مطلع حياته
ولد أعظم عالم طبيعي من علماء القرن الثامن عشر بمونبار في برجنديه (1707) لمستشار في برلمان ديجون. وكانت ديجون آنذاك مركزاً مستقلا من مراكز الثقافة الفرنسية. والذي فتح منفذاً لثورة روسو على الحضارة وفولتير هو مسابقة اقترحتها أكاديمية ديجون. وقد درس جورج لوى لكليرك دبوفون في الكلية اليسوعية بديجون، وهناك تعلق بشاب إنجليزي يدعى اللورد كنجزتن، سافر معه عقب التخرج في رحلة إلى إيطاليا وإنجلترا. وفي 1832 ورث تركة كبيرة أتته بدخل سنوي قدره 300,000 جنيه، فأصبح الآن حراً في هجر القانون كان أبوه يعده للاشتغال به، وإشباع غرامه بالعلم، وبنى على تل في نهاية حديقته بمونبار، وعلى مائتي ياردة من منزله، حجرة للدارسة في برج قديم يسمى برج القديس بولس، هنا كان يعتكف من الساعة السادسة صباح كل يوم، وهنا ألف معظم كتبه. وقد انفعل بقصة أرخميدس الذي أحرق أسطول الأعداء في ميناء سيراكيوز بسلسلة من المرايا الحارقة، فأجرى ثماني تجارب، جمعت في النهاية 154 مرآة، أشعل بها النار في ألواح من الخشب على بعد 150 قدماً(95). وتردد حيناً بين التاريخ الطبيعي والفلك؛ وفي 1735 ترجم كتاب هيلز "استاتيكا النبات" وأسس نفسه في علم النبات؛ ولكن في 1740 ترجم كتاب نيوتن في "التدفقات" وأحس بإغراء الرياضة وانضم بذلك إقليدس إلى أرخميدس في مجمع أربابه.
وحيد القرن، نقش على النحاس من بوفون، تاريخ عام للطبيعة. Holle: لايپزيگ 1767؛ الجزء السادس من المجلد الأول، Tafel VII S. 110f. الصورة من اوروبا القرن 18، لأنثى وحيد القرن كلارا الشهيرة.
فرس النهر مع أدوات تشريحية (نقش على النحاس). في
: جورج–لوي لوكلرك ده بوفون: تاريخ عام للطبيعة. Holle: لايپزيگ 1767; الجزء السادس من المجلد الثاني، Tafel III S. 30f. وفي 1739 عين مديراً (ناظراً) للجاردان دورا، فانتقل إلى باريس. عندها فقط جعل علم الأحياء شغله الشاغل. فتحت إشرافه أغنت مئات النباتات الجديدة المجلوبة من كل أصقاع الدنيا هذه الحديقة النباتية الملكية. وسمح بوفون لجميع الدارسين المهتمين بالنبات بدخول الحديقة فجعل منها مدرسة للنبات. وبعد حين عاد إلى مونبار وبرج القديس لويس بعد أن ترك الحديقة في أيد أمينة، وشرع في تنظيم مشاهداته ليؤلف منها أشهر كتب القرن العلمية.
ونشرت المجلدات الثلاثة الأولى من كتابه هذا "التاريخ الطبيعي، العام والخاص" في 1749. وكانت باريس في مزاج يهيئها لدراسة العلم، وإذ وجدت الآن الجيولوجيا واليولوجيا مقدمتين لها في نثر صاف رصين، موضحتين بلوحات مغرية، فقد أقبلت على هذه المجلدات إقبالا يقرب من إقبالها على كتاب مونتسكيو "روح القوانين" الذي صدر قبل ذلك بعام فقط. ومضى بوفون -وبمساعدة الأخوين أنطوان وبرنار دجوسيو له في النبات، ولوى دوينتون وجينو دمونبليار وغيرهما له في الحيوان، يضيف المجلد تلو المجلد إلى رائعته الكبرى، فصدر اثنا عشر مجلداً جديداً قبيل 1767، وتسعة مجلدات أخرى عن الطيور في 1770-83؛ وخمسة عن المعادن في 1783-88، وسبعة عن موضوعات أخرى في 1774-89. وبعد موته (1788) أشرف إتيين دلاسيبيد على نشر مخطوطاته التي لم تنشر وأصدرها في ثمانية مجلدات (1788-1804). وبلغت جملة المجلدات الصادرة من كتاب "التاريخ الطبيعي" في النهاية أربعة وأربعين مجلداً استهلك إعدادها أكثر من حياة، واستغرق نشرها أكثر من نصف قرن. ودأب بوفون على أن، يستيقظ مبكراً ويمضي إلى برجه، ويقترب من هدفه خطوة فخطوة. ويبدو أنه -بعد أن أجتاز بسلام بعض الفلتات الجنسية في شبابه أقصى النساء عن حياته حتى عام 1752 حين تزوج ماري دسان- بيلون وهو في الخامسة والأربعين. ورغم أنه لم يدع الوفاء لرباط الزوجية(96)؛ فقد تعلم أن يحب زوجته، كما يفعل الكثير من الفرنسيين بعد حياة الزنا، وقد أظلم موتها في 1769 سني عمره الباقية.
