كتب: الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
31 اكتوبر, 2009 - 13 ذو القعدة 1430هـ
المحتويات:
- المقدمة.
- أولاً: الورقة الأخيرة ومدلولاتها.
- ثانياً: أوراق متفرقة من مفكرة العام.
- ثالثاً: مع الأوراق الأخيرة في هذا العام.
- رابعاً: نظرات تحليلية في العام المنصرم.
- خامساً: مع الهجرة والتغيير.
- سادساً: الرمق الأخير.
الجمعة: 13/1/1413 هـ
المقدمة
لا شك أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن ابتداءً: ما المقصود بالورقة الأخيرة ؟
ولعل الأذهان تنصرف إلى مقصود هو الذي سيكون الحديث عنه، كلنا وكثير من الناس - معنا قبل أيام قليلة - نزعوا الورقة الأخيرة من تقويم العام المنصرم، وهي قضية وحركة متكررة، ففي كل يوم يستجد ينزع الإنسان ورقة ويستقبل يوماً جديداً بتاريخ جديد في الورقة التي تليها، غير أن الورقة الأخيرة هي انتقال من عام إلى عام، حتى إن بعض الناس يستظرف أحياناً، فيقول: سلمت على فلان ثم رد السلام عليّ بعد عام، ويقصد لحظة بداية العام الجديد، ونهاية العام الذي مضى، أو يأتي بعمل يسير يقول بدأت بعمل كذا في عام اثني عشر بعد المائة الرابعة والألف للهجرة، وأتممته في العام الذي يليه، وما الأمر إلا ليلة واحدة !
هذه الحركة والورقة الأخيرة تحتاج إلى وقفة وتأمل، عزمت أن أجمع بعض هذه الأوراق من عدة تقاويم علَّ فيها وقفات أو فوائد متنوعة تذكِّرُنا ببعض ما نريد أن نقف معه من المواقف التي يحتاج الإنسان المسلم إليها، سيما في هذا الوقت.
إلا أنني عندما جمعتها وطلبت من بعض الإخوة جمعها، لم أجد فيها تميُّزاً ولا تخصيصاً لهذا الموقف الفاصل بين عام وعام، بين استمرارية الحياة بعد طي صفحة آفلة من الحياة، وبين تذكير بعام جديد يحتاج إلى تذكير أو نحو ذلك، وإنما كانت مثل سائر الأوراق، بل كان بعضها دعايات وإعلانات، بل وجدت واحدة منها لتنبئ عن عدم الاكتراث أو عدم التركيز إلى أن هناك معنى أو أن هناك قضية تحتاج إلى لفت نظر.
فوجدت في هذه الورقة الأخيرة والتي أخذتها من إحدى هذه التقاويم هذا النص أذكره لكم وفيه طرفة، ولكن في نفس الوقت فيه بيان إلى أن كثيراً من الأمور تغيب عن الأذهان، ولا تجد ما تستحقه من العناية، هذه الورقة تقول: " شوهد جحا هائماً على وجهه في الليل فاستوقفه الخفير وسأله: إلى أين أنت ذاهب ؟ فأجابه: لقد هرب نومي وخرجت أفتش عنه ".
هذه الورقة مكتوبة في ظهر الورقة الأخيرة من العام، وتشير إلى التغييب وعدم الاكتراث، وأنها مسألة معتادة، وليس هناك ما يستحق لفت النظر، ثم جعلت أبحث بعض الحوادث المهمة في ذلك العام المنصرم، وتتبعت بعض الصحف والمجلات في بداية هذا العام لعلها تشير إلى هذه الأحداث وتفصيلاتها، فلم أجد أيضاً معيناً في هذا الشأن والصدد من خلال المكتوب والمقروء والمسموع ؛ لأن كثيراً - بل جل وسائل الإعلام - تعتني بهذا الجانب في بداية العام الميلادي، فنجد شخصية العام، وأحداث العام، وقضايا العام، وأبطال العام.. الخ بالنسبة للعام الميلادي، غير أننا لا نجد عشر معشار مثل هذا الاهتمام والتنبيه إلى الأحداث والقضايا وربطها بحياة الأمة بالنسبة للعام الهجري.
ولذلك كانت هذه الوقفات التي سنقفها كأنها نوع من التنبيه والاستدراك الذي يفوت كثيراً من الناس، فكثيراً ما نجد الناس يفرحون بانتهاء عام واستقبال عام دون أن تكون في ذهنهم القضايا التي لأجلها يفرحون، أو لأجلها يحزنون، كيف يودعون عاماً ويستقبلون عاماً كيف تكون الجدية في حياتهم ؟ هل يستحق العام الذي مضى من خلال مسيرة حياتهم وأعمالهم أن يفرحوا به لما قدموا من الخير؟ أم يحزنوا عليه بما فرطوا فيه وأسرفوا في المعاصي؟ لا تغذ مثل هذه الوقفة إلا قليلاً عند من ينتبه إلى أن كل يوم يمر في حياته إنما هو جزء من أجله يُنتقَص وتقريب إلى نهايته تغذ به الأيام نحوها في سرعة لا يفطن إليها.
أولاً: الورقة الأخيرة ومدلولاتها
وهناك ثلاث أمور من مدلولات " الورقة الأخيرة " وهي الوصل والختم والقطع، وقد اخترت هذه العناوين من واقع كثير من الأمور والقضايا التي نمارسها ونحياها، فغالباً ما يكون آخر كل شيء له مزية خاصة، فآخر الرسالة تجد فيها التأكيد على المهمات والتوديع ونحو ذلك، وتختم بعد ذلك بالاسم والتوقيع وبالختم إن لزم الأمر، فهي التي تتضمن الخلاصة، وكذلك تجد في الكتب - على سبيل المثال - أن الكتاب في آخره يتضمن توصيات وتأكيدات وخلاصات، ويبرز فيه الكاتب تأكيد مقصده ونيته ورجاء قبوله للعمل، ورجاء أن ينتفع بما كتب في هذا الكتاب، فهناك ثلاث مدلولات بالنسبة للورقة الأخيرة وتفصيلها على النحو الآتي:
المدلول الأول: الوصل
وهو أن تكون هذه الورقة الأخيرة ليست أخيرة بشكل مطلق، وإنما أخيرة بالنسبة لغيرها، فمثلاً الكتاب الذي يتكون من عدة أجزاء نجد نهاية الجزء الأول فيها ختام بمثل هذه العبارة " تم الجزء الأول ويليه الجزء الذي بعده"، فهذا وصل لما يأتي بعد ذلك، حتى في حياة الناس في خطط التنمية، فإذا كانت المسيرة ما زالت في خطة من خطط التنمية، يقال انتهى هذا العام من خطة التنمية وقد تضمن كذا وكذا، وبالتالي يؤسس عليه ما يأتي فيما بعد، وكذلك حتى في الأعمال التجارية والمؤسسات التجارية التي تضع لنفسها خططاً إن كانت ما زالت موصولة ؛ فإن الصفحة الأخيرة إنما هي تربط ما مضى بما سيأتي، ومع ذلك تبقى لها أهميتها لأنك بدونها لا تعرف أنك أنـهيت مرحلة ولا ترتبط بمرحلة جديدة.
المدلول الثاني: الختم
وإما أن تكون الصفحة الأخيرة هي الخاتمة والنهائية بالفعل، فحينئذ تجد كل الخلاصة والاهتمام بها ؛ فإن الإنسان إذا علم أن هذه هي المساحة الأخيرة من ورقته أو من عمله أو من فترة إدارته ورئاسته لا شك أن هذه الفترة الأخيرة ولحظاتها تكرس كل ما أراد أن يذكره، وأن يبرهن عليه، وما ذكره فيما مضى يركزه مرة أخرى في هذا الختام.
ولذلك تجد الإنسان أيضاً في هذا المعنى يتطابق فعله في نفس هذا الإطار، فتجد الإنسان إذا انتهى عام وبدأ عام جديد وهو ما يزال ينعم بهذه الحياة ؛ فإنه يقول قد مضى عام فرطت فيه، وأستقبل عاماً وأستدرك فيه، والطالب ينهي عاماً، ويستقبل سنة أو مرحلة جديدة، أما الورقة التي تكون نهائية ؛ فإنه يختم بهذا الختم والانتهاء يكرس كل القوة والطاقة في هذا الميدان.
