إني في البداية أتمنى وأرجو من الله عز وجل أن يعود كل حاج إلى أهله سالماً غانماً مغفوراً له، مقبولاً سعيه، وأقول لكل حاج: كيف تجد قلبك الآن وبماذا تحس؟ وما هو شعورك؟ هل تعود فتنغمس في الدنيا كما كنت من قبل أو لابد من التغيير؟
 
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].. وهذا التغيير، ما هي خطواته وما مراحله؟
 
أخي الحاج: لقد قضيت أياماً منذ خروجك من بيتك عاقداً العزم على الحج وأنت مع الله عز وجل قلباً وقالباً، مؤتمراً بأمره، بعيداً عن نهيه، تاركاً الأهل والدنيا وراء ظهرك، تنتظر حتى تأتي الميقات فتحرم، ثم تلبس الإحرام وتنوي، وتأتي البيت الحرام فتطوف وتسعى وتبيت وتقف بعرفات، وترمي وتتحلل.. خروج من طاعة إلى طاعة، ومن أمر الله إلى أمر الله، فاحذر أن ترجع إلى بلدك فتخالف أمره سبحانه، فلابد أن تستمر على ذلك؛ لأن أمر الله لا ينفك عنك منذ مجيئك إلى هذه الدنيا ومنذ ولادتك، وها قد عدت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك.. فاحذر أن تسود هذه الصفحة البيضاء بخطاياك، وزيّنها بحسناتك لتقابل الله عز وجل على ذلك.
 
ذكر في البخاري (1521) ومسلم (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه». يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: "مباني الإسلام الخمس، كل واحد منها يكفر الذنوب والخطايا ويهدمها، ولا إله إلا الله لا تبقي ذنباً، ولا يسبقها عمل، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحج الذي لا رفث فيه ولا فسوق، يرجع صاحبه من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، وقد استنبط معنى هذا الحديث من القرآن طائفة من العلماء، وتأولوا قول الله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، بأن من قضى نسكه ورجع منه فإن آثامه تسقط عنه إذا اتقى الله عز وجل في أداء نسكه، وسواء نفر في اليوم الأول من يومي النفر متعجلاً، أو تأخر إلى اليوم الثاني.
 
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قضى نسكه، وسلم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» [رواه عبد بن حميد في مسنده (1150) وابن حجر في المطالب العالية (1162)] من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وفي صحيح مسلم (21) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قوله صلى الله عليه وسلم: «وأن الحج يهدم ما قبله».
 
وفي البخاري (1773) ومسلم (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
 
قيل للحسن: الحج المبرور جزاؤه الجنة، قال: آية ذلك أن يرجع زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، وقيل له: جزاء الحج المبرور المغفرة، قال: آية ذلك أن يدع سيء ما كان عليه من عمل.
 
فأنت أيها الحاج بينك وبين الله عهود أكيدة، أولها: يوم {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف:172]، والمقصود الأعظم من هذا العهد ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه. وتمام العمل بمقتضاه أن اتقوا الله حق تقواه.
 
وثانيها: يوم أرسل إليكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه في كتابه: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40]. قال سهل التستري: من قال لا إله إلاّ الله فقد بايع الله، فحرام عليه إذا بايعه أن يعصيه في شيء من أمره، في السر والعلانية، أو يوالي عدوه، أو يعادي وليّه.
 
يـا بنـــي الإسـلام مــن علمكـم بعد إذ عــاهدتـم نقض العهود 
كل شيء في الهوى مستحسن ما خلا الغدر وإخلاف الوعود
 
وثالثها: لمن حج إذا استلم فإنه يجدد البيعة، ويلتزم الوفاء بالعهد المتقدم: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ}[الأحزاب: 23]، والحر الكريم لا ينقض العهد القديم. فإذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23].
 
من رجع من الحج فليحافظ على ما عاهد الله عليه، وعلامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، وعلامة ردها أن توصل بمعصية. ما أحسن الحسنة بعد الحسنة، وما أقبح السيئة بعد الحسنة!! ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها. النكسة أصعب من المرض الأول، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغني قوم بالذنوب افتقر، سلوا الله الثبات إلى الممات، وتعوذوا من الحور بعد الكور. كان الإمام أحمد يدعو ويقول: "اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك".
 

تلك مقتطفات اختصرتها من لطائف المعارف للحافظ ابن رجب وأجملها في النقاط التالية:

 
أولاً: على الحاج أن ينمّي البواعث الإيمانية والنوايا الطيبة التي يحس بها الآن.
 
ثانياً: أن يجعل الدنيا في يده لا في قلبه؛ لأنّ الانغماس فيها يحبط هذه النوايا الطيبة ولا شك أنّ الدنيا لاهية فانية.
 
ثالثاً: لا تكفي أبداً هذه البواعث الإيمانية والنوايا الطيبة عن العمل، وإن كان فيها أجر إلاّ أن العمل هو الثمرة وهو دليل على استمرار هذه النوايا، وبه تصل النفس إلى لذة الطاعة، وسعادة المآل. كثير من الناس تجده يأمل الخير وأمله في ذلك واسع، ولا يتحرك قيد أنملة، واقف مكانه تاركاً العنان لبواعث الخير التي لا تنتهي إلى حد ثم تجده بعد ذلك وبعد هذا الأمل الطويل أصابه اليأس لأنّه لم يجد الثمرة وهي العمل.
 
رابعاً: الترويح عن النفس بما هو مباح بين فترة وأخرى ليكون ذلك دافع النفس على الاستمرار على العمل.
 
خامساً: عدم العجب بما هو عليه من الخير، واحذر أن يدخل عليك الشيطان من باب العجب، واتهم نفسك دائماً بالتقصير، اجعلها دائماً بين الخوف والرجاء، الخوف من عدم قبول العمل ورجاء القبول والثواب. ولو كانت أعمالك كالرمال عدداً، والجبال ضخامة، فاحذر العجب.
 
سادساً: الدعاء بالثبات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» [رواه الترمذي (2140) وابن ماجه (3834) من حديث أنس رضي الله عنه].
 
سابعاً: الصحبة الطيبة التي تدفعه دفعاً إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات، وتساعده على جهاد نفسه، وإقامة شرع الله في بيته وأسرته.
 
هذا والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
أبو رفيدة 

المراجع

موسوعة طريق الأيمان

التصانيف

حياة