لمقدمة
لم يكن العتاب من الأغراض الشعرية البارزة في عصر ما قبل الإسلام ، فقد كان هنالك المديح والغزل والفخر والرثاء أما العتاب فكان ضرعاً أخذ يتسع تدريجياً حتى صار غرضاً بارزا في العصر العباسي إذ تنوعت بواعثه ، وتعددت موضوعا ته . وكان لرسالتي شعر العتاب والاعتذار في القرنين الثالث والرابع الهجريين الفضل الكبير في تبلور فكرة هذا البحث
إذ لم تفرد لغرض العتاب دراسة مستقلة من قبل بينما كانت هنالك دراسات مستقلة للأغراض البارزة الأخرى كالمديح ،والهجاء ، والغزل ، وغير ذلك إذ وجدت إن تقديم فكرة مبسطة عن هذا الموضوع يساهم في أغناء الدراسات الأدبية ، ويسلط الضوء على جانب واسع من جوانب العلاقات الاجتماعية .ولما كان ذلك الغرض قد أخذ يتنامى بمرور الزمن لذلك فرض المنهج ألتأريخي نفسه على هذا البحث فقسمت البحث على فصول
الفصل الأول مفهوم العتاب والفصل الثاني شعر العتاب في عصر ما قبل الإسلام ، والفصل الثالث شعر العتاب في صدر الإسلام والعصر الأموي
والفصل الرابع شعر العتاب في العصر العباسي ،والفصل الخامس شعراء العتاب أما الفصل السادس فقد كان الدراسة الفنية لذلك الغرض.
والعتاب كثير الأنواع خاصة في العصر العباسي وليس في وسع هذه الدراسة الإحاطة به نلكن الإشارات التي سأوردها في أنواعه يمكن أن تفضي إلى دراسات موسعة ومستقلة أما المصادر التي اعتمدت عليها فكانت دواوين الشعراء هي المادة في ذلك وللدراسات الحديثة المتصلة بهذا الموضوع الفضل في إنارة الطريق لي وأهمها هي دراسات الدكتور ينس أحمد السامرائي لأعلام شعراء القرن الثالث الهجري ذلك لأنه يقف عند شعر العتاب لدى كل شاعر درسه أمثال البحتري وسعيد بن حميد وأبي علي البصير وإبراهيم بن المدبر وغيرهم ، ومن خلال ذلك كان للدكتور يونس أحمد السامرائي قصب السبق في أن يفتح الباب على مصراعيه لدارسي هذا الغرض على الرغم من وجود دراسات سابقة لهذا الموضوع
وأهم المصادر التي تناولت غرض العتاب كتاب ( العمدة ) لأبن رشيق القيرواني ومن الدراسات الحديثة التي تناولته هي دراسات الدكتور أحمد أحمد بدوي في كتابيه( أسس النقد الأدبي ) ( البحتري وفنه)
أسأل الله العلي القدير أن أكون قد وفقت إلى ما كنت أنشده في تقديم صورة مبسطة لهذا الغرض انه نعم المولى ونعم النصير.
ص2.
• مفهوم العتاب
العتاب غرض ذو مجريين شعري ونثري، وقد عرف في الشعر العربي منذ عصر ما قبل الإسلام.
وهو في مفهومه كما يقول الأزهري ( هو كلام المدلين إخلاءهم طالبين حسن مراجعتهم، ومذاكرة بعضهم بعضا ما كرهوه مما كسبهم الموجدة) وهو في الشعر من الأغراض الوجدانية يلجأ الشاعر إليه حين يكون لديه إحساس بالتحول عن المودة من المعتوب عليه ، فتدفعه بواعث متباينة إلى غرض يتوسط فيه بين أن يلوم المعتوب عليه من غير أن يوجعه فينقلب العتاب إلى هجاء ، وبن أن يطلب الإبقاء على الود من غير أن يضع الشاعر نفسه ، موضع المتوسل والمستعطف . والعتب لغة بالتحريك : النقص ، ومن معانيه ما دخل في الأمر من الفساد ويقال ما في مودته عتب إذا كانت خالصة لا يشو بها فساد ، والعتب : الموجدة وعاتبه
معاتبة،وعتاباً كل ذ لك لامه قال علي بن الجهم :
أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني منه اجتناب
إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب
فالعتب يطلق على فساد العلاقة بين طرفين يسببه أحدهما فيحدث العتب
( الموجدة ) لدى العاتب، فيلوم الطرف الذي أساء بحق المودة أملا بالأعتاب أو العتبى ( رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب )
والعتاب من الأغراض الشعرية الدقيقة أ لتي تختلف عن الأغراض
الشعرية المعروفة فالمدح مثلا يلجأ الشاعر فيه إلى وصف الممدوح بالقيم
الإنسانية النبيلة، والهجاء يلجأ الشاعر فيه الى ذكر مساوئ المهجو
أما العتاب فإنه غرض شعري يضع الشاعر في موقف حرج يحتاج إلى براعة ، وجدارة ، وحيطة لكي يجعل عتابه متوازنا بين عواطفه وعواطف المعاتِب ، ولذلك كانت طرق العتاب كثيرة تختلف باختلاف أساليب الشعراء في بواعثه ، وموضوعاته قال الناشئ الأكبر أبو العباس عبد الله بن محمد الأنبا ري
ثم إن كنت عاتبا شبت في الوع (م) ـــد وعيدا وبالصعوبة لينا
فتركت الذي عتبت عليه حذرا آمنا عزيزا مهينا (1)
ولما كان العتاب كما قلنا يتصل بوجدان الشاعر فلا يمكنه أن يتخلى عن موقفه ، واسلوبه ليحقق هذه المعادلة بين الصعوبة ، واللين فلا يشتد في الصعوبة ويقلل من لينه أو يقلل من شدته ويكثر في لينه ، وإزاء هذه المعادلة اختلفت الآراء في العتاب بين الترغيب به وبين تركه فمما قيل في الترغيب به : قال الإمام علي كرم الله وجهه ( لا تقطع أخاك على ارتياب ، ولا تهجره دون إستعتاب ) (2) وقال أبوا لدرداء : معاتبة الأخ خير من فقده ومن لك بأخيك كله (3) ، وقال العتابي: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد (4) . ومما قيل في التحذير منه وذمه قال الأحنف بن قيس : العتاب مفتاح التقالي والعتاب قرين الحقد (5) وقيل :العتاب مدرجة القطيعة، وهو رسول الفرقة وداعي القلى وسبب السلوان،و باعث الهجران لأنه يبعث التجني ، والتجني ابن المحاجة ، والمحاجة أخت العداوة ، والعداوة أم القطيعة (6)
وما هذا التناقض في الآراء إلا لأن العتاب غرض دقيق لا يؤتمن النجاح فيه نتيجة لما يتركه من ارتباك ومكابدة لدى الشاعر وهو إن قل شد من أواصر الود ، وحفظ روابط المحبة ، وإذا خشن جانبه ، وثقل صاحبه .
وغرض العتاب له غاية تربوية ، وأخلاقية تدعو إلى الحفاظ على أواصر المودة ، والمحبة بين الناس في علاقاتهم ، والالتزام بالقيم الإنسانية
النبيلة التي تحفظ للمجتمع تقدمه ، ورقيه من خلال الكشف عما يضعف العلاقات الاجتماعية بين الناس وعدم الرضا عن ذلك الضعف (7)
(1) العمدة / ابن رشيق 2/ 577
(2) العقد الفريد / ابن عبد ربه 2/ 309
(3) عيون الأخبار / ابن قتيبة 3/ 168
(4) بهجة المجالس وأنس المجالس / ابن عبد البر 1/ 724
(5) المصدر نفسه 1/ 724
(6) ديوان المعاني / العسكري 1/ 168
(7) ينظر النابغة / محمد زكي العشماوي 860 ونظر أعتاب الكتاب ابن الآبار مقدمة الدكتور صالح لأشتر 31
ص3.
وغرض العتاب غرض حضاري أخذ يتنامى منذ أواخر عصر ما قبل الإسلام إذ وجد تربة خصبة في الدعوة الإسلامية فأخذ يترعرع في ظل الحضارة العربية فالحياة الاجتماعية نتيجة الاختلاط بالأقوام مذ الفتوحات الإسلامية قد أثرت في العادات والتقاليد الفطرية في المجتمع العربي فتحولت بعض أذواق الناس وعاداتهم فانعس ذلك على الشعر والشعراء لأنهما جزء من هذه الحياة ؛ فالتفاوت في الأنماط والدرجات بين أفراد المجتمع ، وتركز الأموال بأيدي رجال الدولة أفضى إلى أن تكون المادة هي الهم الأساس بين أفراد المجتمع فانتشت الوشاية ، والدسيسة ، والنفاق وكان لابد أن يتسع غرض العتاب نتيجة المنافسة الشديدة بين الشعراء ولذلك نجد أبا بكر الصولي المتوفى سنة 335 هـ حين جمع دواوين الشعراء وشرحها وقسم كل ديوان على أبواب كان باب المعاتبات عنده مستقلا عن الأبواب الأخرى ولم يكن فرعا لباب معين (1) (وهذا اعتراف صريح بالفعل لا بالقول ) (2) بأن هذا الغرض قد أصبح غرضا قائما بذاته فرض نفسه على الدواوين وجامعيها ووجد أبو هلال العسكري المتوفى 395 هـ إن غرض العتاب لابد له من أن يضاف إلى أغراض الشعر العربي حين قسم ديوان المعاني على اثني عشر بابا وبذلك يكن أبو هلال العسكري أول من جعل غرض العتاب من الأغراض المستقلة في الشعر العربي (3)
(1) قال الصولي في مقدمة شرحه لديوان أبي تمام ( وبقي شعره الذي سألتني عنه بعد انقضاء أخباره وهو ثمانية أصناف ) فكانت المعاتبات عنده فنا مستقلا / ينظر شرح الصولي لديوان ابي تمام 1 / 165 ورتب الصولي ديوان ابن المعتز على عشرة أغراض وجعل العتاب فنا مستقلا ينظر شعر ابن المعتز شرح الصولي القسم الثاني ( الدراسة) 155
(2) هذه الجملة قالها أستاذي الجليل الدكتور علي الزبيدي حين حدثته حول الموضوع سنة 1987 م
(3) ينظر ديوان المعاني / الباب الثالث الفصل الأول في المعاتبات 1/ 157
ص4.
شعر العتاب في عصر ما قبل الإسلام
بينت الموضوعات الوجدانية في الشعر الحياة العربية قبل الإسلام بيانا صادقا لأن شعراءها (يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مديحا ، وهجاء ، وافتخارا ، ووصفا ، وترغيبا ،(1) وترهيبا إذ عبروا عن أمنهم واستقرارهم والرد على أعدائهم ، والتغني بالفضائل العربية الكريمة (2). وقد كان لنظام القبيلة أثر في إبعاد الشاعر عن مزالق الضعف ، والخذلان ، والهوان فهو صحيفتها السائرة ولسانها الذي ينشر مفاخرها(3) وإذا ما شعر الشاعر بأن قبيلته قد قصرت في حقه فأنه سيعاتب ويلوم مثلما عاتب قريط بن أنيف أحد بني العنبر قومه بقصيدة هي أول قصائد ديوان حماسة أبي تمام قال:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذاً لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إذ ذو لوثة لانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل الود إحسانا
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا(4)
وعلى هذا فإننا حين نتتبع الأغراض الشعرية قيل الإسلام نجد المديح، والفخر ، الرثاء ، والنسيب ،والهجاء ، والعتاب الذي لم يقتصر على شاعر معين ؛ وإنما اتخذ صورا متعددة لشعراء متعددين على الرغم من قلة مروياته إذا ما قيس بالأغراض الأخرى ؛ ولكنه كان أوسع من الاعتذار
الذي كادوا يقصرونه على النابغة لأن بواعثه لا تتعارض مع حياة القبيلة وطبيعتها ، فقد يعاتب الشاعر قومه بسبب العداء الذي يقع بينهم كما عاتب النابغة الذبياني بني مرة وهم من ذبيان لأنهم أظهروا العداوة له ولقبيلته فقال:
ألا أبلغا ذبيان عني رسالة فقد أصبحت عن منهج الحق جائرة
(1) عيار الشعر ابن طبا طبا العلوي : 3
(2) ينظر العمدة ابن رشيق 1/50
(3) تاريخ الشعر السياسي إلى منتصف القرن الثاني الهجري أحمد الشايب 34
(4) ديوان الحماسة رواية الجواليقي تحقيق عبد المنعم أحمد صالح 29
ص5.
أجدكم لن تزجروا عن ظلامة سفيها ولن ترعوا لذي الود آصرة
فلو شهدت سهم وأبناء مالك فتعذرني من مرة المتناصرة
لجاءوا بجمع لم ير الناس مثله تضاءل منه بالعشي قصائره
ليهنئ لكم أن قد نفيتم بيوتنا مندى عبيدان المحلئ باقره (1) واني لأ لقي من ذوي الضغن منهم وما أصبحت تشكو من الوجد ساهرة(2)
وعاتب الشاعر قومه لأنهم لم يمتثلوا لنصيحته كما نجده في دالية دريد بن الصمة(3) قال :
وقلت لعراض وأصحاب عارض ورهط بني السوداء والقوم شهدي
علانية ظنوا بألفي مدجج سراتهم بالفارسي المسرد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت فيهم وقد أرى غوايتهم إني بهم غير مهتدي
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وان تعقب الأيام والدهر تعلموا بني قارب إنا غضاب بمعبد(4)
ودريد بن الصمة في عتابه هذا قد أفضى به إلى أن يمس معضلة قديمة قدم المجتمع الإنساني تتصل بموقف ذوي الرأي الحصيف من الدهماء ، وموقف كبار العقول مما عليه سواد الناس ؛ فدريد يشير على قبيلته بالرأي فلا يأخذون به فينقاد لرأيهم مع اعتقاده بضلاله(5)
وإذا كانت أبيات دريد بن الصمة خالية من اللوم والتقريع فان العتاب في عصر ما قبل الإسلام لم يكن عتاب استلطاف ، واستعطاف ، وإنما كان لوما وتقريعا يقترب كثيرا من الهجاء كما في قصيدة المتلمس (6) يعاتب خاله الحارث بن التوءم اليشكري :
أحارث إنا لو تساط دماؤنا تزايلن حتى لا يمس دم دما
أمنتفلا من نصر بهثة خلتني ألا إنني منهم وإن كنت ابنما(7)
(1) نفيتم بيوتنا :أبعدتم قبائلنا رجل ، المحلئ باقرة: المبعد، مندى عن الماء: مكان التذرية ، عبيدان : اسم الأبقار
(2) ديوان النابغة الذبياني تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم 153
(3) مواقف في الأدب والنقد الدكتور عبد الجبار المطلبي /16ودريد بن الصمة سيد بني جشم وقائدهم وفارسهم ونقل الأصفهاني في الأغاني قول ابن سلام الجمحي انه أول الشعراء الفرسان أدرك الإسلام ولم يسلم الأصمعيات /105
(4) الأصمعيات /107
(5) مواقف في الأدب والنقد /16
(6) هو جرير بن عبد المسيح من بني ضبيعة وأخواله بني يشكر وكان ابن أخته طرفة ابن العبد فقتل طرفة وفر المتلمس الأصمعيات /244
(7) انتفل : تبرأ وأنكر ، بهثة : هو ابن ضبيعة بن ربيعة
ص6
ألا إنني منهم وعرضي عرضهم كذي الأنف يحمي أنفه أن يصلما
لذي الحلم قبل اليوم ماتقرع العصا وماغ علم الإنسان إلا ليعلما
فان نصابي إن سألت ومنصبي منالناس قوم يقتنون المزنما
وكنا أذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقوما
فلو غير أخوالي أرادوا نقيصتي جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وما كنت إلا مثل قاطع كفه بكف له أخرى فأصبح أجذما (1)
في مثل هذه التجربة يتحتم على المتلمس أن يسلك طريق العتاب لأنه لايمكن أن يتنكر لأخواله على الرغم من إن خاله الحارث بن التوءم اليشكري قد تأثر في إجابة عمر بن هند عن نسبه فقال : أوانا يزعم (أي المتلمس ) انه من بني يشكر ، وأوانا انه من ضبيعة أضحم ، ومثل هذا الجواب باعث إلى الهجاء المقذع فوجد الشاعر انه لو انتقص من خاله لكان مثل قاطع كفه .
ومن طرق العتاب التي تفرض نفسها على التجربة الشعورية هي قصيدة أمية بن أبي الصلت (2) الذي وجد في ابنه غلظة ، وفضاضة فليس من المستحسن واللائق بأن يرد على ولده بهجاء ، وتقريع ولابد أن يكون حليما وقورا واسع الصدر ليكون مثلا تربويا تجاه ابنه ، فكان عتابه الذي عاد به إلى التذكير بالماضي المبذول في سبيل تربيته ثم قابل ذلك بالحاضر المتصف بالتنكر من الابن لوالده فكان في عتابه أبلغ أثرا وإيلاما من الهجاء قال:
غذوتك مولودا وعلتك يافعا تٌعَلّ بما أحني عليك وتنهلُ
إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت لشكواك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني وعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك إنها لتعلم ان الموت حتم مؤجل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل(3)
( 1) الأصمعيات /245
(2) أمية بن أبي الصلت : هو أمية بن عبد الله بن أبي ربيعة من الشعراء المخضرمين وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية ، وحرم الخمر ، وشك في الأوثان نشر ديوانه في العراق الدكتور بهجة عبد الغفور طبع في بغداد شخصيات الأغاني/53
(3) أمية بن أبي الصلت حياته وشعره / 354ـ 355
يتضح مما قدمنا من أمثلة العتاب في عصر ما قبل الإسلام انه يتصل بتمسك الشاعر بانتمائه إلى قبيلته ، فإذا حصل أن يعكر على الشاعر صفوه أحد أبناء قبيلته ، أو قبيلته نفسها فإن اعتزازه برابطة الدم تدفعه إن يكبح جماح غضبه ليفضي به إلى عتاب (1)
(1) ينظر في عتاب عصر ما قبل الإسلام عتاب الربيع بن زياد لبني ذبيان لإجارتهم قيس بن زهير وقد كانت بينهما ضغينة / الكامل : ابن الأثير / 1/572 وتنظر نونية ذي الإصبع العدواني يعاتب مرير بن جابر المفضليات / 159ـ 160 وديوانه /88
ص.7
شعر العتاب في صدر الإسلام
ظل أغلب شعر العتاب في صدر الإسلام مستمدا من أمثلة عصر ما قبل الإسلام من ذلك ما عاتبت به قتيلة بنت النضر بن الحارث النبي ( صلى الله عليه وسلم) وكان قد قتل أبوها
فليسمعن النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تقطع
أمحمد ها أنت نجل نجيبة من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق (1)
فكان لهذه الأبيات وقع في نفسه (صلى الله عليه وسلم) لأنها صدرت من وجدان امرأة مكلومة دفعها الحزن الممض إلى أبيات صادقة فقال(صلى الله عليه وسلم) : (لو سمعتها قبل اليوم ما قتلته )(2) وإذا كان في ذلك العتاب لا نجد أثراً إسلاميا وان قتيلة خاطبت الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأسلوب يعتمد على أمثلة سابقة ذكرت منها كرامة انتمائه من جهة ، وفتوته العربية من جهة أخرى لأنها مازالت على شركها فان هذا الغرض بدأ يرتفع رويدا إلى مستوى تحكيم النفس والعقل ،واخذ يمين إلى الحكمة ، والرقة،وسعة الحلم في تحمل العثرات كما نجد ذلك عند معن ابن اوس في قوله :
وذي رحم قلمت أظفار ضغنه بحلم عنه وهو ليس له حلم
إذا سمته وصل القرابة سامني قطيعتها تلك السفاهة والاسم
فان اعف عنه أغض عينا على القذى وليس له بالصفح عن ذنبه علم
فما زلت في رفق به وتعطف عليه كما تحنو على الولد ألام
وأطفأت نار الحرب بيني وبينهم فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم (3)
انه صوت ينبذ الضغينة ويجعل من الحلم طريقا يؤدي إلى كبح جماح أية موجده تعكر صفو العلاقة بين أبناء المجتمع، وإذا كان الشاعر في هذه الأبيات يخاطب احد ذوي رحمه فانه من ناحية أخرى يعكس ألصوره الامينه لمبادئ الدين الإسلامي الحنيف الداعي إلى السلام وينهى عن الأحقاد والضغائن .
فالإسلام فكرا قد قلم أظفار الضغينة وهذب النفوس فليس غريبا إن نجد المفردات ( العفو، الصفح، الرفق، العطف، السلم) مبثوثة في ثنايا الأبيات على إننا نجد الأثر في انعطافة الشعر في صدر الإسلام قد امتد أثره على شعر المشركين الذين لازالوا على جاهليتهم كما نجد ذلك في عتاب كعب بن زهير لأخيه بجير الذي قبل الدعوة واسلم قال:
(1) البيان والتبيين الجاحظ 4/ 44 والعمدة 1/ 56
(2) العمدة 1/ 56
( 3) لباب الآداب أسامة بن منقذ / 401 ـــ 402 هذه الأبيات مما أعجب الخليفة عبد الملك بن مروان ففضله على جميع الشعراء
ص8
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
شربت مع المأمون كأسا روية فأنهلك المأمون فيها وعلكا
وخافت أسباب الهدى وتبعته على أي شيء ويب غيرك دلكا
على مذهب لم تلف أما ولا أبا عليه ولم تعرف عليه أخا لكا (1)
إن وصف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ب( المأمون ) يبعث في النفس الطمأنينة وانه الهدى بعينه على الرغم من إن كعبا كان يلوم أخاه على انضمامه في صف الرسول الكريم
وقد كان لاتساع رقعة الدولة الإسلامية في العصر الأموي وتراميها أثر كبير في تعدد الاتجاهات، والمشارب ، وتعدد الأحزاب ، وازدياد مظاهر الترف ، والطرب فتأثرت بذلك كل الأغراض الشعرية ، وكان العتاب أحد هذه الأغراض إذ أخذ يشق طريقه بين الأغراض المعروفة ؛ ولابد أن تكون هنالك بواعث جديدة له تفضي به إلى موضوعات جديدة على نحو ما نجد عند جميل بن معمر في قوله :
لما أطالوا عتابي فيك قلت لهم لا تكثروا بعض هذا اللوم واقتصدوا
قد مات قبلي أخو نهد وصاحبه مرقش واشتفى من عروة كمد
إن لم تنلني بمعروف تجود به أو يدفع الله عني الواحد الصمد
فما يضر امرأ أمسى وأنت له أن لا يكون من الدنيا له سند (2)
وقال في العتاب الممزوج بالشكوى :
لحى الله من لا ينفع الود عنده من حبله إن مد غير متين
ومن هو إن تحدث له العين نظرة تقصب له أسباب كل قرين
ومن هو ذو لونين ليس بدائم على العهد خوان لكل أمين(3)
وقال ألعرجي في العتاب الغرامي:
أقول لها والعين قد جاد غربها وقد كان فيها دمعها قد ترددا
أريتك إذ أعرضت عني كأنما تلاقين من حيات بيتان أسودا
أأسلاك عني النأي أم عاقك العدى وما افترقوا أم جئت صرمي تعمدا
ألم أك أعصي فيك أهل قرابتي وأرغم فيك الكاشح المتهددا(4)
(1) شرح ديوان كعب بن زهير السكري طبعة دار الكتب / 3ــ 4
(2) ديوان جميل بن معمر
(3) ديوان المعاني العسكري / 159
(4) النصف الأول نمن كتاب الزهرة محمد بن داود الإصفهاني / 127
ص9
وهنالك عتاب يتصل بالحياة السياسية على نحو ما نجد عند الوليد بن يزيد يعاتب هشاما :
أليس عظيما أن أرى كل وارد حياضك يوما صادرا بالنوافل
فأرجع محمود الرجاء مصردا بتحلئة عن ورد تلك النواهل (1)
وينقلنا الفرزدق إلى عتاب يتحدى حدود الزمان والمكان إلى حالة إنسانية تحدث للآباء حين يكبرون ،فيبدي أبناءهم العقوق والتذمر منهم ، ولئن ذهب أمية بن أبي الصلت إلى تذكير ابنه أيام كان صغيرا ،وكيف كان يرعاه ؛ فان الفرزدق قد ذهب إلى وصف حالته وصف حالته حين بلغ به العمر عتيا فكان ضعفه يقابله قوة ولده قال :
أإن أرعشت كفا أبيك وأصبحت يداك يدا ليث فانك جاذبه
رأيت تباشير العقوق هي التي من بن امرئ ما إن يزال يعاتبه
ولما رآني قد كبرت وإنني أخو الحي واستغنى عن المسح شاربه
أصاخ لغربان النعي ، وانه لأزور عن بعض المقالة جانبه (2)
وقد يكون عبث الشعراء وسوء أخلاقهم باعثا على العتاب بعد معاقبتهم بالسجن أو النفي على نحو ما نجد في عتاب الأحوص للخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ( رضي الله عنه ) حين نفاه إلى قرية من قرى اليمن لسوء أخلاقه
فقال :
ألست أبا حفص هديت مخبري أفي الحق أن أقصى ويدنى ابن أسلما
وكنا ذوي قربى لدك فأصبحت قرابتنا ثديا أجد مصرما
وكنت وما أملت منك كبارق لدى قطره من بعد ما كان غيما
وقد كنت أرجى الناس عندي مودة ليالي كان العلم ظنا مرجما
تدارك بعتبى عاتبا ذا قرابة طوى لغيظ لم يفتح بسخط له فما(3)
ومن العتاب الاخواني قول عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب:
رأيت فصيلا كان سيبا ملفقا فلم أدع التفتيش حتى بدا ليا
كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا
ولست براء عيب ذي الود كله ولا ناظر فيه إذا كنت راضيا
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المسا ويا
فلا زاد ما بيني وبينك كلما ذكرتك في الحاجات إلا تنائيا
فأنت أخي ما لم تكن لي حاجة فان عرضت أيقنت أن لا أخا ليا(4)
(1) الأغاني الإصفهاني طبعة دار الكتب 7/13
(2) ديوان الفرزدق
(3) شعر الأحوص الأنصاري الدكتور إبراهيم السامرائي / 190ــ191ــ192
(4) الحماسة الشجرية مطبعة المعارف العثمانية حيدر آباد /66
ص10
شعر العتاب في العصر العباسي
وقد كان للتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي حدثت في العصر العباسي أثرها في الشعر من حيث البواعث ، والموضوعات فقد بقي موضوع الشعرـ في هذا العصرـ كما كان مدحا ، وهجاء ،ورثاء ،ووصفا ، وغزلا وإنما تجددت هذه الأغراض من غير أن تتبدل ؛ ولم يكن تجددها جوهريا ، ولا مطردا ، وشعر العتاب من هذه الأغراض التي طرأ عليها التجديد ، والاتساع في موضوعا ته ، وبواعثه ؛ فنجد أبا العتاهية يعاتب الخليفة لأنه سجنه حينما أمره أن يقول الغزل بعد توبته فقال :
تذكر أمين الله حقي ، وحرمتي وما كنت توليني لعلك تذكر
ليالي تدني منك بالقرب مجلسي ووجهك من ماء البشاشة يمطر
فمن لي بالعين التي كنت حرة إلى بها في سالف الدهر تنظر(1)
وعلى الرغم من أن عتاب الخلفاء ليس جديدا إلا ان البواعث جديدة ، وأسلوب الشاعر فيه يميل إلى الرقة ، والوضوح ، ويمكن أن نعد مشروعية العتاب ، وسابق الصلة بين الشاعر والخليفة من أسباب نجاح الشاعر في إيراد ما يسوغ عتابه فهنالك تحول سياسي واجتماعي اقترب فيه الشاعر إلى الخليفة يوم كان ينظر إليه بعين الرضا ، مما جعل الخليفة الرشيد يعيد النظر في حكمه على الشاعر لأنه أمين الله ، وهو المسؤول عن رعيته وذلك يفتح للشاعر حججا ومعانيا جديدة فرضتها التحولات في العصر العباسي .
وعلى الرغم من ذلك فان عتاب الخلفاء قليل جدا إذا ما قيس بغيره من موضوعات العتاب قال ابن المقفع ( إذا شغلت بصحبة الملوك فعليك بطول المرابطة من غير معاتبة )(2) فان من أخلاق الملوك سرعة لغضب ؛
وليس من أخلاقه سرعة الرضا ولذلك قال الناشئ الأصغر(3) :
(1) زهر الآداب وثمر الألباب الحصري القيرواني / 384
(2) الأدب الكبير ابن المقفع /120
(3) الناشئ الأصغر : هو أبو الحسن علي بن عبد الله الشاعر المشهور ، أملى شعره بجامع الكوفة ، وكان أبو الطيب يحضر مجلسه توفي سنة 366هـ / وفيات الأعيان 3/ 51
ص11.
إذا أنا عاتبت الملوك فإنما أخط بأقلامي على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد العتاب ألم يكن تودده طبعا فصار تكلفا(1)
ومن عتاب الخلفاء العتاب الذي وجهه علي بن الجهم إلى الخليفة المتوكل وقد دفعه إليه جلده ، وكبرياؤه ، وقوة شخصيته في بداية سجنه فقال :
أمن السوية يا ابن عم محمد خصم تقربه وآخر تبعد
إن الذين سعوا إليك بباطل أعداء نعمتك التي لا تجحد
شهدوا وغبنا عنكم فتحكموا فينا وليس كغائب من يشهد(2)
و تعددت بواعث العتاب في العصر العباسي فمنتها الجفوة ، والإطراح
من غير ما سبب ؛ وهذا الباعث كان وليد عوامل سياسية واجتماعية انعكست آثارها على رجال الدولة إذ كنا نرى أخلاق القرين والإلف تتلون ولا تستوي(3) فمن أمثلة هذا الباعث قول البحتري معاتبا الفتح بن خاقان(4) حين جفاه:
ماذا أقول لشامتين يسرهم ما ساءني ولمنكر متعجب
أأقول مغضوب عليّ فعلمهم أن لست معتذرا ولست بمذنب(5)
إن ذلك الاستفهام ينطوي على دهشة أفقدت الشاعر صوابه حتى لم يعد يعرف كيف يجيب الشامتين .
وقد كان الحجاب من البواعث الكبيرة لغرض العتاب إذ إن رجال الدولة لم يحسنوا اختيار حجابهم فهم غالبا ما يسيئون معاملة الناس؛ لذلك نجد أغلب شعراء العصر العباسي قد عاتبوا بسبب ذلك الباعث ، من ذلك
ما عاتب به أبو علي البصير(6) علي بن يحيى بسبب حجبه قوله :
قد أتيناك للسلام فصادف نا على غير ما عهدنا الغلاما
وسألناه عنك فاعتل بالنو م وما كان منكر أن تناما
غير أن الجواب كان جوابا سيئا يعقب الصديق احتشاما
يا بن يعقوب لايلومن إلا نفسه بعد هذه من ألاما(7)
(1) يتيمة الدهر الثعالبي 1/232 ولإعجاز والإيجاز ا لثعالبي /217
(2) ديوان علي بن الجهم / 46
(3) التاج في أخلاق الملوك منسوب للجاحظ /135
(4) الفتح بن خاقان بن عرطوج نشأ في ظل الخلفاء المعتصم والواثق والمتوكل ؛ كان ولوعا بالأدب والشعر ، وكان صديقا حميما للمتوكل قتل مع المتوكل في قصر الجعفري سنة 247هـ
(5) ديوان البحتري تحقيق حسن كامل الصيرفي 1/ 141
(6) أبو علي البصير هو الفضل بن جعفر بن يونس الكاتب الأنبا ري من أبناء فارس ، وكان ضريرا إلا انه كان مترسلا بليغا وشاعرا توفي بسامراء سنة 251هـ / معجم الشعراء /185
(7) مجلة المورد /المجلد الأول / العددان 3ــ 4لسنة 1972م أشعار أبي علي البصير صنعة الدكتور يونس أحمد السامرائي /168
ص12.
إن ازدياد توجه الشعراء في العصر العباسي نحو التكسب بسبب البذخ والترف الذي شاع بين الناس ، وإقبال القوم على ملذات الدنيا دفع ذلك الشعراء إلى نفاذ صيرهم عندما يمدحون رجلا من رجال الدولة فيتأخر الشكر أو الثمن وهذا التأخر يفضي بالشاعر إلى الاستبطاء الدافع إلى العتاب كما نجد ذلك مثلا في عتاب ابن الرومي لأبي الصقر إسماعيل بن بلبل :
مديحي عصا موسى وذلك إنني ضربت به بحر الصفا فتضحضحا
فيا ليت شعري إن ضربت به الصفا أيبعث لي منه جداول سيحا
سأمدح بعض الباخلين لعله إذا اطرد المقياس أن يتسمحا
ملكت فأسجح يا أبا الصقر إنه إذا ملك الأحرار مثلك أسجحا(1)
وكان تغير الحال لدى الشاعر من حالة محمودة إلى حالة سيئة دافعا لعتاب أصدقائه الذين تخلوا عنه في محنته ، وقد شاع ذلك العتاب بين أوساط الشعراء الكتاب كثيرا من ذلك ما عاتب به ابن مقلة (2) عبد الله بن يحيى الكاتب ــ حين نكبه ابن الفرات (3) وحبسه ــ لأنه لم يراسله فقال :
ترى حرمت كتب الأخلاء بينهم أبن لي أم القرطاس أصبح غاليا
فما كان لو ساءلتنا كيف حالنا وقد دهمتنا نكبة هي ما هيا(4)
ولما كانت منزلة الشعراء البارزين لدى رجال الدولة عرضة للمنافسة والضغينة بما يكنه لهم حسادهم فإنهم غالبا ما يتعرضون إلى الغض من منزلتهم ، فيدفعهم ذلك إلى العتاب كما حصل ذلك لعلي بن في مجلس المتوكل(5) ، وللبحتري (6) ، ولأبي الطيب في مجلس سيف الدولة لأن سيف الدولة أحضر من لاخير فيه ، وتقدم إليه بالتعرض له في مجلسه مرة بعد مرة (7) فكان ذلك باعثا لقوله :
يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
(1) ديوان ابن الرومي
(2) ابن مقلة :هو محمد بن علي بن الحسين من أوائل من كيفوا الخط العربي فسارت الأمثال بحسن خطه ووزر للمقتدر ، والقاهر توفي سنة 328هـ المنتظم 6/ 309ــ 311
(3) ابن الفرات : هو علي بن محمد بن موسى بن الفرات ؛ ولي الوزارة ثلاث دفعات في أيام المقتدر توفي سنة 313هـ
(4) الفرج بعد الشدة القاضي التنوخي المطبعة المحمدية القاهرة 1/ 17
(5) ينظر الأغاني طبعة ساسي 9/ 102
(6) ينظر أخبار البحتري تحقيق الدكتور صالح الأشتر 88ــ 89
(7) شرح ديوان أبي الطيب مصطفى السقا 3/ 362
ص13.
أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم(1)
وتعددت موضوعات العتاب في العصر العباسي فمنها عتاب الوزراء الذي يتطلب مهارة عالية لأنه يحتاج إلى توازن لا يتذلل فيه الشاعر آخذا بعين الإعتبار مكانة المعاتب ، ولذلك فهو أميل إلى الصنعة التي تتوخى التأني والدقة كما يقول ابن نباتة السعدي حين عاتب الصاحب بن عباد على شيء أنفذه، ولا يذكر غير مودته فقال :
أكاد على ما سمت أعتب جرأة وإن لم يكن فيما تنول عار
أهزك للجلى وأنت تخالني بروق لجين همتي ونضار
ووالله لولا المجد ما جئت طائعا إليك ولو أن السيوف عذار(2)
وعلى من انحسار موضوع العتاب القبلي إلا ان هنالك شعراء قد عاتبوا قبائلهم كما نجد ذلك لدى البحتري ، وابن الرومي ، أبو فراس الحمداني وابن العميد ، وقد عاتب الشريف الرضي قومه لفداحة خيبته بهم فقال :
أعددتكم لدفاع كل ملمة عني فكنتم عون كل ملمة
وتخذ تكم لي جنة فكأنما نظر العدو وقاتلي في جنتي
فلأرحلن رحيل لا متلهف لفراقكم أبدا ولا متلفت
ولأنقضن يدي يأسا منكم نفض الأنامل من تراب الميت(3)
والعتاب القبلي يتسع عندما حياة الفرد خاضعة لنظام القبيلة لذلك كان هذا الموضوع واسعا في عصر ما قبل الإسلام ، وحين جاء الإسلام انحسر بسبب الحياة الحضرية الجديدة وقلة تشجيع الخلفاء العباسيين مثل هذه الموضوعات .
أما العتاب الغرامي فإنه كان نتيجة لتعلق العديد من الشعراء الكتاب
بالجواري ويتميز هذا الموضوع بين الإستعطاف ، و التعنيف ؛ ولعل تقلب أخلاق الجواري كان هو الباعث لذلك فقد غضبت فضل الشاعرة(4) على سعيد بن حميد فعاتبها بقوله :
يا أيها الظالم ما لي ولك أهكذا تهجر من واصلك
لا تصرف الرحمة عن أهلها قد يعطف المولى على من ملك
(1) شرح ديوان أبي الطيب مصطفىالسقا 3/ 363
(2) ديوان ابن نباتة السعدي تحقيق عبد الأمير الطائي 2/219
(3) ديوان الشريف الرضي المطبعة الأدبية بيروت 1/172
(4) فضل الشاعرة : شاعرة ماجنة من أطرف أهل زمانها مطبوعة على قول الشعر كانت تجلس في مجلس المتوكل على كرسي تعارض الشعراء توفيت سنة 257هـ / طبقات ابن المعتز 426
ص14.
ظلمت نفسا فيك علقتها فدار بالظلم عليّ الفلك(1)
وهذه الأبيات على الرغم من أنها تشكل مقطوعة وليس قصيدة إلا ان مهارة الشاعر في العتاب قد جعلته يوجه هذه الأبيات إلى محورين هما : محور الشاعر وحالته النفسية ، ومحور المعاتَب الظالم الهاجر على الرغم من وصال العاتِب له ، ثم يوضح ظلم المعاتَب فنجده يصرف الرحمة عن أهلها ولذلك فليس للعاتب غير خضوعه ، وتذلله طالبا العطف عليه لأنه لم يعد ملك نفسه ، وانما ملك المعاتب ، وسعيد بن حميد في عتابه يجعل الطباق مادته الأساسية ليميز بين حاله وحال المعاتَب فنجد الهجر والوصل والظلم و الرحمة والصرف والعطف ويبدو ان الشعراء الكتاب كانوا من المبرزين في العتاب الغرامي فالشعر الوجداني هوغايتهم ولم يتخذوه وسيلة لعيشهم ،ومصدرا لرزقهم والجواري التي وقع بحبهن الشعراء الكتاب كنّ من المغنيات الشاعرات ولذلك تركن عتابا لهؤلاء الشعراء من ذلك ما عاتبت به ( ساهر )(2) إبراهيم بن العباس الصولي(3) ( حين كان منزله لايخلو منها ، ثم طال العهد بينهما فملها وكانت شاعرة وكانت تهواه )(4) وكان لذلك في نفسها وقع كبير دفعها إلى عتاب ينطوي على ألم ، وحسرة ، وشعور بالخيبة ، وشدة في التقريع بالصولي قالت :
بالله ياناقض العهود بمن بعدك في أهل ودنا نثق
وا سوءتا واستحبيت لي أبدا إن ذكر العاشقون من عشقوا
لا غرني كاتب له أدب ولا ظريف مهذب لبق
كنت بذاك اللسان تختلني دهرا ولم أدر انه ملق (5)
وهذا الأسلوب في العتاب الغرامي على قساوته يوضح للمعاتَب مبلغ تعلق هذه الجارية به ، ولذلك ( اعتذر إليها الصولي ، وراجعها فلم تر منه ما تكره حتى فرق الموت بينهما )(6) أما العتاب الاخواني فهو أوسع موضوع في باب العتاب وهو من الموضوعات الجديدة في الشعر العربي ، وقد ساعدت في اتساعه الحياة السياسية ، والثقافية ، ولاجتماعية فالحياة المضطربة وتقلب الأمزجة والمواجد قد أضعفت عرى الصداقة والإخاء .
(1)الأغاني / هيئة 18/ 163 ورسائل سعيد بن حميد وأشعاره 140ــ 141
(2)ساهر جارية لبعض المغنين بسرمن رأى شهر بها الصولي وكان منزله لايخلو منها معجم الأدباء 1/ 265
(3)ابراهيم بن العباس الصولي : أصله من خراسان كاتب العراق في عصره نشأ في بغداد فتأدب وقربه الخلفاء فكان كاتبا للمعتصم ، والواثق ، والمتوكل تقلد ديوان الضياع والنفقات بسامراء توفي 243هـ
(4) معجم الأدباء 1/ 265ــ 266
(5) المصدر نفسه 1/265ــ 266
(6) المصدر نفسه 1/265ــ 266
ص15.
وموضوع العتاب الإخواني يختلف عن موضوعات العتاب الأخرى لأن الشاعر في عتابه لأصدقائه يكون أكثر حرية في اطلاق عواطفه كما نجد ذلك مثلا في عتاب عبدالله بن المعتز لأبي العباس أحمد بن محمد بن موسى ابن الفرات قال:
يا رب غير كل شئ سوى رأي أبي العباس فاتركه لي
قد كان لي ذا مشرع طيب حينا فشيب الآن بالحنضل
عين أصابت وده لا رأت وجه حبيب أبدا مقبل
إن كان يرضى لي بذا أحمد فليس يرضى لي بهذا علي(1)
وكان الحسن بن وهب من الشعراء الذين أجادوا في العتاب الاخواني فعتابه ( لطيف خفيف لا تجد فيه استظهارا ولا صرامة ، وانما هو ينساب في النفس انسيابا عذبا فيرققها ويلينها ) (2) كما نجد ذلك في عتابه لصديق دعاه في ساعة محنة فجفاه إذ قال :
دعوتك في الجلى وقد ضاق مصدري عليّ وواراني من السم موردي فأصممت عني منك أذنا سميعة وقد قصدت لي النائبات بمرصد
سسسس فما ضاق عنك الوزر عندي ولا نبا بعهدك ناب من مغيب ومشهد(3)
وتعد لامية سعيد بن حميد من الأمثلة المشهورة في العتاب الاخواني قال:
أقلل عتابك فالبقاء قليل والدهر يعدل تارة ويميل
والمنتمون إلى الاخاء عصابة إن حصلوا أفناهم التحصيل
وأراك تكلف بالعتاب وودنا صاف عليه من الوفاء دليل
ولعل أيام الحياة قصيرة فعلام يكثر عتبنا ويطول(4)
وهو يسلك مع صديقه طريقة خالية من الاحتجاج فيرجو منه أن يقلل من عتابه فكثرة العتاب تفسد الصداقة ، والدهر ليس وراءه أمان فهو يعدل تارة ويميل ثم يقول لصديقه ؛ إن الأخاء الصادق قليل في هذه الدنيا ، فلا تكلف بالعتاب وليس هناك ما يدعو إليه فودنا صادق ، وكلانا وفي لأخيه ، وبنهي أبياته فيعد ألى مطلع القصيدة فأيام الحياة قصيرة ، وعلينا اغتنامها قبل أن نكثر من العتاب فيها .
وللسري الرفاء أربع قطع في العتاب الاخواني (5) تنطلق من باعث
(1) شعر ابن المعتز / الصولي 2/386ــ387
(2) آل وهب من الأسر الأدبية الدكتور يونس أحمد السامرائي 120
(3)المرجع نفسه 137
(4)رسائل سعيد بن حميد وأشعاره الدجكتور يونس أحمد السامرائي 146ــ 147
(5)ينظر ديوان السري الرفاء تحقيق الدكتور حبيب الحسني 2/ 274، 345 ، 724
ص16.
واحد هو إذاعة أصدقائه أسراراً تحدث بها إليهم ؛ ويبدو أن السري لم يكن يحسن اختير أصدقائه وأسلبه يخالف ما ألفناه من رقة واستلطاف في عتابه رجال الدولة ؛ إذ يذهب مذهبا فيه كثير من اللوم والتقريع في مثل قوله :
لسانك السيف لا يخفى له أثر وأنت كالصل لا تبقي ولا تذر
سري إليك كأسرار الزجاجة لا يخفى على العين فيها الصفو والكدر
فاحذر من الشعر كسرا لا انجبار له فللزجاجة كسر ليس ينجبر(1)
ومن الاخواني عتاب الأشقاء وقد ذكر لنا الشابشتي ما عاتب به عبد العزيز بن عبد الله بن طاهر أخاه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكان أخواه محمد وسليمان قد حبساه (2) وقد دفع السجن عبد العزيز إلى عتاب ينطوي على احتجاج مشوب بالخيبة ، واليأس مما كان يعقده من أمل على نصرة أخيه عبيد الله فقال :
قد أحسب إني منك إن نزلت إحدى النوائب بي آوي إلى جبل
حتى إذا وقع الأمر الذي وجبت في مثله نصرتي من غير ما فشل
أسلمتني ل خطوب الدهر تلعب بي ما هكذا كان تقديري ولا أملي
أني أخوك وإن الله مطلع على السرائر فاقطع بعد أو فصل(3)
وكثر عتاب الشعراء فيما بينهم لأن المنافسة كانت شديدة تدفع إلى عتاب أشد ؛ فقد كتب دعبل بن علي الخز اعي إلى مسلم بن الوليد حين ورد عليه بجرجا ن فجفاه قال :
أبا مخلد قد كنا حليفي مودة هوانا وقلبانا جميعا معا معا
أحوطك بالود الذي لا تحوطني وأرأب منك الشعب أن يتصدعا
فلا تلحيني لم أجد فيك حيلة تخرقت حتى لم أجد فيك مرقعا(4)
ويبدو أن دعبل بما انطوت عليه طبيعته لا يمكن أن يتوسط في عتابه من غير أن يلجأ إلى التقريع كما في أسلوبه العام ولذلك فقد ذكر مسلم بسالف المودة إلا انه ما لبث أن آلمه بقوله ( تخرقت حتى لم أجد فيك مرقعا ) وإذا كانت الغاية من العتاب هي إبقاء المودة وإدامة الصلة فإن شعراء الهجاء لا يحسنون الطريقة المتبعة لتجنب إثارة الحفيظة ، وهكذا كان ابن الرومي في معاتبته سوّار بن شراعة :
(1) ديوان السري الرفاء 2/272
(2) الدبارات الشابشتي 131
(3) المصدر نفسه 131
(4) شعر دعبل بن علي الخز اعي 143
ص17.
يا من صناعته الدعاء إلى العلا ناقضت في فعليك أي نقاض
عجبا لحضاض الكرام إلى الذي هو فيه محتاج إلى حضاض
فقد افتتح عتابه بصلا بة وغلظة إذ وصفه بأنه يناقض نفسه لأنه يحث إلى ما يحتاج هو أن يحث إليه وقال:
لم ألق كالشعراء أكثر حارضا وأشد معتبة على الحراض
كم فيهم من آمر برشيدة لم يأتها ومرغب رفاض(1)
ويبدو أن المنافسة الشديدة بين الشعراء ، قد جعلت أرق الشعراء طبعا وهو البحتري يشتد على الحارثي الشاعر في عتابه ويحذره بقوله
أخا(علة) سار الإخاء فأوضعا وأوشك باقي الود أن يتصدعا
أغار على ما بيننا أن يناله لسان عدو لم يجد فيك مطمعا
فإن تدعني للشر أسرع وإن تهب بصلحي فقد أبقيت للصلح موضعا(2)
والحارثي هو الذي دفع البحتري إلى ذلك لأنه ق أوجعه فهو يشير في مطلع قصيدته بأن ما بقي من ود بينهما أوشك أن يتقطع ،وهذا يعني أن الحارثي قد أغلظ في عتابه لأن البحتري قال :
بدأت وبادي الظلم أظلم فانتحى بك القول شأوا رد منك فأسرعا(3)
وللخبز أرزي الشاعر معاتبات رقيقة لابن لنكك الشاعر مثل قوله:
لم لا ترى لصداقتي تصديقا فينا ولم تدع الصديق صديقا
ذو العقل لا يرضى برسم صداقة حتى يرى لحقوقها تحقيقا(4)
وقد يكون دافع العتاب بين الشعراء هو المزاح كما نجد ذلك عند عبد الله بن المعتز يعاتب الشعراء لأجل المزاح ، وإدامة النشاط الشعري كما حصل بينه وبين علي بن مهدي الاصفهاني (5) وبينه وبين محمد بن القاسم النويري وبينه وبين أحمد بن الخصيب (6) من ذلك ما عاتب محمد بن القاسم النويري عبد الله بن المعتز وقد تأخر عن زيارته ولم يعده في مرضه قال :
أمير كنت أرجوه لدهري إذا ما ناب بالخطب الجليل
مرضت فلم يعدني في سقامي وتاه عن العيادة والرسول(7)
(1) زهر الآداب /695
(2)ديوان البحتري 2/1292
(3)المصدر نفسه والصنوبري معاتبات كثيرة ينظر ديوان كشاجم /67, 74، 1182/1292وبين كشاجم
(4) مروج الذهب المسعودي 4/352
(5)ينظر معجم الأدباء 5/ 429
(6) المصدر نفسه 1/337
(7) الديارات 75 وكان ينظر مروج الذهب لسعيد بن حميد وأبي علي البصير وأبي العيناء معاتبات ومكاتبات ومداعبات 3/62 ورسائل سعيد بن حميد وأشعاره 140
ص18.
وكثرت المعارضات في العتاب والاعتذار الاخوانيين ؛ فالشاعر حين يعاتب شاعرا يكون اعتذار المعتوب على بحر العاتب وقافيته . كما نجد ذلك مثلا في عتاب الحسن بن وهب للوزير محمد بن عبد الملك الزيات حين تأخر عن زيارته بسبب مرضه ولم يأته رسوله فكتب إليه على البحر الخفيف وقافية اللام المفتوحة :
أجميلا تراه يا أكرم النا س لكيما أراه أيضا جميلا
إنني قد أقمت عشرا عليلا ما ترى مرسلا إليّ رسولا(1)
فاعتذر الزيات على البحر والقافية أنفسهماقال:
دفع الله عنك نائبة الدهــ ــر وحاشاك أن تكون عليلا
أشهد الله ما علمت وما ذا ك من العذرجائزا مقبولا
ولعمري أن لو علمت فلازمـ تك حولا لكان عندي قليلا(2)
وعاتب جحظة أبا الفرج الاصفهاني لأن مدرك بن محمد الشيباني الشاعر ذكره بسوء في مجلس كان حضره أبو الفرج قال جحظة:
أبا فرج أهجى لديك ويعتدى عليّ تحمي لذاك وتغضب
لعمرك ما أنصفتني في مودتي فكن معتبا إن الأكارم تعتب(3)
فاعتذر أبو الفرج على البحر والقافية أنفسهما قال:
عجبت لما بلغت عني باطلا وظنك بي فيه لعمرك أعجب
ثكلت إذن نفسي وعزي وأسرتي بفقدي وما أدركت ما كنت أطلب
فثق بأخ أصفاك محض مودة تشاكل فيه ما بدا والتغيب(4)
(1)آل وهب من الأسر الأدبية الدكتور يونس أحمد السامرائي /160
(2) المرجع نفسه /160
(3)المرجع نفسه /160
(4)المرجع نفسه /160
ص19.
شعراء العتاب
• البحتري
يعد البحتري أشهر شعراء العتاب في تأريخ الشعر العربي لأنه سلك طريقة لم يسلكها أحد سبقه ، وهي الطريقة المتسمة بالمبالغة في الرقة ، إذ يتجه إلى المعتوب برغبة جامحة لإزالة الموجدة وما علق من سخائم في قلبه ، مهما كلفه من استعطاف وتذلل ؛ ولعل مرد ذلك يعود إلى ما جبلت عليه طبيعة البحتري النفسية الرافضة للخلافات والأحقاد ، وميله إلى السلام في كل أغراضه الشعرية ، ولقد تضافرت أسباب مختلفة في تكوين طبيعة البحتري منها ولادته في منبج وتقع إلى الشمال الشرقي من حلب وهي مدينة كثيرة البساتين عذبة الماء باردة الهواء ، وكان لطموحه الشخصي في الثراء والجاه أثر كبير تسنده الرغبة في أن يسلك طريقة تحقق له أمانيه لأن المنافسة كانت شديدة في القرن الثالث الهجري ؛ ولكن ذلك لا يعني أن البحتري يفرط في نفسه في كل موقف من مواقف العتاب فيميل إلى الإستعطاف .
إن موقفه تجاه المعتوب تحدده البواعث الدافعة إلى ذلك العتاب وقد أشاد ابن رشيق بطريقة البحتري في العتاب قال ( وأحسن الناس طريقا في عتاب الأشراف شيخ الصناعة وسيد الجماعة أبو عبادة البحتري )(1) ووصف أنيس المقدسي عتابه بأن فيه( نعومة حريرية قلما نجدها في سواه )(2) أما حنا فاخوري فقد قال إن البحتري في العتاب قد أبدى ( من الحذق والمهارة الشيء الكثير وأخرجه مخرج السياسة التي قرن فيها الرقة واللطف إلى المؤاخذة وانعومة ، وخفة الروح إلى التأنيب ، والتهديد ، وسكب عليه من الحلاوة ، وسهولة المأخذ الشيء الكثير حتى كان من أبرع الشعراء العرب في هذا الباب ) (3)
(1) العمدة 2/160
(2) أمراء الشعر العربي في العصر العباسي 246
(3) تاريخ الأدب العربي حنا فاخوري 515
ص20.
وقد تعددت بواعث عتاب البحتري ، فمنها الجفوة والإطراح (1)، والحجاب (2) وتغير الحال(3) ، والغض من منزلته وهو لا يذهب مذهب المتكلمين ليسند عتابه بالحجج ، والبراهين المنطقية ؛ وإنما كان يعاتب عتاب شغوف محب لمن يريد إعادة الصلة معه ، ويثور ثورة تنطوي على كثير من اللوم والتقريع لمن يحاول أن ينتقص منه .
فمن أمثلة عتابه ـ لمن يريد إعادة الصلة معه وسل السخائم من قلبه ـ ما عاتب به ابن حمدون النديم فقد بدأ قصيدته بالغزل وكأنه أن يثير مشاعر الحب والشوق في قلب معتوبه وينسيه كل ما يتعلق بالضغائن قال:
طيف لعلوة ما ينفك يأتيني يصبو إليّ على بعد ويصبيني
تحية الله تهدى والسلام على خيالك الزائري وهنا يحيني
إذا قربت فهجر منك يبعدني وإن بعدت فوصل منك يدنيني
ثم يتخلص بعد ذلك إلى العتاب الغرامي فيقول :
لقد حبوت صفاء الود صائنه عني وأقرضته من لا يجازيني
وفي كل ذلك فإن (علوة ) معشوقة الشاعر ما هي إلا أحد رموز مقدمة القصيدة يلمح بها إلى أن المعتوب عزيز عليه ثم انتقل إلى عتاب ابن حمدون فقال :
هل ابن حمدون مردود إلى كرم عهدته مرة عند ابن حمدون
أخ شكرت له نعمى أخي ثقة زكت لديّ ومنا غير مأمون
طاف الوشاة به بعدي وغيره معاشر كلهم بالسوء يعنيني
وما لبث أن تحول عتابه إلى اعتذار واستعطاف قال:
إن كان ذنب فأهل الصفح أنت وإن لم آت ذنبا ففيم الود يعروني(4)
ومن أمثلة عتابه حين رأى أن المعتوب وهو ابراهيم بن الحسن بن سهل يطعن في كرامته ، ويغض من منزلته فكان ردفعله عتابا كله لوم وتقريع ووعيد على الرغم من العلاقة المتينة بينهما فقد ترجم لنا من خلال عتابه ما يراه في عيني إبراهيم من ضغائن وأحقاد يكنها الفرس للعرب إذ تفاخر بنسبه الفارسي وحط من نسب الشاعر فلم يستطع البحتري أن يكبح جماح ثورته فوصف المعتوب بعدم الحياء وذكر له ما يتصف به العرب من فضائل وما جبل في طبيعة الفرس من رذائل حين قارن بينه وبين شخصية عربية هي أبو سعيد محمد بن يوسف الثغري أحد قادة العرب ومن ممدوحي البحتري فأهدى سلامه إلى ذلك القائد العربي الذي سعد
(1) ينظر ديوانه 1/ 141
(2) المصدر نفسه 2/ 1066 ، 1/88 ــ 89 ، 2/ 1220
(3) المصدر نفسه 1/3081
(4) تنظر القصيدة ديوانه 4/ 2247 ــ 2248
ص21.
بكنفه العفاة ، ولم يتعصب للأنساب وإنما جعل تعصبه للمعالي فقال مخاطبا ابن سهل :
وفي عينيك ترجمة أراها تدل على الضغائن والحقود
وما ذنبي بأن كان ابن عمي سواك وكان عودك غيرعودي
أما استحييت في مدح سوار بوصفك في التهائم والنجود
بنت لك معقلا في الشعر ثبتا وأبقت منك ذكراً في القصيد
وما لي قوة تنهاك عني ولا آوي إلى ركن شديد
سوى شعر يخاف الحر منه لهيبا غير مرجو الخمود
سلام كلما قيلت سلام على سعد العفاة أبي سعيد
فتى جعل التعصب للمعالي ووجه وده نحو الودود (1)
• أبو تمام
لأبي تمام أسلوبه الخاص في العتاب فهو يختلف عن البحتري اختلافا كبيرا فضلا عن إن بواعث عتابه في أغلبها كانت نتيجة الإستبطاء؛ والطريقة التي سلكها هي إنه كان يتوسط بين الإعتداد بنفسه ، وبين المعتوب فلا يميل إلى العتوب ميلا يجعله يفرط بشخصيته ، ولا يميل إلى نفسه فيغض من منزلة المعتوب ، على الرغم من أن باعث الاستبطاء يتطلب يتطلب من العاتب أن يتذلل ويستعطف إلا أن أبا تمام لم يكن يؤثر النوال والمكافأة على نفسه ولعل هذه الطريقة التي لاتحقق النجاح مع رجال الدولة قد أثرت في كثير من الشعراء الذين تلوه . و أبو تمام يبتعد عن الرقة في عتابه ويميل إلى جزالة اللفظ مسخرا ثقافته المتشعبة . كما إنه على الرغم من توسطه الحذر يذهب أحيانا مذهب لوم وتقريع كما نجد ذلك حين عاتب عياش بن لهيعة قال :
الفطر والأضحى قد انسلخا ولي أمل ببابك صائم لم يفطر
حول ولم ينتج نداك وإنما تتوقع الحبلى لتسعة أشهر(2)
هذا العتاب المنطقي الذي تتبع الشاعر فيه الحول فيذكر شهر رمضان وعيد الفطر والأضحى ، ويخاطب معتوبه في توقع نداه أن الحبلى تنتج بعد تسعة أشهر لا دور له في انشراح أسارير معتوبه ما دامت الأبيات يثقل كاهلها الفكر وتنزوي المشاعر خامدة وراء ثقافة الشاعر
(1) ديوان البحتري 1/ 576 ــ 579
(2) شرح الصولي لديواان أبي تمام 3/ 500
ص22.
وربما أدى ذلك العتاب إلى نتيجة معكوسة ، ف أبو تمام كان أميل إلى التفريط بمعتوبه . وإذا كان الهدف من غرض العتاب هو أن يمتحن الشاعر قدرته في إزالة الموجدة من قلب المعتوب ، فإن الشاعر قد ابتعد كثيرا عن ذلك الغرض ؛ وإذا كان شعراء العتاب قد درجوا على تذكير ممدوحيهم بقصائدهم السالفة فإن أبا تمام قد سار على ذلك النهج ولكنه اتخذه الحجة في عتاب من يستبطئ عطاءه ، ولعله في هذه الحجة وجد ما يبعده عن التوسل ، والتذلل لممدوحيه كما نجد ذلك حين عاتب أبا سعيد يستبطئه قال :
فأين قصائد لي فيك تأتي وتأنف أن أهان وأن أذالا
من السحر الحلال لمجتنيه ولم أر قبلها سحرا حلالا(1)
أو قوله يعاتب اسحق بن إبراهيم بن مصعب
إحفظ وسائل شعر فيك ما ذهبت خواطف البرق إلا دون ما ذهبا
يغدون مغتربات في البلاد فما يزلن يؤنسن في الآفاق مغتربا(2)
أو قوله يعاتب جعفر بن دينار:
إني أرى ثمر المدائح يانعا وغصونها تهتز فوق العنصر
لولاك لم أخلع عنان مدائحي أبدا ولم أخلع عنان تشكري
ولقلما عبأت خيل مدائحي إلا رجعت بهن غير مظفر(3)
وهو لا يفسح لنفسه مجالا للإستعطاف أو متنفسا يفضي به إلى طلب العفو والتماس الرضا عنه لكنه يذكر لمعتوبه سأمه كمثل قوله لأبي دلف :
أقمت شهورا في فنائك خمسة لقى حيث لا تهمي عليّ جنوب
فإن نلت ما أملت فيك فإنني جدير وإلا فالرحيل قريب (4)
أو قوله لعياش بن لهيعة :
لا تنس تسعة أشهر قضيتها دأبا وأنضتني إليك ونيفا
بقصائد لم يرو بحرك درها ولو الصفا وردت لفجرت الصفا(5)
(1)شرح الصولي لديوان أبي تمام 3/ 531
(2) المصدر نفسه 3/ 488
(3) المصدر نفسه 3/ 507
(4) المصدر نفسه 3/487
(5) المصدر نفسه 3/522
ص23.
• عبد الله بن المعتز
لقد أدرك عبد الله بن المعتز منذ نعومة أظفاره ما تحوكه الأقوام الأعجمية للعرب من دسائس إذ أصبح الخطر الداهم على العرب واسعا بعد اغتيال المتوكل(1)وبحكم اقتراب عبد الله بن المعتز من بيت الخلافة اتسع أفقه فترفع عن الخلافات الدائرة بين أبناء عمومته ؛ وأخذ ينبه لعدوان يشمل العرب جميعا فكان يختنق ألما وحسرة ، لقصور قومه عن وعي ما يعي هو من دسائس تهدد مستقبل العرب لذلك كانت نفثاته الحرى عتاب مكلوم لأبناء عمومته من العباسيين والعلويين يدعو من خلاله إلى لم الشمل كما في قوله :
بني عمنا إنا فريق على العدى نفل شباهم والأنام فريق
فلا تلهبوا نار العداوة بيننا فليس سواكم في قريش صديق(1)
إنه عتاب ينطوي على نداءات متكررة ( بني عمنا ) إذ يتسع ذلك النداء ليشمل العرب ؛ ثم ما يلبث أن يفضي إلى لوم في نصح ، وتحذير من الأعداء كما نجد ذلك في قوله :
يا عجبا من ناصح لم يطع كم حازم قد ضاع في جاهلين
رأى من الشر الذي لم يروا فكان يهتم وهم يفرحون
إني الأعداء قد رشحوا دواهيا أنتم لها حافدون
لوثبة في كل أفق بكم فتكفأ الكأس الذي تشربون
إني قد أنذرتكم حسرة حينئذ والخوف حشو العيون(2)
فإذا كان الشاعر قد وصف قومه بالجهل لأنهم لا يرون الجهل الذي يحيق بهم ويراه هو فذلك الوصف بما ينطوي على لوم لا يعني أن الشاعر لم يتقن الطريقة الناجعة في العتاب فالرقة ، واللطف يصلحان إذا كان المعتوب رجلا من رجال الدولة .
أما إذا كان العتاب قد وجهه الشاعر إلى أبناء عمومته من العرب فلا بأس أن يكون فيه لوم وتقريع ، لأن التنبيه إلى أمور تخص مصلحة قومه لا تصلح معها الطريقة التي ذكرها ابن رشيق وهي التعامل برقة مع المعتوب ؛ ثم إن عبد الله بن المعتز لا ينطلق من منطلق من يريد أن لا يفرط في نفسه ؛ وإنما يذهب مذهب الحكمة والخبرة فيما ستؤول إليه الأمور إذا استمرت الخلافات .
(1) شعر ابن المعتز صنعة أبي بكر الصولي 2/ 370
(2) المصدر نفسه 2/ 393
ص24.
أما العتاب الاخواني فإننا نجد له طريقة أخرى فهو رقيق غاية الرقة مع أصدقائه ؛ وأسلوبه كفيل بسل السخائم من قلب المعتوب لما في نفس عبد الله بن المعتز من ميل إلى حفظ المودة والصلة بينه وبين أصدقائه كما نجد ذلك في قوله يعاتب صديقا اسمه عباس :
تنكرت الدنيا وغيرت الناسا وما كنت أخشى أن تغير عباسا
إذا نفرت من صدره النفس مرة يقول لها إحساني الظن لا باسا
عسى يرعوي عن ذا دعيه لعله يعود إلى الحسنى فلا تسرعي الياسا(1) إن الشاعر في هذا الموضوع زاد حسن الظن بأصدقائه ، وهو يرجو أن يعود معتوبه إلى سابق المودة . لذا لا يفسح مجالا للصد والنفور عنه
وفي عتاب أخواني آخر يدعو الله حين يغير الأشياء أن يبقي على رأي صديقه لكي لا يتعكر صفو الإخاء بينهما أو يتغير ، ويعبر عن إيمانه بالمعتقد الشعبي الحسد عن طريقة الإصابة بالعين ، ويدعو أن لا ترى هذه العين وجه حبيب مقبل إذ قال:
يا رب غير كل شيء سوى رأي أبي العباس فاتركه لي
قد كان لي ذا مشرع طيب حيتا فشيب الآن بالحنضل
عين أصابت وده لا رأت وجه حبيب أبدا مقبل
إن كان يرضى لي بذا أحمد فليس يرضى بهذا علي(2)
• أبو فراس الحمداني
ينفرد أبو فراس بأسلوب خاص في العتاب ، ويعود ذلك إلى معاناته الشخصية التي جعلته قلقا مضطربا حذرا مما تخبئه له الأيام، فهو قد ترعرع بين أعمامه وأبناء عمومته جريح الفؤاد فأبوه قد قتل على يد ناصر الدولة أخي سيف الدولة ، وعلى الرغم من أن الأخير قد كفله ، ورعاه ، واستصحبه في غزواته إلا أن إهمال سيف الدولة له قد أخذ يتضح رويدا رويدا مما كان يدفع ذلك أبو فراس إلى عتاب موجه إلى سيف الدولة ينطوي على ألم عميق في مثل قوله :
(1) شعر ابن المعتز صنعة أبي بكر الصولي 2/334
(2) المصدر نفسه 2/ 386 ــ 387
ص25
قد كنت عدتي التي أسطو بها ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بغير ما أملته والمرء يشرق بالزلال البارد
فصبرت كالولد التقي لبره أغضي على ألم لضرب الوالد(1)
ولا شك أن ذلك العتاب انتظار منه لرضا سيف الدولة وعودة الأمور إلى مجاريها ، وإذا لم يحدث ذلك فإنه سيؤجج ثورة في نفس الشاعر لا بد أن يتنبه إليها سيف الدولة ، ومثل ذلك العتاب يتصف بالقوة والكبرياء فالمرحلة التي سبقت أسره لانجد فيها تذللا واستعطافا كما في عتابه لسيف الدولة حين رفض الشاعر قبول فرس أهداها إليه (2)
غيري يغيره الفعال الجافي ويحول عن شيم الكريم الوافي
لا أرتضي ودا إذا هو لم يدم عند الجفاء وقلة الإ نصاف
تعس الحريص وقل ما يأتي به عوضا عن الإلحاح والإلحاف
ما كثرة الخيل الجياد بزائدي شرفا ولا عدد السوام الضافي
ومكارمي عدد النجوم ومنزلي مأوى الكرام ومنزل الأضياف
شيم عرفت بهن مذ أنا يافع ولقد عزمت بمثلها أسلافي (3)
أما عتاب الشاعر في روميا ته حين وقع في الأسر فقد كان مرآة صادقة لحالته النفسية إذ أفضت به إلى عتاب مرتبك ففي القصيدة الواحدة تجد قوة الشخصية وتخاذلها في آن واحد كما في قوله :
يا أمتا هذه مواردنا نعلها تارة وننهلها
أسلمنا قومنا إلى نوب أيسرها في القلوب أقتلها
واستبدلوا بعدنا رجال وغى يود أدنى علاي أمثلها
يا سيدا ما تعد مكرمة إلا وفي راحتيه أكملها
لا تتيم والماء تدركه غيري يرضى الصغرى ويقبلها(4)
وفي هذه الأبيات التي خاطب بها أمه يبدو الشاعر حالة خيبة وخذلان من موقف سيف الدولة تجاهه ، فهو الذي أسلمه إلى المصائب والخطوب ، وهو الذي استغنى عنه بقادة حرب غيره؛ ومثل سيف الدولة في استغنائه عن أبي فراس كمثل الذي يتيمم للصلاة وهو بأمكانه أن يدرك الماء ؛ إنها عواطف متأججة تتداعى فتكون صورتها لوما وتقريعا ولكنه ما يلبث أن يتحول إلى مدح سيف الدولة كقوله :
أنت سماء ونحن أنجمها أنت بلاد ونحن أجبلها
أنت سحاب ونحن وابله أنت يمين ونحن أنملها(5)
وبعد ذلك التعاطف والإشادة الكبيرة يعود إلى لومه واحتجاجه لكن بصورة أشد في قوله :
بأي عذر رددت والهة عليك دون الورى معولها
تلك المودات كيف تهملها تلك المواعيد كيف تغفلها
تلك العقود التي عقدت لنا كيف وقد أحكمت تحللها
لقد تنازل الشاعر عن كثير من أعراف المخاطبة فوضع أمام واقعه في الأسر بلغة قاسية فيها العتاب والإدانة ولكننا بعد هذه الإدانة نجد الشاعر مستعطفا يطلب الرأفة من أميره في قوله :
لم يبق في الناس أمة عرفت إلا وفضل الأمير يشملها
نحن أحق الورى برأفته فأين عنا وأين معدلها
ومثل ذلك قصيدته التي عاتبه بها حين طلب أن يأذن له بمخاطبة أهل خراسان فقال سيف الدولة ( من أين يعرفه أهل خراسان ) حيث قال :
أتنكر أني شكوت الزمان وإني عتبتك فيمن عتب
فلا تعدلن فداك ابن عمـ ك لا بل غلامك عما يجب
إنه عتاب بين الغلظة الواضحة واللين الواضح يضج بالشكوى ، ويتهم سيف الدولة بنكران هذه الشكوى ، ويستعطفه بعدم العدول عما يجب أن يفعله ثم يواجهه في ختام قصيدته بصراحة متهما إياه بعدم الوفاء إذ قال :
فلو لم أكن بك ذا خبرة لقلت صديقك من لم يغب
ص26
الدراسة الفنية
• حول بناء شعر العتاب
وقد يأخذ شعر العتاب شكل قصيدة لها مقدمة تقليدية أو يكون من غير مقدمة يدخل فيها الشاعر إلى غرضه في حالات التوتر والانفعال الشديد .
وترتكز قصيدة العتاب في عمومها على ثلاثة محاور قد تكون غير متسلسلة على التوالي وهي:
1ـ تطرق الشاعر إلى حالته النفسية ؛ ويعرض الشاعر فيها فخره واعتداده بنفسه .
2ـ التوجه إلى المعاتب وهو المحور الأساس وفيه ينتقل الشاعر إلى موقفه تجاه من يعاتبه .
3ـ الحجة التي الشاعر بها وقد تكون الحكمة في هذا المحور هي إحدى الأساليب التي يلجأ إليها الشاعر متعضا أو واعضا نتيجة ما يعانيه في عتابه .
وقد يأخذ شعر العتاب شكل مقطوعات وهي لا تتجاوز ستة أبيات على نحو ما شاع لدى الشعراء أمثال الحسن بن وهب ، وأبي علي البصير ، وإبراهيم بن العباس الصولي ، وسعيد بن حميد ، وخالد الكاتب ، وغيرهم وقد تأثر بذلك قسم من الشعراء .
وفي المقطوعات يأخذ الشاعر محورا من المحاور التي ذكرناها آنفا .
وفي أغلبها يتوجه الشاعر إلى المعاتَب فيلوم ويعارض على نحو ما نجد في العتاب الغرامي لدى محمد بن عبد الملك الزيات ، وهو يقتصر فيها على الاتجاه إلى محبوبته :
فديتك قد كففت عن العتاب لما حاذرت من سوء الجواب
ولم أر حيلة تجدي لنفع لديكم غير صبري واحتسابي
وأعملت الأماني فيك حتى كأني قد ملكتك في الحساب
أعاتب في الهوى وأقل وجدي بمن أهوى يجل عن العتاب(1)
ولعل تجنب الشعراء الكتاب الإطناب ، والإسهاب في النثر هو الذي أثر في شعرهم فكان على شكل مقطوعات
(1) ديوان محمد عبد الملك الزيات د0جميل سعيد
ص27.
ويتدرج الزمن في قصيدة العتاب من الماضي الى الحاضر فالمستقبل ، فالشاعر في بداية عتابه يلجأ الى اثارة ماضي المودة والصلة بينه وبين المعاتب فنجد عودة الشاعر الى الماضي تتمثل بتكرار (كان) و(كنت) و(لم تكن) وينطق العاتب من خلال ذلك في أسلوبه الى وصف فترات الصفاء ، والمودة على مانجد ذلك عند معظم شعراء العتاب فالبحتري يعاتب ابراهيم بن المدبر(1) فيقول
لم تكن نهزة الوضيع ولارو حك كانت رفقا لروح الثقيل(2)
وعاتب عمارة بن عقيل احد اصدقائه فقال :
وقد كنت لي عوناعلى الدهر ناصرا عزيزا وغيثا كلما شئت أمطرا
وماكنت غدارا كفورا فلاتكن بصاحبك الوافي أعق وأغدرا(3)
وذكر إسحق الموصلي صاحبه علي بن هشام فيما كان عليه في الماضي فقال :
ما هكذا كنت ولا هكذا فيما مضى كنت بنا تفعل(4)
والعودة إلى الماضي هنا لم تكن نتيجة إحساس الشاعر بذهاب مرحلة شبابه فيهرب إليه لأنه مرحلة قوته ؛ وإنما هو الصورة النقية للعلاقة التي كان عليها الشاعر مع المعتوب قبل أن تعكر صفوها الموجدة كما وجدنا ذلك عند أبي فراس الحمداني حين عاتب سيف الدولة فقال :
قد كنت عدتي التي أسطو بها ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي(5)
ولذلك قلما نجد قصيدة ، أومقطوعة في العتاب تخلو من صور ماضي المودة ليصل الشاعر إلى حاضرها في قول عبد الله بن المعتز :
قد كان لي ذا مشرب طيب حينا فشيب الآن بالحنضل(6)
(1) إبراهيم بن المدبر : هو إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن المدبر من أهل بغداد وكان وزيرا للمعتمد العباسي توفي سنة 279هـ الأعلام 1/56
(2) ديوان البحتري 3/1815
(3) ديوان عمارة بن عقيل / 51
(4) ديوان إسحق الموصلي /179
(5) ديوان أبي فراس الحمداني 73
(6) ديوان عبد الله بن المعتز 2/387
ص28.
وقد قابل البحتري بين الماضي والحاضر في عتاب ابن حمدون النديم بقوله :
طاف الوشاة به بعدي فغيره معاشر كلهم بالسوء يعنيني
أصبحت أرفعه حمدا ويخفضني ذما وأمدحه طورا فيهجوني
وعاد محتفلا بالسوء يهدمني وكان من قبل بالأحسان يبنيني(1)
والمستقبل عند الشاعر هو ما سيفعله تجاه المعتوب ولاسيما إذا بلغت الجفوة حد اليأس ، فالمستقبل فالمستقبل عند أبي تمام هو إنذار المعتوب بالرحيل في قوله :
سأقطع أرسان العتاب بمنطق قصيرعناء الفكر فيك طويل
وإن امرءا أضفت يداه على امرئ بنيل يد عن غيره لبخيل(2)
أما البحتري فانه لم يكن المستقبل في عتابه بمثل غلظة أبي تمام وحدته ولكنه ينذر بالرحيل أيضا قال :
سأحمل نفسي عنك حمل مجامل واكرمها إن إن كانت النفس تكرم
وأبعد حتى تعرض الأرض بيننا ويمسي التلاقي وهو غيب مرجم(3)
ولكن المستقبل عند أبي الطيب هو الرحيل الذي سيحدث الندم حين علتب سيف الدولة بقوله :
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة لا تستقل بها الوخادة الرسم
لئن تركن ضميرا عن ميامنا ليحدثن لمن ودعتهم ندم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم(4)
(1)ديوان البحتري 4/1979
(2) شرح الصولي لديوان أبي تمام 3/ 372
(3) ديوان البحتري 4/1979
(4) شرح ديوان أبي الطيب / المنسوب للعكبري 3/ 372
ص29.
لمحات فنية في شعر العتاب
ولما كانت صورة شعر العتاب ترتكز على المقابلة بين الماضي
والحاضر فإن من أبرز الفنون البديعية التي أحتفى بها شعر العتاب هو الطباق لأنه الجمع بين الشيء و ضده (1) فقد كان الرضا وحل السخط ، وكان الوصال والحاضر الهجر ، وكان الصفاء والحاضر الكدر ، فلا بد أن يكون العتاب عارضا للحال القديمة ، وما حدث من تحول في حاضر المودة فيصور ما كان عليه وما هو عليه إذ ( تحسن صور الإحتجاج إذا كانت دلالتها الفكرية مبنية على تصور الشعر عن طريق التقابل الإيحائي بين حالة وحالة )(2) فالطباق هو أحد الدلائل النفسية على المودة والتوتر الشديد كما نجد ذلك في عتاب أشجع السلمي لعامر بن شقيق في تغيره عند ولاية وليها وهو يطابق بين (أعمى وبصي) و(طولته وقصير) قال:
أنت في سكرة الولاية أعمى فإذا ما انجلت فأنت بصير
إن حبل الدنا وإن طولته لك واستحكمت قواه قصير(3)
وعاتب إبراهيم الصولي أحمد بن المدبر فقال :
وكنت أخي بالدهر حتى إذا نبا نبوت فلما عاد عدت مع الدهر
فلا يوم إقبال عددتك طائلا ولا يوم إدبار عددتك من وتر(4)
وقد طابق الشاعر بين ( إقبال وإدبار ) وتقلب الدهر بالشاعر نتيجة تغير حاله قد رافق كل مقطوعاته في العتاب ولذلك كان طباقه رد فعل طبيعي وليس زخرفة لفظية في تجربته الشعرية .
ويحتشد الطباق عند أبي فراس الحمداني في رومياته التي عاتب سيف الدولة كما نجد ذلك في قوله :
أمن بعد بذل النفس فيما تريده أثاب بمر العتب حين أثاب
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العلمين خراب
إذا نلت منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب(5)
(1) ينظر حسن التوسل إلى صناعة الترسل / 199
(2) النقد الأدبي الحديث الدكتور محمد غنيمي هلال /444
(3)
(4) الطرائف الأدبية عبد العزيز الميمني /332ــ 333
(5) ديوان أبي فراس الحمداني / 24ــ 25
ص30.
يقول الدكتور مصطفى الشكعة ( ولعلنا نلاحظ لأول مرة أن أبا فراس قد عمد إلى الصنعة البديعية في هذا الفن فعمد إلى الطباق في( تحلو ،مريرة)
و ( ترضى ، غضاب ) و ( عامر ، خراب ) ويخيل إليّ أن الشاعر لم يعمد إلى هذا الطباق عن قصد ، وإنما جاء دون تكلف أو عمد لأن أبا فراس كان في حالة من الانفعال ، والحسرة والحزن بحيث غمرت تلك الألوان والعواطف ، والأحاسيس الحزينة وهي بطبيعتها تحول دون الانصراف إلى الصنعة اللفظية التي لا تتفق في الأغلب مع العواطف العميقة والأحاسيس الصادقة (1) وحين بلغ أبا فراس زيارة أمه لسيف الدولة طابق بين ( العقد والحل و القطع والوصل ويفتح ويقفل ) في قوله:
تلك العقود التي عقدت لنا كيف وقد أحكمت تحللها
أرحامنا منك لم تقطعها ولم تزل دائبا توصلها
لا يفتح التاس باب مكرمة صاحبها المستغاث يقفلها(2)
أما الصورة الفنية في شعر العتاب فهي ترتكز على تصوير تحول المعتوب عن سابق المودة والصلة كما نجد ذلك في عتاب سعيد بن حميد إذ قال :
فخبت من الود الذي كان بيننا كما خاب راجي البرق والبرق خلب(3)
ونجد صورة الانكسار والخيبة في تشبيه عبد الله بن المعتز إذ قال:
وأرى ودهم كلمع سراب غر قوما عطشى بقاع جديب(4)
وهذه الصورة تنطوي على ألم ممض ، وحسرة ظلت مرافقة لتجربته في عتاب قومه ، فهو ذو باع طويل في فن التشبيه الذي يفضي به إلى صورة فنية تعبر عن معاناته الحقيقية وهي ما يراه في قومه من تنكر للوداد نتيجة تلهفه إلى عودته بأنه مثلما يخدع القوم سراب وهم عطشى في أرض قاحلة فيجرون وراءه . وينقل لنا الشاعر في عتابه صورا تدل على براعته ودقة تشبيهه ، وصدق معاناته ، وهو في أغلب الأحيان يذهب إلى تشبيه المعنى بصور محسة من ذلك قوله :
ستدرس لآثار المودة بيننا وأرحامنا الدنيا كما درس الخط
قريبون مني لا تلاؤم بيننا ونحن بنو عم كما انفرج المشط(5)
(1) فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين / 332ــ 333
(2) ديوان أبي فراس الحمداني
(3) رسائل سعيد بن حميد وأشعاره /121
(4) شعر ابن ابن المعتز 2/ 273
(5) المصدر نفسه 2/ 535
ص31.
ومن الصور الجميلة قول الشريف الرضي في عتابه :
سأروم عطف النفس عنك وإن كان الغرام إليك يعطفها
تمضي ونحوكم تلفتها وإلى لقائكم تشوفها
فهواكم والشوق يعذرها وذميم فعلكم يعنفها(1)
فالشاعر قد عبر أجمل تعبير وأرقه عن حب عميق وعاطفة مشبوبة ؛ وهذا أدب عاطفي لا مرية في أنه عبر عن النفس وأثر في النفس أحسن ما يراد التأثير وليس ( تلفت النفس ) حين أخذ لازمة من لوازم الانسان وهي التلفت وأعطاها للنفس إلا أروع ما تتمثل به تلك العاطفة حين يجذبها غرامه بأحبته ولكن ذميم فعلهم يعنفها .
وكانت الصورة الفنية لدى أبي الطيب تلونها أساليب شتى فمثلا كان مولعا بالكناية ذلك لأنها تجنبه في المواقف الحرجة المواجهة الصريحة فيكون رمزه وإيماؤه بالكناية بليغا في شدته إلا انه يجعل مخرجا لطيفا
على نحو ما عاتب به سيف الدولة قال :
شر البلاد مكان لا صديق به وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وشر ما قنصته راحتي قنص شهب البزاة سواء فيه والرخم(2)
ففي البيت يقول ( شر صيد صدته شاركتني فيه اللئام وهذا مثل فكنى عن نفسه بأنه واحد من شهب البزاة في رفعتها وعن اللئام الذين شاركوه في عطاء سيف الدولة بالرخم في سقاطتها ودناءتها وضعتها )(3)
ومال الشعراء إلى تصوير قصائدهم السابقة التي قيلت في المعتوب فكانت بمثابة الحجة التي يعتمد فيها الشاعر لتذكير المعتوب بفضله على نحو ما نجد ذلك عند البحتري مخاطبا الفتح بن خاقان إذ شبه قصائده السابقة بالنجوم وثناءه كأنه الروض الروض قال :
ألست الموالي فيك غر قصائد هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما
ثناء كأن الروض فيه منور ضحى وكأن الوشي فيه منمما(4)
وقد شبه ابن الرومي مديحه بعصا موسى التي ضرب بها البحر فيبس وضرب بها الحجر فانبجس حين عاتب أبا الصقر اسماعيل بن بلبل في قوله :
مديحي عصا موسى وذلك انني ضربت بها بحر الندى فتضحضحا
سأمدح بعض الباخلين لعله إذا اطّرد المقياس أن يتسمحا (5)
(1) ديوان الشريف الرضي 2/535
(2) شرح الواحدي /386
(3) شرح الهكبري 373
(4) ديوان البحتري 3/ 1983
(5) زهر الآداب 319
ص32
ويعيد السري الرفاء صور البحتري في عتابه مشبها ثناءه بأفواف الرياض قال :
ثناء كأفواف الرياض يشوبه عتاب كأنفاس الرياح الضعائف
ترقرق ماء الطبع في جنباته ترقرق افرند السيوف المراهف(1)
وقد حفل شعر العتاب بالأساليب الانشائية فلا تخلو قصيدة أو مقطوعة منها وأسلوب النهي والاستفهام لايفارقهما شعر العتاب ولكنهما يردان في غير معانيهما الحقيقية ، فالنهي الذي هو طلب ترك حدوث الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام ؛ استخدم في معاني مجازية تفهم من سياق الكلام وهي الإلتماس والدعاء فمن ذلك قول أبي علي البصير في عتابه لسعيد بن حميد
ولا تعتذر بالشغل عنا فإنما تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
ولاترتفع عنا بشئ وليته كما لم يصغر عندنا شأنك العزل(2)
ومن ذلك ما كتبه عبد الصمد بن المعذل إلى بعض الأمراء عاتبا:
ليت شعري عن الأمير لماذا لايراني أهلا لرد الجواب
لا تدعني وأنت رفعت حالي ذا انخفاض بهجرتي واجتنابي (3)
وقول محمد بن داود الاصفهاني :
فلا تحربن بالغدر من صد مكرها وأظهر إعراضا وأبدى تجهما(4)
وقول أبي فراس يعاتب سيف الدولة :
فلا تتنسبن إليّ الخمول عليك أقمت فلم أغترب(5)
وقوله : فلا تحمل على قلب جريح به لحوادث الأيام ندب(6)
ولجأ شعراء العتاب إلى تكرار الإستفهام في حالات التوتر والانفعال الشديد وإذا كان الاستفهام هو طلب العلم بشيء لم يكن معلوما من قبل؛ فإنه لم يستخدم في معناه الحقيقي وإنما كان يأتي في معنى الاستبطاء ، والتمني ، والاستفهام المتضمن معنى النفي ، ولذلك من النادر أن تخلو قصيدة عتاب من الاستفهام لأن العاتب أول ما تدفعه حالته النفسية في تجربته الشعرية إلى السؤال عن سبب تحول المعتوب عنه ، واستنكار ما صدر منه . ومن أمثلة ذلك قول عمارة بن عقيل في عتابه :
أتعذلني في أن أبيعك مثلما به بعتني والبادئ البيع أظلم(7)
(1) ديوان السري الرفاء 2/ 399
(2) ديوان المعاني 1/ 169
(3) شعر عبد الصمد بن المعذل /65
(4) أوراق من ديوان أبي بكر محمد بن داود الاصفهاني /65
(5) ديوان أبي فراس الحمداني /94
(6) ينظر علم المعاني د . عبد العزيز عتيق /92
(7) ديوان عمارة بن عقيل /86
ص33
وقول دعبل بن علي عاتبا على عبد الله بن طاهر :
أترضى لمثلي إني مقيم ببابك مطّرح خامل(1)
ونحو ذلك عتاب أبي تمام :
أجميل مالك لا تجيب أخاك ماذا الذي بالله أنت دهاك(2)
وعاتب البحتري ابني وهب فقال :
أأعجزتكم موافاتي به ولكم مصر فما خلفها فالسند فاليمن
أللخلافة أستبقي الرجاء فلن تعطى الخلافة نجران ولا عدن(3)
وقال ابن الرومي يعاتب جحظة فقال :
أترضى أن يقول لك المرجى لأنت المرء راجيه يخيب(4)
وعاتب أبي إسحق الصابي في سجنه فقال :
أيجوز في حكم المروءة عندكم حبسي وطول تهددي ووعيدي
أنستم كتبا شحنت فصولها بفصول در عندكم منضود(5)
وعاتب الشريف الرضي الخليفة الطائع لله :
أتروى الغرائب من وردكم وذودي على جانبيه يضاما(6)
وعاتب مهيار الديلمي الحسين بن خليل الصابي فقال:
أذكرا بما سر الوشاة وتهمة لعهدي قولا مرّ أسهله صعب بأي وفاء خلتني حلت عن هوىً ومثلي لا يسلووفي الأرض من يصبو(7)
إن حالة الشاعر النفسية القلقة تدفعه إلى تكرار أدوات الاستفهام حتى لتصبح قصيدة العتاب أو المقطوعة كلها استفهام على نحو ما نجد ذلك عند أبي فراس في عتابه لسيف الدولة
أسيف الهدى وقريع العرب علام الجفاء وفيم الغضب
وما بال كتبك قد أصبحت تنكبني مع هذا النكب
ففيم يقرعني بالخمول مولى به نلت أعلى الرتب
أتنكر إني شكوت الزمان وإني عتبتك فيمن عتب
ألست وإياك من أسرة وبيني وبينك فوق النسب(8)
(1) شعر دعبل بن علي الخزاعي /46
(2) شرح الصولي لديوان أبي تمام 3/ 530
(3) ديوان البحتري 4/2309
(4) ديوان ابن الرومي تحقيق الدكتور حسين نصار 1/175
(5) معجم الأدباء 1/327
(6) ديوان الشريف الرضي 2/ 766
(7) ديوان مهيار الديلمي 1/16
(8) ديوان أبي فراس الحمداني 26ــ 27
ص34.
والقسم من مؤكدات الخبر ففيه إشعار من جانب المقسِم بأن ما يقسم به عنده لا شك فيه (1)
والعاِتب غالبا يقسم ليؤكد مودته الخالصة إلى المعتوب وإذا كان القسم يلازم شعر الاعتذار لأن الشاعر يدافع به عن نفسه حين تغيب الحجة ، فهناك أمثلة كثيرة في العتاب لم تخل من القسم على نحو ما نجده عند أبي تمام حين عاتب محمد بن عبد الملك الزيات :
فوالله ما آتيك إلا فريضة وآتي جميع الناس إلا تنفلا(2)
وقول البحتري يعاتب اسماعيل بن شهاب :
إسمع لغضبان تثبت ساعة فبداك قبل هجائه بعتابه
تالله يسهر في مديحك ليله متململا وتنام دون ثوابه(3)
وقول ابن نباتة السعدي في عتاب الصاحب بن عبّاد :
ووالله لولا المجد ما جئت طائعا إليك ولو أن السنان عذار(4)
(1)علم المعاني د عبد العزيز عتيق /11
(2) شرح الصولي لديوان أبي تمام 2/ 310
(3) ديوان البحتري 1/ 88
(4) ديوان ابن نباتة السعدي 2/218
ص35.
الخاتمة
العتاب في الشعر من الأغراض الوجدانية يلجأ الشاعر إليه حينما يكون لديه إحساس بتحول أحد أخلائه عن المودة ، فتدفعه بواعث متباينة إلى غرض يتوسط فيه بين أن يلوم المعتوب من غير أن يوجعه لئلا ينقلب العتاب إلى هجاء ، وبي ن أن يطلب الإبقاء على الود من غير أن يضع الشاعر نفسه موضع المتذلل المستعطف ؛ وغاية العتاب هي الحفاظ على أواصر المودة والمحبة بين الناس في علاقاتهم ، والإلتزام بالقيم الإنسانية التي تحفظ للمجتمع تقدمه .
ولما كان العتاب غرساً حضاريا أخذ يتنامى فقد كانت أمثلته في عصر ما قبل الإسلام تتصل بتمسك الشاعر بانتمائه إلى قبيلته ، فإذا حصل أن يعكر على الشاعر صفوه أحد أبناء قبيلته أوقبيلته نفسها فإن اعتزازه برابطة الدم تدفعه إلى أن يكبح جماح غضبه ليفضي به إلى العتاب ، وفي عصر صدر الإسلام بدأ يرتفع هذا الغرض رويدا إلى مستوى تحكيم النفس والعقل ، وأخذ يميل إلى الحكمة و الرقة وسعة الحلم في تقبل العثرات وشاعت في مفردات العتاب ( العفو ، الصفح ، الرفق العطف ، السلم ) وحين اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في العصر الأموي وتعددت الأحزاب ، وازدادت مظاهر الترف وظهرت بواعث جديدة أفضت إلى موضوعات جديدة مثل العتاب الغرامي ، والعتاب الأخواني
وفي العصر العباسي دخلت الأقوام الأجنبية فكثرت الدسائس والمؤامرات على العرب ؛ فأصبحت بواعث العتاب كثيرة منها عتاب الخلفاء ، والعتاب القومي ، وعتاب رجال الدولة وغيرها ؛ وكانت هناك أساليب في العتاب تمثلت في شعر البحتري الذي يميل إلى الرقة والرغبة في إزالة ما علق من موجدة في قلب المعتوب وخاصة رجال الدولة ، أما أبو تمام فيمثل أسلوبه التوسطبين الميل إلى المعتوب وبين الحفاظ على اعتداده بنفسه ، وأما عبدالله بن المعتز فقد وجد أن عتابه لقومه العرب لابد أن يكون قارحا لأن التنبيه إلى الخطر الداهم من الأقوام الأعجمية لاتجدي معه الرقة . وأما أسلوب أبي فراس الحمداني في رومياته التي قالها في فقد كان العتاب فيها مضطربا إذ أن القصيدة الواحدة تتضمن الشدة واللين
في آن واحد .
وترتكز قصيدة العتاب قي عمومها على ثلاثة محاور هي:
تطرق الشاعر إلى حالته النفسية ، والتوجه إلى المعوب ، والحجة التي يعاتب الشاعر بها .
ويندرج الزمن في قصيدة العتاب من الماضي إلى الحاضر الذي تعكر فيه صفو المودة بعد أن كان الوداد , أما المستقبل فهو ما سيفعله الشاعر تجاه المعتوب ، وإزاء صورة الماضي ومقابلتها بالحاضر يتحشد الطباق ، والمقابلة في شعر العتاب إذ يعبر عن اضطراب العاتب وقلقه تجاه معتوبه ، وفي الحديث عن ماضي المودة يميل الشعراء إلى تصوير مدائحهم السابقة في في المعتوب في مثل ما وجدناه لدى أبي تمام ، والبحتري ، وأبي الطيب ، والسري الرفاء ؛
وقد حفل شعر العتاب بالأساليب الإنشائية وطغى على قصيدة العتاب تكرار الاستفهام في حالات التوتر والانفعال الشديد ، أما النهي فكان أقل من الاستفهام .
المراجع
موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث