظر في هذا الشِّعر القوي والمتين في ديباجته وصوغه منذ أوليات عهده بمزاولة هذه الصَّنعة واستلهامه تجاربه الشُّعورية في مصادمة ما يعجُّ محيطه به من مسلمات وأعراف تتجانف إلى حدٍ بعيد هي وطمحات الأجيال المتطلعة للتغيير والتجديد ، عبر مُسَمَّيات تنتظم فصولا ً سبعة ، تتساوى تقريبا ً في تعداد صفحاتها ، وتتفاوتْ في محتوياتها من الاجتهادات والتخريجات بشأن شعر الجواهري وارتباطه بعصره وصلته بناسه وحكامه وموقفه منهم حين تفدح النوازل فيعدو على المَلأ مَنْ يعدو والمفترض أنْ يحسن سياستهم وينصفهم ويزيح غائلة الجور عنهم ، وهي :ـ ( رياضة القول ، الخروج من الشَّرنقة ، بذور التمرُّد ، طلاق الغاضب ، الملك غير المتوَّج ، مناجاة القصيدة ، بناء القصيدة ) ؛ غير الخاتمة التي يستكمل بحثه عندها ، حيث كان منصرفا ً أثناءه للاستدلال بشعره القديم في غالبيته ، والمودع في الجزء الأوَّل من ديوانه بطبعة وزارة الإعلام ، مقترنا ً بالظروف والأوضاع التي يصوِّرها ويغدو بمثابة الصَّدى المنعكس عنها ، وكأنـَّه يروم إثبات أنَّ الجواهري مُجَوِّدٌ في نسج شعره وحبكه وإضفاء مسحة وطابع عليه منذ بداياته ، مباينا ً ما يرتئيه بعض دارسيه بأنـَّه بلغ الذروة في تحليقه الفني مؤخَّرا ً لتزايد تجاربه وتطور رؤيته وامتلاء نفسه بالكرب والأسى إزاء معضلات هذا العالم ، وهي وحدها كفيلة بأنْ تزوِّده وتوحي له بمضامينَ ومعان ٍ مستنبطة من وحي تحسُّسه بمحنة الوطن وفجيعة الإنسان العائش في كنفه والمحتمي بظله ، إذ لا يجد سواه مأمنا ً وملاذا ً .
ما لفت نظري في هذه الدِّراسة اكتشافه حرص الجواهري على أنْ يتبوَّأ مكان الصَّدارة في مجتمعه ، ويرقى إلى منصب مرموق ، ويمني نفسه في أنْ يتحقق هذا الطموح ذات يوم ، خاصة أنـَّه يلفي أرباب المسؤوليات والوظائف المتنوعة دونه في الكفايات والقدرات ، وينظر هذا الاكتناه والتقصي في النوازع النفسية المكبوتة إلى ما سبق أنْ ألمع إليه المرحوم عبد الكريم الدجيلي في مدخل دراسته التي أغضبَتْ الشَّاعر ، ولم تصادف منه رضىً وقبولا ً لهذه الإيماءة وغيرها ، من أنـَّه ينزع لإحلال نفسه بين المتصدِّرينَ والوجوه الأماثل ، وأنْ يكون عين الوقت مع سواد الناس والضُّعفاء والمحروبينَ كي يتبنى مشكلاتهم وقضاياهم وينافح عنهم ، غير أنَّ صاحبنا جنح إلى المبالغة وتوهَّم أنَّ الجواهري تخطى الحدَّ المعقول من الرَّغبة في نشدان رفاهيته وتحسين أموره المعاشية ، أو كأنـَّه ابتغى مشابهته بصنوه المتنبي الذي أمضى سنيه في اللياذ بهذا الحاكم أو ذاك وتجاوبَتْ بلاطاتهم بشتائت من شعره ليستميلهم ويحكم الناس ! .
وبخصوص هذا القسم ، يطيب لي تصويب ما أشار إليه الدكتور الأعرجي من أنَّ خطاب الزَّعيم عبد الكريم قاسم الذي ألقاه في نقابة الصحفيينَ وتلميحه فيه بأنـَّه سيتوزر الجواهري ، كان قبل خمسة أيَّام من إلقائه قصيدته في المدرسة المستنصرية ، كذا .
والحقيقة أنَّ الاحتفال بتجديد المستنصرية إثر الانتهاء من ترميميها استجابة لطلب المرحوم مدير الآثار العام العلامة طه باقر كان يوم 18 / تموز / عام 1960م ، حيث أنبأ الزَّعيم عبد الكريم قاسم الحضور من السِّياسيينَ والأدباء ومثقفي البلد (( أنْ سيستمعوا لطلائع الشِّعر على لسان الأستاذ الجواهري )) ـ هكذا بنصِّ ألفاظه وقتها ـ ومثـَّل بذلك عريف حفل ٍ بامتياز ، وفي مساء يوم ( 31 ) من نفس الشَّهر اقامَتْ نقابة الصحفيينَ حفلها السَّاهر برعاية الزَّعيم حيث ألقى خطابا ً ثانيا ً وعد فيه بأنْ (( سيأخذ الجواهري منـَّا )) ، ولم يعيِّن المهام التي سيعهد له بها في المستقبل ، لكنَّ الحاضرينَ ـ وأنا منهم ـ فهموا أنـَّه سعيِّن الجواهري وزيرا ً ، لكنـَّه لم يفعل ، فحنث بوعده ، ولم يأخذه منـَّا .