وقد أخذ "التاريخ الطبيعي" على عاتقه وصف السماوات، والأرض، وكل المعروف من عالم النبات والحيوان، بما فيه الإنسان. وحاول بوفون أن يرد كل هذه المتاهة من الحقائق إلى نظام وقانون عن طريق أفكار الاستمرارية شظايا تحطمت عن الشمس إثر اصطدامها بمذنب، ونظريته في "حقب الطبيعة" التي رآها مراحل في تطور الكرة الأرضية. أما في عالم النبات فقد رفض تصنيف لينيوس للنباتات حسب أعضائها الجنسية لأنه شديد التعسف والنقص والصلابة. وقد قبل طريقة لينيوس في المصطلحات على مضض، واشترط أن توضع الأسماء على جنب في أسفل البطاقات الملحقة بالنباتات في حديقة الجاردان(97). وكان تصنيفه للحيوانات غير معقول، ولكنه اعترف بأنه مؤقت ؛ فقد رتبها حسب نفعها للإنسان، ومن ثم بدأ بالحصان. وفي تاريخ لاحق، وبعد إلحاح من دوبنتون، وضع تصنيفاً جديداً لها حسب خصائصها المميزة. وضحك نقاده المتخصصون على تصنيفاته وتشككوا في تعميماته، ولكن قراءه طربوا لأوصافه الحية ولاتساع نظراته العظيم.
وقد ساعد على إرساء دعائم الأنثروبولوجيا (علم الأجناس البشرية) بدراسة اختلافات النوع الإنساني تحت تأثير المناخ، والتربة، والأنظمة، والمعتقدات؛ ورأى أن هذه القوى قد نوعت لون الأجناس وملامحها، وولدت خلافاً في العادات، والأذواق، والأفكار. ومن أجرأ فروضه قوله بأنه ليس في الطبيعة أنواع ثابتة لا تقبل التغير، وأن النوع منها يذوب في النوع التالي، وأن في استطاعة العلم إذا نضج أن يصعد خطوة فخطوة من المعادن المفروض أنها ميتة، إلى الإنسان نفسه. ولم ير إلا فرقاً في الدرجة بين غير العضوي والعضوي.
خنزير غينيا وهيكله العظمي. نقش على النحاس من بوفون، تاريخ عام للطبيعة. Grund und Holle: هامبورگ ولايپزيگ، 1765؛ الجزء الرابع من المجلد الثاني، Tafel I S. 4f.
وقد لاحظ أن صوراً جديدة من الحيوان تكونت بالانتخاب الطبيعي، وزعم أن في الإمكان إحداث نتائج مماثلة في الطبيعة بالهجرة والعزل الجغرافيين. وسبق ماثوس بملاحظته أن خصوبة أنواع النبات الحيوان التي لا رابط لها تلقي باستمرار عبئاً باهظاً على خصوبة التربة، مما قد يؤدى بالكثير من الأفراد والأنواع في الصراع على البقاء:
«"لقد اختفت، أو ستختفي، أنواع أقل كما لا، وأضعف، وأثقل، وأقل نشاطاً، وأردأ تسليحاً(98). ...وهذبت أنواع كثيرة، أو انحطت، نتيجة لتغيرات كبيرة في اليابس أو الماء، ولرضى أو سخطها عليها، وللطعام، ولتأثيرات المناخ الطويلة الأمد، والمعاكسة أو المواتية... فلم تعد اليوم كما كانت بالأمس"(99). »
ومع أنه سلم بوجود نفس للإنسان، فقد تبين في جسم الإنسان أعضاء الحس والأعصاب، والعضلات، والعظام، ذاتها التي في الحيوانات العليا.
ومن ثم فقد رد "الحب الرومانسي" إلى ذات الأساس الفسيولوجي الذي في جاذبية الحيوان الجنسية. لا بل أنه احتفظ بشعر الحب لأوصافه البليغة لتزاوج الطيور ورعايتها لصغارها. وتساءل "لم يسعد الحب جميع الكائنات الأخرى ويشقى الإنسان هذا الشقاء الكثير؟ لأن الجزء البدني من هذه العاطفة هو وحده الحسن، أما العناصر الأخلاقية فيها فلا قيمة لها"(100). (وقد وبخته مدام دبومبادور على هذه الفقرة ولكن في لطف كثير)(101) وخلص بوفون إلى أن الإنسان حيوان في كل نقطة "مادية"(102).
"ومتى سلمنا بأن هناك عائلات من النبات والحيوان، أي أن الحمار قد ينتمي لعائلة الحصان، وأن الواحد منها لا يختلف عن الآخر إلا في تسلسله المنحط من نفس الجد... فقد نضطر إلى التسليم بأن القرد ينتمي لعائلة الإنسان، وأنه ليس إلا إنساناً منحطاً، وأنه هو والإنسان كان لهما جد واحد. وإذا تبين أنه كان بين الحيوانات والنباتات... ولو نوع واحد أنتج خلال التسلسل المباشر من نوع آخر... إذن فليس هناك حدود يمكن أن تقيد قوة الطبيعة، ولن نخطئ إن افترضنا أنه لو ترك لها الوقت الكافي لاستطاعت أن تطور جميع الأشكال العضوية الأخرى من نوع أصلي واحد".
ثم أضاف بوفون هذه العبارة بعد أن تذكر فجأة سفر التكوين وجامعة السوربون "ولكن لا. فالثابت من الوحي الإلهي أن جميع الحيوانات قد وهبت بالتساوي نعمة خلقها خلقاً مباشراً، وأن أول زوج من كل نوع خرج مكتمل الصورة من يدي الخالق"(103).
ولكن مدير السوربون، أو كلية اللاهوت في جامعة باريس، نبه بوفون رغم ذلك (15 يونيو 1751) إلى أن أجزاء من "تاريخه الطبيعي" تناقض تعاليم الدين، ويجب أن تسحب-لا سيما آرائه عن عمر الأرض الطويل، وانبعاث الكواكب من الشمس، وتأكيده بأن الحقيقة لا تستقى إلا من العلم. واعتذر المؤلف مبتسما:
"أقرر أنه لم يكن أي نية في مناقضة نص الكتاب المقدس، وإنني أومن أوطد الإيمان بكل ما حواه الكتاب خاصاً بالخليقة، سواء من حيث ترتيب الزمن أو الحقائق المتضمنة. وإني أعدل عن كل ما ورد في كتابي عن تكوين الأرض، وبصفة عامة عن كل ما قد يناقض رواية موسى"(104).
ولعل بوفون، الرجل الأرستقراطي، أحس أن من سوء الأدب أن يختلف جهراً مع إيمان الشعب، وأن "سوربونا" لم تهدأ تأثراتها قد تفسد عليه خطته الكبرى؛ وعلى أية حال؛ فإن كتابه إذا اكتمل سيكون تعقيباً منيراً على اعتذاره. وقد تبينت الطبقات المتعلمة الابتسامة فيسحب آراءه، ولاحظت أن مجلدات الكتاب التالية واصلت هرطقاته. ولكن بوفون أبى أن ينضم إلى فولتير وديدور في هجومهما على المسيحية. وقد رفض دعوى لامترى وغيره من الماديين باختزال الحياة والفكر إلى مادة في حركة ميكانيكية. أن النظام، والحياة، والنفس، هي وجودنا الحقيقي الصحيح؛ وما المادة إلا غلاف غريب لا نعرف صلته بالنفس، ووجوده عقبة(105).
ومع ذلك رحب به "الفلاسفة" حليفاً قوياً. ولاحظوا أن حماسته ونداءاته موجهة إلى طبيعة لا شخصية، خلاقة، خصبة، لا إلى إله شخصي. فالله عند بوفون كما هو عند فولتير بذر بذور الحياة ثم ترك للأسباب الطبيعة القيام بالباقي كله. وقد رفض بوفون فكرة القصد في الطبيعة، ومال إلى وحدة وجود اسبينوزية ورأى الحقيقة الواقعة كما رآها تورجنيف، مختبراً كونياً شاسعاً تتناول فيه الطبيعة بالتجربة، على مدى دهور طويلة، الشكل أو العضو أو النوع، الواحد تلو الآخر، وفي هذه الرؤية انتهى إلى نتيجة تبدو متناقضة مع نقده للينيوس: فالفرد هو الذي بدا الآن غير حقيقي، والنوع هو الحقيقة الباقية نسبياً. ولكن التناقض يمكن حله: فالنوع والجنس والعائلة والرتبة، لم تزل أفكاراً لا غير، يركبها الذهن ليعطي نظاماً ميسراً لخبرتنا بالوفرة المحيرة في الكائنات العضوية، والأفراد هم الحقائق الحية الوحيدة، ولكن أجلهم قصير قصراً يجعل الفيلسوف لا يرى فيهم غير بصمات عابرة بتركها شكل أكبر وأطول بقاء. وبهذا المعنى كان أفلاطون محقاً: فالإنسان "حقيقي"، أما "الناس" فلحظات عابرة في خيال ظل الحياة.
واستمتع قراء بوفون بهذه الرؤى التي تدير الرؤس، ولكن نقاده أخذوا عليه إنه ضيع نفسه بتهور شديد في التعميمات، مضحياً أحياناً بدقة التفاصيل. وضحك فولتير على تقبله فكرة التوالد الذاتي، واحتقر لينيوس مؤلفه في النباتات، ولم يحترم ريامور دراسته للنحل، واستخف علماء الحيوان بتصنيفه الحيوانات نفعها للإنسان. ولكن الناس جميعاً صفقوا لأسلوبه. ذلك أن بوفون ينتمي للأدب كما ينتمي للعلم، ولا يستطيع إنصافه إلا التاريخ المتكامل. فندر من العلماء من أفصح عن نفسه بمثل هذه البلاغة الرائعة. وقد قال فيه روسو، وهو أحد أساتذة الأساليب، "إنني لا أعرف له ضريباً في عالم الكتابة. فقلمه أول قلم في قرنه"(106). وفي هذا اتفق جريم الحكيم مع روسو رغم عدائه له. "يحق للمرء أن يدهش لقراءة أحاديث قد يبلغ الحديث منها مائة صفحة، كتبت دائماً من أول سطر إلى آخره، بأسلوب رفيع وحرارة مضطردة واحدة، وزينت بأروع تلون وأكثره طبيعية(107). لقد كتب بوفون كما يكتب رجل تحرر من أغلال العوز ووهب متسعاً من الوقت، فلم يكن في إنتاجه ما كتب على عجل كما نجد ذلك كثيراً في فولتير، وكان بألفاظه عنايته بعيناته. وغذ تبين في الأشياء قانون استمرارية لاينتسيا"، فقد أرسى نظرية في الأسلوب، فصقل كل الانتقالات، ورتب كل الأفكار في تسلسل جعل لغته تتدفق كأنها نهر عريض عميق. وبينما كل السر في أسلوب فولتير هو التعبير السريع الواضح عن الفكر الثاقب، كانت طريقة بوفون هي الترتيب المتأني لأفكار عريضة تنبض بالوجدان فلقد أحس بجلال الطبيعة وجعل من علمه أنشودة تسبيح.
وكان على وعي تام بنزعته الأدبية، يبهجه أن يقرأ لزواره فقرات عذبة من كتبه؛ وحين انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية لم يتخذ موضوعاً له يوم استقباله (25 أغسطس 1753) عجيبة من أعاجيب العلم، بل تحليلا للأسلوب. وحوى هذا الخطاب المشهور، كما قال كوفييه، "المبدأ والمثال جميعاً"(108)، لأنه هو نفسه كان درة من درر الأسلوب. وهو مخفي عن عين جميع الناس -إلا الفرنسيين- تحت أكداس مؤلفاته، ولم نكد نعرف منه غير حكمه الشهير، الجامع، الخفي المغزي، "الأسلوب هو الإنسان.
فلنبسطه هنا إذن، ونتأمله على مهل. والترجمة تذهب ببعض روائه، ولكنه مع ذلك، ورغم ما تضطرنا إليه العجلة القبيحة من بتر لبعضه، فإنه خليق بأن الصحائف أياً كانت". قال بعد أن قدم لخطابه بتحية لجمهور ضم الكثيرين من أصحاب الأساليب:
"إن الناس لم يتقنوا الكتابة والحديث إلا في العصور المستنيرة. فالبلاغة الصادقة... تختلف تماماً عن سهولة الحديث الطبيعية... التي وهبت لكل صاحب عاطفة قوية... وخيال سريع... أما القلة من الناس الذين وهبوا الفكر المتزن، والذوق الرفيع، والحس المرهف -والذين لا يعبأون كثيراً، شأنكم أيها السادة، بنبر الكلمات، وإيماءاتها، ورنينها الأجوف- هؤلاء يتطلبون المضمون، والفكر، والتمييز، يتطلبون فن تقديم كل أولئك وتحديدها، وترتيبها، فلا يكفي قرع الآذان واسترعاء العيون، فلا بد للمرء أن يؤثر في النفس ويلمس القلب وهو يتحدث إلى الذهن... وكلما ازدادت المادة والقوة اللتان نضفيهما على فكرنا بالتأمل، سهل بلوغهما في التعبير.
كل هذا ليس الأسلوب بعد، بل أساسه، أنه يدعم الأسلوب ويوجهه، وينظم حركته، ويخضعه للقوانين. فبدونه يضل خير الكتاب، ويتوه قلمه دون مرشد، ويقذف كيفما اتفق بالخطوط المبهمة والأشكال المتنافرة. ومهما كان بريق الألوان التي يستعملها، وأياً كانت المحسنات التي ينثرها في التفاضيل، فسيختنق بكثرة أفكاره، ولن يبعث فينا وجداناً، ولن يكون لكتابته هيكل أو بنيان... ومن ثم يسئ الكتابة من يكتبون كما يتحدثون، مهما أجادوا الحديث، والذين يستسلمون لأول الهام حار من خيالهم يتخذون نبرة لا يستطيعون الإبقاء عليها...
ما السر في كمال أعمال الطبيعة؟ هو أن أي عمل من هذه الأعمال كل متكامل: لأن الطبيعة تعمل وفق خطة سرمدية لا تنساها أبداً، فهي تعد في صمت بذور إنتاجها، وترسم بخطة فرشاة واحدة الشكل البدائي لكل شئ حي، ثم تطوره وتصقله بحركة متصلة وفي زمن مقرر... وذهن الإنسان لا يستطيع أن يخلق شيئاً، أو ينتج شيئاً، إلا بعد أن تثريه التجربة والتأمل، وتجاربه هي بذار منتجاته. ولكن لو أن الإنسان حاكي الطبيعة في طريقته وفي جهوده، ولو أنه ارتقى بالتأمل إلى أسمى الحقائق، ولو أنه وحد بينها من جديد وربط بينها في سلسلة، وألف منها كلا واحداً، ونسقاً محسوباً، لو أنه فعل هذا كله لأقام على أسس راسخة صروحاً خالدة على الزمن.
وبسبب افتقار الكاتب إلى مخطط، معدم تفكيره في هدفه تفكيراً كافياً، يجد نفسه حائراً -حتى إذا كان من رجال الفكر- لا يعرف من أين يبدأ الكتابة؛ فهو يرى في وقت واحد عدداً كبيراً من الأفكار، ولأنه لم يوازن بينها، ولم يرتبها منظماً، فما من شئ يدعوه لتفضيل بعضها على بعض، ومن ثم يظل في حيرته. أما إذا وضع له مخططاً، وإذا جمع ورتب جميع الأفكار الأساسية في موضوعه، فسيرى للتو، وفي يسر، في أي نقطة يجدر به أن يتناول قلمه، وسيحسن بأفكاره تنضج في ذهنه، وسيبادر إلى إخراجها للنور، وسيستشعر لذة في الكتابة، وستتلو أفكاره بعضها بعضاً في غير عناء، وسيكون أسلوبه طبيعياً وسهلا، وسينبعث من هذه اللذة ضرب من الدفء ينبسط على عمله، ويضفي الحرارة على عبارته؛ وسيزداد النبض في كتابته ويعلو النبر، وتتخذ الأشياء لها لوناً، ويزداد الشعور وينتشر بعد التحامه بالنور، وينتقل من ذلك الذي نقوله إلى ذلك الذي نوشك أن نقوله؛ وسيصبح ممتعاً مشرقاً...
ولن تنساب إلى الأجيال القادمة غير الأعمال التي أجيدت كتابتها. ولن يكون ما حوت من غزارة في المعرفة، أو غرابة في الوقائع، أو حتى طرافة في الكشوف، ضماناً أكيداً للخلود. فلو أن الأعمال التي تحوي هذا كله اهتمت بموضوعات تافهة، أو كتبت دون تمييز أو سمو... لكان مآلها إلى الزوال، ذلك أن المعرفة، والوقائع والكشوف، يسهل نقلها وسلبها، بل إنها تكون أوفر حظاً لو وضعت في أيد أقدر وأكفأ. فتلك الأشياء خارجة عن الإنسان، أما الأسلوب فهو الإنسان ذاته Le style est i'homme meme، إن الأسلوب لا يمكن سرقته، ولا حمله، ولا تغييره وتبديله، وإذا كان أسلوباً رفيعاً، نبيلا، سامياً، كان صاحبه موضع الإعجاب في جميع العصور على السواء؛ ذلك أن الحقيقة وحدها هي الباقية الخالدة".
يقول فيلمان "أن هذا الخطاب الذي أثار الإعجاب الشديد في ذلك الحين يبدو أسمى من كل ما خطر على الأفكار قبله في هذا الموضوع، ونحن نستشهد به حتى في يومنا هذا بوصفه قاعدة عامة جامعة". وربما وجبت بعض الاستثناءات من هذا الحكم. فوصف بوفون هذا يصدق على النثر خيراً مما يصدق على الشعر، وهو ينصف الأسلوب"الكلاسيكي" اكثر مما ينصف الأسلوب "الرومانسي"، وهو يتبع تقليد بوالو، ويرفع بحق من شأن العقل؛ ولكنه لا يترك متسعاً يذكر لفحول النثر الفرنسي من أمثال روسو، وشاتوبريان، وهوجو، ولا لفوضى رابليه ومونتيني اللذيذة، ولا لبساطة العهد الجديد المؤثرة البريئة من التكلف. ومن العسير عليه أن يدلنا على السر في أن "اعترافات" روسو، الشديدة الفقر في الفكر، الوافرة الغني في الوجدان، ما زالت من أروع كتب القرن الثامن عشر. فالحقيقة قد تكون واقع وجدان كما تكون بنيان فكر أو كمال صورة.
تمثال بوفون في حديقة النباتات. ولقد كان أسلوب بوفون هو الرجل، رداءاً وقوراً لنفس أرستقراطية. فهو لم ينس أنه إقطاعي كما كان عالماً وكاتباً إلا في دراساته. ولم تغير خطوه أسباب التشريف المتكاثرة التي توجت شيخوخته. فقد خلع عليه لويس الخامس عشر لقب الكونت دبوفون في 1771 ودعاه إلى فونتنبلو. ومنحته أكاديميات أوربا وأمريكا العلمية عضويتها الشرفية. وقد تفرس في هدوء واطمئنان في التمثال الذي أقامه له ابنه في الجاردان دورا وغدا يرجه في مونبار أبان حياته قبلة يحج إليها الزائرون كما يحجون إلى بيت فولتير في فرنيه، وفد عليه روسو، وركع على عتبته، وقبل الأرض. وزاره هنري أمير بروسيا، ومع أن كاترين الكبرى لم تسطع زيارته، إلا أنها أرسلت له كلمة تقول إنها تضعه في أعلى المراتب بعد نيوتن.
ولقد كان مهيب المظهر مليح الصورة في شيخوخته -"له جسم رياضي" كما قال فولتير "روح حكيم" وكان في رأي هيوم لا يبدو رجل أدب بل قائداً من قواد فرنسا الحربيين. أما أهل مونبار فكانوا يعبدونه. وكان بوفون على وعي تام بهذا كله، يفخر بلياقته البدنية وبمظهره، ويرجل له شعره ويبدر مرتين في اليوم(114). وقد نعم بصحة سابغة حتى بلغ الثانية والسبعين. ثم بدأ يشكو الحصى، ولكنه واصل العمل، وأبى أن تجرى له جراحة. وأفسح له في الأجل تسع سنين أخر، ومات في 1788. ومشى في جنازته عشرون ألفاً. ولكن لم تكد تمضي سنة على موته حتى نبشت رفاته وذريت في الريح، وسوى تمثاله بالتراب، بأيدي الثوار الذين لم يستطيعوا أن يغفروا له أنه كان نبيلا، أما ابنه فقد أعدم بالجيلوتين(115).
المراجع
موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث