التكافل الاجتماعي وسيلة حضارية لحفظ التوازن الاجتماعي، وتخفيف المشكلات التي يعاني منها الناس الذين لا يملكون سبل العيش الكريم، فأينما توجهت ترى ظواهر محزنة نتيجة ارتفاع نسبة الفقر والجهل في بعض المجتمعات، وهذه الظواهر تستدعي العمل الجاد لمعالجة أسبابها من خلال تحقيق مفهوم التكافل الاجتماعي الذي شرعه الإسلام ليحدّ من المشكلات والظواهر الاجتماعية السلبية، فقد قال تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 2]. ومن أعظم مجالات البر التي يهيئ المسجد فرصة التعاون على تحقيقها الإحسان إلى ذوي الحاجات، ومواساة من حلت بهم النكبات، بمبادرات لا تضطرهم إلى السؤال، بل تستر عليهم وتحسن إليهم، سيما مَن حالهم كما وصفهم الله تعالى بقوله: { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } [البقرة : 273].
إن الحث على التكافل دعوة للمجتمع الإنساني عامة، وللمجتمع المؤمن خاصة، لا تنحصر بزمان ولا بمكان بل لها امتدادُ العمر الذي نعيشه ولها استمرارية الحياة التي نحياها، إن الإسلام يسعى إلى بناء مجتمع إسلامي عظيم يعيش موفور الكرامة عزيز الجانب، لا تذله الحاجة، ولا تنحرف به ضراوة العيش عن سواء الصراط.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خيرَ من دعا إلى تحقيق التعاون والتكافل، وكانت سيرته مضرب المثل في ذلك، وجاء منهجه داعياً للأمة لتكون صورة حية لتكافل شامل، فهاهو يجعل كافل اليتيم معه في الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم – له أو لغيره – أنا وهو كهاتين في الجنة» وأشار مالك بالسبابة والوسطى»[صحيح مسلم (7660)، ومالك المذكور هو الإمام مالك بن أنس، وهو من رجال الإسناد].
ويخطّ منهج التآخي والتكافل عملياً في المجتمع الإسلامي حين آخى بين المهاجرين والأنصار، تلك الأخوة الفريدة التي بلغت أعلى المراتب لتصل إلى حد الإيثار على النفس فانتصبت نموذجاً يحتذى في كل حين، قال تعالى: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر : 9]إنها (صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار. هذه المجموعة التي تفردت بصفات، وبلغت إلى آفاق، لولا أنها وقعت بالفعل، لحسبها الناس أحلاماً طائرة، ورؤى مجنحة، ومُثلاً عليا قد صاغها خيال محلق..{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ }.. أي دار الهجرة. يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين...{ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا }.. ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين. بهذا الحب الكريم. وبهذا البذل السخي. وبهذه المشاركة الرضية. وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء. حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة. لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين! { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا }.. مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع، ومن مال يختصون به كهذا الفيء، فلا يجدون في أنفسهم شيئاً من هذا. ولا يقول: حسداً ولا ضيقاً، إنما يقول: {شيئاً}. مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم، فلا تجد شيئاً أصلاً.
{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر : 9] . والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا. وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيراً. وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديماً وحديثاً. { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.. فهذا الشح. شح النفس. وهو المعوق عن كل خير. لأن الخير بذل في صورة من الصور. بذل في المال. وبذل في العاطفة. وبذل في الجهد. وبذل في الحياة عند الاقتضاء. وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائماً أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي. ومن يوق شح نفسه، فقد وقي هذا المعوّق عن الخير، فانطلق إليه معطياً باذلاً كريماً. وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه).
ومن النماذج الرائعة التي تعتبر تفسيراً عملياً لمعنى الآية، المؤاخاة بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف، حيث قال له سعد: إن لي مالا فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيتهما أحببت حتى أطلقها فإذا حلّت فتزوجها.
وهذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم يفتح دائرة التكافل لتكون شاملة للناس ولأنواع المواساة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له» قال راوي الحديث: (فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)[صحيح مسلم (4614)؛ صحيح ابن حبان (5419)]. وبهذا التكافل يكون التعرض لرضوان الله، وكسب الأجر، وتحقيق قوة ومناعة المجتمع المسلم.
إن للتكافل الاجتماعي أهمية كبيرة في المجتمع، لأنه يعبر عن الأخوّة القائمة بين أفراد المجتمع. فالمجتمع بحاجة لوقفة مسؤولة وجماعية مِنْ كُلّ مَنْ يؤمن بالله تعالى ويسعى لرضاه ولنيل المغفرة والإسهام في بناء المجتمع الصالح والقوي والمتوازن لمواجهة أنواع الحرمان والحاجة، وما قد يترتب عليها من الانحراف.
والإسلام يحض الناس للخروج من النّزعة الأنانية والفردية لكي يتحسسوا آلام الناس وحاجاتهم، ويقرر أنّ من أفضل سبل التقرب إلى الله تعالى قضاء حوائج الناس. وقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم – معلم البشرية الخير–: «ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعانَ وجاره جائع إلى جنبه»[المستدرك للحاكم (2166)، وإسناده حسن]، من هنا لا بدّ من العناية بزرع روح التكافل بين الناس والعمل على مساعدة الضعفاء والفقراء، والإصغاء بأسماع القلوب لمن لا صوت لهم، والارتقاء بمن لا قدرة له إلى حياة كريمة لتجسيد مبادئ الإسلام في المساواة والإخاء والعدالة.
إن التعاون والتضامن، مما يمتن أواصر المودة والرحمة والتعاطف بين المسلمين. فالمسلم أخو المسلم يسعد معه في أفراحه، ويواسيه في أتراحه، ويعمل من أجل سعادته بكل ما يستطيع من الأمور المادية المحسوسة، وإذا تعذر عليه ذلك فباستطاعته مساعدتهم ومواساتهم بالكلمة الطيبة، والمشاعر الصادقة، والدعوة الخالصة. وقد جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم باب العون واسعا ومتنوعاً يسهل على كل أحد أن يجد منه ما يستطيعه فها هو حديث أبي ذر رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل، وجاء فيه: قال: «... تعين صانعا أو تصنع لأخرق، قال: فإن لم أفعل؟ قال: تدع الناس من الشر فإنها صدقة تَصدَّقُ بها على نفسك»[ينظر: صحيح البخاري (2518)].
وقد كثرت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي ضرب فيها الأمثلة تصويراً لهذا التكافل في المجتمع المسلم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[صحيح مسلم (6751)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»[صحيح البخاري (481)، صحيح مسلم (6750)] وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى»[رواه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب رقم (6411) وفي سنده متهم بالكذب، والغرض التمثيل] والمتأمل في هذه الأمثلة النبوية يرى مدى قوتها وعظمتها وبلاغتها في تصوير هذا التكافل في المسلمون جسد واحد وبنيان مترابط، وأيد متماسكة.
ويزيد النبي صلى الله عليه وسلم التكافل مكانة ورفعة ويرغب فيه ترغيباً عظيماً حين يربط بينه وبين الأثر العظيم المحمود للتكافل يوم القيامة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»[صحيح مسلم (7028)].
المراجع
موسوعة اسلاميات
التصانيف
عقيدة