استهلال:
هذه محاولة في استكناه المُدرَكْ السوسيولوجي لجغرافيا العراق، بأبعاده المختلفة، السياسي والتاريخي والديموغرافي والإيكولوجي، وكيف أثرت هذه الجغرافيا في صياغة تاريخه الحديث وإشكاليات حاضره، مثلما تساهم في صياغة مزاج أفراده وجماعاته، وصناعة أنساقهم Systems، وأساليب حياتهم Styles of Their Lives. وسنحاول أن نعرض في مقالنا هذا لكل بعدٍ منها. فالطبيعة الجغرافية والمناخية للعراق لعبت دوراً حاسماً ليس في تاريخه بل حتى في تكوين مجتمعه، مثلما يشير أحد الباحثين.
ثانياً - البعد التاريخي للجغرافيا :
إن الجغرافيا هي بنت التاريخ بمقدار ما هي أمه. فالتاريخ يختار أولاً بصورة تدريجية من بين كل (الإمكانات) التي تتيحها له الجغرافيا. إن الشروط الظرفية التي تحدث في عصر تاريخي معين، فعل إنسان معين، ضغط مجموعة مجاورة، الصدفة، و.. ما إلى ذلك تتراكم عبر العصور، فتدفع بجماعة معينة نهائياً في طريق معين بدلاً من الطرق الأخرى التي سمحت بها الشروط البيئية سواء بسواء ولا يمكن التخلي عن هذا الطريق فيما بعد، لأن الجماعة تكون قد نُظِّمَت بناءً عليه، ولأن التمثلاّت الجماعية تعتبره أمراً طبيعياً. وإذا ما كان التعرف إلى طبيعة المكان (الجغرافيا) هو المدخل الضروري إلى فهم مجريات الزمان (التاريخ) في حياة كل مجتمع، فإن خصوصية المكان وخطورة تحدياته، وتوتر عناصره، بالنسبة إلى المجتمع في العراق، تمثل أهمية مضاعفة، وحالة خاصة لا بد من الابتداء بالتأمل الدقيق فيها وإدراك طبيعتها وتفردّها الصعب الذي يمثلّ استثناءاً مكانياً بين الأمكنة، أدىّ إلى خلق استثناء زمانيّ بين الأزمنة في صياغته لتاريخ المجتمع في العراق وعلاقته بالدولة، ذلك أن قاعدة السياسة هي الجغرافيا وخلفيتها هي التاريخ. لقـد كانت المنطقة التي تتضمن الرافدين العظيمين (دجلة والفرات)، والتي تشـتمل على السـهول الغرينية الواسـعة والتي ظهرت فيها أولى الحضارات في العالم، تدعى في الأزمان الموغِلـة في القِدم بـ (بلاد ما بين النهرين Mesopotamia)، لكن أسم (العراق) أصبح معروفاً منذ القرن السـابع الميلادي، على الرغم من أن المسـلمين من عرب الجزيرة كانوا يدعونه قبل ذلك بـ (أرض السـواد). ففي تلك الأيام لم يكن اسم العراق يشير إلى حدود عراق اليوم، بل فقط إلى ذلك الجزء منه الذي يقع جنوب الخط يصل بين الأنبار (أو حديثة، استناداً إلى رأي آخر) على الفرات وتكريت على دجلة، وصولاً إلى البصرة في الجنوب. وإذا كانت الحياة التاريخية القديمة للمجتمع والدولة في العراق قد بدأت في جنوب العراق حتى اتصلت بأعالي الوسط مستقرة على كتف نهر الفرات لبدء حياة حضرية ذات إفراز حضاري مؤثر دون أن تعبر النهر، فإنها ستوغل فيما بعد نحو المناطق الصحراوية القريبة التي تكثر فيها العيون، كما هو الحال في المناطق الغربية من العراق. لكن العراق بحدوده الجغرافية المعهودة في وقتنا الراهن، لم يكن معروفاً في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. بل كان يقسم إلى ثلاث ولايات هي بغداد والموصل والبصرة. وبكلماتٍ أخرى لم يكن هناك حتى ذلك التاريخ (قبيل تأسيس الدولة العراقية الحديثة) مجتمع واحد متماسك، يمكن وصفه بأنه (مجتمع عراقي). وكان لابد للعراق بحكم موقعه، والذي يقع وسطاً بين حضارتين كبيرتين في كل حين، من أن يكون ساحة للصراع بينهما، فهو في مرات عدة كان ساحاً للصراع بين الفرس والروم... حدث ذلك قبل الإسلام، أما بعد ثلاث قرون من سقوط الدولة العباسية على يد (هولاكو)، فقد أصبح العراق ساحاً للصراع بين العثمانيين والفرس، على الرغم من أن إرهاصات ذلك الصراع الأثني الطائفي قد بدأت منذ أيام العباسيين، وقد انعكس ذلك على طبيعة الصراعات الاجتماعية بين سكان العراق خلال قرون. إذ تزامن ظهور إيران الصفوية (الشيعية) في العام (1501) مع نشوء الإمبراطورية العثمانية (السنية)، ثم مع محاولات السلطانين العثمانيين سليم الأول (1512-1520) وسليمان القانوني (1520-1566) بناء دولتهما كإمبراطورية عالمية. وقد أوجدت هذه القضية واقعاً جديداً في العراق الذي أصبح ساحة حرب بين القوتين المتنافستين، كما سبقت الإشارة، ومع اندلاع الصراعات في القرنين السادس عشر والسابع عشر بين العثمانيين والصفويين، أخذ كل من السلطان العثماني والشاه الصفوي يسمي نفسه (عاهل الإسلام). وتبدى الصراع بين الاثنين بلغة نزاع طائفي (سنّي ـ شيعي)، يحصل على أرض العراق. وقد سيطر الصفويون على كامل أرض العراق في العام (1508) واستمر حكمهم حتى الاحتلال العثماني للعراق عام (1534). والواقع أن في العراق عموماً لم يشهد أي تحسن مع مجيء الصفويون، ذلك أنهم أججوا الصراع السياسي/الطائفي الذي كان قد انتشر بين أبناء المجتمع منذ الحكم الأموي وزاده العباسيون اشتعالاً، لكن الصفويون صبوا الزيت على النار حينما عمل الشاه إسماعيل الصفوي على اضطهاد أهل السنّة وقتل بعض وجهائهم وفقهائهم، وهدم قبور أئمتهم كقبر أبي حنيفة وعبد القادر الكيلاني. فلما دخل العثمانيون أصلحوا ما عمل الصفويون برفع الظلم عن السنّة لكنهم اضطهدوا الشيعة ونكلوا بوجهائهم وفقهائهم. فلما عاد الصفويون لاحتلال العراق حينما سيطر الشاه عباس الصفوي على العراق واحتله عام (1623)، عمل على اضطهاد أهل السنّة، فلما عاد السلطان العثماني مراد الرابع ليفتح العراق من جديد فعل بالشيعة مثلما فعل الشاه الصفوي عباس بالسنّة. وهكذا ظل المجتمع في العراق يعاني الأمرين من هذا الصراع الاستعماري بين العثمانيين والإيرانيين، مما تجدر الإشارة إليه في هذا الشأن أن الأفراد في ذلك الحين لم يكونوا يعرفوا ما تعرفه المجتمعات المعاصرة من مشاعر الولاء الوطني. فقد كانت النزعة الدينية المتمثلة بالتعصب المذهبي أو الطائفي هي السائدة. معنى ذلك أن أهل العراق لم يكونوا يعدون العثمانيين أو الإيرانيين أجانب محتلين غرضهم الاستيلاء على البلاد ونهب خيراتها، بل كان كل فريق منهم ينظر إلى الدولة التي هي من مذهبه الديني كأنها الدولة المنقذة. في حين سيطر العثمانيون على العراق في العام (1534) للمرة الأولى، واستمر حكمهم متقطعاً (بين سيطرة الإيرانيين مرات عدة وبين احتلال المماليك ـ وهم أتراك أيضاً ـ وعودتهم للاحتلال المباشر للعراق في عام 1836) حتى الاحتلال البريطاني عام (1917). والحق أن صراع الأطماع بين الدولتين الفارسية والعثمانية استمر ما يقرب من أربعة قرون كان العراق خلالها ساحة لعمليات الحرب والاستنزاف لم يحصد فيها أبناء العراق سوى المصائب والأهوال دون أن يكون لهم في ذلك القتال أية مصلحة. وفيما بعد، وحين تم تأسيس الدولة الحديثة، تجلى تأثير الصراع بين العثمانيين والإيرانيين في العراق: إذ إن وجود غالبية شيعية من أبناء أقليمي الوسط والجنوب في العراق (وهم يشكلون ما يقارب 58 % من سكان العراق)، كان بحد ذاته يثير - وباستمرار- حفيظة شركائهم السنّة العراقيين (الذين يشكلون ما يقارب 20 % من سكان العراق، والذين حكموا العراق طوال عمر الدولة الحديثة) مُظهرين تحفظاتهم هذه بشكل اتهامات لعامة الشيعة بـ (التبعية الإيرانية)، عادةً ما يوجه هذه الاتهامات النخبة السنية الحاكمة (وتكون هذه الاتهامات ضمنية في معظم الأحيان، أو علنية سافرة في أحيانٍ أخرى كما هو الحال عند انتفاضة الشيعة ضد الظروف السيئة التي يعيشونها، كما حدث في انتفاضة النجف في عام 1977 وانتفاضة معظم محافظات الوسط والجنوب الشيعية والشمال الكردية في عام 1991 مثلاً)، فضلاً عن تأثير المحيط العربي الذي قام دائماً للأسف على أساس شك وسوء فهم أنتج باستمرار مواقف عدائية تجاه العراقيين الشيعة (العرب)، وبالتالي اتجاه غالبية المجتمع في العراق. وقد ولدَّت هذه المواقف بالنتيجة شكوكاً قوية لدى العراقيين الشيعة، وحذراً مبرراً إزاء دعاوى القومية العربية والنظام العربي عموماً، والذي برهن – ولا زال يبرهن حتى الآن- على انه جدير بهذه المخاوف والشكوك، وانه يتعامل مع العراقيين فعلاً على أسس طائفية.
 
 
 

المراجع

موسوعة الجغرافيا دراسات وابحاث

التصانيف

تصنيف :الجغرافيا