المدلول الثالث: القطع
ويتضح هذا المدلول كمثال فيما نجده من بعض الكتب التي لم يكملها صاحبها فتجد الكتاب مبتوراً ويكتب في نهاية الكتاب بسطر قصير: " ثم اختطفت المنية مؤلفه وتوقف مداده عن الكتابة" أو تجد مثلاً بناءً قائماً لكنه غير مكتمل فيقال إن صاحبه أدركته المنية ولم يكمل بناءه.
فهذه الصور الثلاث كلها تؤكد على أن آخر المرحلة لها أهمية وفيها مواقف تحتاج إلى الاستدراك والتأمل والانتفاع بها، ومن هنا نحن عندما ننهي عاماً ونستقبل عاماً أو ننزع الورقة الأخيرة، ونرى الورقة الجديدة، فتتنوع العبر والمعاني بين الناس، فمنهم من يصل ومنهم من يكون قد ختم حياته ومنهم من قطع، والفرق بين الاثنين أن الذي يختم يكون قد أدرك أسباب النهاية وعاينها، فهو مستعد لها إلى حد ما، وهو يراها كأنها أمامه رأي العين، بينما القطع الذي يأتي فجأة من غير ما بوادر تحسس بقربه أو من غير ما تحسب أو ترقب له.
ثانياً: أوراق متفرقة من مفكرة العام
فإن هناك أحداثاً كبيرة مرت على الأمة في هذا العام الهجري المنصرم، وكثير منها جدير بأن يكون موضع لفت نظر واستنباط دروس وعبر، وقد سبقت الأحاديث عن هذه الأحداث في وقتها، سواء على أعواد المنابر أو في أحاديث الوعاظ، أو على صفحات الصحف أو نحو ذلك، لكن النظر إلى الحديث بعد انقضائه وبعد مرور الوقت عليه يتيح فرصة لمعرفة السلبيات والإيجابيات واستخلاص الدروس والعبر وتمييز المواقف، لا تكون بحال عندما يكون الإنسان معايشاً لذات الحدث، فهذه جملة من الأحداث بعضها مفرح وبعضها محزن، بعضها أبيض وبعضها أسود، من حيث صلته بأحوال الأمة الإسلامية ومصلحة المسلمين.
الورقة الأولى: مؤتمر مدريد للسلام
لقد كان حدثاً كبيراً شغل العالم في ذلك الوقت ولا يزال يشغله حتى اليوم، وكما أشرت عند وقوع الحدث تختلف الأنظار وتتباين الآراء لكنك الآن وأنت تستقرئه بعد مرور زمن لا بأس به، ستعرف مصداقية تلك الأقوال، وتستطيع أن تميز تلك الآراء وحينئذ يمكن أن يكون رأيك ونظرك للحدث وتقويمك له أقوى وأوضح وأنفع، ونحن بعد مضي هذا الزمن نقف ونتساءل ما الذي جرَّ هذا المؤتمر وما الذي حصل من ورائه للأمة المسلمة.
إن المتأمل يجد أن هذا المؤتمر إنما كان يكرِّس كل مصلحة ومنفعة لليهود وأعداء الإسلام، ويكرس في المقابل كل مضرة وتجريم واعتداء في صفوف الأمة المسلمة بشكل عام وأبناء القضية بوجه خاص ؛ فإن المصالح التي جناها العدو الصهيوني اعترافٌ رسميٌ بدولة إسرائيل وتكريس لأمنها، ووجوب المحافظة والرعاية له، ونداءات متتابعة لضرورة السلام العالمي، والتبادل الاقتصادي والتعاون الثقافي وإزالة الحواجز النفسية، بمعنى آخر تدمير وإلغاء عقيدة الولاء والبراء، وبمعنى آخر الانسياق وراء الأهداف الصهيونية اليهودية، ومسخ الأمة من مقوماتها الثقافية والتعليمية والإيمانية قبل ذلك.
وعندما نرى ما مضى من الأحداث نجد أن القضايا الجوهرية التي تهم المسلمين لم يحصل فيها تقدم بل تؤجَّل وتسوَّف وتهمَّش، والقضايا التي تهم العدو مثل قضايا المياه وقضايا المفاوضات التجارية، والقضايا الأخرى تجد أن فيها تقدماً وتجد أن الحديث عنها وعن أهميتها واتساع دائرة المشاركين فيها تعطي بعداً يفيد بأنها القضية الأهم التي يحرص عليها أعداؤنا، بينما القضايا الأخرى التي تهم الفلسطينين أكثر وما يدَّعى من الانسحاب أو قضايا الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو قضايا حقوق اللاجئين كلها تتراجع باستمرار ولا تحرز أي تقدم.
حتى إن الإنسان يفاجَأ بأن أصحاب القضية أنفسهم - إذا جاز أن نسميهم أصحابها - بحكم وسائل الإعلام، وبحكم ميادين السياسية هم أنفسهم الذين نادوا بنداءات الرفض، ثم بعد ذلك الاستجابة، ثم بعد ذلك التنازل، ثم بعد التنازل جاء الحرص على السلام، ثم جاء بعد الحرص على السلام مراعاة مشاعر اليهود، ونجد المواقف باستمرار نحو الأدنى حتى كأن الإنسان يفكر ما الذي يمكن أن يكون بعد هذا؟ إلا أن يقال: إن اليهود، وإن دولة إسرائيل لها فضل على العالم، ولها فضل على الأمة وهي الأساس وهي التي ينبغي أن تسود إلخ... لأن هذا هو مقتضى هذا القول.
بالمقابل نجد أن هذا الحدث رغم ما فيه من هذه السلبيات كان له في المقابل إيجابيات كثيرة ؛ لأن هذه الإيجابيات لم تكن مقصودة بالأصالة ولكنها فضل الله عز وجل ؛ فإن الأمة تنبهت، وتنبه من كان غافلاً منها ومن كان مسرفاً في حسن الظن بمثل هذه المؤتمرات وقضاياها السياسية وغيرها، تبين للجميع بلا أدنى شك ولا ريب ولا غبش أن هذه القضايا كلها ضد الإسلام والمسلمين وفي نفس الوقت تعرت الرايات والشعارات التي كانت تراهن وتزايد في القضية الإسلامية في أرض الإسراء، وكذلك أيضاً اشتدت نقمة وعداء المسلمين لأعدائهم لما رأوا مزيد تمكنهم ومزيد الخيانات والمؤامرات التي تزيد في سيطرتهم وتزيد في عتوهم وطغيانهم.
وهذه ردود الأفعال هي نوع من الأحداث التي لا يحسب لها الأعداء حساباً، ولكن المؤمن بميزان الإيمان وبمنطق الإسلام وبإيمانه بقضاء الله وقدره، يعلم أن كل أمر من قضاء الله وقدره فيه خير لهذه الأمة، وهذا لا شك أمر يطول استقراء المنافع فيه ونجد له آثاراً كبيرة وكثيرة حتى في داخل الأرض المحتلة، فإنك في أعقاب مؤتمر السلام تجد أن فعاليات العداء ضد اليهود تطورت تطوراً نوعياً فريداً لم يكن من قبل خلال سنوات كثيرة مضت، فإنك تجد الآن استخدام الطعن بالسكاكين واستخدام الرصاص الحي كما يقولون، وقوة المواجهة التي تعدت فقط مجرد القذف بالحجارة ونحو ذلك وأصبحت أكثر تأثيراً وقوة.
وهذا كرس ورفع روح الجهاد وروح المقاومة والاستعلاء في نفوس أبناء فلسطين.
الورقة الثانية: سقوط كابل
وهذه أيضاً كان لنا فيها حديث طويل عن مسيرة الجهاد وملحمة النصر ؛ فإن الدروس التي استقتها الأمة كثيرة، ولعل أبرزها:
الدرس الأول: أن منهج المهادنة والمداهنة لأعداء الله عز وجل، لا يأتي بخير، ولكن منهج المفاصلة والجهاد هو الذي يؤتي ثماره ولو بعد حين.
الدس الثاني: أن القوة الحقيقة إنما هي بميزان الإيمان والشرع قوة الإيمان وقوة الارتباط بالله جل وعلا، فالأفغان الذين لم يكن عندهم من زاد الدنيا وعتاد السلاح إلا أقل القليل، يسر الله على أيديهم هذا النصر وفتح عليهم وكانوا سبباً في هزيمة الشيوعية ودولتها الكبرى في أرضهم، ثم ضعضعتها وزوالها من وجه الأرض ومن تاريخ البشرية، بفضل هذا الاستمساك بمنهج الله وظهور أثر القوة الإيمانية في هذا الصدد، وكذلك نلحظ من هذا أن كل أعداء الله - عز وجل - إنما يهدفون ويتجمعون إذا كانت هناك قضية يمكن أن يكون للإسلام فيها دور بارز ونصيب وافر.
فإن كل هؤلاء الأعداء يجتمعون ليجهزوا على هذه الثمرة قبل أن تينع، وقد كانت محاولاتهم شديدة وكبيرة في المكائد والتفريق بين المجاهدين وعبر سياسات الأمم المتحدة، وعبر التحركات الخارجية من دول أخرى مجاورة، لكن بفضل الله جل وعلا كلها باءت بالفشل.
الورقة الثالثة: مؤتمر داكار مؤتمر القمة الإسلامية
حدث كبير في اسمه لكنه في الحقيقة ليس كبيراً في واقعه الذي كان في الأحداث ومجريات الأمور، لكن لنبين أن الأسماء أحياناً ليست بالقوة التي تعطيها مدلولاتها، ربما يعده كثيرون حدث غير مهم ؛ لأنه لم يكن له صدى وليس له تأثير في الواقع، وليس له ذلك الترقب الذي ينتظر ما بعده من قرارات أو أعمال، وهذا أعِدُّه واعتبره هنا من ضمن الصفحات المحزنة، فالأمة تجتمع في قمتها التي ينبغي أن يكون لها صوتها القوي وأثرها الفاعل ولها قراراتها المغيرة في واقع هذه الحياة وليس في واقع الأمة المسلمة فحسب، ومع ذلك أجزم أننا وكثيرون معنا ما التفتوا لهذا الحدث ولا سمعوا به إلا في نقطة سلبية خطيرة، تلك التي كانت حول النزاع في إدراج قضية الجهاد في ضمن مقررات ذلك المؤتمر.
وللأسف أنه المؤتمر الوحيد من مؤتمرات القمة الإسلامية الذي لم ينص فيه على أن الجهاد أمر وقضية مهمة في حياة الأمة المسلمة، وكان ذلك في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام، وقال بعض القائلين: كيف ندعو إلى السلام ثم نكرس الجهاد ؟ وهذا هو عين ما قاله رئيس وزراء العدو اليهودي، عندما قال: " نريد أن يلغى الجهاد من قاموس المسلمين "، وهذا الحدث كما أشرت مر في هذا العام مروراً لا أثر له، لكنه في مسماه كبير وفي حقيقته لو أن الأمر على ما ينبغي أن يكون فينبغي أن يكون أكبر حدث في حياة العالم، وليس في حياة الأمة المسلمة فحسب بل في واقع الحياة بأسرها.
الورقة الرابعة: ما جد في الجمهوريات الإسلامية
ثم وقفة مفرحة أخرى ونغاير بين البياض والسواد وبين الفرح والحزن، ما جدّ في الجمهوريات الإسلامية، بعد زوال الاتحاد السوفيتي الهالك، وذلك فيه دروس كثيرة، لعل أهم قضية هي فطرية هذا الدين وأنه لا يمكن لقوى الأرض أن تتحكم بما في قلوب البشر لا بالإغراء ولا بالتهديد ولا بالترهيب ولا بالترغيب، ثم كذلك ما ظهر من شدة بطش وجرائم الشيوعية التي هي نموذج كفري، لأن الكفر ملة واحدة، فالذين كانوا ولا زالوا يقولون إن الإسلام دموي وأنه لا يقبل الرأي الآخر وأنه وأنه، تبدى اليوم أو في هذه الأحداث بعد أن ظهرت الأرقام والحقائق المفزعة والتي كانت معروفة ولكن لم تكن منشورة ولم تكن ذائعة بين الناس.
تبين هذا النموذج وكيف أنه متلبِّس ومتحقق بكل هذه الأوصاف المذمومة، وأن الإسلام هو البرئ من الإلصاقات التي يلصقها بها أعداؤه، وكذلك ظهر خيار الإسلام جلياً في تلك الجمهوريات، كما حصل في طاجيكستان وفي أوزبكستان وغيرها، وهذه أيضاً مبشرات بأن قوة الإسلام تتنامى وتتعاظم، فمن كان يظن أن ذلك المارد الذي كبس وجثم على نفوس الأمة المسلمة ليس فقط في الإتحاد السوفيتي بل في كثير من بقاع الإسلام التي حكمت بالشيوعية، وتحكمت فيها الأحزاب الشيوعية، من كان يصدق أنه سينبثق بعده قوة إسلامية حقاً؟ إنها ليست متكاملة وليست مترابطة ولكنها تبشر بخير كبير وتحتاج إلى جهد وأعمالي كثيرة.
الورقة الخامسة: أحداث البوسنة والهرسك
من أحداث العام أحداث " البوسنة والهرسك "، ونعلم من خلالها كيف تكون صورة الجرائم والإرهاب واللاإنسانية وتحطيم مبادئ العدل والسلام والحرية والتي تتم في قلب أوروبا ذات التاريخ العريق في الحرية والعدل، وبما يُضللون الناس به في حضارتهم وقيمهم ومبادئهم.
ولا نرى أيضاً في المقابل صورة التحرك مما يقال من أن النظام الدولي الجديد يزعم أنه يريد أن يحقق السلام العالمي لكل الشعوب ولكل الدول فلا نراه يتحرك بفعاليته التي يتحرك بها في القضايا التي يكون فيها غير المسلمين هم المقصودون بالضرر ؛ فإنك تجد أن هذا التحرك إنما يأتي عبر تصريحات وأقوال وعبر مدد متطاولة وعبر انتظار ومؤتمرات حتى يأتي في آخر الأمر التحرك، وهنا وقفة نختم بها في هذا الحدث وهو أن الأمة المسلمة أيضاً على مستوى دولها وعلى مستوى ثقلها في هذا العالم كان تحركها بطيئاً وضعيفاً فإنه جاء متأخراً عن وقته، وكذلك للأسف لم يكن فاعلاً ؛ فإن قضايا أو مؤتمر وزراء الخارجية للدول الإسلامية لم يكن له الصدى الذي كان لمؤتمر المجموعة الأوروبية، ولم يكن له تأثير عملي كما كان لهذا المؤتمر الذي أعقبه تصرفات عملية، وزيارة رئيس فرنسا ثم الجسر الجوي ثم هذه الأحداث كلها، وهذا يبين من وجه عجز الأمة المسلمة ممثلة في قيادات دولها، وفي مُقْدرتها وطاقاتها الرسمية.
أما في الجانب الآخر ؛ فإن الشعوب المسلمة كان تجاوبها أسرع من البرق - ولله الحمد - وكان حديثها ونداؤها عبر الخطب والمواعظ، وعبر الكتابة، وعبر التحقيق الصحفي، وعبر الدعم المالي، وعبر الزيارة الميدانية، وعبر كل صورة من الصور.. تمثل إيجابية عظمى يأتي الحديث عنها في نقطة لاحقة.
ثالثاً: مع الأوراق الأخيرة في هذا العام
أعني بذلك أن هناك أحداثاً تحتاج إلى بعض التعليق وقعت في آخر أيام هذا العام الذي مضى، ومن العجب أن يتوافق حدثان في وقت واحد هما جديران بالتعليق وهما: تسلم الأستاذ برهان الدين رباني مقاليد الحكم في أفغانستان، واغتيال بوضياف رئيس المجلس الأعلى للدولة بالجزائر وذلك في يوم واحد، وهنا وقفتان:
ورقة (1): تسلم الأستاذ برهان الدين رباني مقاليد الحكم
الفقرة الأولى: حديث ورسالة وتنبيه لهم ولنا أيضاً على بعض المهمات والواجبات؛ فإن كثيرين كانت نظراتهم متعجلة، بعض الناس كان يقول بعد خروج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان انتهت القضية، وما انتهت.. ثم بعضهم قال بعد أن سقطت كابل: انتهت القضية ولم تنتهي القضية.
واليوم أيضاً بعد تسلم المجاهدين مقاليد الحكم والسلطة، لا يقال إن القضية انتهت. نعم بفضل الله عز وجل حققت أعلى أسهم النجاح لكنها أيضاً ما تزال معارك كثيرة معركة البناء والتعمير معركة عظمى.
وهذا البناء - كما يذكر المجاهدون أنفسهم - لا يريدون به إعمار الدور والمباني، بل إعمار الإنسان بالإيمان والعلم، ولذلك من أهم الأولويات في المرحلة القادمة في أفغانستان هو إعادة البناء الإسلامي والإيماني والتعليمي في أنحاء أفغانستان ؛ لأن أفغانستان مثلها مثل أي دول إسلامية مجاورة فيها حركة علمية إسلامية أصيلة، وفيها اهتمام وعناية بالفقه - وخاصة الفقه الحنفي - والحديث النبوي وحركة علمية فيها أعلام من العلماء، ولكن الأحداث طغت وأضعفت هذا الجانب، وكانت أيضاً أحوال التعليم سواء العلم الشرعي أو النظامي أو غيره معطلة إلى حد ما، بسبب تلك الفترة من الجهاد والقتال ضد أعداء الله عز وجل، ولذلك ليس عندهم الكتب التي يحتاجون إليها ولا المناهج التي يؤسسون عليها، ولا المدارس التي يمارسون فيها التعليم، وهم معتنون بهذا الجانب، ولا بد من نصرهم وعونهم في هذا الميدان.
الفقرة الثانية: وهو أن بناء الدولة ليس قضية سهلة هينة ؛ فإنه يشمل جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكل الجوانب التي تقيم الدولة الحديثة كما يقولون، وكل هذه الجوانب يحتاج فيها المجاهدون إلى جهد جهيد وإلى معونة صادقة، فلئن بذل المسلمون الأموال لانتصار الجهاد، فهم مدعوون لكي يبذلوا أكثر وأكثر لقطف ثمرته وإشادة بنيان دولته في أرض أفغانستان، وكذلك ما تزال هناك معارك أخرى، وهي معارك توحيد الصفوف وإزالة أسباب الخلاف وتوحيد الآراء وقضية الأمن وتوحيد الجيش ؛ فإنها كلها قضايا مهمة.
ربما جاء مطلع هذا العام بإشراقة ونورانية عظيمة عندما توافقت آخر أيامه مع تسلم المجاهدين للسلطة، وكذلك مع رأب الصدع فيما بينهم وتقارب وجهات النظر وقلة شقة الخلاف، ولو لم يكن ذلك لما استطاعوا أن يتسلموا السلطة ؛ فإن الأعداء كانوا يراهنون على اختلافهم وعلى تباين وجهات نظرهم، فلما كانوا بفضل الله عز وجل مرتبطين بمنهج الله ومقاصدهم مرتبطة بمصلحة الإسلام والمسلمين ولا يريدون شيئاً لأنفسهم ولا يدورون مع حظوظهم وأهوائهم.
لما كانت هذه مبادئهم ارتقوا فوق أسباب الاختلاف وتجاوزوا كثيراً منها، ووحَّدوا صفوفهم ليكونوا أهلاً لئن يبدأوا مسيرتهم، وأذكر جزءاً من حديث جلال الدين حقاني عندما صور أعمال المجاهدين عندما دخلوا إلى كابل في أول الأمر، فإنهم سعوا إلى إضفاء الصورة الإسلامية على مظاهر الحياة كلها، فكان من أول أعمالهم إلغاء دور السينما التي كانت تنشر الأفلام التي فيها ما فيها الفجور والفساد، فكان أول عمل أن أغلقوها ثم عملوا على إضفاء الحجاب على النساء كأمر عام على جميع النساء ؛ لأن المدينة التي كانت مترسِّخة فيها الشيوعية والانحلال ونحو ذلك كان 85 ٪ إلى 90 ٪ من النساء غير محجبات، بل كانت هناك كثير من صور الفساد الذي يكون في العواصم من النوادي الليلية ومن الأماكن التي فيها الفساد كلها سعى المجاهدون أول الأمر إلى إزالتها، ثم ذكر أنه خطب في الجامع الكبير في كابل، يقول فامتلأ المسجد عن آخره وامتلأت الطرقات كلها من حوله، وجاءني خطيب أو إمام المسجد يقول: " لقد كنت أخطب فيما مضى - أي قبل دخول المجاهدين - فما يكتمل في المسجد صفان ! " وهذا يدل على أثر التغيير وأن النفوس متقبلة ومتعطشة وراغبة في الإسلام، لكن قوى البغي بجبروتها تصرف وتصد عن دين الله، وكذلك بأفكارها ومبادئها التي تخرب العقول وتثير الشبهات وتشغل الناس بالدنيا، وتثير الفساد في أوساط المجتمعات وهذا كله يصرف الناس عن دين الله عز وجل.
الفقرة الثالثة: وهو أن الحق لا بد أن تحميه القوة فإن الحق الذي لا يكون بجانبه القوة يستباح، وهكذا كان شعار المجاهدين أن الحق معه القوة، لا تفرضه ولكن تحميه، وتفرض هيبته بين الناس، ومن هنا لما دخل المجاهدون استطاعوا أن يؤدبوا كل من كان في كابل وفي غير كابل فرضخت لهم قوى الشيوعية وجنرالاتها، حتى إن المجاهدين ليعجبون من ذلة أولئك، فترى العظيم منهم الذي كان تأتمر بأمره الجيوش وعنده القوة والسلطان، تراه إذا رأى المجاهد البسيط يرتعد ويرتبك أو لا يستطيع أن يواجهه، كأنه يرى إنساناً من غير هذه الأرض أو من غير هذا الكوكب، وهذه عزة الإسلام بفضل الله عز وجل.
ورقة (2): أحداث الجزائر
والأمر فيه عدة ملاحظات:
الفقرة الأولى: أن عدم مراعاة خيار الشعوب ومتطلباتها وعدم إعطاء الحريات وإطلاقها وعدم إقامة ما يطلق عليه الديموقراطية والعدالة ولكنها في شرع الله عز وجل صورة الشورى وصورة العدل الحق الذي جاء به هذا الدين، أن الأمر عندما تغيب هذه المعالم لا يستتب بحال من الأحوال وتبقى الأمور مضطربة ويبقى الناس أيديهم على قلوبهم.
الفقرة الثانية: أن هناك قصداً دائماً لربط كل أمر بالمسلمين إذا كان هذا الأمر يراد به التشويه ؛ فإن الأحدث رغم أنها لم تسفر عن وضوح في الرؤية، إلا أن كثيراً من وكالات الأنباء والصحف، بدأت تردد النغمة المعتادة، التي من سماعنا لها وتكرارها الدائم صرنا نحفظها ونقولها قبل أن يقولوها، قالوا إن هذا القاتل تتلمذ على أيدي الأصوليين، وبعض الصحف قالت: إنه من المتأثرين بالأصوليين والإسلاميين، لماذا ؟ لأنهم لم يذكروا ولم يُثبتوا أن له انتماء أو وضوح ارتباط بالأصولية التي يصورونها، فلما عجزوا عن ذلك لا بد أن يوجدوا له نسباً من قريب أو من بعيد ؛ لأنه لا يمكن مثل هذا الحدث وذلك في نظرهم ولا يكون للأصولية يد فيه، وهذا يدلنا على العجز والقصور.
فإن الإسلاميين مغيبون في السجون وأيضاً ليس عندهم حول ولا طول في واقع التغيير، وإلا لكان لهم مواجهة أو أثر، وقد استتب الأمر بعد وقوع الحدث، مما يدل على براءتهم منه كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ؛ فإن مثل هذا الأمر يدلنا على هذه المعاني المهمة، وخاصة أن الأمة المسلمة تحتاج دائماً إلى أن تعرف وإلى أن يترسَّخ لديها أنه بغير الإسلام وتطبيق الشرع لا يكون هناك استقرار ولا أمن ولا عدالة ولا حرية ولا سائر ما تتطلبه هذه الحياة لإعمارها وإقامة أمر الله فيها.
ورقة (3): احتراف لاعبي كرة القدم
أُقر في آخر هذا العام نظام الاحتراف للاعبي كرة القدم، واستقدام اللاعب الأجنبي، وهنا كنا في الدرس الماضي قد تحدثنا عن قضية التعليم وعدم العناية بالموهوبين من الطلبة وعدم تطوير المعلم، وجوانب أخرى أيضاً في الحياة وفي مناحي المجتمع الذي نعيش فيه تحتاج إلى الرعاية والعناية أولى من هذا الجانب، وهناك ثغرات كثيرة نجدها - للأسف - ربما تتحقق من وراء مثل هذه القضية، فإن قضية الاحتراف تدل أو تؤدي إلى أن يكون اللعب مهنة ووظيفة، وممكن للطالب بدلاً أن يجتهد في دراسته ويشقى ليله ونهاره، ويذهب نور بصره وعينه ويريد أن يبلغ في آخر الأمر ويختصر الطريق في سنة أو بضع سنة، ليركل الكرة هنا وهناك، ثم تكون له من المزايا المادية والأموال الطائلة والاعتبار المعنوي ما ليس لذلك العالم بالدين، وما ليس لذلك المبَّرز في مجالات التقنية والتكنولوجيا، وما ليس لذلك الاقتصادي الذي يقيم المشاريع ويخدم كثيراً من جوانب الحياة في هذا المجتمع.
واستقدام اللاعب الأجنبي سيجعلنا ننفق كثيراً من الأموال لأناس من الشرق أو الغرب من النصارى أو من غير النصارى، بدل من أن تنفق للمدرب ستنفق لواحد أو اثنين أو ثلاثة وأربعة ولا تنتفع الأمة من هذا انتفاعاً تحتاج إليه في مثل هذه الفترات العصيبة، وكثيرة هي المشكلات التي نجمت عن مثل هذه القضايا من قبل، ويخشى أن تنجم بعد ذلك، ونرجو ونسأل الله - عز وجل - ألا تكون له آثار وعواقب وخيمة، ونسأل الله - عز وجل - أن تكون محدودة في تأثيرها ؛ فإن القضية التي شاعت وانتشرت في الأشهر الماضية عن قضية الاحتراف واختيار بعض الصغار ليتدربوا في مدارس لتعليم الكرة في الخارج، وما كان من دور بعض المشائخ من أهل العلم في السعي لإلغاء هذا الجانب، هذا ذاته ربما يكون فتحاً وبداية لمثل هذا الجانب، ونحن والأمة المسلمة في مثل هذا الوقت لا تحتاج لأن تكون مهنة ووظيفة تتعلم ويكتسب بها الرزق، وإن كان لا بد فهي عامل جانبي عارض ربما يستفاد منه في دوائر ضيقة.
رابعاً: نظرات تحليلية في العام المنصرم
النظرة الأولى: الإسلام مطلب الشعوب
العام الذي مضى تعتبر فيه عدة صور وجوانب لانتصار الإسلام، ومن أبرزها أن الشعوب المسلمة صارت تنادي بالإسلام وكفرت – حقيقة واقعية عملية – بكل الشعارات، وبكل المبادئ التي ضُلِّلت بها أعواماً وأعواماً طويلة، فبعد سنوات عجاف من الشيوعية نادى المسلمون في الجمهوريات الإسلامية نادوا بالإسلام من جديد وظهرت صورة قوية خرج فيها عشرات من الألوف من المسلمين خرجوا ينادون بالإسلام فمكثوا في أكبر ميادين العاصمة أياماً متوالية، بأبنائهم ونسائهم مقيمين في معاناة وشدة وفي مواجهة مع الرصاص، ومواجهة مع الطغيان والجبروت، ثم تحركوا ليحققوا انتصاراتهم دون قوة مادية، فتحركت هذه الجموع لتسقط معقل الرئاسة وتستولي على الإذاعة، وعلى التلفزيون، وعلى مجلس الشعب ليست قوى عسكرية منظمة، وإنما جماهير إسلامية تتحرك.
وكذلك كان هذا الزخم الشعبي حاضراً وظاهراً في الانتخابات السابقة في الجزائر، وكذلك حتى في البوسنة والهرسك لأن الذي فاز في الانتخابات هو الحزب الإسلامي، ولذلك جاءت المؤامرة بعد ذلك، ومن معالم هذا الانتصار أن الأمة ارتفعت في نفوسها حمية الاستعلاء بالإيمان والانتصار والاعتصام بالإسلام وقوة الارتباط بالجهاد ؛ فإننا نرى من أحداث أفغانستان وآثارها أنها أحيت الجهاد طريقاً للنصر، وطريقاً لكسر طوق الجبروت والطغيان على الأمة، وإذا بنا نرى أن القضايا الإسلامية التي ربما أيضاً عانت سنوات طويلة، وليست لديها إمكانات كبيرة أنها بدأت تعلن الجهاد وتخط طريقه، وتبدأ مسيرته، كما هو الحال في شأن إخواننا المسلمين في بورما، وفي إريتريا وحتى في بعض مظاهر المواجهة في البوسنة والهرسك، كانت فيها معان جهادية وكانت فيها انتصارات ليست متوقعة وهذا كله نوع من الزخم لهذا الدين، وترى أن هناك أفواجاً من المسلمين في الصين وفي جنوب السودان، يدخل الوثنيون بأعداد متكاثرة إلى الإسلام وهذا كله يجعلنا بإذن الله نثق بوعد الله، ونحن به واثقون ونقول: " إن الإسلام قادم، وإن جولته التي ترتفع رايته وتنتصر في أمته قريبة ووشيكة "، ولكن ينبغي أن لا تكون هناك عجلة.
النظرة الثانية: إلصاق تهم الإرهاب بالمطالبين بتطبيق الشريعة
إن العام الماضي أظهر قضية مهمة، وهي إلصاق تهم الإرهاب والتطرف بشكل دائم وقوي ومتطور، بالأمة المسلمة وبالدعاة والذين يطالبون بتطبيق شرع الله عز وجل، وتجد نغمة الأصولية والأصوليين والإسلاميين والمتطرفين والمتشددين، ونحو ذلك في كثير من البلاد الإسلامية وغير الإسلامية والعربية وغير العربية، وكل هذا في الحقيقة عندما يحلله الإنسان تحليلاً دقيقاً - كما يقول علماء النفس - يدل على أن في النفس بؤرة معينة تجعل هذا التهويل على أحد وجهين:
الوجه الأول: أنه تخوف حقيقي من خطر داهم، وهذا تكررت به التصريحات والمقالات.
الوجه الثاني: أنه تنبؤ وإشعار بضعف الجانب المقابل، وأن هذا الضعف يحاول أن يعظم من عدوه حتى تتكاثر الجهود رغم أن العدو ليس عنده حَول ولا طَول، إن هؤلاء المسلمين سواء من الدعاة أو من المجاهدين – بالمقاييس المادية – ليست عندهم من القوة ما يمكن أن يواجهوا به أقل ما يمكن من الصعاب والمشاق، فكيف يقال إنهم يهددون الأمن العالمي ويهددون الإمبراطورات العظمى والدول الكبرى.
هذا إما أن هناك بالفعل تخوُّفاً أن هذه القوى لها هذا الزخم، وإما أن الطرف الآخر أصبح من الضعف بمكان بحيث أنه يريد أن يضخم هذه القوى رغم علمه بضعفها، لماذا لئلا تحق فيه مقالة " أُكلت يوم أكل الثور الأبيض "، وهذا أيضاً فيه بيان أن أعداءنا يعلمون كثيراً من حقائق هذا الدين ويستقرئون التاريخ، ويعرفون أن المارد الإسلامي الذي بدأ يستيقظ سيعلن راية الحق ويرفعها وسيؤدب كل مخالف لشرع الله، وكل معتد على عباد الله، وسيقيم ميزان العدل الرباني الإسلامي إقامة صحيحة ليس فيها الإجحاف وليس فيها الكيل بمكيالين، وأن هذا كله يفوت الفرص على الأعداء الذين يتحكمون في مصائر الأمة الإسلامية اليوم، وينهبون ثرواتها ويسيطرون على مقدراتها، كل هذا سيزول عندما تقوى كلمة الإسلام وعندما ترتفع رايته، وعندما تتجاوب أصداء المنادين به في الشرق والغرب، فتتلاحم الأمواج البشرية والنداءات الإسلامية، والرايات الجهادية، كأنها فروع لأنهار تصب في بحر واحد متلاطم الأمواج، يتحرك بعد ذلك فيطهر الأرض من رجس الكفر والإلحاد، ومن فساد هذه الأنظمة الجائرة والموازين الفاسدة.
النظرة الثالثة: النظام الدولي الجديد
ظهور معلم من معالم ما يراد أن يقال النظام الدولي الجديد، وهو يد التأديب وهو أن من لا يستجيب للنظام الدولي الجديد، والقوى التي تدعمه، مهما كانت توجهاتها، فإن هناك يداً أو عصى ستضرب على رأسه حتى ينتبه، أنه لا بد أن ينصاع لهذه الشرعية الدولية، وأحداث كثيرة تدل على ذلك سواء في أحداث طائرة لوكربي أو غيرها من الأحداث الأخرى، وتجد أن هذا يكرس في صورة إعلامية أحياناً تكون عجيبة وفريدة، فإن قانونا جديداً صوّت عليه في أمريكا ينص على أن أي شخص يطلبه القضاء الأمريكي لا بد أن يمثل أمام القضاء في أمريكا، وأنه إذا لم يمتثل لذلك فإن السلطات الأمريكية لها الحق أن تختطفه وأن تحضره بأي طريقة وبأية وسيلة، وهذا في المقابل بريطانيا طلب اثنان من العسكريين الأمريكان للاستماع إلى أقوالهم في أحداث حدثت بشكل خاطئ هنا في حرب الخليج، ولكن السلطات الأمريكية رفضت أن تستجيب لهذا النداء، هناك إشعار بأن من لا يستجيب من الدول لميول وأهواء الدول الغربية وأمريكا على وجه الخصوص، أنه لا بد له أن ينتبه وأن يُلفت نظره أن لا يعود مرة أخرى إلى مثل هذا، وهذا كله في المقابل يدفع المسلمين إلى أن يعرفوا حقيقة العداء، وأن يكرسوا أنفسهم باستعلاء الإيمان.
ومن هذه الأمور وهو آخرها.
النظرة الرابعة: قدرة الأمة على اكتشاف الأخطاء
إن الأمة أصبحت اليوم أكثر قدرة على اكتشاف أخطائها ومناقشتها من ذي قبل ؛ فإن أحداثاً كثيرة مرت دلت على مثل هذا، وأذكر لذلك أحداث كونر في أفغانستان ظهرت فيها الكثير من المشكلات، ثم جاء قول العلماء بأنه لا بد من معرفة أخطار الخلاف والشقاق والنزاع وأن الأمة لا بد أن تكرس طاقاتها ضد أعدائها، وأنه لا مكان للتفرق والتشرذم في صفوف الأمة وهي تواجه أعداءها، وكذلك جاءت أحداث أخرى تدل على أن الأمة أصبحت تنتبه لمثل هذا الأمر.
وكما أشار الأستاذ محمد قطب أيضاً في بعض كتاباته عن الصحوة الإسلامية ومناسبة جيدة في هذا المقام - ونحن نستقبل عاماً جديداً - وهو أن كثيراً من أبناء الصحوة ومن أبناء الأمة ليس عندهم طول النفس، فهم يريدون أن تنتهي الجولة والمواجهة، وأن تتحقق الثمار وأن يحصل الانتصار في مدة قصيرة، أما بعد النظر وطول النفس هو أحد معالم الصراع مع العدو، وأحد معالم الصراع بين الحق والباطل ؛ فإن الإنسان المسلم يعلم أن الجولة والكرة قد تطول ولكن يقينه لا ينفصم... في أنها آتية ولا شك.
فعندما نستقبل عاماً جديداً نرى هذه المكتسبات ونرى الآمال ونعلم أن هناك مصاعب جديدة، وكذلك كما أشرت أصبح الناس يتحدثون عن أثر الفرقة وأثر النزاع وعن وجوب الوحدة، ويتحدثون عن ضعف اتصال الأمة بالعلوم الشرعية، ويتحدثون عن كثير من الأدواء أصبحت متجسدة، وعن تبادل التهم والنبز بالألقاب ونحو ذلك مما قد يقع، فأصبح النداء والتذكير بهذا واضحاً وجلياً.
ومن أهم الأمور التي تقال، إن أول خطوة في تصحيح المسار هي أن ندرك نُعرف الخطأ وأن نذكره ؛ فإن الإنسان المسلم ينبغي أن يكون صريحاً مع نفسه، وفي هذا جاء بيان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في مسألةالتعامل بين الدعاة، ونبذ الفرقة والشقاق، وأن مثل هذه الأمور تعين أعداء الله على المسلمين وعلى الإسلام، وهذا يدل على أن الأمة أكثر اكتشافاً للأخطاء وأكثر جرأة في طرحها ونشرها وأكثر تقبلاً للتفاعل معها وتلافي أخطائها وأخطارها.
خامساً: مع الهجرة والتغيير
فإن هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي جعل التاريخ الهجري مستنداً إليها، فيها ملامح كثيرة فهي ليست جبناً ولا خوفاً ولا انهزامية ولا انسحاباً بل هي منهج تغييري في واقع الحياة ليعلي راية الإسلام:
معالم التغيير في درس الهجرة
المعلم الأول: المواصلة والاستئناف
أن المسلم ليس عنده توقف عن الدعوة لله عز وجل، وعن السعي لنشر دين الله جل وعلا، فأول معالم هذا التغيير المواصلة والاستئناف وهذا كان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وجد الصد في مكة، ذهب إلى الطائف عليه الصلاة والسلام، وبعد أن وجد الصد هناك فتح لأصحابه باب الهجرة إلى الحبشة أولاً ثم ثانياً ثم جاءت بيعة العقبة ثم بدأت بدايات الهجرة، كل هذا طرق لكل الأبواب والأسباب ومواصلة للدعوة هنا وهناك، وبعض الناس قد يطرق باباً أو بابين أو يلتقي بفرد أو فردين ثم يقول سدت الأبواب وانقطعت السبل ويرجع ويقعد في بيته.
المعلم الثاني: التخطيط والإعداد
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار عليهم بالحبشة ما كان اختياراً عشوائياً ! بل قال لهم: ( إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد )، وكان اختياراً موفقاً وكان معرفة دقيقة بالأحوال والوقائع، حتى إن النجاشي أسلم وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كما هو ثابت في الصحيح، ثم لما جاءت الهجرة كان تخطيطاً بذر النبي صلى الله عليه وسلم بذرة أولى في بيعة العقبة الأولى، ثم توسعت في بيعة العقبة الثانية، ثم أرسل فيما بينهما مصعباً يهيئ ويعد، ثم أرسل أصحابه شيئاً فشيئاً ثم دبر لهجرته تدبيراً عجيباً فريداً معلومة تفاصيله.
وكثير من أبناء الأمة اليوم يسير في أمر الدعوة ويريد نصرة الإسلام هكذا بالعشوائية وبما يتفق من قول في آنه،وبما يتفق له من عمل في وقته، من غير ما تخطيط ولا إعداد، وهذا لا يوافق منهج الله، ولا يطابق ما ينبغي أن يكون في منهجية التغيير من هذا الأمر.
المعلم الثالث: التأسيس والتوطين
وهي قضية مهمة، وهي أنه لا بد أن يكون للفئة المسلمة موطن أو موضع تتأسس فيه وتتربى فيه، وتستطيع أن تمارس من خلاله عملية التغيير، كان هذا في دار الأرقم بن أبي الأرقم قبل الهجرة، فقد كان موطن بناء وتعليم وإرشاد وغرس للعقيدة وبناء للإسلام في النفوس، وتجميع للصفوف ومعرفة لواقع الباطل والجاهلية وهذا التجمع هو الذي كان يحرك دعوة الإسلام حتى أذن الله بالهجرة فكانت التأسيس والتوطين في صورة دولة وفي صورة مجتمع متكامل.
المعلم الرابع: المواجهة والتأديب
أي مواجهة الكفر وتأديبه وإزاحة الحواجز من طريق الدعوة.
المعلم الخامس: الفتح والانتصار
ليس الفتح بقوة السيف، وإنما الانتصار بالمبدأ والعقيدة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة فاتحاً قد سبق ذلك كما سماه المسلمون وكما سماه القرآن فتحاً { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } [الفتح: 1]
كان ذلك في صلح الحديبية رغم ما كان فيه من شروط رآها بعض المسلمين مجحفة لهم، لكن كان هذا إنتصاراً في المبادئ وأزال الحواجز وكان النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الحديبية معه أربعمائة وألف، فجاء يوم الفتح - وما بينهما إلا عامين، هذا في العام السادس والفتح في العام الثامن - معه في فتح مكة أكثر من عشرة آلاف، ودخل في الإسلام ما بين صلح الحديبية وما بين الفتح أكثر مما دخل مما قبله، لأنه زالت الحواجز وأصبح الناس يفكرون بعقولهم، وجاءت فطرة الإسلام وجاء نقاء مبادئه، وأصالة وعدالة ما فيه من الأحكام، فإذا بكبار الكفار، يدخلون في دين الله أفواجاً في تلك الفترة جاء عمرو بن العاص وفيها جاء كثير من الصحابة، ولحق بهم بعد زوال الحواجز بعد فتح مكة سهيل بن عمرو وخالد بن الوليد وأبو سفيان، ما دخل هؤلاء بقوة السيف، وإنما رأوا أبهة الإسلام في مناهجه، وأبهته في إقامة دولته وفي انتشار مبادئه فأذعنت الرؤوس والعقول. والأمة اليوم تحتاج إلى هذه المعالم كلها:
- إصرار ومواصلة واستئناف.
- تخطيط وإعداد وعمل.
- تأسيس وتوطين.
- ومواجهة وتأديب.
- وأخيراً يؤذن بإذن الله أن يكون فتح وانتصار.
سادساً: الرمق الأخير
أي اللحظات الأخيرة في حياة كثير ممن يقتدى بهم؛ فإن كل إنسان له في آخر الأمر لحظة أخيرة ويوم أخير وليلة أخيرة، فما عسى الإنسان أن يكون في هذه الأوقات، إنه يتعلق بأهم ما عنده ولا يتحدث إلا بأولى وأكثر شيء يشغل فكره وقلبه ولبه.
ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، وقد قالت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته فقالت: " توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي وفي ليلتي وبين سحري ونحري، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك رطب، فنظر إليه حتى ظننت أنه يريده، فأخذته فمضغته ونفضته وطيبته، ثم دفعته إليه، فاستن به كأحسن ما رأيته مستناً قط، ثم ذهب يرفعه إليَّ، فسقطت يده، فأخذت أدعو الله له بدعاء كان يدعو به له جبريل، وكان هو يدعو به إذا مرض. فلم يدع به في مرضه ذاك، فرجع بصره إلى السماء وقال: (الرفيق الأعلى) وفاضت نفسه، فالحمد لله الذي جمع بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا.. "
وكان عليه الصلاة والسلام في اللحظات الأخيرة يقول:( الصلاة وما ملكت أيمانكم.. لا تجعلوا قبري عيداً ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدلنا الى تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم في حاله لقول الله عز وجل: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر: 99]
وكذلك مواقف أخرى لأخيار من سلف الأمة - رضوان الله عليهم - من ذلك موقف موت عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عندما كانت زوجته تقول: كنت أسمعه يقول: " اللهم أخف عليهم أمري ولو ساعة "، قالت: فقلت له ألا أخرج عنك فإنك لم تنم ! فخرجت فسمعته يقول: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص: 83] مراراً، أي يكرر الآية، ثم أطرق فلبثت طويلاً لا أسمع له حساً، فقلت لوصيف: ويحك انظر، فلما دخل صاح، فوجدته ميِّتاً وقد أقبل بوجهه على القبلة، فهذا أيضاً تحديث لنفسه بما يقبل عليه.
ومن جميل ما ذكر في ختام الحياة والتذكير بها، ما كان من شأن الإمام الشافعي - رحمة الله عليه - يقول المزني - وهو من أخص تلاميذه ونقلة علمه -: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت: يا أبا عبد الله كيف أصبحت ؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، ما أدري روحي تصير إلى جنة فأهنَّيها، أو إلى نار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي **** جعلت رجائي دون عفوك سلَّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته **** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل **** تجود وتعفو مِنة وتكرماً
ولولاك لم يغوى بإبليس عابد **** فكيف وقد أغوى صفيك آدما
وإني لآتي الذنب أعرف قدره **** وأعلم أن الله يـعفو ترحُّما
وكان هذا من آخر قوله رضي الله عنه وأرضاه.
ومن مواطن العظة والعبرة وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فإنه ورد أنه رضي الله عنه لما طعن جاء ابن عباس إليه وكان يقول: " يا أمير المؤمنين أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وقتلت شهيداً ولم يختلف فيك اثنان، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، وهذه كلها مآثر عظيمة وحقيقية وصحيحة"، فقال عمر: أعد عليّ مقالتك، فأعاد عليه، فقال عمر: " المغرور من غررتموه والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت لافتديت به من هول المطلع ".
والقلب الحي الذي يخشى ويخاف الله عز وجل، مع هذه المآثر والأعمال الجليلة التي ترجى كثيراً في منهج الله كان عمر رضي الله عنه يقول هذه المقالة، وقد طلب من ابنه أن يضع خده على التراب، قال فخذي ألين لك، قال: ضع خدي على التراب لا أم لك، فإني أرجو لو نجوت منها كفافاً لا لي ولا علي.
يذكِّرونا هؤلاء الفضلاء من الصحابة والأئمة بحالهم التي كثيراً ما تغيب عنا ولا نرى صورتها، فهذا أبو الدرداء يقول في حال وفاته، من يعمل لمثل مضجعي؟ من يعمل لمثل ساعتي هذه؟ يذكّر من حوله في آخر لحظات حياته، ثم جاء ابنه بلال ثم قال له: قم عني ثم تلا قول الله جل وعلا: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام: 110].
ثم جعل يردد من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ من يعمل لمثل ساعتي هذه؟ حتى قضى.
وقال الحسن البصري - رحمة الله عليه - أن رجلاً من الصدر الأول حضره الموت، فجعل يبكي، فقيل له ما يبكيك ـ والإنسان في آخر لحظات حياته يتمنى ويتذكر ويتندم على أشياء تمنى لو أنها وقعت له، ولو أنه استطاع أن يحصل عليها، فماذا كانت الأمنيات في تلك اللحظات وعند معاينة السكرات ؟ فقال هذا الصالح:" أما والله لا أبكي على شيء تركته بعدي إلا ثلاث خصال: ظمأ الهاجرة في يوم بعيد ما بين الطرفين ـ يعني صوم في يوم طويل نهاره - أو ليلة أبيت فيها أراوح بين جبهتي وقدمي ـ أي في قيام الليل - أو غدوة وروحة في سبيل الله عز وجل ".
هذا الذي يبكي على فراقه في هذه الحياة، هذا كان يجعل راحته ويمارس حياته في الصوم والقيام والجهاد.
وعمرو بن العاص - رضي الله عنه - حين حضرته الوفاة ذرفت عيناه فبكى، فقال له ابنه عبد الله: يا أبت ما كنت أخشى أن ينزل بك أمر من أمر الله عز وجل إلا صبرت عليه ! فقال: يا بني إنه نزل بأبيك خصال ثلاث: أما أولاهن فانقطاع عمله، وأما الثانية فهول المطلع، وأما الثالثة ففراق الأحبة - وهي أيسرهن - ثم قال: اللهم إنك أمرتَ فتوانيتُ، ونهيتَ فتجاوزتُ، اللهم ومن شيمتك العفو والتجاوز "
الورقة الأخيرة
كل منا له ورقة أخيرة في هذه الحياة تنتهي فيها حياته ويقال في مثل هذا اليوم انتقل فلان إلى رحمة الله، كما تنزع الورقة الأخيرة من هذا العام، فستنزع يوماً ما ورقة ستكون هي الأخيرة في حياتك، وجدير بالإنسان أن يستشعر دائماً وأبداً ذلك الموقف وذلك اليوم ؛ لأن الله عز وجل قال مذكراً ومنبهاً رغم المعرفة الحقيقية بهذا المعنى، قال الله جل وعلا: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }[آل عمران: 185]
وقال جل وعلا: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } [الجمعة: 8]
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يهيج النفوس على استحضار هذا المعنى فيقول: ( أكثروا من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات).
وفي بعض الروايات: ( أكيس الناس أكثرهم للموت ذكراً، وأشدهم له استعداداً أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما صح في الحديث عنه من حديث أبي هريرة: (أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلغ الستين ) ؛ فإنه قد استوفى الأجل والأمل، وأعطاه الله فسحة في العمر، وأقام عليه الحجة، فكيف يفرِّط في هذه الحياة وفي أمر الله عز وجل، ولا بد للمسلم أن يستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم ويطبقه عملياً: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).
والله عز وجل ذكَّرنا بسكرات الموت فقال: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ق: 19]والنبي - صلى الله عليه وسلم - مثَّل لنا ما يتعلق به القلب، ومثَّل لنا ما يكون من شأن الموت ومفاجأته، فقد ورد في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خطَّ خطَّاً مربعاً، وخط في وسطه خطاً خارجاً منه، وخط على جنبتيه خطوطاً صغاراً، ثم قال: هذا الإنسان وهذا أجله محيطٌ به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا).
إن نجا من سبب فإنه قد يقع في سبب، والموت حق، والأسباب ظواهر تجري بها مقادير الله عز وجل، والأمل لا ينتهي، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أيضاً في شأن الأمل: ( إن كان لابن آدم وادياً من ذهب لتمنى أن يكون له واديان، ولو كان له واديان لتمنى له ثالثاً ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب).
ولذلك غفلتنا عن نهايتنا وعن ورقتنا الأخيرة، وعن أنفاسنا التي سنلفظها عاجلاً أو آجلاً، وعن استحضارنا أن الموت هو انتقال إلى حياة البرزخ، وأول مشهد وأول يوم وأول معاينة لأمور الغيب ومشاهداتها، وما أخبر الله عز وجل به، كما ذكر العلماء في تفسير قول الله عز وجل: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر: 46].
قال أهل التفسير: المراد به عذاب القبر ونعلم جميعاً حديث البراء بن عازب الطويل الذي فيه وصف خروج الروح وعذابها إن كانت كافرة ونعيمها إن كانت مؤمنة، ويعلم كل مسلم ما احتشدت به آيات القرآن من هول النار وعذابها ومن نعيم الجنة ورخائها، وكم تتأمل القلوب والنفوس إلى ذلك النعيم، وتحذر من ذلك الجحيم، ولكن ليس لها من واقع العمل ما يُنبأ عن صدق هذا التأثر، وعن عظيم وجوده وقوته وتأثيره في قلب الإنسان، فإن أهل الإيمان فيما مضى كانوا يستحضرون التعليم الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم واستنبط منه ابن عمر رضي الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
وكان ابن عمر يقول: " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ".
فكانوا كلهم لا يؤمل في غده أنه يبقى إليه فلذلك يكرس ويعمل، فإذا علم الإنسان متى يأتي أجله لا شك أنه يجتهد في الطاعات، فليجعل أجله في كل يوم وفي كل ليلة، وليجعل لحظته الأخيرة في كل لحظة وثانية، وحتى يقبل على العمل وحتى يستفرغ الجهد والطاقة، وحتى تأتيه منيته وهو مقيم على رضوان الله سبحانه وتعالى، والموت قضاء وقدر، وهو خير وفيه راحة للمسيء والمحسن ؛ فأما المحسن فإنه ينتقل من خير إلى خير أعظم منه، وأما المسيئ فإنه ينقطع أجله فلا تعظم إساءته فلا يكثر حينئذ عذابه بين يدي ربه، ولذا قال القائل في شأن الموت:
يشتاقه البر المطيع لأنه **** يُفضي إلى زلفى وحسن مآب
يحلو الممات لمن رجى بمماته **** لقيا الكريم الخالق الوهاب
ويحيد منه كافر أو فاجر **** قد يشرِّده سخطه وعقابه
فامهد لنفسك قبل موتك موقناً **** أن الممات مقطِّع الأسباب
واعلم بأنك عن قريب خالد **** في دار خلد أو أليم عقاب
فالإنسان المسلم لا بد أن يفكر، ونادى ابن الجوزي وهو يخاطب الإنسان الغافل، وكأنه يخاطبنا وقد رانت وضربت علينا الغفلة، وسهت قلوبنا ولهت في الدنيا، وانصرفت أبصارنا إلى متاعها وبهرجها، فها هو يصيح ويقول: " أين الآذان الواعية ؟ أين الأعين الباكية ؟ قول بلا فعل، وأمر بلا امتثال، ورسل ملك الموت على أنفسنا في كل نفس واردة، وأجساد أحبتنا تحت أطباق الثرى هامدة، قد أوحشت منهم ديارهم، ودرست رسومهم وآثارهم، وحالت في اللحود أحوالهم، وتقطعت بالبلاء أوصالهم، ومحت أيدي الحوادث والغير محاسن تلك الصور، وأطبقت عليهم ظلمات تلك الحفر، فلا شمس فيها ولا قمر، وإننا إلى ما صاروا إليه صائرون، وبالكأس الذي شربوا بها شاربون، ثم مع هذا اليقين نحن إلى دار الغرور راكنون، فإذا الذنوب قد رانت على القلوب، وقلة الحياء من مراقبة علام الغيوب، ونحن في غفلة عما يراد بنا، وأنفسنا لا تستعد لما هي صائرة وعما يراد بها غافلة، وعما هي مقصودة به لاهية، وهي متعقلة بما ينبغي لها أن تفارقه وهي عنه زائلة ".
فينبغي للإنسان أن يعلم أنه مقبل عاجلاً أو آجلاً، وإن هذه الوقفة الأخيرة يحتاج دائماً إلى تذكرها، واستحضار معانيها وهي جديرة بأن تشغل كل إنسان مسلم، وأن يعلم أن الأعمال بخواتيمها، وأن يسأل الله دائماً حسن الخاتمة،والوفاة على شهادة الحق، ولا يكون ذلك إلا ببذل جهد وإقامة على طاعة، وإخلاص نية وإقبال على رضوان الله عز وجل، وكلما استفرغ الإنسان جهده وعمله، ثم تعلق بالله استعانة ودعاء ورجاءًَ، فإن الله عز وجل يحقق له موعوده..
إذا لم يكن من الله عون للفتى **** فأول ما يقضي عليه اجتهاده
والإنسان يحرص دائماً على آخر أمر وآخر نفس ؛ لأن الأعمال بخواتيمها فلذلك لا بد أن يكون في ذهن كل أحد الورقة الأخيرة من أوراق عمره ومن أيام حياته نسأل الله عز وجل أن يحسن ختامنا وأن يختم بالصالحات أعمالنا، وأن يختم بالسعادة أعمارنا.
المراجع
موسوعة اسلاميات
التصانيف
عقيدة