وأرى أنَّ ما جاء مقدِّمته الوجيزة من كونه عوَّل على زوجه في إتمام نقل مسوَّداته وتبييضها فيما نقول ، فعبَّر عن غرضه بالعبارة المهلهلة المرتبكة ( استغليتها ) ، بدلا ً من ( استغللتها ) ، وأظنـُّها من شطحات المطبعة ، وإلا فالنجفيونَ أساتذة العالم في نحو العربية .
وفي الصَّفحة ( 271 ) تطرَّق إلى لقاء الجواهري بالشَّيخ مهدي كبة في أوائل أربعينيات القرن الماضي لتكليفه بالتحكيم في قضية شاعر من حزب الاستقلال اتـُّهمَ بمهاجمة بريطانيا من خلال دعوته لإزالة تمثال الجنرال مود ، ثمَّ ارتؤي أنْ يُغضَّ النظر عن هذه التهمة ، ويُستبدَل بها تهمة التعريض والتنديد بسياسة الملك فيصل الأوَّل السَّابقة ، وأنـَّه يقصد بشعره تمثاله لا غير ، وظنَّ الجواهري أنـَّه شفيق الكمالي ، وحسبه المؤلف عبد الغني الدَّالي .
ولا أعرف شخصا ًً بهذا الاسم سوى عبد الغني الدَّلي ، المدير المسؤول لجريدة ( الاتحاد الدستوري ) الناطقة بلسان الحكومة السَّعيدية ، أو المشرف على القسم السِّياسي فيها ، أو شاغل لوظيفة مهمَّة في دواوين الدَّولة بتزكية من الحزب الحاكم وترشيحه ، وهو ليس بشاعر أصلا ً ؛ في حين أنَّ الاسم الحقيقي للشَّاعر الذي يذمُّ الجنرال ( مود ) ، ويحرِّض على التصويح بتمثاله لأنـَّه رمز الاحتلال البريطاني الماس بسيادة البلاد والمنتهك حرمتها ، ودعا إلى تحطيمه وإزالته من مكانه الواقع في جانب الكرخ أمام مبنى السّفارة البريطانية القديم والمطل على نهر دجلة ، قلتُ إنَّ اسمه الحقيقي هو الأستاذ الدكتور عبد الحسن زلزلة الذي تعوَّد نشر مقطعاته المتوالية في الصَّفحة الأولى من جريدة ( لواء الاستقلال ) ، ممهورة ومذيَّلة بتوقيع ( صقر ) ، وقد أبصرته خريف عام 1950م ، يلقي شعرا ً على المحتشدينَ في الصَّحن الكاظمي بمناسبة يوم عاشوراء ، وبعد سنين ٍ طلـَّق الشِّعر ، وتخصَّص في الاقتصاد ، ومارس الحكم والسِّياسة عمليا ً ، لاستيزاره في حكومة طاهر يحيى ، ثمَّ توظف في ملاك جامعة الدُّول العربية .
أمَّا قسم الوثائق فأجدني مدينا ً بالشُّكر للمؤلف الثبت على إشهاره دالات رهطٍ من بني الإنسان وصنائعهم غير المقصودة وذات متعلقات بمجريات حياة الجواهري ، فأدخل في نفوسهم الفرح الغامر وأفعمها بالزَّهو ، وصار من حقهم أنْ يتيهوا ويزدهوا وبشكل مقبول لا يجرِّدهم من اتزانهم ، فقد جاء في الصَّفحة ( 397 ) من الكتاب ذا بصدد الوصية الأولى للجواهري ما يلي :ـ (( كتب الجواهري هذه الوصية في داره ببغداد يوم 16 / 3 / 1977م ، على الصَّفحة التي تلي صفحة العنوان الدَّاخلي من كتاب ( دفاتر ثقافية ) لــ ـــــــ مهدي شاكر العبيدي ، وكان المؤلف قد أهداه للشَّاعر ، ثمَّ تلاها عليَّ مساء ذلك اليوم ، وطلب مني أنْ أحتفظ بها ، ففعلتُ )) .
وليس بدعا ً أو مستغربا ً أنْ يكون كتابي ذا بين يدي الجواهري ، لا سِيَّما أنـَّه يحتوي على مقالة عن اللوحات الفولكلورية في شعره ، واستدلالا ً بمجهوداته الثقافية وأدواره الوطنية في غير موضع ، وليس المهم هذا ، إنـَّما المهم والجدير بالذكر انَّ أسبابي اتصلتْ بالجواهري غير مرَّة ، فقد كنتُ من كـُتـَّاب جريدته ( الرَّأي العام ) بدأبٍ ومواصلة ، وأنْ يعمد لإيداع كتابي ( دفاتر ثقافية ) الصَّادر عام 1975م ، ويدوِّن بقلمه وفي صفحة منه وصيَّته الأولى ، فما بعد ذلك للمفاخر مفخر .
المراجع
موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث