موضوع حلقتنا عن الرضا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أول ما ابتدأنا به من شمائله في الأخلاق الاعتقادية التي تتعلق بالقلب والنفس والاعتقاد الباطن.
والرضا في مقدمتها وأولها، وقد كان لنا في الحلقة الماضية بيان لمعاني الرضا فيما ذكره العلماء، ومن ذلك:
أن الرضا: سكون القلب تحت مجاري الأحكام والأقدار.
وقيل: هو ارتفاع الجزع في أي حكم كان.
وقيل: هو طيب النفس بما يصيبها من الضراء وما يفوتها من السراء مع عدم التغير والجزع.
ومرت بنا مسائل عديدة في الرضا ومفهومه ودلالته، ورأينا أن الرضا بالله -عز وجل- والرضا عن الله -سبحانه وتعالى- والرضا لله -سبحانه وتعالى -كلها معان مطلوبة.
وبينا أن الرضا -كما قال أهل العلم- مستحب وليس بواجب، إذ وجوبه يشق على كثير من النفوس التي لا تستطيع أن تبلغ هذه المرتبة العالية والذروة السامقة.
ويروى عن عمر بن عبدالعزيز قوله : أن النفس لا تستطيع الرضا، ولكن في الصبر خير كبير.
وحديثنا كما بينا في الحلقة الماضية هو بيان مواقف الرضا في حياة وشمائل الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم-.
وما نذكره إنما هو أمثلة وغيرها في سيرته وحياته كثير، ونذكر أمثلة متنوعة في الأفعال والأحوال والأقوال.
المثال الأول:
يتعلق بحادثة مشهورة تبرز كنموذج أظهر ومثال أشهر في رضا النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك فيما ورد من سيرته -عليه الصلاة والسلام- لما قادته همته العالية ورغبته العارمة في تبليغ دين الله -عز وجل- أن يخرج من مكة إلى الطائف لعله يجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، ونفوساً قابلة لتقبل هذا الدين وتنصر رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ونعلم ما الذي لقيه من صد أولئك وإعراضهم وسفاهتهم وإيذائهم، وإغرائهم صبيانهم وعبيدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعونه ويقذفونه بالحصى حتى دميت أقدامه -عليه الصلاة والسلام-.
وقد خرج من مكة بعد أن اشتد الأذى وعظم الكيد، وكمل الإعراض وتفنن المشركون في الصد عن دعوة الله عز وجل والمنع للناس أن يقبلوا على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فخرج على أمل، فإذا بذلك الأمل يذوي، وإذا بأهل الطائف موقفهم شر من أهل مكة، وهذا لا شك أنه كان له أعظم وقع على نفسه وأشده، حتى عبر هو -عليه الصلاة والسلام- عن ذلك كما في الصحيح عند البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها- قال: (وكان أشد ما لقيت من قومك ...) وذكر هذه الحادثة.
وبينت بعض آيات القرآن الكريم حاله عليه الصلاة والسلام عندما تعاظم همه وكثر غمه مما وجد من الإعراض والصد وعدم القبول لدين الله سبحانه وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6).
وكما جاء في آيات أخرى من حزنه -عليه الصلاة والسلام- عندما خرج من الطائف وكان يعلم أن رجوعه إلى مكة سيكون شديداً وقاسياً، وسيجد أهل مكة فرصة لمزيد من الشماتة والنكاية والإيذاء له -عليه الصلاة والسلام- خصوصا بعد وفاة عمه الذي كان يدافع عنه، وبعد وفاة زوجته الحبيبة الصابرة أم المؤمنين خديجة المعينة له، فكانت كل هذه الظروف قد أحاطت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ الأمر عليه أشده وأعظمه وأكبره وأقساه على نفسه فما الذي حصل منه؟ وما الذي وقع من تصرفه؟
ونحن نعرف أنه قد يمر بنا الأمر الواحد تضيق به صدورنا، أو يعظم به همنا، فنخرج عن طورنا غضباً، أو خطأً في ألفاظنا، أو رعونة في تصرفاتنا.
لكن سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله فيه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) كان له موقف آخر، فبعد خروجه من الطائف، وانقطاع أولئك السفهاء عنه لجأ إلى حائط أي: بستان، واستظل بظل شجرة يرتاح ويلتقط أنفاسه، ويخرج مكنونات نفسه وقلبه مع ما في نفسه من الأسى والحزن والألم، فإذا به -عليه الصلاة والسلام- يعلن رضاه عما يجري به قضاء الله وقدره، ويثبت أن له نفساً عظيمة وصدراً رحباً وقلباً يتقبل ويرضى ويسكن لما يجري به أمر الله سبحانه وتعالى إن كان ذلك في مرضاته وسبيله وفي تبليغ دينه، فإنه عليه -الصلاة والسلام- التجأ إلى الله -عز وجل- وأعلن كامل رضاه وتسليمه التام لله في دعائه المأثور العظيم الذي قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: (اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلُني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى قريب وكلته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو أن يحل عليّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى) رواه ابن جرير والطبراني في الدعاء كلهم من طريق ابن إسحاق مرسلاً، ولا علة له إلا الإرسال.
وقد رُويت الحادثة وما كان فيها من شدة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند البخاري في الصحيح من غير الدعاء.
وهنا يتجلى لنا رضا النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لم يجزع من ذلك، ولم يسخط ولم يتبرم، ولم يقل لن أصنع شيئاً بعد الآن، ولن أدعو الناس، ولم يدع على الناس ولم يدع على نفسه كما يحصل من الناس أحياناً عندما تلم بهم هذه المشكلات، فيدعون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور بل كان التجاؤه إلى الله -عز وجل- وتبتله إليه وإعلانه برضاه عما يجري به قضاء الله وقدره، وإعلانه أن أهم شيء وأوكد أمر وأعظم عناية عنده إنما هي برضا الله -عز وجل- فإن كان الله راضيا عنه فلا يبالي ما يلقى في الدنيا من أذى وعناء ومشقة وبلاء مهما كان عظيما.
لذلك هذا الموقف من أجل المواقف وأعظمها في شمائل النبي -عليه الصلاة والسلام- في خصلة الرضا، وإن المتأمل يجد أن أقل القليل من هذا لا تتحمله النفوس المؤمنة ولا القلوب المسلمة إلا أن يثبتها الله -عز وجل- بتثبيت من عنده، لقد مسح بعد هذا الدعاء الضارع عن نفسه وعن قلبه كل هم وكرب؛ لأن الإنسان إذا واجهته الصعاب فألقى بها بين يدي الله عز وجل أفضى بما في نفسه من هم وما في قلبه من غم بين يدي مولاه سبحانه وتعالى فإنه يشعر بسكينة النفس وطمأنينة القلب، ويزول عنه كل حزن، ويفرج عنه كل كرب، وييسر له كل صعب بإذن الله؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن التجأ إلى الله من كل ما في هذه الدنيا من أسباب الالتجاء، أفاض الله عليه تثبيتا عظيما وصبرا وافرا وحلما لا منتهى له.
وعندما اقترب من مكة، وهو يعلم ما ينتظره هناك نزل إليه جبريل -عليه السلام- وقال له: إن معي ملك الجبال أرسله الله -سبحانه وتعالى- لتأمره بما تشاء، فسلم عليه ملك الجبال، وقال مخاطبا سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-: لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (والأخشبان جبلان في مكة) لفعلت، يعني أن يدمر على أهل مكة الجبال فيكون بلاء عام وشر مستطير، وهؤلاء هم أهل الأذى الذين استمر إيذاؤهم وإعراضهم وصدهم أكثر من عشر سنوات، وهو عائد إليهم ويعلم أنهم سيلقونه بمثل ذاك وأكثر، ثم يفيض قلبه الرحيم ونفسه الراضية، وأمله الذي لا يخبو ولا ينقطع في الله -عز وجل-، ورغبته العظيمة في خير الناس وهداهم، فيقول: لا، ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يؤمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ونحن ربما يعارضنا بعض الناس، ولا ننتظر لا ملكا من السماء ولا غيره، نحن نتطوع بأن ندعو عليهم بالهلاك وبالبلاء وبالعذاب، وربما نتهمهم بأنهم لا يقبلون دين الله ولا يستمعون لكتاب الله، ولا يلتزمون سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسيد الخلق الذي هو أبلغ من دعا وأعظم من نشر الدين، وأصدق من تكلم بالحق ومع ذلك يلقى كل ما لقي منهم، ثم لا يقول: هلك الناس، ولا يدعو عليهم من هذه الدعوات، وحين خُيِّر وحكم فيهم يرجو لهم الخير، ويفسح لهم المدى، وذلك لا يكون إلا عن كمال الرضا، بما يجري به القضاء، ولذلك كان هذا مثلا عظيما من الأمثلة في شمائله، وفي خلق الرضا على وجه الخصوص.
المثال الثاني:
الذي يبين لنا كيف كان انعكاس أثر رضا النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس في تثبيته، بل في تثبيت أصحابه -رضوان الله عليهم- لأن القائد المقدم، والرائد السابق لإخوانه ولتلاميذه إذا أصابهم الهم والغم يفضون إليه بمشكلاتهم، فماذا يجدون عنده؟ يجدونه متبرما أكثر من تبرمهم، وجزعا أكثر من جزعهم، وملتمسا خلاصا أو يأسا أكثر منهم؟ كلا، ففي الحديث الصحيح عند البخاري، من رواية خباب بن الأرت -رضي الله عنه-، وكان من ضعفاء الصحابة، وكان أذى قريش قد اشتد وبلغ مبلغا عظيما، فكانوا يجلدون من يجلدون، ويمنعون الطعام والشراب عن من يريدون، ويربطون ويحبسون من يحبسون، إلى غير ذلك، فجاء خباب بن الأرت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردا له في ظل الكعبة، فقال له خباب: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ وكان خباب قد بلغ به الأذى مبلغا، وخباب ممن اشتد الأذى عليه وبقي أثر الأسواط في ظهره إلى يوم وفاته، بعد نحو عقود من الزمان من تلك الأحداث، فقول: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ أنت الرسول ادع الله أن يفرج عنا وأن يزيل ذلك، كأن بعض النفوس قد بلغ بها الأمر مبلغا تريد فرجا وخلاصا، وتريد ألا تستمر هذه الأحوال التي جرى بها قضاء الله وقدره، فماذا قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ وهو يعلم الحال، وهو صاحب أعظم قلب يرحم ويشفق، وأعظم قلب يتألم لألم أصحابه ويعيش معاناتهم، ومع ذلك ماذا قال-عليه الصلاة والسلام-؟ (كان الرجل فيمن كان قبلكم، يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق اثنتين، لا يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط من حديد ما دون لحمه وعظمه أو عصبه، ما يصده ذلك عن دينه) ثم قال: (والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).
وهنا نرى النبي -عليه الصلاة والسلام- يمثل درسا عمليا للصحابة في الرضا بما يجري به القضاء، وأن يصبروا ويحتسبوا، وأن يوطنوا النفوس، ويسكنوا القلوب لما قد مضى به قضاء الله، وأن يعتقدوا فيه الخير، ثم يذكرهم- ليثبتهم ويطمئنهم ويسكب في نفوسهم معاني الرضا- بمن كان قبلهم، بمن كان أشد في الأذى، حتى يُنشر الإنسان و يمشط بأمشاط الحديد وهو ثابت، ثم يبين لهم أن الرضا بذلك من ورائه خير كثير، وعاقبته فرح عظيم، وفتح كبير، وانفراج تثبته آيات القرآن: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح:5، 6).
فبشرهم بما يكون في مآل الأمر، ولكنكم قوم تستعجلون، كما قال -جل وعلا-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214).
المثال الثالث:
ومن مواقف الرضا مواقف في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- تلامس حياتنا اليومية، وتلامس كثيرا من أحوال الناس: ضيق ذات اليد، وقلة الرزق، وشظف العيش، مع ما نحن فيه من نعم، لكن كثيرا ما نرى سخطا وتبرما والتماسا لفك هذه الكربات بارتكاب المحرمات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمر ببيته الهلال والهلالان والثلاثة ما يوقد في بيته نار: يعني ليس هناك طبخ، قيل لعائشة: فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- كما ورد في سنن الترمذي ما أكل من نخالة الدقيق، يعني خبزا قط، يعني الدقيق المنقى، وكانت حاله -عليه الصلاة والسلام- على هذا النحو، وكان بإمكانه أن يحوز ثروة الدنيا كلها، ولكنه كان يرضى بقسم الله -عز وجل-، وبما قُدِّر له من ذلك، كما في يوم الخندق حين ربطوا الأحجار على بطونهم، قال جابر: فبدا بطن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو رابط حجرين -عليه الصلاة والسلام-.
ثم ماذا يقول -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك كله، (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) قوتا يعني كفافا الذي يتقوت به ويطعم نفسه، لا يطلب أكثر من ذلك، لم يكن يرى فيما قدَّره الله من هذا الرزق شيئا يتبرم به، أو يضيق به -عليه الصلاة والسلام- .
ولما دخل عمر بن الخطاب مرة على النبي -عليه الصلاة والسلام- وكان مضطجعا على حصير جاف فلما استيقظ إذا بأثر الحصير على رقبته -عليه الصلاة والسلام- فبكى عمر، ثم قال: ملوك فارس والروم في النعيم المقيم، ومحمد صلى الله عليه وسلم ينام على حصير لا يجد له غطاء يقيه منه؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم).
كان يسكب في نفوس أصحابه الرضا، ويعلقهم بالأعظم والأكمل والأتم من نعيم الله وفرجه، وحُسن ما يقدمه لعباده المؤمنين، وهذه كلها مواقف رضا ويقين بما يقسم الله -سبحانه وتعالى- من الرزق، وكم نرى أثر ذلك في الإنسان عندما يقنع بما قسم الله له، لا يتعب ولا يعظم همه ولا ينشغل باله، وتجد من سكب الله في قلبه الرضا والقناعة وليس عنده إلا القليل دائم الابتسامة، بادي السرور، وتجد بعض الذين عندهم الكثير ومع ذلك يضيقون وينظرون إلى غيرهم، ويقولون فلان عنده كذا وهو ليس بصاحب خبرة، وفلان عنده كذا وهو ليس بصاحب كذا، وسبحان الله من قسم الأرزاق ووهب المواهب، فمن رضي بما قسم الله جعل الله -عز وجل- له بذلك طمأنينة وسكينة، وجعل له خيرا في دنياه، وعوَّضه عما نقصه مما يتعلق به الناس ثوابا وأجرا يجده يوم القيامة.
المثال الرابع:
ومن المواقف العظيمة ذلك الموقف الذي مر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما مات ابنه إبراهيم، فكلنا نعلم كم يتعلق المرء بالأبناء سيما إن كانوا صغارا وفي سن الرضاع، وكان -عليه الصلاة والسلام- لم يرزق من الأبناء الذكور إلا القاسم وقد مات، وجاء إبراهيم من بعد وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ من السن مبلغا كبيرا، والتعلق حينئذ يكون أعظم وأكبر، وقدَّر الله -عز وجل- لحكمة بالغة يعلمها سبحانه وتعالى أن يموت إبراهيم، وأُخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نعرف رهبة الموت وعظمة تأثيره على النفوس، فكيف به في الأقربين؟ وكيف به في الأبناء؟ وكيف به في الصغار؟.
الصغار ترق لهم القلوب، وتحزن لأجلهم لأنهم يمثلون البراءة، ويرى المرء فيهم أملا يذوي، ونورا ينطفئ، وحينئذ قال النبي -عليه الصلاة والسلام- قولته المشهورة المحفوظة: (إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه البخاري في صحيحه.
وهذا من أعظم رضا النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن الأبناء فلذة من الكبد، وثمرة في الفؤاد، ولاشك أن الصابر المحتسب فضلا عن الراضي، ينال أعظم الأجر والمثوبة من الله عز وجل.
ويكفينا في ذلك البشريات الكثيرة التي وردت فيما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- عمَّن فقد ابنا ومن فقد ابنين ومن فقد ثلاثة، وكيف يكون أجره إذا صبر واحتسب ورضي بما قضى الله -عز وجل- وقدَّر، وما يكون من فرط من هؤلاء الأبناء له في الجنة إن رضي بقضاء الله وقدره، واحتسب الأجر والمثوبة عند الله- سبحانه وتعالى- .
المثال الخامس:
وكذلك من مواقف رضا النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو من أشق المواقف التي مرت به مصرع حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان مصرعا عظيما ومؤلما ومحزنا، فقد كان حمزة -رضي الله عنه- أسدا فارسا شجاعا فعل الأفاعيل بكفار قريش، ثم لما دارت الدائرة كان مصرعه على يد وحشي الذي أسلم بعد ذلك، وكان وحشي غلاما عبدا حبشيا ماهرا في رمي الحراب، جعلت له سيدته هند بنت عتبة إن قتل حمزة، أن تعتقه ويكون حرا، قال: فخرجتُ إلى أحد لا ألوي على شيء إلا على قتل حمزة، ليس له في المعركة أي صلة ولم يشارك بأي شيء كان يبحث عن حمزة، قال: فلما رأيته رأيت رجلا آدم كالأسد، فصوبت رمحي أو حربتي ثم هززتها فلما رضيت عنها أنفذتها، فاندقت في صدره فنفذت من ظهره، فسقط فانتظرت ثم أخذت حربتي ومضيت.
وكان من قصة حمزة بعد ما دارت الدائرة على المسلمين أن جاءت هند بنت عتبة -رضي الله عنها، أسلمت من بعد -، فبقرت بطنه، وقطعت كبده، في بعض الآثار والروايات: أنها لاكت كبده ثم لفظتها، من شدة حنقها وغيظها.
وكانت معركة أحد في ختامها مأساة محزنة، استشهد فيها سبعون من أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، منهم حمزة -رضي الله عنه-، ولما دَفن النبي -عليه الصلاة والسلام- أولئك الشهداء كان حزنه على حمزة، فقد كان عمه وأخوه من الرضاع، وكان العم الوحيد الذي أسلم إذ ذاك، فلم يكن العباس قد لحق بالنبي -عليه الصلاة والسلام- وأبو لهب معروف موقفه من الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فكان حمزة حبيبا عنده وقد كان مقدما في الصحابة، وهو ممن أعز الله به الإسلام في مكة، ثم لما رجع، ورد في بعض روايات السيرة: أن نساء الأنصار كن يبكين قتلاهن، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا؛ لأن حمزة كان من المهاجرين، لم يكن معه كثير من أهله ولا قرابته، فورد في بعض الروايات أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: (أما حمزة فلا بواكي له) وكان مقتل حمزة من الأمور العظيمة التي أثرت في نفسه، حتى قال -عليه الصلاة والسلام-: (لئن شهدت مشهدا لقريش، لأُمثِلنَّ بسبعين منهم) ثم نزلت آيات القرآن تنهى عن ذلك، وارتضى النبي -عليه الصلاة والسلام- ذلك، وقال قولة ذكرها البزار في مسنده، وأشار ابن كثير إلى ضعف هذا الإسناد، قال: (رحمة الله عليك إن كنت ما علمتك إلا وصولا للرحم، فعولا للخيرات، والله لولا حزن من بعدك علي لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله في بطون السباع) وهذه الرواية كما قلنا فيها ضعف، وذكر ابن كثير ذلك فيما أشار إليه في تفسيره عند الآيات المتصلة بهذا.
وأما رضاه القولي: فقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- ذلك فيما دعا به، وفيما قاله -عليه الصلاة والسلام- فمن دعائه: (أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة، وفتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين) رواه النسائي بإسناد حسن.
ومما قال يحث على معاني الرضا ويعلم أمته هذه الأدعية، والآثار التي تتعلق بالرضا، قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وبالإسلام دينا، غفر له ذنبه) والحديث عند مسلم.
ومثله قوله: (ذاق طعم الإيمان، من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا) وقد أخرجه مسلم كذلك.
فهذه بعض المواقف والأقوال في رضا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في ذلك القدوة المثلى.
المراجع
موسوعة اسلاميات
التصانيف
عقيدة