أنا لا أتمتع بسرعة كبيرة للفهم أو للبديهة … وقدرتي على متابعة سياق طويل وتام التجريد من الأفكار محدودة جداً .. ولكني أتفوق على النسق الشائع من الناس في مقدرتي على ملاحظة الأشياء التي تغيب بسهولة عن الانتباه, وعلى مراقبة تلك الأشياء بدقة.
تشارلز داروين.
 
من الإصدارات المميزة للمنظمة العربية للترجمة هذه السنة هو كتاب العالم البريطاني تشارلز داروين التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوانات The Expression of Emotions in Man and Animals بترجمة مميزة للدكتور محمد الشيخلي, أستاذ الفيزياء الحيوية بجامعة بغداد. قبل أن اتحدث عن الكتاب يجب أن أوضح معلومة مهمة: الدار الناشرة تقول أن هذه الترجمة هي أول ترجمة لكتاب داروين. وهذه المعلومة غير صحيحة ويجب أن يتم تصحيحها في الطبعات القادمة. هذا الكتاب تم ترجمته في عام 2005 م من قبل المجلس الأعلى المصري للثقافة, إصدار رقم 977, بواسطة المترجم مجدي محمود المليجي, تحت عنوان التعبير عن الإنفعالات في الإنسان و الحيوانات. هل هناك فروقات في الترجمتين؟ قرأت ترجمة المليجي السنة الماضية وتوقفت في منتصف الكتاب. لا أريد أن أعيب ترجمة المليجي, حاول جهده في ترجمة الكتاب كاملاً وكتب مقدمة مميزة, وكل ذلك يحسب له باعتباره صاحب المباردة الأول في ترجمة الكتاب. ولكن كشخص غير مطلع بشكل كامل على المصطلحات الطبية والطبيعية سيجد مشكلة في الاستمرار في القراءة لعدم فهمه بعض المصطلحات التي تحتاج لتعريفات وتوضيح, وكلما كان هناك توضيح وتعريف, فالقراءة ستصبح بطيئة وقد تفشل. أما ترجمة محمد الشيخلي فهي سهلة القراءة وواضحة والمصطلحات مفهومة ونستخدمها يومياً. أي قارئ غير مختص بالأمور الطبية أو الطبيعية لن يجد مشكلة على الإطلاق في قراءة كتاب داروين هذا وبترجمة الشيخلي من إصدار المنظمة العربية للترجمة.
 
هل يجب أن يكون الكتاب ممتعاً حتى نقول عنه أنه رائع ويستحق القراءة؟ أي بأن القارئ يستعذب القراءة ويحبها, ولا يريد التوقف دقيقة واحدة. عند قراءة الرواية مثلاً, أي رواية جيدة من المؤكد أنها أعطت القارئ ما يبحث عنه, وإن لم يجد المتعة في الرواية سيقول أنها لا تستحق القراءة بشكل مباشر. ما ينطبق على الرواية هل يمكن أن ينطبق على الكتب الأخرى: الكتب الطبية مثلاً أو الفكرية وغيرها. هذا السؤال مهم جداً وليس عبثي. إجابة هذا السؤال ليست شيء مؤكد عند القراء على وجه العموم. هناك من يقرأ لسبب محدد, إن توفرت المتعة في المادة المقرؤة كان بها, وإن لم تكن هناك متعة فلن يتوقف عن القراءة لأنه أجبر نفسه على القراءة لعدة أسباب: ربما لهدف تعليمي أو نقدي. ولكن القارئ الحر الغير مرغم على قراءة كتاب محدد, لن يستمر في قراءته مالم يجد المتعة في المادة المقرؤة. ولكن هذا الشيء محير بالفعل. كيف يمكن أن يكون كتاب فلسفي مثلاً ممتعاً. المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في حوار له كان يشير إلى أنه في كتاباته يسعى لإمتاع القارئ أولاً قبل أن يقدم له خلاصة أفكاره. ولكن بعض المؤلفين لا يلقون بالاً للمتعة المرجوة التي يطمح إليها كل قارئ. هم يطلقون شرارة اللهب, إن حققت المتعة أم لا, فهي قد أُطلقت ولا سبيل لإيقافها. متعة القراءة موجودة في كل الكتب بلا استثناء. وكل قارئ يضع معيار متعة القراءة له. حتى أعقد الكتب الفلسفية التي – ربما – لا أجد فيها أي متعة على الإطلاق, هناك من يجد فيها متعة خالصة لا يمكن أن تتوفر في أي شيء آخر. أتذكر أني قرأت جزء رسالة مرسلة من نبيلة نمساوية إلى الفيلسوف الشهير إيمانويل كانط, تقول فيها: يا كانط العظيم, إليك ألجأ كما يلجئ المؤمن إلا إلهه. مضت في رسالتها تبث حبها له, وتقول : لولا كتبك لقتلت نفسي. السبب الذي يجبرني على طرح هذا الرأي هو كتاب داروين. صحيح أني أقرأ الأدب وأجد فيه ما ابحث عنه. ومع ذلك أفضل الخروج عن نطاق الأدب لأفتح مجالات قراءة أخرى. لا ابحث عن المتعة في الكتب الغير أدبية, فأنا ابحث عن التنويع واكتشاف مجالات جديدة. من الأشياء التي لم تخطر في بالي قط, أن أجد كتاب داروين هذا يحوي كل المتعة التي ابحث عنها في الأدب. أقرأ باستمتاع بالغ وكأني أقرأ نص أدبي بالغ الإتقان. ربما يعود السبب في ذلك لمادة البحث المطروحة في الكتاب, وهو شيء محبب ويحصل يومياً في حياتنا اليومية ونقرأ عنه في الأدب بشكل كبير, بل يعتبر من أساسيات الرواية والأدب: التعبير عن العواطف. أو ربما يعود السبب في طريقة ترتيب داروين لتلك المبادئ وتصنيفها والحديث عنها عبر استشهادات من المحيط القريب له, والبعيد جداً. هذه المتعة التي قدمها لي داروين أجبرتني لاحقاً على مشاهدة ثلاثة أفلام وثائقية عن داروين ونظرية التطور, وفيلم تلفزيوني عن حياة داروين.
 
لا أعرف هل أبدأ بالحديث عن الكتاب أو بالمؤلف أو عن نظرياته التي تلقى كل القبول, وكل الرفض كذلك. لا أعرف من أين أبدأ الحديث بكل صراحة لأن المؤلف شخصية ليست سهلة للغاية , قد اكتب أشياء قد تغضب الطرف الآخر والعكس صحيح. من أجل ذلك سأبدأ من تمثال تشارلز داروين الضخم في متحف التاريخ الطبيعي في لندن. قبل عقود من الزمن, عندما كان داروين يطوف برحلته البحرية وهو شاب, يجمع أنواع مختلفة من الكائنات الحية الغريبة وبقايا الحفريات, كان هناك عالم أحياء وتشريح مقارن ذائع الصيت في لندن يدعى ريتشارد أوين. عندما نذكر كلمة ديناصور غالباً ما يذكر اسم أوين الذي أطلق هذا الإسم لأول مرة على بقايا الديناصور الموجود حالياً في القاعة الرئيسية في المتحف. أوين يعتبر النقيض العنيف لداروين. فهو معارض بشكل كلي لنظريات داروين حول التطور والإنتخاب الطبيعي. قاد ذلك لاحقاً إلى مهاجمة الطرفين لبعضهما طوال سنوات. داروين كان متفرغاً لبحثه الذي لم يطرحه إلا بعد وقت طويل, بينما أوين كان القوة الدافعة وراء تأسيس أعظم متاحف التاريخ الطبيعية في العالم. كان يحلم بأن يكون المتحف الذي يضم عجائب الخلق على طراز الكاتدرائيات العظيمة المبنية في أوروبا في القرون الوسطى. تم إقامة المتحف بصورة تخلب عقل كل من زاره واطلع عليه عام عام 1881م. كنت قد زرت هذا المتحف السنة الماضية. لم أدخل مباشرة إلى المتحف, وإنما أخذت دورة كاملة على المتحف للتأمل في شكله الخارجي الذي يقارع أجمل التحف المعمارية في العالم. ولكن, لو تأخرت قليلاً في زيارة المتحف لربما لكان بالإمكان اللحاق بمشاهدة المعركة الأخيرة التي حدثت بين داروين و أوين عام 2009م. تفاصيل هذه المعركة هي كالتالي: تم إنشاء المتحف بدعم قوي من ريتشارد أوين, عند وفاة أوين تم اقامة تمثال ضخم في القاعة الرئيسية للمتحف, بحيث يطلع عليه أي زائر للمتحف. المتحف يضم كنوز هائلة من عجائب الخلق, وكل عينات داروين التي جلبها معه من رحلته الطويلة. في السنة الماضية, وفي غمرة احتفال المجتمع العلمي بمرور مائتين سنة على ميلاد تشارلز داروين, قررت إدارة المتحف إزاحة تمثال أوين الذي كان القوة الدافعة لإنشاء المتحف, وتنصيب مكانه تمثال أضخم منه لعدو أوين اللدود تشارلز داروين. حتى في التفاصيل كان الأمر مختلفاً. كان لون تمثال أوين قريب للون الأسود, ويجسد شخصية أوين وهو واقف. بينما تمثال داروين العكس منه, تمثال يكسوه البياض وهو جالس على كرسيه يضع قدمه على الثانية, وكأنه يعلن سلطته وقوته ومعرفته تجاه أوين.
 
عندما كان تشارلز داروين في المدرسة الثانوية وصفه مديره بأنه عابث دائم الحركه. لا يقوم بعمل ذي نفع ولو ضئيل. العمل النافع في رأي المدير هو دراسة النظريات اليونانية, أما اللهو الذي كان يفعله داروين في المدرسة ليس إلا ملاحقة جميع أنواع الخنافس وتجميعها. أرسله والده إلى أدنبره لإكمال تعلميه والإلتحاق بجامعة أدنبره لدراسة الطب. لم تكن هذه الجامعة أفضل من المراحل السابقة لدراوين, رغم أنه استفاد منها بعقد صداقات مع بعض الأشخاص الذين أصبح لهم باع طويل في العلوم الطبيعية, إلا أنه غادرها وهو يحمل أقسى أنواع التعبير تجاه أساتذته. وصف أحد أساتذة الطب بأنه ذكرى مخيفة, ووصف أستاذ علم التشريح بعبارات غاية في القسوة, أما أستاذ علوم الحيوان فوصفه بأنه بلغ درجة من الغباء لا تصدق.
 
في آب من سنة 1831م تلقى داروين رسالة غيرت مجرى حياته كلها. كانت الرسالة من صديقه ومعلمه جون هينسلو, يدعوه فيها إلى الموافقة كأحد علماء الطبيعة على القيام برحلة علمية مع القبطان فيزوري لمسح الشواطئ الجنوبية لأمريكا الجنوبية لمدة سنتين على الأقل. كانت السفينة التي أقلت داروين الناقلة البحرية البيجل. ابحرت من بلايموث في كانون الأول من عام 1831م متوجهة إلى أمريكا الجنوبية, ولم تعد حتى تشرين الأول من عام 1836م, وبذلك أصبحت السنتان خمس سنوات. وتحولت رحلة أمريكا الجنوبية إلى رحلة حول العالم لتكون واحدة من أهم الرحلات الاستكشافية في العصور الحديثة. من أمريكا الجنوبية ابحروا عبر المحيط الهادئ إلى نيوزيلندا واستراليا, وجنوب أفريقيا, ثم ابحروا عائدين إلى امريكا الجنوبية قبيل الانطلاق إلى انجلترا. كتب داروين : إن الرحلة على متن البيجل كانت بلاشك أهم حدث في حياتي على الإطلاق. في السنوات الأولى أبحرت البيجل ذهاباً واياباً على ساحل أمريكا الجنوبية, وقد مكن هذا داروين من أن يألف القارب, داخل الأرض أيضاً. وقد كان لغزوات البعثة داخل جزر الجالاباغوس في المحيط الهادئ غربي امريكا الجنوبية دور مهم, حيث مكنت داروين من جمع كميات ضخمة من المواد الخام وارسالها إلى انجلترا. ومع ذلك فقد احتفظ داروين بملاحظاته عن الطبيعة والنشوء الحياة لنفسه. وعندما عاد إلى وطنه في السابعة والعشرين من عمره, وجد أن صيته كعالم في الطبيعة قد ذاع. وكان قد وضع تصوراً لما سيصبح لاحقاً نظريته في النشوء. لكنه لم ينشر عمله الرئيسي إلا بعد سنوات من رجوعه.
 
كل فكرة قابلة لأن تثير درة فعل, أو ما يشبه الإنقلاب على الموروث الفكري والحضاري لأمم تؤمن بشيء بالنسبة لديهم مقدس, تسبقه بالطبع إرهاصات ومواجهات إما في وسط الفرد الذي سيواجه ردة الفعل تلك, أو في وسط المنظمة أو الجماعة التي قد تتخذ عدة إحتياطات للدفاع عن رؤاها. في فيلم Creation من إصدار البي بي سي نشاهد مثل هذه الصراعات في حياة عالم الأحياء تشارلز داروين في محيط عائلته قبل نشره كتاب أصل الأنواع. من الصعب أن يكون كتاب واحد يحكي سيرة عالم أو أديب أو مؤرخ, بالنسبة لداروين كتاب أصل الأنواع هو تاريخ داروين وحياة داروين. ولن تكون فكرة نشر الكتاب مجرد فكرة يجب أن تظهر للجمهور هكذا و دون مقدمات. بل هناك صراعات نفسية وإجتماعية أفرزت في الأخير نشر هذا الكتاب. هذه الصراعات النفسية والإجتماعية نشاهدها لدى داروين على مستويين. المستوى الأول ما قبل وفاة ابنته آني, والفترة الأخرى ما بعد وفاة آني, وهي التي أطلقت في عقلة مجمل التساؤلات عن الوجود والخلق. أو كما يقول كاتب بيوغرافيا داروين مايكل ريوس أن وفاة آني حطمت المتبقي من إيمان داروين. إن داروين الذي يخشى نشر نظريته كما يقول حتى لا يتم العبث بها أو مهاجمتها من قبل الجمهور الواسع في مدينته كِنت وفي الدولة عموماً, مارس نوع من التجربة أو المواجهة مع الطرف الآخر, وبالتحديد مع زوجته إيما داروين, التي كانت على النقيض منه: امرأة متدينة شديدة التدين.
 
زوجة داروين مسيحية متدينة ترفض على الإطلاق أفكار زوجها. ما يعانيه داروين حسب وصفها هو بسبب إيمانه الذي انهار أمام عينيه, وأدخله في دوامة عنيفة من التساؤلات التي أفرغها في كتابه الذي يكتبه لسنين طوال. كان يصطحب زوجته المتدينة إيما وأبنائه كل يوم أحد إلى الكنيسة. وبينما كانوا يستحثون الخطى للدخول, كان داروين يبقى في الخارج ويذهب إلى الغابة القريبة التي شبهها بكاتدرائية الإيمان الضخمة التي لا غنى عن الإيمان بها. ما يعانيه داروين هو في كيفية التوفيق بين أفكاره التي تجد القبول بين بعض أوساط العلماء, والرفض الذي يواجهه من زوجته التي أحبها, ومن أوساط المجتمع المتدين المحيط به. إيما تعرف بأن أفكار زوجها الموجودة في الكتاب الذي أمامها هي من تملك حق تقرير مصيره. إما أن تلقي به في النار وتكون مثل غوغول, أو أن تعطي الحرية لزوجها في التعبير عن رأيه رغم مخالفتها التامة لكل أفكاره.
 
هذا السؤال خطر على بالي وأنا أشاهد بعض الأفلام الوثائقية: لماذا تردد داروين لعشرين سنة في نشر نظريته للعامة؟ كانت لديه العينات التي جلبها من رحلة البيجل, ولكن كان يبحث عن أساس يستند عليه. وحتى بعد أن وجد الأساس الذي بنى عليه نظريته في كتاب مقالة في المبادئ السكانية لتوماس مالتوس. لم يبادر إلى نشر الكتاب. بل كان يعيد ويكتب من جديد. قام بتلخيص النظرية في خلاصة كتبها خصيصاً لزوجته لهدف محدد. يقول في إحدى رسائله: عزيزتي إيما, أتممت هذه الخلاصة لنظريتي عن أنواع الكائنات الحية. أخبرك بذلك من أجل أن تحتفظي بمبلغ من المال – 400 باوند – لنشرها إذا مت فجأة. مع كل الحب. ت. داروين. بعد كتابة هذه الرسالة بأربعة عشر عاماً نشر نظريته مكرهاً. بعد عودته من الرحلة بعشرين سنة وصل إليه طرد من عالم طبيعة كان يعمل في إندونيسيا, كان اسمه ألفريد راسل والاس. هذا الطرد كان مختلف عن أي طرد تلقاه دراوين في حياته. كان يحتوي على مقالة مشابهه بشكل كامل لنظرية داروين. كانت الفكرة قد خطرت على بال والاس وهو مستلق في كوخه شبه هاذ يعاني حمى الملاريا. ما كان ينقص والاس الشواهد والعينات والأدلة, بعكس داروين الذي جمع شواهد لمدة ستة سنوات وانكب على صياغتها لعشرين سنة.
 
لماذا نبسط أذرعنا عندما نصاب بقلة الحيلة والعجز؟ لماذا نحرك رأسنا للأمام كناية عن قول نعم؟ لماذا يصاب الوجه بالتورد – خصوصاً النساء – عند سماع خبر مفاجئ يسعدهم؟ لماذا عند الشعور بالخجل ننظر للأسفل دون إرادة منا لتوجيه نظرنا للأسفل؟ لماذا عند عقد العزم على تنفيذ أمراً ما نكتم الهواء داخل صدرونا وتكون أعيننا مفتوحة على الأخير خشية أن يتهدم الأمر المراد تنفيذه؟ لماذا تحدث كل أنواع التعبيرات التي نقوم بها بوعي أو بدون وعي؟ هل تختلف التعبيرات من منطقة إلى أخرى؟ هل التعبير لغة عالمية يتشارك فيها كل البشر؟
 
الحياة بأكملها عبارة عن تعبير. نتحدث للطرف الآخر وفقاً للتعبير الذي يظهر لنا. لا يمكن أن نتحدث بسعادة أو نضحك مع إنسان قسمات وجه تظهر أنه تعيس ويعيش حالة مزرية. حين ندخل مثلاً عند فرد سعيد سنبادر إلى سؤاله فوراً : ما سبب سعادتك؟ أو حين نرى إنساناً يكسوه الحزن وأكتافه للأسفل وعيناه شاخصة إلى الأسفل, سنعرف أن شيء يدور في ذهنه أو أنه تعرض للفقد, فقد الأقارب أو الأصدقاء مثلاً. ولكن, حقاً .. لا أجد فقط التعبير البشري هو الذي يحدد لنا المدخل للحديث ولإصدار رد فعل تعبيري كذلك, بل حتى الجمادات التي لها ذكرى عزيزة في أنفسنا تجبرنا على القيام بتعابير خاصة بها. كذكرى المنزل القديم أو مكان حدثت فيه ذكرى خاصة بنا في سنوات مضت. كما يقول داروين في فصل الحب والمشاعر الرقيقة: تسبب الذكرى الحيوية للموطن أو المنزل الأول, أو عند تذكر الأيام الخوالي السعيدة , تسربل العيون بالدموع, وترادونا أيضاً الأفكار إلى أن هذه الأيام سوف لن تعود. في مثل هذه الحالات قد نُسري عن الذات بمقارنة الحاضر مع الماضي, أو بذكر إحباطات الآخرين, أو حتى المقارنة مع إحباطات خيالية أو متخيلة لأبطال من قصص الخيال, والتي لا نشعر إزاءها عادة بأي تعاطف, فهي سرعان ما تستدر فينا ذرف الدموع, كما في حالة الحبيب الذي نجح أخيراً بعد محاولات صعبة كما في القصص والروايات القديمة. بمجرد أن نُعبر عن تعاطفنا وشفقتنا لحزن صديق, تفيض الدموع من أعيننا. يفسر شعور التعاطف أو الشفقة عموماً بافتراض أنه عندما نرى أو نسمع معاناة أحدهم, فإن فكرة المعاناة تُسترجع في مخيلتنا, وبشكل حيوي, بأننا نحن أنفسنا نعاني. نحن نتعاطف مع الحبيب أعمق بكثير من تعاطفنا مع شخص لا يعنينا. وإن تعاطف الحبيب معنا يعطينا شعوراً بالارتياح أكثر من تعاطف الآخر. ومع ذلك, نبقى بالتأكيد نتعاطف مع من لا نكن له أي عاطفة. لماذا المعاناة إذا ونحن نتعلم من أنفسنا وبأنفسنا, وإن هذا التعلم يستثير البكاء؟
 
داروين لا يسأل عن متى أو كيف يحدث هذا التعبير, بل يسبقه بلماذا. أغلب العلماء والباحثين الذين نشروا أبحاث خاصة بالتعبير والإنفعال كانوا يقومون بتوجيه التساؤل عن ماهو, وكيف, ومتى, وماهي, التعبيرات التي تظهر من جراء كل انفعال. كيف يتم إنتاجها؟ متى يتم حدوثها؟ يتعامل داروين مع تلك التساؤلات, إلا أنه كان مختلفاً بطرح سؤال مختلف: لماذا تحدث التعبيرات بأحد الأشكال المعينة؟
 
قبل أن يكتب داروين كتابه كان هناك كتاب يناقش التعبير عن العواطف البشرية وتأثيراتها للسير تشارلز بيل تحت عنوان تشريح وفلسفة التعبير The anatomy and philosophy of expression. استند داروين في تفسير مبادئه على هيكل بيل, الذي, يقال أنه, يجب أن يكون كتاب تشارلز بيل موضوع تأمل من قبل من يحاول استنطاق وجه الإنسان من خلال الفلاسفة كما من خلال الفنانين, فتحت مظاهر الخفة وبحجة الجمالية, نحن أمام الأثر العلمي الأجمل لعلاقات المادي بالأخلاقي. ولكن داروين لن يسير على خطى بيل في تفسير العواطف عند الإنسان والحيوانات. كما يقول في مقدمة كتابه: عندما قرأت عمل السير بيل العظيم, ورأيه في أن الإنسان قد خلق بعضلات معينة مكيفة خصيصاً للتعبير عن مشاعره, صعقني الأمر بأنه غير مرض. من المحتمل أن تكون مشاعرنا بحركات معينة قد اكتسبت تدريجياً بطريقة ما, على الرغم من اعتبارها الآن غريزية. ولكن لاكشاف كيفية اكتساب هذه العادات كان الأمر مربكاً إلى حد بعيد. ويتوجب النظر في الموضوع برمته بمفهوم جديد يتطلب تفسيراً منطقياً لكل تعبير.
 
من الجدير بالذكر كذلك, – وهو أمر طريف – : في نسخة داروين من كتاب تشارلز بيل, حين قرأ داروين مقدمة الكتاب وضع تحت هذا الجملة خط. كان بيل يقول في هذا السطر: أكثر عضلة جديرة بالانتباه موجودة في الوجه البشري هي العضلة الفوق محجرية, التي تقوم عن طريق عقد الحاجبين بإحداث تأثير غامض يقوم بتوصيل التفكير الذهني بشكل مبهم. كتب داروين تحت هذه العبارة: القرد هنا .. لقد رأيت هذه العضلة تامة التكوين في القرود .. أنا أشك يا بيل بأنك قد قمت بتشريح أي قرد على الإطلاق.
 
يعتمد تفسير داروين لمجمل حالات التعبير على ثلاث مبادئ أساسية. المبدأ الأول هو العادات المفيدة. ما يقصده هو أن بعض التعبيرات قد نشأت من خلال حركات كانت مفيدة مسبقاً. المبدأ الثاني, والذي لم يتم ذكره عند أي من خبراء علم الفراسة والتعبير, هو مبدأ التضاد. تفسير هذا المبدأ هو أن بعض التعبيرات قد تم انتقاءها لأنها تبدو مختلفة عن التعبيرات الخاصة بالإنفعالات المضادة. مثال ذلك عندما نقوم بهز أكتافنا عندما نشعر بالعجز, هذا التعبير هو المضاد للحركات الخاصة بالذراعين والأكتاف والأيدي التي نقوم بها عند تأكيد ذواتنا بشكل عدواني. المبدأ الثالث هو التأثير المباشر للجهاز العصبي. أي حركة نقوم بها يتم تحديدها من قبل الجهاز العصبي, إلا أن الفعاليات تجري بتأثير الإرادة أو خلال العادة, أو مبدأ الأطروحة المضادة. يعترف داروين بأن هذا المبدأ سيبدو غامضاً, حتى أن أحد المدققين انتقد هذا المبدأ, وأقرأ داروين بصحة نقد المدقق لهذا المبدأ. بقراءة بعض التعبيرات لهذا الفصل بالإمكان فهمها بطريقة سهلة للغاية. يقول داروين في مثال على هذا المبدأ: تحت تأثير الفقد الفجائي لشخص عزيز أو حبيب, فإن أول ما يرد إلى الفكر هو لا بد أن هناك شيئاً ما كان يمكن أن ينقذ الفقيد من الموت. وقد وصف شخص يتمتع بملاحظات ممتازة تصرف فتاة لحظة سماعها بوفاة والدها, قائلاً: أخذت تطوف في المنزل وهي تعصر أو تلوي يديها كمخلوق مخبول متمتمة بأنه كان خطؤها ( كان يجب أن لا أتركه أبداً ), ( لو لم أفارقه وجلست معه فقط ). وهكذا. مع مثل هذه الأفكار التي تحضر بنشاط أمام العقل, يتبلور خلال مبدأ العادة المرافقة, الميل الأكبر لفعل حيوي من نوع ما. وحالما يعي المصاب فقد الحبيب وبأنه لا شيء يمكن عمله لإرجاعه يحل الأسى والأسف العميق محل الحزن والمرارة, فيركد المصاب بلا حراك, أو يحرك جذعه برفق يمنة ويسرة, وتصبح دورته الدموية واهنة, وتنفسه غير موجود تقريباً وهو يجترح الآهات.
 
إذا كان الكتاب تفسيراً لهذه المبادئ, سيبدو الكتاب وكأنه كتاب جامد لا حياة فيه ولا يستطيع القارئ أن يتفاعل معه. قد يبدو هذا الأمر صحيحاً عندما يطرح داروين أسس مبادئه الثلاثة للتعبير, وهي بالمناسبة لا تتجاوز العشرة بالمائة من الكتاب, ولكن المتبقي من الكتاب أجزم أن أي قارئ مهتم بسلوك التعبير عند الإنسان وحتى من يحب مشاهدة الأفلام الوثائقية عن الطبيعة والحيوانات سوف يعشق الكتاب وتفسيرات داروين لكثرة المشاهد الخلابه التي تدور حول الإنفعال والتعبير في حالة الفرح والحزن والبكاء والعجز والقلق واليأس وارتفاع المعنويات والمرح والحب والمشاعر الرقيقة والكره والغضب والتأمل والتحقير والزهو والكبرياء والصبر والمفاجأة والدهشة والخوف والرعب والعار والخجل والتواضع . لا يطرح داروين التعبيرات الحاصة بنا, ولكن يستطرد إلى تلك الخاصة بالقطط والخيول والكلاب والعديد من الحيوانات الأخرى. أجزم أن قارئ يريد فتح مجالات أخرى للقراءة يجب أن يقرأ هذا الكتاب.
 

المراجع

موسوعة الأبحاث العلمية

التصانيف

الأبحاث