الاجتماع النباتي (علم ـ)
 
 
 
    علم الاجتماع النباتي Phytosociology هو العلم الذي يدرس الجماعات النباتية التي تكون الأُخْضُورة الطبيعية vegetation من حيث تشكلها وبنيتها وتركيبها وتغيراتها وتصنيفها. والأخضورة هي محصلة تأثير العوامل البيئية في نباتات تعيش في مكان معين. أما الأُزْهورة flora فهي العد الإحصائي لكل الأنواع النباتية المنتشرة في مكان معين وجدولتها.
 
    لمحة تاريخية
 
    اكتشف النباتيون بعد زمن طويل أن الأخضورة في مكان معين ليست مجموعة عشوائية من أنواع نباتية متنوعة لا ترابط بينها، بل هي مجموعة محددة من نباتات ترتبط فيما بينها بقوانين تتحكم بحياتها الجماعية.
 
    وكانت المحاولات الأولى في هذا الاتجاه قد بدأت في القرن الثامن عشر، في زمن انصب فيه الاهتمام الرئيسي للنباتيين على دراسة الأزهورة، أي وصف النباتات وجدولتها. وهكذا حاول العالم الجغرافي الألماني ألكسندر فون هَمْبُلت Alexander Von Hmboldt في عام 1807 استنتاج مبدأ تصنيفي يعتمد على هيئة الأخضورة أو ملامحها العامة في منطقة معينة كالغابات أو المروج، وصنف الغابة بدورها في غابة صنوبر أو غابة سنديان أو غابة شوح أو غير ذلك. وفي عام 1839 استعمل غريزباخ Griesbach تعبير تشكيل جغرافي نباتي Phytogeographic formation للدلالة على مجموعة من النباتات تتميز بهيئة خاصة محددة. وقد بقيت هذه الطريقة مستعملة لتصنيف الأخضورة حتى بداية القرن العشرين حين ظهر نظام آخر عرف باسم الأنماط الحيوية biologic types أوجده وقام بنشره العالم راونكير Raunkier في عام 1905، وهو ما يزال يستعمل حتى يومنا هذا. ويعتمد هذا النظام التصنيفي على وضعية براعم الاستعاضة وطرائق حمايتها في الفصول غير الملائمة للنمو. وقد تبين أن هذه الطرائق غير كافية لتفسير كل الحقائق الطبيعية المتعلقة بالأخضورة، وأن السبب الرئيسي في عدم كفايتها هو كونها تحاول وصف الأخضورة وتصنيفها بالاعتماد على وحدات غير أخضورية.
 
    وفي عام 1910 استحدثت في أوربة الغربية طريقة منظمة لدراسة الأخضورة تعتمد على التحليل الأُزْهوري floristic analysis لدى وصف الجماعات النباتية وتصنيفها في وحدات أخضورية. وكان أول من مهد لهذه الطريقة وبين أسلوب العمل فيها هو العالم براون بلانكيه Braun Blanquet الذي حاول تمييز الجماعات النباتية plant associations وتصنيفها بالاستناد إلى وحداتها الطبيعية. وهي الأنواع النباتية التي تميز انطلاقاً من المبدأ القائل بأن التركيب النباتي للجماعات النباتية يعكس الخصائص البيئية للمواقع المدروسة.
 
    ثم تطور التحليل الأزهوري للأخضورة باتجاهين رئيسين: اهتم الأول بالنواحي الكمية للأنواع النباتية المكوِّنة للمجتمعات النباتية فقط واهتم الثاني بالنواحي الوصفية للأنواع النباتية مع عدم إغفاله لبعض الجوانب الكمية. ويعتمد هذا الاتجاه على خبرة علماء النبات الشخصية في الأزهورة وفي بيئة المنطقة المدروسة. وقد انتشر الاتجاه الأول في نصف الكرة الشمالي، ولاسيما في اسكندينافية، بتأثير العالم دُورِتْس Duritz الذي اعتمد أساساً على طرائق التحليل الإحصائي في دراسة الجماعات النباتية. وانتشر الاتجاه الثاني في مناطق كثيرة من العالم ولايزال متبعاً حتى اليوم. وظهر في الولايات المتحدة الأمريكية اتجاه ثالث عام 1910 بتأثير آراء كليمنت Clements يعتمد دراسة حركية الجماعات النباتية، بوصفها وحدات قابلة للتغيير، ويمكن معرفة أصلها والتنبؤ بتطورها ومستقبلها. وعرف هذا الاتجاه باسم «الطريقة الديناميكية (الحركية) لدراسة الأخضورة» أو «ظاهرة التعاقب الأخضوري» succession، في حين عُرفت الطريقة الأوربية باسم «الطريقة الستاتيكية» أو الساكنة. وقد ظهر لمبدأ «التعاقب الأخضوري» تطبيقات عدة في علم البيئة النظري والتطبيقي لاستغلال الموارد الطبيعية وصيانة الطبيعة.
 
    وظهر في فرنسة اتجاه آخر بتأثير العالم الفرنسي شارل فلاهو Flahaut (1852-1935) يعطي العوامل البيئية دوراً أساسياً في دراسة الأخضورة، ويحاول ربط دراسة الأخضورة باستغلال الأراضي. وقد تفرع هذا الاتجاه فرعين رئيسيين ظهر أحدهما عام 1948 في مدينة طولوز (فرنسة) بتأثير أفكار العالم هنري غوسان Gaussen (1891-1981) ونتجت عنه دراسات حول إدارة الأراضي في جنوب غربي فرنسة واستثمارها بالاستعانة بمصورات ذات مقياس صغير ومتوسط وظهر الفرع الآخر في مدينة موْنبِلْيِه بمبادرة كارل شروتر carl Schroter من زوريخ وعرف باسم «مدرسة زوريخ ومونبليه في علم الاجتماع النباتي» وكان العالم براون بلانكيه هو مؤسس هذه المدرسة.
 
    ويعود الفضل إلى العالم الفرنسي لويس أمبرجيه Louis Emberger (1897-1969) من كلية العلوم في مونبليه بفرنسة وتلاميذه الذين استفادوا من تعاليم من سبقوهم وطوروها بتأسيس اتجاه جديد يرمي إلى إيجاد تفسير إجمالي لتنوع الجماعات النباتية بالاستناد إلى أسس بيئية، وإيجاد أشكال جديدة للتعبير عن العلاقات بين الأخضورة والوسط باستخدام طرائق رياضية وإحصائية مع الاستعانة بالمصورات المتعددة المواضيع، وكذلك تنشيط الربط بين دراسة الأخضورة والتطبيقات العملية في استغلال الأراضي.
 
    وقد تطورت مدرسة أمبرجيه ووطدت ركائزها في بلاد المغرب العربي ولاسيما في المغرب وتونس. وقد سمحت البحوث في مونبليه بتطوير طريقة الزمر البيئية ecological groups في دراسة الأخضورة باللجوء إلى الرياضيات والتحـليل الإحصائي بإشراف غونو M Gounot (1965) وغودْرن Godron (1971)، وكان من أهم خصائص مدرسة أمبرجيه في هذا المضمار تركيز الاهتمام على العلاقة الوثيقة بين الأخضورة والمتغيرات البيئية على أسس كمية، وهنا يصبح للتحليل الإحصائي والحاسوب دور مهم.
 
    انتشرت مدرسة أمبرجيه في الكثير من دول حوض المتوسط وخارجه وأصبح لها تلاميذ قاموا بتطبيق مفاهيمها في دراسة الأخضورة واستغلال الموارد الطبيعية، وبتطوير هذه المفاهيم بحسب الظروف البيئية التي يعملون فيها، ولاسيما في شرقي المتوسط (سورية ولبنان وتركية).
 
    طرائق دراسة الأخضورة
 
    جرت محاولات عدة لتصنيف وحدات الأخضورة الطبيعية تمخضت عن طرائق كثيرة واتجاهات متنوعة. فهناك طرائق تعتمد على تصنيف الأشجار السائدة في الغابات كأن تصنف الغابات إلى غابات صنوبر وغابات سنديان أو غير ذلك من دون محاولة إيجاد العلاقة بين هذه الغابات والبيئة المحيطة، وثمة طرائق أخرى تستند إلى بعض الصفات الأساسية للأشجار السائدة في الغابة، وتقسيم الغابات إلى غابات أليفة الجفاف وغابات أليفة الرطوبة وغابات مستديمة الأوراق وغابات متساقطة الأوراق وغيرها. وإن الطرائق الصحيحة في تصنيف الأخضورة يجب أن تعتمد العلاقة الأساسية بين الأخضورة والبيئة وفيمايلي عرض للطرائق المعتمدة في تصنيف الوحدات الأخضورية بدءاً من الوحدات الكبرى.
 
    طرائق الملامح أو التشكيل النباتي plant formation: كان العالم غريزباخ أول من استعمل تعبير «تشكيل جغرافي نباتي» في عام 1839 للدلالة على مجموعة من النباتات تتميز بهيئة أو بملامح خاصة محددة.
 
    وتحدد أنماط التشكيلات النباتية المنتشرة في العالم بعوامل بيئية مختلفة كعوامل المناخ والتربة. فإذا كانت العوامل المناخية هي التي تحدد صفات تلك التشكيلات أطلق عليها اسم «التشكيلات المناخية»، أما إذا حددتها عوامل التربة فتسمى «التشكيلات التربية». وفي العالم أنماط مختلفة من المناخات تحدد أنماطاً متنوعة من التشكيلات المناخية. فالمناخات الجافة في العالم تتميز بتشكيل خشبي جاف. والمناخات الاستوائية الرطبة تتميز بتشكيلات من غابات دائمة الخضرة وأليفة الرطوبة. ومن أمثلة التشكيلات التربية غابات الأتربة المالحة التي تسمى المنغروف mangrove وغابات ضفاف الأنهار.
 
    طرائق الاجتماع النباتي: كان العالم النباتـي كـريستن راونكير Christen Raunkiaer (1860-1938) أول من أطلق تعبير «الجماعات النباتية» plant communities على المجموعات النباتية المتجانسة كيفاً وكماً. وهكذا فإن غابة الشوح وغابة الأرز وغابة السنديان العذري وغابة السنديان العادي وغابة البطم الأطلسي هي جماعات حراجية أوجية في الظروف البيئية المتوسطية التي تعيش فيها في سورية وما يشبهها في خصائص بيئتها. وتتم دراسة الجماعات النباتية المكونة للأخضورة الطبيعية بإحصاء النباتات التي تؤلف الأخضورة ودراسة العوامل البيئية الخاصة بالمنطقة المدروسة، ولاسيما خصائص التربة والمناخ والشروط الطبوغرافية. ويتم في البدء انتقاء موقع متجانس الملامح النباتية والطبوغرافية، ثم تحدد المساحة الدنيا التي يجب أن تتم فيها الدراسة والإحصاء، وتعد المساحة الدنيا نظامية حين لا توجد في زيادة رقعتها أنواع جديدة تدخل في الدراسة.
 
    ثم تصنف النباتات المكونة للأخضورة بحسب ارتفاعها بأرقام تتدرج من الواحد إلى الخمسة تدل على النباتات الملاصقة للأرض فالنباتات العشبية فالجنبات فالشجيرات فالأشجار.
 
    وإذا كانت المنطقة المدروسة غابة فيجب قياس أطوال الأشجار وأقطارها الوسطية وكذلك مقدار تغطية التربة بالنسبة المئوية. ومن ثم يتم تسجيل النباتات طبقة بعد طبقة ويعطى لكل نوع نباتي رقمان يدل الأول على معامل الغزارة والسيطرة abondance- dominance ويدل الثاني على معامل الدرجة الاجتماعية sociability وتراوح أرقام المعاملين بين الواحد والخمسة. وتُجرى عادة عدة كشوف نباتية في منطقة ما، ومن ثم تُجرى موازنتها بعضها مع بعض وتصنيفها في عدة مجموعات بحسب أوجه التشابه والاختلاف مما يؤدي في النهاية إلى وضع جداول نباتية تسمح بوصف الجماعات النباتية في المنطقة المدروسة. وكانت هذه الجداول تنظم يدوياً في السابق أما اليوم فإنها تنظم بوساطة الحاسوب الذي يسمح بإجراء موازنة بين ألوف الجرود.
 
    ومن الأنواع المؤلفة للجماعة النباتية ما ينم على بيئة محددة الخصائص، ويطلق عليه اسم الأنواع المميزة characteristic species ومنها ما ليس له قيمة بيئية محددة، ويسمى بالأنواع المرافقة companion. وبعد وصف المجتمعات النباتية يمكن جمعها أو تجزئتها في وحدات عليا مثل الصف class والرتبة order والحلف alliance ووحدات دنيا مثل تحت الجماعة subassociation.
 
    الطرائق الديناميكية أو ظاهرة التعاقب النباتي: إن الجماعات النباتية، وهي الوحدات الطبيعية المكونة للأخضورة تظهر وتنمو وتنضج بتأثير تفاعل الأخضورة والعوامل البيئية. وينعكس نمو الجماعات النباتية بالتعاقب النباتي الديناميكي phytodynamic succession والميزة الأساسية في ظاهرة التعاقب هذه هي النمو التدريجي للأخضورة نتيجة توالي عدة جماعات نباتية ذات متطلبات بيئية وتركيب أزهوري مختلفين في الموقع نفسه.
 
    فالتعاقب يبتدئ في مساحات عارية ثم يتدرج من مرحلة إلى أخرى حتى ينتهي بمرحلة نهائية من الأخضورة الممكنة في الظروف البيئية للمنطقة. ويطلق على الجماعة النهائية اسم «الأوج» climax، وهو يكون في حالة توازن مع البيئة المحيطة، ولاسيما إذ أخذ بالحسبان عمر الإنسان. فالجماعة النباتية الأوجية هي محصلة تعاقب مجتمعات عرضية متنوعة في المواقع نفسها. ويكون هذا الأوج غابة في البلاد المعتدلة المناخ، علماً بأن التربة تتابع التطور نفسه لكي تناسب الجماعة الأوجية تربة أوجية أيضاً. ويجب التمييز بين نوعين من التعاقب هما التعاقب الأولي والتعاقب الثانوي.
 
    فالتعاقب الأولي هو الذي يظهر في أرض عارية جديدة لم يسبق أن غزتها نباتات، ويمر بالمراحل التالية: الأشن القشرية، فالأشن الورقية، فالحزاز (البريون) فالأعشاب، فالجنبات، فالغابة الأوجية.
 
    أما التعاقب الثانوي فيحدث بعد تهديم غابة، نتيجة الحرائق أو السيول أو الرعي الجائر أو الاستثمار السيء. فإذا أدت إزالة الغابة إلى تهدّم التربة تهدماً جزئياً، كما هو الحال في الحرائق البسيطة غير المتكررة، فإن مراحل التعاقب تكون قليلة العدد، وتعود بسرعة إلى الأوج. أما إذا كان تهديم التربة كلياً، كما يحدث في الحرائق المتكررة، فإن مراحل التعاقب كثيرة تقتضي مدة طويلة للعودة إلى الأوج. ويلاحظ هنا أن التعاقب من حيث نوعيته لا يجري على طريقة واحدة، فقد يكون التعاقب تقدمياً أو تراجعياً، فالتعاقب التقدمي هو تقدم الجماعات النباتية باتجاه الجماعة الأوجية، كما هو التعاقب الأولي والتعاقب الثانوي المذكورين آنفاً. أما التعاقب التراجعي فهو ابتعاد الأخضورة عن الأوج بتأثير عوامل التخريب المختلفة التي تُدخل اضطراباً في توازن الجماعة الأوجية وتسبب تدهورها تدريجياً. وينتج عن هذا التعاقب التراجعي حلول جماعات نباتية أدنى محل المجتمع الأوجي حتى تصل إلى التربة العارية.
 
    الطرائق البيئية: إن بعض النباتات الداخلة في تركيب الجماعة النباتية ذات دلالة بيئية دقيقة تعتمد على خصائص التربة الفيزيائية والكيمياوية والبيولوجية للمواقع التي تصادف فيها. لذلك فإن معرفة هذه النباتات الدالة قد تكون ذات فائدة تطبيقية عند استغلال الأخضورة اقتصادياًً سواء أكانت أخضورة حراجية أم رعوية.
 
    ويظهر بعض هذه النباتات الدالة زمراً متلازمة في الشروط الخاصة للموقع يطلق عليها اسم «الزمر البيئية» ويمكن معرفتها عند جرد النباتات ودراسة العوامل البيئية للمواقع، ويمكن إيجاد علاقة إحصائية بين وجود الزمر البيئية في مواقع معينة في الغابات الطبيعية ودرجة إنتاجية هذه المواقع من الأخشاب في الهكتار الواحد سنوياً.
 
 
إبراهيم نحال
 

المراجع

موسوعة الأبحاث العلمية

التصانيف

الأبحاث