اللغة السنسكريتية Sanskrit هي إحدى أقدم اللغات التي أنتجت تراثاً دينياً وأدبياً وعلمياً مدوناً، وكلمة سنسكريت المشتقة من Samskrta تعني ما قُعِّد وصُقِل. تنتمي السنسكريتية إلى المجموعة الهندية ـ الآرية Indo-Aryan المتفرعة عن المجموعة الهندية ـ الإيرانية Indo-Iranian المنتمية إلى الأسرة اللغوية الهندية ـ الأوربية Indo-European، وقد ظهرت أصلاً في المنطقة الشمالية الغربية من شبه القارة الهندية ثم انتشرت جنوباً وشرقاً، ووصلت إلى ذروتها في الألف الأولى بعد الميلاد، إذ صارت لغة الثقافة والشعائر الدينية في معظم جنوبي وجنوب شرقي القارة الآسيوية، كونها لغة الديانة الهندوسية [ر].
يُقسم تاريخ التراث السنسكريتي عادة إلى ثلاث مراحل، هي: الفيدية [ر. فيدا] Veda، والملحمية، والاتباعية (الكلاسيكية). وأقدم نص مدون معروف هو «ريغ فيدا» Rig Veda الذي يضم الأناشيد الربانية التي نُظمت ما بين 1500 و1000 ق.م، واستمر نظم الجديد منها حتى القرن الخامس ق.م حين ظهرت البوذية[ر] والجاينية Jainism (ديانة عاصرت البوذية). وفي القرن نفسه ظهر العلامة اللغوي بانيني Panini الذي وضع قواعد اللغة السنسكريتية في مؤلفه الشهير «ثمانية كتب في قواعد اللغة» A stahyayi الذي ذكر فيه أسلافه من النحويين. وتكمن أهمية كتاب بانيني في تناوله اللغة من جميع جوانبها، لفظاً وكتابة ونحواً وصرفاً وإعراباً للمفردات والجمل، وكذلك في تصنيفه جذور الأفعال والأسماء واستخلاص قواعد اشتقاقها، كما ميز جغرافياً الصيغ اللغوية الشمالية من الصيغ الشرقية. وقد صاغ بانيني قواعده في لغة يسهل حفظها عن ظهر قلب، مما ساعد في صون قوام اللغة من اللحَن والخطأ عبر القرون، فصار كتابه مقياساً لصحة السنسكريتية، ولا سيما مع ظهور فروق واضحة بين السنسكريتية واللغة المنطوقة المتداولة في عصره، أي لغة براكريت Prakrit، بما يماثل الاختلاف في العربية بين الفصحى والعامية أو المحكية، التي بيّنها بانيني في كتابه. وبمرور الزمن عاشت السنسكريتية مصير اللاتينية في القرون الوسطى في أوربا، بحيث بقيت لغة الثقافة والقداسات الدينية، أما فيما عدا ذلك فقد حلت محلها كثير من اللغات واللهجات. وقد أحصت الحكومة الهندية في القرن العشرين نحو 180 لغة و540 عامية تسود شبه القارة الهندية.
تمتد المرحلة الملحمية من ما بعد بانيني حتى القرون الأولى بعد الميلاد، ففي هذه الحقبة ظهرت وتطورت صيغ الملحمتين الشهيرتين «مهابهاراتا»[ر] Mahabharata و«رامايانا»[ر] Ramayana بلغة سنسكريتية اتبعت قواعد بانيني إلى حد كبير، على الرغم من رضوخها لعوامل التطور، فاندثر كثير من صيغ الأفعال والأسماء القديمة لتحل محلها أشكال جديدة متداولة. وتتحدد معالم المرحلة الاتباعية (الكلاسيكية) منذ مطلع القرن الثالث الميلادي، بظهور شعر البلاط ذي الطابع الدنيوي، وبصعود الدراما إلى ذروتها بموضوعات بطولية وجنسية، وبتوسع هائل في الدراسات العلمية (الرياضيات والطب والفلك) والفلسفية والدينية والأدبية النقدية واللغوية، مما يعني تنوعاً في أشكال التعبير النثرية مع إتباع قواعد بانيني ما أمكن.
تمتلك اللغة السنسكريتية، كسائر اللغات الهندية الأوربية القديمة، صيغة المثنى إلى جانب المفرد والجمع، وكذلك صيغة المحايد إلى جانب المذكر والمؤنث. كما تمتلك ثماني حالات إعرابية هي: الرفع، النصب، المفعول به الثاني، المفعول فيه، المضاف إليه، الظرفية، المنادى، الأدوات المساعدة. أما حروف الكتابة فيفوق عددها المئة، وهي بالغة التعقيد بحيث تصعب ترجمتها نطقاً بحروف لغات أخرى، بسبب تعدد أشكال لفظ الصوامت والصوائت والإدغام بين قصير ومتوسط وطويل. وتسمى هذه الأبجدية «ديفاناغاري» Devanagari، أي كتابة مدينة الآلهة.
يشمل الأدب السنسكريتي الأعمال الشعرية والنثرية والمسرحية المؤلفة باللغة السنسكريتية التي تتناول غالباً موضوعات دنيوية الطابع، وتعود أوائل هذه الأعمال إلى المرحلة الملحمية. أما كتب الفيدا الأربعة وما يتبعها، مثل «براهمانا» Brahmana (النصوص الدينية) و«أرانجاكا» Aranjaka (فقه الدين) و«أوبانيشاد» Upanishad (التعاليم السرية)، فهي ذات خصوصية دينية بحتة وتنتمي بالتالي إلى الآداب الهندية بمفهومها الأوسع والمكتوبة باللغات المستخدمة في شبه القارة الهندية.
يمكن تقسيم الأدب السنسكريتي إلى شعر: ملحمي وغنائي وتعليمي ومسرحي وحكائي، وإلى نثر: تعليمي ومسرحي وسردي. وينقسم الشعر الملحمي نوعين: الملحمي الحكائي المتحرر من القيود والمسمى «إتيهاسا» Itihasa (الحكايات البطولية) أو «بورانا» Purana (الحكايات القديمة)، والملحمي الفني المصقول المسمى «كافيا» Kavya، (الصنعة الشعرية). وتعد ملحمة الهند الكبرى «مهابهاراتا» أبرز نموذج لنوع «بورانا»، أما الملحمة الثانية «رامايانا» فهي بداية نوع «كافيا» الذي لم يبلغ ذروة تطوره إلا نحو القرن الخامس الميلادي مع الشاعر المسرحي كاليداسا[ر] Kalidasa مؤلف الملحمتين الفنيتين «كوماراسامبهافا» Kumarasambhava (نشأة كومارا) و«راغهوفامسا» Raghuvamsa (قبيلة راغهو).
يمتاز الشعر الغنائي بسماته الفردية، وأهمها الصياغة المصقولة للمقطّعات الشعرية القصيرة على حساب القصائد المطولة، ولهذه المقطّعات أشكال لا تحصى تتصف برهافة عالية. لكن أشهر قصيدتين مطولتين تعودان أيضاً إلى كاليداسا، وهما «مِغْهادوتا» Meghaduta (مرسال الغيوم) و«ريتوسامهارا» Ritusamhara (الفصول الأربعة في وصف موجز). موضوع القصيدة الأولى رسالة حب تحملها غيمة من كائن خارقٍ منفي إلى محبوبته في الوطن، وموضوع الثانية وصف ما يطرأ من تبدلات على الغابات الاستوائية الساحرة عبر الفصول الأربعة . إلا أن ثقل الشعر الغنائي يتجلى في المنمنمات الشعرية الأشبه بالأمثال أو الحكم التربوية التي ازدهرت في الهند وحظيت بنجاح واسع. وأشهر مجموعة من هذا النوع هي «ساتَكا» Sataka (المئويات) للشاعر بهارتريهاري[ر] Bhartrihari الذي يُعد بحق أشهر شاعر هندي بعد كاليداسا. ثم يأتي أمارو Amaru في مجموعته «أماروساتَكا» Amarustaka ذات الموضوع الجنسي erotic ذي الانتشار الواسع في الهند آنذاك.
ولما كان التأمل جزءاً أساسياً في الديانة الهندوسية، فقد انعكس ذلك في الشعر أيضاً، ولا سيما في المقطعّات التربوية الوعظية التي تحمل سمة الأقوال المأثورة، وقد جُمع من هذا النوع قرابة ثمانية آلاف مقطّعة من مختلف أجناس الأدب السنسكريتي وأنواعه ونُشرت في مجموعة. والموضوع الذي يجمعها هو تفاهة حياة الإنسان والسعادة الناجمة عن الزهد فيها بالتنسك.
على الرغم من قدم فنون العرض المسرحي في الهند، لكن الأدب المسرحي كان آخر الأجناس الأدبية من حيث التطور والازدهار، علماً بأنه أكثرها أهمية وإثارة للتفكير والتأمل من حيث الشكل والمضمون واللغة وقابلية التأثير، عند العرض، في المتلقي الذي كان في الغالب أمياً. ولما كان العرض المسرحي آنذاك فقيراً ومتقشفاً من حيث الديكورات والتقنيات التي عرفها المسرح الإغريقي مثلاً منذ القرن الخامس قبل الميلاد، فقد كان على النص المسرحي أن يكون بالغ الغنى كي يعوض عن فقر أدوات العرض. ومن هنا كانت النصوص المسرحية طويلة، بحيث يتجاوز زمن عرض النص أربع ساعات. ويعود السبب في ذلك إلى الفقرات الوصفية، كما في كثير من مسرحيات شكسبير التي تستفيض في وصف الأمكنة التي تتحرك فيها الشخصيات، أو في وصف عوامل الطقس، أو مصاعب الطريق، أو أحوال العيش. وكان المسرحيون يكتبون نصوصهم شعراً، أو شعراً ونثراً معاً، حسب طبيعة الموضوع والشخصيات؛ وكانوا يستقون موضوعاتهم إما من الأساطير والملاحم والقصص البطولية القديمة، كما في رائعة كاليداسا «شاكونتَلا أو خاتم التعارف» Abhijnanasakuntala، وإما من الواقع العياني مباشرة، كما في «عربة الصلصال الصغيرة» Mricchakatika المنسوبة إلى الملك شودراكا[ر] Sudraka، إذ يختلف كلام الشخصيات من حيث المستوى اللغوي، بحسب الخلفية الاجتماعية الثقافية المهنية لكل منها، مما كان يضفي على العرض تنوعاً غنياً يشد إليه المشاهدين. ولم يخل عرض مسرحي من الرقص والموسيقى والغناء بوصفها جزءاً لا يتجزأ من حياة الهندوسي. ولم تعرف المسرحية السنسكريتية التقسيم التقليدي إلى مأساة وملهاة، بل كانت المسرحية الواحدة تجمع العنصرين معاً، مثلما هي الحال في الحياة الطبيعية، حسب النظرة الفلسفية الهندوسية أو البوذية أو الجاينية، حيث التناوب دائم بين الخير والشر وبين السعادة والبؤس. كما كان الكتاب المسرحيون يبدؤون مسرحياتهم دائماً بمقدمة تؤكد أن ما يقدم إنما هو لعبة مسرحية يؤديها ممثلون محترفون، وليس إيهاماً بالواقع أو بديلاً منه. وغالباً ما كانوا أكثر جرأة على الصعيد السياسي في نقد مفاسد الحكم والحاكم وتبيان مواضع الخلل في جهاز الدولة، كما في مسرحية «خاتم الوزير راكشاسا» Mudraraksasa للكاتب فيشاخاداتّا Visakhadatta من القرن الخامس للميلاد. وعلى الرغم من أن نظام الصناديق الطبقية المغلقة كان مطبقاً بشدة بحيث يمنع التداخل والتزاوج بين الطبقات، لم يكن أبطال المسرحيات بالضرورة من الطبقات العليا، بل هم خليط متنوع يراوح بين الملك والخادم مروراً بمختلف الفئات الاجتماعية، وقد يكون الملك شريراً متعسفاً، في حين يتصف الخادم أو حتى العبد بسمات خلقية إيجابية ترفعه إنسانياً فوق الملك. وكان المؤلفون يضعون شخصياتهم في سياق أحداث واقعية أو متخيلة تهدف تناقضاتها ومفاجآتها، السلبية منها والإيجابية، إلى تأكيد الخير والأمل والجمال، من دون الانزلاق في مطب الوعظية الأخلاقية. وما يلفت النظر هو أن المسرح الهندي عامة لم يعرف وحدات أرسطو [ر] الثلاث (الزمان والمكان والموضوع)، فيمكن للحدث الرئيسي أن يمتد عبر أجيال وأن يقع في أمكنة متعددة، كما يمكن أن تتضمن المسرحية الواحدة عدة مواضيع متداخلة في نسيج ذي حبكة متقنة. وإلى جانب الكتاب المذكورين آنفاً يمكن ذكر بهاسا[ر] Bhasa وبهافابهوتي[ر] Bhavabhuti وبهاراتا[ر] Bharata وغيرهم كثير.
يحفل الأدب الهندي عامة بالحكايات الخرافية الجميلة التي تهدف إلى التعليم والترفيه معاً. ولما كان مؤلفو هذا الجنس الأدبي مجهولين غالباً، فقد كانت هذه الحكايات تُجمع عادة في مجموعات، إما بطلب من أحد الملوك أو بجهود أحد علماء اللغة أو الحكماء. وأشهر مجموعتين في اللغة السنسكريتية هما «بنجاتنترا» Panjatantra (كتب الحكايات الخمسة) و«هيتوباديشا» Hitopadesa (التعليم الشافي)، وكلتاهما تستندان إلى مصادر بوذية، لا هندوسية. وما يلفت النظر في مجموعات الحكايات الخرافية السنسكريتية هو أن أسلوب السرد فيها استطرادي توليدي، بحيث تؤدي كل حكاية إلى حكاية جديدة في إطار حكاية أساسية تشكل الفاتحة والخاتمة، كما في «ألف ليلة وليلة» العربية وكثير من المجموعات الفارسية المشابهة. وقد ترجمت مجموعة «بنجاتنترا» إلى معظم لغات العالم ولاقت صدى إيجابياً حيثما نُشرت. أما «هيتوباديشا» الأقل شهرة عالمياً فتنسب إلى الشخصية الأسطورية نارايانا Narayana الذي عاش بين القرنين العاشر والرابع عشر للميلاد. لكن المجموعة التي نسبت إلى الشاعر سوماديفا Somadeva من القرن الحادي العشر، المعروفة بعنوان «كاثاساريتْساغَرا» Kathasaritsagara فتعود في حقيقة الأمر إلى الأديب العالم غوناذهيا Gunadhya الذي عاش في القرن الثاني ق.م وكتب آنئذ المجموعة التي عُرفت بعنوان «بريهاتكاثا» Brihatkatha أي (الحكاية الكبرى).
المراجع
موسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث