دروس السوربون (الدرس الثاني)

فردناند ألكيي
ترجمة أحمد العلمي

رأينا، في الدرس الأخير، أن نظرية الحقيقة السبينوزية تحيل على نظرية الطبيعة، إحالة الفرع على أصله، التي يبدو أنها سابقة عليها. وهذه النظرية تترتب هي ذاتها على نظرة طبيعية للعالم، أي على تصور تتخلله روح فلسفة عصر النهضة، حيث تعتبر الطبيعة كموجود أول بشكل مطلق، وكمنبع تلقائي، ومستقل، ولا متناهي لكل الأشياء.
 
ورأينا، من جهة أخرى، أن سبينوزا بانطلاقه من هاته النظرة، التي تعطي للطبيعة، حسب روح فلسفة عصر النهضة، الدينامية والاكتفاء الذاتي، قد وجد في المنهج الرياضي الديكارتي وسيلة عقلنة هذا الحدس الأول. إن المنهج الرياضي هو الذي يسمح له بالتخلي النهائي عن كل ما هو غائي وتشبيهي. وبكلمة واحدة، هو الذي يسمح له بالتعبير عن المذهب الطبيعي بلغة مخالفة للغة الصوفية الدينامية، التي تبدو أنها خاصية التوجه الطبيعي التي انطلق منه.
 
لقد كان موضوع درسي الأول إذن هو أن أبين لكم أن هناك، إن أمكن القول، أصلين مزدوجين عند سبينوزا: أصل حدسي، مأخوذ من نظرة أولى (إما أن هذه النظرة تعود إلى سبينوزا بشكل مطلق، وإما أنها تعود إلى بعض المؤلفين، كالفيلسوف برونو مثلا)، ومن جهة أخرى، أصل ثان هو عبارة عن نوع من التصور الرياضي (الآتي، هاته المرة، من ديكارت) الذي قدم لسبينوزا الإطار لبلورة تصوره الخاص، وسمح له تدريجيا بالانتقال من المذهب الطبيعي الصوفي إلى المذهب الطبيعي العقلاني، المؤَسَّسِ على الرياضيات.
 
نستشعر مع ذلك أن سبينوزا لم يصل إلى تلك النتيجة بدون صعوبة. والبحث في هاته البلورة، وفي هذا السير إلى الأمام، وفي هذا التقدم المطلق من المذهب الطبيعي الأول إلى نظرية كتاب الإيتيقا، هو الذي سيكون موضوع درس اليوم.
 
غير أنه قبل التطرق إلى المسألة، أود الإشارة إلى تحفظ وتحديد المشكل بكيفية دقيقة.
 
أولا وقبل كل شيء، يجب الاعتراف أننا لن نتمكن، بصدد سبينوزا، من إعادة رسم كيفية ولادة النسق، كما يمكن فعل ذلك بالنسبة لديكارت وكانط. وذلك لأسباب متنوعة، أعرضها بسرعة.
 
أولا، إن عمل سبينوزا الأكثر قدما هو عمل نعرفه معرفة سيئة. وهو الرسالة القصيرة. لقد كُتب أولا باللاتينية، غير أنه لم يصل إلينا إلا عبر نسخ هولاندية. وتتوفر على نسختين، تختلف الواحدة عن الأخرى. يمكن أن نعتبر أن العمل قد حرر حوالي 1660. غير أنه يتكون من أجزاء غير متجانسة، والعديد منها قد تم تحريرها قبل هذا التاريخ، وبعضها هي بدون شك أفكار أخذها أصدقاء سبينوزا، خلال العروض القصيرة التي قام بها أمامهم. ويبدو أن سبينوزا لم يراجع هذا النص أبدا. لذلك يجب استعماله بأقصى حذر.
 
وهو فوق ذلك نص شديد الغموض؛ وستدركون ذلك بقراءته. ومادام أن سبينوزا لم يراجعه بدون شك، وأن النص ليس عملا خالصا من توقيعه، فإنه يصعب علينا القول، عندما نقف عند صعوبة ما، ما إذا كان الأمر يتعلق حقيقة بصعوبة داخل المذهب، أو يتعلق بخطإ للناسخ، أو بسوء فهم من تابع دروس سبينوزا وأخذ أفكاره وحرر النص. وعلاوة على ذلك، إن تأثير ديكارت، في الرسالة القصيرة، هو تأثير بَيِّنٌ. وبالتالي، يجب التخلي عن الأمل، الذي كان من الممكن أن نتحلى به، وهو القاضي بالعثور في الرسالة القصيرة على الحدس السبينوزي في شكله الخام. لقد كان سبينوزا قد قرأ آنذاك ديكارت، وقد عرف آنذاك الفلسفة الديكارتية.
 
أما النص الثاني، فهو رسالة في إصلاح الفهم وهو نص يعود إلى سنة 1661. وهو نص غير تام، غير أنه وثيقة، كما سنرى، تكتسي قيمة أكبر بالنسبة لنا من النص الذي حدثتكم عنه قبل قليل. إذ أن النص من خط سبينوزا نفسه. وبالتالي فهو، بالفعل، النص الوحيد والمتين والدقيق الذي بين أيدينا الذي يسمح بالقيام بمقارنة بينه وبين نص كتاب الإيتيقا لتقييم التغييرات المتنوعة التي قادت سبينوزا إلى نظرية كتاب الإيتيقا.
 
وفي سنة 1663، نجد أيضا نصا آخرا. وهو يتكون من الجزء الأول والجزء الثاني من مبادئ فلسفة ديكارت مبرهن عليها وفق النظام الهندسي، والأفكار الميتافيزيقية الموالية له. وهنا أيضا، لن نستطيع العثور بسهولة في هذا النص على الفكر الأصلي للمؤلف. إذ يتعلق الأمر بكتاب يلخص دروسا حول ديكارت، قدمت لتلميذ ما، اعتبر، على ما يبدو، غير أهل من طرف سبينوزا لمعرفة فكره الحقيقي وبالتالي يصعب التمييز، في هذا النص، بين الفكر الأصلي لسبينوزا، وبين انشغاله بعرض فلسفة ديكارت بشكل موضوعي.
 
ولدينا كذلك رسائل سبينوزا، التي تمتد من غشت 1661 إلى يوليوز 1676. لكن يبدو أنها تشير إلى أن نظرية كتاب الإيتيقا، على الأقل في الكتاب الأول، هي نظرية قد اكتملت (وقدمت لأصدقاء سبينوزا) منذ 1661. وبالتالي، فمن الصعب الاعتماد على الرسائل، ماعدا في بعض النقط، من أجل استخراج تطور داخل فكر سبينوزا.
 
ويبدو، فضلا على ذلك، أن الكتاب الأول للإيتيقا قد انتهى منذ 1663. أما البقية فإنها، كما تعرفون، ستُبلور في السنوات الموالية، وعلى ما يبدو، إلى حدود 1675 تقريبا. ونحن نعرف أن كتاب الإيتيقا سينشر، بصحبة كتب أخرى، في سنة 1677، وهي سنة رحيل الفيلسوف.
 
هكذا نرى أنه على نقيض ما حدث بالنسبة لديكارت (حيث أن تطوره يمتد على مدى سنوات طويلة) أو بالنسبة لكانط، فإن تطور فكر سبينوزا يقع بمجموعه في مجال زماني قصير جدا، خمسة عشر سنة، من 1660 إلى 1675.
 
ثانيا، إن النص الأول المعروف، أي الرسالة القصيرة، هو نص مشكوك فيه.
 
ثالثا، إن كتاب الإيتيقا نفسه قد خضع باستمرار، طيلة هاته المدة، لتعديلات، دون أن نعرف دائما بشكل جيد تحديد زمن هاته المقاطع، ودون أن تسعفنا رسائل سبينوزا بمساعدة كبيرة في هذا المجال.
 
وبالتالي لن يتعلق الأمر هنا بالقيام بدراسة تكوينية للفكر السبينوزي، دراسة تكون تامة بالشكل الذي يمكن القيام به بالنسبة لفلاسفة آخرين. لكن، رغم ذلك، هناك إشكالات لها، عند سبينوزا، عروض متعددة: عرض في الرسالة القصيرة، وعرض في رسالة في إصلاح الفهم، وعرض في كتاب الإيتيقا. ومن الممكن رسم منحنى تطور بالنسبة لهاته الإشكالات دون التعرض لأخطاء فادحة. وذلك بالضبط هو الأمر الذي نود القيام به اليوم، بصدد طبيعة المعرفة ودرجاتها.
 
سنترك جانبا الاختلافات الأخرى الحاصلة بين نصوص سبينوزا الثلاث، الرسالة القصيرة، ورسالة في إصلاح الفهم، والإيتيقا. وهكذا، فهناك، بصدد المنهج، اختلافات هامة. والأمر نفسه بالنسبة للمكان الذي يجب إعطاؤه لوجهة نظر الإنسان ولوجهة نظر الله داخل نظام المعرفة. سنقتصر اليوم على مشكل المعرفة، وعلى أجناسها ودرجاتها. ولن نتطرق إلى هذا الإشكال إلا داخل محور السؤال الذي عالجناه في الدرس الأخير، أي كيف أعطى سبينوزا بعدا رياضيا لحدسه الأول وكيف عقلنه؟
 
 
إن ما قلناه في الدرس الأخير يبين ذلك بشكل كاف: فما دامت كل صفة تبلور أحوالها الخاصة باستقلال عن الصفات الأخرى، ومادامت الحقيقة تكمن داخل الفكرة الحقيقية، ولا تستدعي أية إحالة على شيء خارج الفكر، فإن الحقيقة ستكون دائما داخل الذهن لن تتحدد بفضل علاقة بين الفكرة والشيء، وإنما بفضل علاقة بين فكرتين. كل فكرة يجب أن تكون متولدة عن فكرة أخرى. وهذا الأمر مفهوم، مادمنا في مجال داخل الفكر كفكر. لا يمكن لفكرة أن تتولد إلا عن فكرة أخرى. وبعبارة أخرى، سيكون البرهان الصحيح الوحيد هو الاستنتاج، أي البرهنة، حيث أنني أنطلق بالضبط من فكرة ما، وحيث أستخرج، من تلك الفكرة، فكرة أخرى.
 
ومن جهة أخرى، مادام أن نظام الأفكار الحقيقية، كما أشرنا إلى ذلك أيضا، هو نفس نظام الأشياء، فإن نقطة انطلاق الاستنتاج لا يمكنها أن تكون إلا الفكرة ذاتها التي لنا عن الموجود الأول، بمعنى أن فكرة الموجود الذي يترتب عليه كل ما تبقى، أي فكرة الله. وذلك هو النظام الذي سيقوم عليه كتاب الإيتيقا. ينطلق سبينوزا من فكرة الله أو من الطبيعة، وينتقل بعد ذلك إلى اعتبار أحواله، أي مجموع ما هو موجود. ذلك هو نظام المعرفة الحقة. وذلك يفيد أن المعرفة الحقيقية، هي المعرفة الاستنتاجية، والرياضية والعقلية.
 
غير أن سبينوزا يقابل هاته المعرفة العقلية، هاته المعرفة بواسطة العقل (التي سيسميها، كما سنرى ذلك، بمعرفة الجنس الثاني) بجنسين اثنين من المعرفة.
 
فتحتها هناك معرفة الجنس الأول، أي معرفة بالسمع، أو بالذاكرة، أو بالتجربة الحسية، أو بالمخيلة. وفوقها هناك معرفة الجنس الثالث، أو المعرفة الحدسية*.
 
نرى على الفور (دون أن يستدعي ذلك، بطبيعة الحال، أن أعالج هذا المساء كل الأسئلة التي سأشير إليها) أنه سيكون من السهل نسبيا فهم العلاقة بين المعرفة العقلية ومعرفة الجنس الأول. وفي مقابل ذلك سيكون من الصعب أن نفهم أن هناك فوق المعرفة بواسطة العقل، التي هي معرفة حقة، معرفة الجنس الثالث التي هي معرفة سامية عليها.
 
هناك بالفعل، حسب ما حدثتكم عنه في الدرس الماضي، وفي بداية هذا الدرس، نقطة واضحة تكمن في كون المعرفة بواسطة العقل هي معرفة موجودة بكاملها داخل الذهن، وهي تولد أفكارها حسب النظام الضروري، وتستخرج فكرة من فكرة أخرى. وهي بذلك معرفة حقة. لكن ما الأمر الذي يمكنه أن يكون فوق الحقيقة؟ يبدو لي أنه من الواجب لإدراك ذلك دراسة النصوص حسب نظامها الزمني. يجب دراسة النصوص الثلاثة للرسالة القصيرة، ورسالة في إصلاح الفهم، وللإيتيقا دراسة معمقة.
 
ربما قد نكتشف، بقيامنا بذلك، إحدى حلول المشكل، وهو حل -أقدمه لكم فورا- يتخذ الصبغة التالية بالنسبة لي: أعتقد أن المعرفة الحدسية، أي المعرفة الفوق-عقلية، قد بدت، في بادئ الأمر، لذهن سبينوزا كمثل أعلى مقترن بالحدس الطبيعي الأول الذي رأينا أنه قد انطلق منه.
 
بدت المعرفة الحدسية كمثل أعلى انطلق منه سبينوزا، وهو مثل أعلى مقترن بنظرته الفلسفية الأولى. وهذا المثل الأعلى هو الذي عمل فيما بعد نزوعه العقلاني والرياضي الالتحاق به للوصول إليه تدريجيا. لكن يبدو لي أنه، ما إن يلتحق بذلك، ويصل إليه، وما إن يتم الوصول إلى هذا العلم الحدسي بواسطة المعرفة بواسطة العقل، حتى تصبح مرتبة هذا العلم الحدسي أقل وضوحا. سيبدو هذا العلم الحدسي وكأنه أقل انفصالا عن المعرفة بواسطة العقل مما كان عليه في نقطة البداية. وفي نقطة الوصول، سيصبح مشكل علاقة هاتين المعرفتين (الذي قد كان واضحا بشكل تام في نقطة البداية) شديد الغموض وسيزداد غموضا بقدر ما سيزداد مستوى المعرفة العقلية وقيمتها.
 
ألخص إذن ما قلته. لقد انطلقنا من الشكل التالي: لنظرية الحقيقة عند سبينوزا أصلان اثنان، حدس طبيعي، ونوع من التوجه الرياضي. وبينا أن انتقال سبينوزا من الواحدة إلى الأخرى، وإدخال توجهه الرياضي في حدسه الطبيعي لم يتما بدون صعوبة. وقد حاولنا أن نرى في أي حدود يمكننا تمييز الحقب داخل هذا النوع من التطور. ورأينا، بصدد هاته الحالة بالذات، أن ذلك الأمر ممكن، مادام أننا نجد في الرسالة القصيرة، وفي رسالة في إصلاح الفهم، وفي كتاب الإيتيقا، ثلاثة عروض لنفس المسألة. يجب علينا الآن مقارنة هاته العروض الثلاث.
 
لنتناول أولا الرسالة القصيرة. إن الأجناس المتنوعة للمعرفة متميزة فيها. ونحن نجد إشارة إليها في الفصل الأول والثاني من الجزء الثاني. يميز سبينوزا ثلاثة أو أربعة أجناس من المعرفة. وإذا قلت ثلاثة أو أربعة، فذلك لأن الجنس الأول ينقسم نفسه إلى قسمين. هناك 1 و2 و3، لكن ينقسم إلى 1أ و1ب. ومن ثمة فإننا نجد:
 
1)       الظن “وحده”، وهو المسمى أيضا رأيا. ونجد الكلمتين مستعملتين في أغلب الأحيان كمترادفتين في النسخ التي لدينا عن الرسالة القصيرة. ومن الممكن، والمحتمل، أن نجد في النص اللاتيني (أذكر أن الرسالة القصيرة قد حررت أولا باللاتينية من طرف سبينوزا، وأننا لا نتوفر سوى على نسختين محررتين باللغة الهولاندية) الكلمتين، أي الظن والرأي*.
 
إن هذا “الظن وحده” ينطوي على أصلين اثنين، ويفترض إذن هو نفسه درجتان اثنتان:
 

أ) المعرفة بالسمع

. يتناول سبينوزا، من أجل شرح مقصوده، مثالا لن يكف عن التذكير به. إنه مثال البحث عن القيمة الرابعة للتناسب. يمكن للباعة، في هذا البحث، حل المشكل بتطبيق قواعد تعلموها من الخارج، وبدون فهمها، “كما يفعل ببغاء بالنسبة لما لُقِّنَ إليه”. ورغم أنه يتم تطبيق القاعدة الثلاثية هنا بكيفية صحيحة، فلن نحصل، يلاحظ سبينوزا، على معرفة أكثر من تلك التي للأعمى عن الألوان. إنها المعرفة بالسمع. وكثير من الناس هم هكذا في مستوى السمع. لقد قيل لهم يجب العمل بهاته الكيفية أو بتلك، فيقومون بذلك دون معرفة سبب تصرفهم كذلك. إننا نتصرف بطريقة السمع -سأتناول أمثلة معاصرة- فيما يتعلق بثمانية أعشار من الأفعال التي نقوم بها. فأغلب الناس الذين يفتحون جهاز المذياع، أو يشعلون مصباحا، أو يستعملون الهاتف، يجهلون تماما ما يحدث، وبالتالي فإنهم يجهلون سبب حركتهم. لكنهم يعرفون أن من الواجب أخذ سماعة الهاتف، وانتظار ضجيج معين، ثم القول: آلو، إلخ. إنهم يخضعون لهاته القواعد.
 

ب) يمكن للرأي أن ينتج عن التجربة

. يتعلق الأمر هنا بالمنهج الاستقرائي، أو بشكل أكثر ضبطا، إذا أردنا مسايرة نص سبينوزا مسايرة حرفية، بالفحص التجريبي لرأي مسبق.

يتحدث سبينوزا، بالفعل، في نص الرسالة القصيرة، عن الإنسان الذي، بتلقيه للقاعدة سمعا (يتعلق الأمر بالحالة الأولى)، لا يكتفي بها، “بل إنه يتحقق من ذلك عن طريق بعض العمليات الحسابية الخاصة؛ وعندما يحدث أن توافق هذه الأخيرة القاعدة، فإنه يصدقها”.
 
ومن ثمة لا يتعلق الأمر بشخص يكتشف القاعدة بكيفية استقرائية، وإنما بشخص ذي ذهن حذر. لقد لُقِّنَتْ له لقاعدة الثلاثية. وهو يتساءل، مهما كان الحال، ما إذا كانت صالحة. ويتحقق من ذلك من خلال خمسة أمثلة أو ستة. وهو يرى أن ذلك ناجح. فيعتقد إذن أن تلك القاعدة صالحة، فيُسَلِّم بها.
 
لكن سبينوزا يلاحظ أن هذا النمط من المعرفة لا قيمة له، وأنه مُعْرض للخطإ. كيف يمكن، بالفعل، يتساءل سبينوزا، “أن نكون على يقين تام من أن تجربة بعض الحالات الجزئية هي قاعدة صالحة للكل؟”؟ إنكم ترون أن سبينوزا، بصدد هذه النقطة، لا يتهم استعمال الاستقراء في العلوم الرياضية فحسب، وإنما أيضا الاستقراء في كل العلوم. سيرمى بالاستقراء، وبصحبته المنهج التجريبي، في أحضان الرأي، وفي أحضان المعرفة الناتجة عن الخيال المحض، وبمجرد العادة.
 
وهكذا، ستصبح حالتا “الظن وحده” مختلطين.
 
2) إن هذا “الظن الوحيد”، يقابله “الظن المستقيم”، الذي سيصبح فيما بعد معرفة الجنس الثاني، أي المعرفة بواسطة الاستدلال المحض.
 
هنا، لن نعتمد، من أجل الحكم على القاعدة، على السبب الاستقرائي، وإنما سنعتمد على السبب الذي يجعلنا ندرك أن “ذلك الأمر هو كذلك بفضل خاصية الأعداد المتناسبة، ولأنه لن يكون غير ذلك، أو أنه لن يتحقق بشكل مغاير”.
 
إذن، إننا هنا أمام ضرورة حقيقية، ونجد هنا برهانا حقيقيا. لم يعد الأمر يتعلق بالانطلاق من بعض الحالات وتوضيح أن القاعدة ناجحة في تلك الحالات. يتعلق الأمر بالعثور على القاعدة بواسطة سبب القاعدة.
 
وتجدر الإشارة إلى أن سبينوزا لا يمنح لهاته المعرفة كل ثقته. وهو يحتفظ لها باسم الظن؛ وهي، بلا شك، معرفة مستقيمة، لكنها في النهاية معرفة ظنية. وبالفعل، يتعلق الأمر دائما -بالنسبة للفرضية التي يتموقع فيها سبينوزا- بالنسبة لإنسان ما، بالانطلاق -لا ننسى ذلك- من قاعدة يُفْترَض أنها مسبقة، وبإثبات حقيقتها.
 
وبالتالي فتمييز درجات المعرفة هو أمر واضح جدا. يمكن قبول القاعدة دون فحص ودون برهان، وذلك يدل على السذاجة المحضة. ويمكننا ألا نسلم بها إلا بعد فحص. ويمكننا البرهنة عليها. غير أنه حتى في هاته الحالة، أي حالة المعرفة العقلية، فإن الشيء يكون معلوما -كما نجد ذلك في هامش من الرسالة القصيرة- “بواسطة شيء آخر”. نرى أن سبينوزا غير راض على هاته المعرفة، لأنها معرفة غير مباشرة.
 
إننا هنا في سنة 1660، وهدف مجموع هذا الدرس هو أن أبين لكم كيف أن سبينوزا قد غَيَّر تدريجيا فكرته، بين الرسالة القصيرة وكتاب الإيتيقا. في البداية، يؤاخذ على المعرفة بواسطة السبب كونها معرفة غير مباشرة. لأن الشيء يكون فيها معلوما بواسطة شيء آخر.
 
3) وأخيرا تأتي المعرفة التي يحتفظ لها سبينوزا باسم المعرفة الواضحة والمتميزة.
 
هنا يستعمل سبينوزا كلمة ظن، ويضيف أن هاته المعرفة واضحة ومتميزة. لقد وصلنا إذن إلى الحقيقة. لم نعد، في هاته الحالة، يقول سبينوزا، في حاجة إلى السمع، ولا إلى التجربة ولا إلى فن الاستخلاص. إننا نرى الشيء نفسه. وندرك، مثلا، بواسطة حدس خالص، بواسطة حدس واضح، التناسب في كل العمليات الحسابية.
 
والواقع أن هذا النص ليس شديد الوضوح وليس شديد الجلاء. وهو يقع في سياق يجب أن أحدثكم عنه شيئا ما قبل العودة إلى النص نفسه، وهو سياق غامض، وفي بعض الأحيان متناقض.
 
فنظرية المعرفة عند سبينوزا، هي بالفعل، في الرسالة القصيرة، نظرية غير تامة. إنها ليست بتاتا تلك النظرية التي عرضتها عليكم في الدرس الأخير. فكثيرا ما توصف المعرفة كنتيجة فعل الشيء على الذات العارفة. وبالتالي، فالمعرفة متصورة كمعرفة منفعلة، ويذهب سبينوزا إلى القول إن فعل المعرفة هو انفعال محض، وهو الأمر الذي يعيد فيه الصيغة الديكارتية للمعرفة كانفعال، للتصور كانفعال. وأنتم تعرفون، بالفعل، أن التصور، بالنسبة لديكارت، انفعال للذهن، وهي صيغة تقابل تقابلا تاما النظرية النهائية لسبينوزا.
 
يُعرِّف الفصل الخامس عشر من القسم الثاني للرسالة القصيرة الحقيقة بتوافقها مع الشيء. ومع ذلك لم يكن سبينوزا منذ ذلك الحين سعيدا بهذا التعريف، وأثار حوله صعوبات، مسجلا بذلك ملاحظات عديدة من بينها أننا إذا عرَّفنا الحقيقي بموافقته مع الأشياء، فإننا لن نرى جيدا كيف يمكننا، إن نحن اعتبرنا فكرة في ذاتها، أن نعرف ما إذا كانت صائبة أو باطلة.
 
ومهما كان الأمر، مع ذلك، فإنه من غموض نظرية المعرفة في الرسالة القصيرة، ومن تردداتها، ومن المعنى المضبوط للتعبير الذي غالبا ما يستعمل في هذا النص من طرف سبينوزا، تعبير “يكون الشيء وفقه فاعلا فينا”، فمهما كان الأمر، أقول، فمن هاته الترددات، يبدو من الواضح أن الحدس، في الرسالة القصيرة، هو المفضل بالمقارنة مع الاستنباط. وذلك هو الأمر الذي يجب استخلاصه من النصوص التي قمت بتحليلها.
 
يمتلك سبينوزا آن ذلك، أي في الرسالة القصيرة، الفكرة التي وفقها يكون الحق علامة نفسه*. إنها فكرة أساسية، وليس هناك أي نص لسبينوزا، مهما كان قدمه، لا ينطوي عليها. غير أن هاته الفكرة القائلة إن الحق علامة نفسه، يؤولها سبينوزا آن ذلك، أي في 1660، في إطار إمكانية اتصال مباشر بين الذهن والشيء. يعود ذلك، بالفعل، إلى إقصاء كل بعد ذاتي بالمعنى السيكلوجي. ومن الجلي أن سبينوزا لن يغير موقفه أبدا، بل سيحافظ، بكيفية ما، على صيغه الأولى. وبالفعل، إذا كان هناك، في البداهة، اتصال مباشر بين الذهن والشيء، فإن الموضوع نفسه، أي الشيء نفسه هو الذي يمنح ذاته بكاملها إلينا، أي إلى معرفتنا، ولن يكون هناك، كما نتصور ذلك، أي خطر الوقوع في الباطل.
 
غير أن الفكر المقالي والعقلي يصبح، في هاته الحدود، بطبيعة الحال، فكرا أدنى قيمة. ولن يستطيع العقل المقالي العثور على أي مكان محدد بشكل واضح. بإمكانه فقط تأسيس معرفة غير مباشرة، معرفة تلتحق بها الحقيقة بصعوبة، ودائما بكيفية غير مباشرة. وذلك هو الذي يفسر لنا النصوص التي حللناها. عندما يقول لنا سبينوزا إن شيئا يُعْرَفُ، في نطاق المعرفة بواسطة السبب، بفضل “شيء آخر”، فإنه يعني أن الشيء نفسه، وفي حقيقته، لا يكون على الفور حاضرا أمام ذهننا. وفي هاته الحالة لم يعد هناك أي سبب كي أصبح على يقين بأنني أمام الحق، مادام أن الحق، في هاته الحالة، لم يعد بالضبط علامة على ذاته*. وكي يكون الحقيقي علامة ذاته*، يجب أن يكون مجرد رؤية الحقيقي برهانا على أنني أدركت الحقيقة. وفي هذا المعنى، لست أمام الحقيقي المشير إلى ذاته، حتى وإن تعلق الأمر بالرياضيات، مادام أن الحقيقي لا يعتبر حقا إلا في الحدود التي أربطه بكيفية غير مباشرة بشيء آخر مغاير له.
 
وباختصار، إن قدرة العقل هي قدرة غير مباشرة. هنا، لا يكون الشيء فعلا موجودا أمامنا بشكل فوري، إنه لا يكون حقيقة حاضرا أمامنا. غير أن ما يريده سبينوزا هو وجود يكون معطى لنا حقيقة، هو الحضور المحض للوجود.
 
وبعد أن ميز سبينوزا، إذن، هذه الأجناس من المعرفة، جعل سلامة النفس تترتب على المعرفة الواضحة وحدها. فهي وحدها، أي هذه المعرفة الواضحة، المقابلة عنده آنذاك للمعرفة بواسطة العقل، هي التي يمكنها أن تحررنا من الانفعالات السلبية. إن العقل لا يبدع الوحدة الحقة مع موضوعه، إنه يعمل فقط على الالتحاق له.
 
من البديهي، في تلك اللحظة، أن يعتقد سبينوزا أن المجرى العقلي نفسه هو، بمعنى ما، مجرى ذاتي. ولذلك فإنه يحتفظ بكلمة ظن للإشارة إلى المعرفة بالاستدلال. وهذا الظن حق، غير أنه مازال ظنا. إنه ظن مستقيم، كما يقول ذلك سبينوزا. فالذات تلتحق بالموضوع بواسطة البرهان، أو بواسطة الاستدلال، عوض أن تكون أمام الشيء نفسه، وأن تتركه -حسب عبارة الرسالة القصيرة- يؤثر فيها.
 
 
لننظر الآن في رسالة في إصلاح الفهم. هنا تحقق تقدم كبير، في النظرية العامة للمعرفة. لم تعد المعرفة معروضة كمعرفة انفعالية. فالفكرة الحقة تعبر عن الفعل الخاص للذهن. إنها تترتب على فكرة أخرى، لا على الشيء. فلم تعد الفكرة حقيقية لأنها الشيء يظهر لنا، إنها فكرة مستنتجة. إن الحقيقة هي صورة الفكر الحق، التي تتعلق بمجرد قوته، وبمجرد قدرة الفهم. وبالتالي نرى أن مرتبة الحقيقة تتحدد.
 
لقد لاحظت الرسالة القصيرة، من أجل تفسير الخطأ، بأن تأثير الشيء فينا بإمكانه أن يكون جزئيا أو تاما. وعلى العكس من ذلك، عوض أن يشير سبينوزا في رسالة في إصلاح الفهم إلى تلك العلاقة بين فهمنا والشيء، فإنه يثير العلاقة بين فهمنا والفهم اللامتناهي. فعدم إحالة الفكر، كما ترون ذلك، على ما ليس فكرا، هو حينئذ إغلاق الفكر على نفسه، هو إذن عدم ربط فكرنا بالشيء، وإنما ربطه -للتخلص من الذاتية- بالفهم اللامتناهي.
 
يليق بنا إذن أن نجتهد في تكوين وامتلاك أفكار آتية من الفكر الخالص، وربطها وفق قوانين ذلك الفكر. وبتلك الكيفية سيعيد الذهن بشكل موضوعي إنتاج ما هو موجود بشكل صوري، أي واقعي في الطبيعة. يستعمل سبينوزا هنا مفردات تلك الحقبة، حيث يقال إن شيئا، كما تعرفون ذلك، له وجود صوري عندما يكون واقعيا، ويكون موضوعيا عندما يكون في الذهن.
 
ها نحن إذن، على ما يبدو، أمام مذهب كتاب الإيتيقا. المخيلة وحدها هي التي ما زالت منفعلة، لأنها تتعلق بتعاقب انطباعاتنا الجسمية. لكن الفهم فاعل ولا يخضع إلا للذات.
 
لكن، لو نظرنا في مذهب أجناس المعرفة -الموجودة في رسالة في إصلاح الفهم-، فإننا سنرى أن سبينوزا لم يتوصل بعد إلى المذهب الحقيقي لكتاب الإيتيقا. يميز سبينوزا بين أربعة أجناس من المعرفة. والنص موجود في الفقرة العاشرة والفقرات الموالية.
 
والجنس الأول، هو الإدراك بالسمع. وبتلك الكيفية أعرف يوم ميلادي، وأعرف متى وأين ولدت. ينطبق هذا الجنس الأول بشكل تام على الجنس الأول الموجود في الرسالة القصيرة، التي تحدثنا عنها قبل قليل. وبالتالي فلن أركز على ذلك، فلا وجود لأي اختلاف بصدد هاته النقطة الأولى.
 
والجنس الثاني، هو الإدراك المكتسب بواسطة التجربة الغامضة. وبهذا الشكل أعرف أنني سأموت يوما ما، وأن الزيت يغذي اللهب، وأن الماء يطفئ النار، إلخ. يعيد سبينوزا أيضا مثاله الرياضي. فبإمكاننا، انطلاقا من تجربة حالات بسيطة، استخراج مبدأ كلي. وكما ترون ذلك، يشبه تحليل رسالة في إصلاح الفهم، بصدد هذه النقطة أيضا، تحليل الرسالة القصيرة. يتعلق الأمر بالفعل بمعرفة استقرائية، وبمعرفة مكتسبة بالتجربة، لا أعلم سببها. وهذه المعرفة، يقول سبينوزا، ليست محددة بواسطة الفهم، أي أنها ليست محددة بالعقل وحده. إنها تأخذ شيئا ما من التجربة الطبيعية. وإذا ظلت ثابتة فينا، فذلك لأنها -وهي التي حصلت لنا بكيفية اعتباطية- لم تُعَارَض من طرف معرفة أخرى. يتعلق الأمر
إذن بنوع من الحقيقة الفعلية، وليس بحقيقة متؤسسة كليا من جهة المبدإ.
 
وبالتالي، فالتوافق، إلى حد هناك، مع الرسالة القصيرة، هو توافق كامل، وليس هناك أي تطور ملحوظز غير أنه انطلاقا من هناك، سيصبح التوافق مع الرسالة القصيرة أقل وضوحا.
 
الدرجة الثالثة، الموافقة في الرسالة القصيرة وفي الإيتيقا للدرجة الثانية، هي جنس الإدراك “الذي بواسطته تُستخلص ماهية شيء ما انطلاقا من شيء آخر”، لكن بكيفية “غير مطابقة”، يضيف سبينوزا.
 
يصنف سبينوزا في هذا الجنس الاستدلالات الفزيائية، وكذلك بعض الاستدلالات الرياضية. فبالاستدلال أعرف أن الشمس أكبر مما تبدو، ويعرف علماء الرياضيات (ها هو نفس المثال وارد مرة أخرى)، باعتمادهم على قضايا أقليدس، أيَّ الأعداد هي أعداد متناسبة فيما بينها.
 
ففي الوقت الذي أقصى سبينوزا من العلم بشكل قاطع كل معرفة بالسمع وبالتجربة الغامضة، أي الجنس الأول والثاني، فإنه يسلم بهذا النمط الثالث “الذي يعطينا فكرة شيء ما، ويسمح لنا بالقيام باستخلاص دون خطر الوقوع في الباطل”.
 
وأنتم ترون، بالتالي، أن هناك قطيعة هامة جدا، مادام أنه لم يعد هناك، للمرة الأولى، أي خطر الوقوع في الباطل. ومن ثمة، فهاته المعرفة هي، بشكل ما، معرفة يقينية.
 
لكن سبينوزا، من جهة أخرى، يشير في هامش إلى أن هاته المعرفة بالاستدلال لا تقدم لنا أية ضمانة حقيقية، إنها تظل مجردة، وببقائها مجردة لا تجعلنا نتصور الأشياء “بماهياتها الحقيقية”. بحيث أننا نكون منقادين بدون انقطاع، من أجل تركيز هذه الخاصية المجردة للمعرفة، إلى الاستعانة بالمخيلة، التي تعيد إدخال الغموض.
 
نجد هناك مثالا سيستعمل مرة أخرى فيما بعد في معنى مغاير تماما. فعبثا علمت البعد الحقيقي للشمس، فإن ذلك لا يمنعني من رؤيتها كأسطوانة واقعة على بعد بضع خطوات مني. إنني لا أشاهدها على بعدها الحقيقي. ومن ثمة فإنني لا أعرف هنا الأشياء كما يجب علي أن أعرفها. وعلى كل حال، فلا يمكن لهاته المعرفة أن تساهم في خلاصي الحقيقي، ولا يمكنها أن تخلصني حقيقة من آرائي السيئة، ومن انفعالاتي السلبية ومن أخطائي.
 
إذن فهذا النمط من المعرفة ليس هو الوسيلة من أجل إدراك كمالنا الحقيقي. لا تنسوا أن كتاب الإيتيقا يُخضِع هاته التحاليل النظرية لهدف أخلاقي، وأنه إذا كانت معرفة ما لا تمكننا من إدراك كمالنا الحقيقي، فإنها لا تُشكل بَعْدُ الدرجة السامية للمعرفة.
 
هناك إذن نمط رابع وهو “الإدراك الذي يجعلنا نعرف الشيء بماهيته وحدها”، أو “بعلته القريبة”، يضيف سبينوزا.
 
يدرك هذا النمط الرابع الماهية المطابقة لشيء ما. ما معنى مطابق؟ تعرفون أن هذا السؤال عند سبينوزا هو سؤال غامض بما فيه الكفاية. ففي كل مرة يريد فيها تحديد الفكرة المطابقة، فإن سبينوزا يقول لنا إنها فقط الفكرة التي تتوفر على كل الخصائص والتسميات الباطنية للفكرة الحقيقية. وبالفعل، إنها، كما سنرى ذلك فيما بعد، الفكرة المصحوبة بكل ما هو مطلوب لجعلها فعلا فكرة صائبة. إنها الفكرة المدركة بكيفية تامة انطلاقا من علتها.
 
إذن فهذا النمط الرابع هو الذي يدرك الماهية المطابقة لشيء ما، ويتم ذلك، بطبيعة الحال، بدون خطر الوقوع في خطإ. غير أن عبارة “دون خطر الوقوع في خطإ” ليست عبارة جديدة، لأننا قد وجدنا هاته الخاصية حاضرة في الجنس السابق.
 
ما هو إذن هذا النمط من المعرفة الذي يدرك الماهية المطابقة للشيء؟ يحدده سبينوزا في آن واحد بالقول إننا هنا بامتلاكنا لمعرفة، نعرف ما هي المعرفة، ويحدده أيضا بالأمثلة. لنورد بعض هاته الأمثلة. يعلن سبينوزا بأنه بمعرفة النفس، نعرف أنها في وحدة مع الجسم، وهو مثال غريب بما فيه الكفاية. وأيضا، أعرف. أن مجموع اثنين وثلاثة يساوي خمسة، وأعرف أن خطين موازيين لخط ثالث هي خطوط متوازية فيما بينها، إلخ.
 
لكن، “قليلة هي الأشياء -يهترف سبينوزا، وهذا أمر هام جدا- التي استطعت أن أعرفها إلى حد الآن بمعرفة من هذا القبيل”.
 
إن هذا الجنس الرابع، الذي سيصبح، في كتاب الإيتيقا، جنسا ثالثا، هو الجنس الوحيد الذي يكتسي قيمة هنا، مادام أنه -يقول لنا سبينوزا- “هو الجنس الذي يجب استعماله بشكل أساسي”. ما هذا الجنس إذن؟ هل هو -كما رأينا ذلك باستمرار- معرفة كل الأشياء انطلاقا من الله، ومن صفاته، وأحواله اللامتناهية؟ يبدو، بمعنى معين، أن الجواب بنعم. ومع ذلك فليس هناك شيء يشير إلى ذلك بشكل واضح في كتاب رسالة في إصلاح الفهم. ومن الصعب -في هاته الفرضية، أي إذا كان الأمر على ذلك المنوال- إدراك أمثلة سبينوزا نفسها. فهل انطلاقا من الله أعرف أن مجموع اثنين وثلاثة يساوي خمسة؟ هل انطلاقا من الله أعرف أن الخطين الموازيين لخط ثالث، هي خطوط متوازية فيما بينها؟ هل من الضروري معرفة الله للعلم بكل ذلك؟
 
يجب الاعتراف أن النص ليس واضحا. وأعتقد، من جهتي، بالاعتماد على اعتراف سبينوزا نفسه -الذي حدثتكم عنه منذ قليل، وهو القائل بأنه يعرف القليل من الأشياء بهاته الكيفية- أن الأمر يتعلق، في رسالة في إصلاح العقل، بجنس من المعرفة متوخى، أكثر مما هو جنس متأسس.
 
لأن هذا الاتصال المباشر، الذي يشكل خلاص الوجود والذي اعتبره سبينوزا دوما كشيء ممكن، يعترف هو نفسه أنه لم يدركه إلا في حالات نادرة جدا. وربما ذلك هو الأمر الذي يفسر كون هذا العلم الحدسي الشهير يستند، عند سبينوزا، على هذا المثال البئيس الذي يُستعمل باستمرار والمتمثل في النسبة الرابعة المدركة حدسا، وهو مثال لا يقدم لنا -يجب الاعتراف بذلك- مساعدة كبيرة.
 
يبدو بالتأكيد أن سبينوزا ينطلق دائما من الحلم بمعرفة حدسية، معرفة ستكون علاقة مباشرة بين الذهن والشيء، ويحاول الوصول إلى هاته المعرفة، دون أن يتوفق في ذلك.
 
لكن، يمكن الاعتقاد أنه إذا كان النمط من المعرفة الذي يصل إلى الحدس هو نمط متوخى لا نمط متأسس، فذلك في حدود كون نظرية المعرفة العقلية مازالت غامضة، في هذا الكتاب. لقد تحقق، في كتاب رسالة في إصلاح الفهم، كما قلت لكم، تقدم كبير بالمقارنة مع الرسالة القصيرة، مادام أن سبينوزا يعتبر المعرفة بالعقل هي معرفة فاعلة. لكنه يعتبرها كذلك، وأيضا، كمعرفة مجردة، وكمعرفة غير مباشرة. وبالتالي فمادامت هي معرفة مجردة وغير مباشرة، فإن المعرفة بالعقل لا تمكنها من إدراك الحرية الحقيقية للحكيم.
 
ولذلك فإن المعرفة، في رسالة في إصلاح الفهم، هي معرفة أكثر انفصالا عن المعرفة الحدسية عما ستكون عليه في كتاب الإيتيقا. إننا، في كتاب رسالة في إصلاح الفهم، مهددون دائما بالوقوع ثانية في نظرية انفعالية الذهن. وهكذا يعلن سبينوزا، في الفقرة 59، أنه يجب “القيام بتجارب” كي نعرف من أي قانون للأشياء الأزلية تتأسس الأشياء الجزئية.
 
أصل أخيرا إلى كتاب الإيتيقا. إنه الكتاب الذي تنتقل فيه تماما المعرفة بالعقل -وهي المعرفة التي كانت تبدو في الأعمال السابقة مترددة بين المعرفة التجريبية (أي المعرفة الخيالية والحسية، في نهاية المطاف) وبين المعرفة الحدسية- إلى جانب الحقيقة، وهو أمر لا ينفصل، بالنسبة لسبينوزا، عن خلاص بواسطة الحقيقة، أي عن خلاص النفس بواسطة الحقيقة.
 
يعيد تعليق القضية 40 من الكتاب الثاني إذن، ومرة أخرى، هذا التمييز بين أجناس المعرفة، ويتناولها كما يلي. لدينا هذه المرة ثلاثة أجناس من المعرفة:
 
1) معرفة الجنس الأول، المسماة رأي ومخيلة، هي معرفة لم يتم تحديدها بطبيعتها، وإنما تم تحديدها بأصلها. وهي تنطوي على الإدراكات والمعاني العامة المستقاة، من جهة، من المواضيع الفردية المحسوسة، ومن جهة أخرى من العلامات.
 
أثير انتباهكم في هذا الدرس، إلى أننا اليوم نميل إلى إقامة تقابل بين المعرفة بواسطة العلامات والمعرفة الحسية، التي تبدو لنا، على العكس من ذلك، معرفة بلا واسطة ومعرفة مباشرة.
 
إن الأمر على العكس من ذلك بالنسبة لسبينوزا: فهاتان المعرفتان تشكلان معرفة واحدة. لأن الأجسام الخارجية -كما سنفهم ذلك جيدا فيما بعد- ليست أبدا أجساما معلومة بكيفية مباشرة، وإنما هي معلومة بواسطة الفعل الآتي والجزئي الذي يقع على جسمنا. وبالتالي، فالمعرفة الحسية هي، بكيفية ما، معرفة بواسطة العلامات.
 
هناك إذن أصلان اثنان لهذه المعرفة. إنها تتولد، كما يقول ذلك سبينوزا، من الأشياء الجزئية* ومن العلامات*. غير أن المعرفة الناتجة عن الأشياء الجزئية* هي معرفة مماثلة تماما للمعرفة الناتجة عن العلامات*. تسمى هاته المعرفة معرفة الجنس الأول، باعتبار خاصيتها الأولى، والتلقائية. فبها نبدأ. وهي تسمى رأيا، باعتبار خاصيتها المتغيرة. وهي تسمى خيالا، باعتبار طبيعتها. لأنها بطبيعتها هي معرفة مبتورة وغامضة. فالصور معطاة دون سببها، كاستنتاجات مفصولة عن مقدماتها. وهي تتابع بدون نظام، وهذا الحدث -كون الصور والإحساسات تتابع بدون نظام، دون أن أعرف منبعها، ودون أن أتمكن من استخلاصها من أي شيء- هو الذي سيكون أصلا لمعنى الجواز. إن هذا المعنى، كما تعرفون، هو من أكثر المعاني، بالنسبة لسبينوزا، هدما للذهن. فمن معرفة الجنس الأول تتولد الافترانات الاعتباطية، وفكرة صدفة الالتقاءات، التي حسبها، يعتقد، بالفعل، أغلب الناس.
 
ذلك هو الجنس الأول من المعرفة، إنه جنس الخطإ. وبصدد هاته النقطة ليس هناك، بالتالي، أي تغيير منذ الرسالة القصيرة.
 
2) غير أن الجنس الثاني هو الجنس الذي ستتغير معه الأشياء. يسمي سبينوزا عقلا أو معرفة الجنس الثاني المعرفة التي تعمل “بواسطة المعاني المشتركة والأفكار المطابقة”. لقد سبق أن قلت لكم كلمة بصدد الأفكار المطابقة. وسأحدثكم في لحظة عن المعاني المشتركة. غير أن الأمر الأكثر أهمية، هو أنه في الوقت الذي كانت فيه المعرفة بواسطة العقل، في رسالة في إصلاح الفهم، يقال عنها أنها تعمل بدون خطر الوقوع في خطإ، ولكنها تعمل أيضا بدون فكرة مطابقة، أصبحت الأفكار المطابقة التي كانت، في رسالة في إصلاح الفهم، للعلم الحدسي، من ضمن معرفة الجنس الثاني، أي ضمن المعرفة بالعقل.
 
وهذه المعرفة حقة بالضرورة، تقول القضية 41، في حين أن معرفة الجنس الأول هي وحدها علة البطلان. لكن ذلك ليس أمرا جديدا.
 
3) وعلاوة على هذين الجنسين من المعرفة، يضيف سبينوزا في النص الذي نتحدث عنه، أن هناك أيضا جنسا ثالثا، سنسميه بالعلم الحدسي.
 
وأثير انتباهكم هنا إلى أن هذه الجملة نفسها “هناك أيضا جنس ثالث” تكتسي أهمية قصوى. ففي الوقت الذي لم يتعلق الأمر -في كل النصوص التي درسنا- بإضافة جنس آخر، كزيادة، يتعلق الأمر هنا بأن الجنس الثالث هو الجنس الوحيد الذي ي الوحيد الذي يستحق اسم المعرفة.
 
والسبب في ذلك هو كون الجنسين الأولين للمعرفة قد كانا بدون قيمة، وكان الجنس الثالث هو الذي كان يؤسس حقيقة المعرفة الحقيقية، أي معرفة الخلاص هنا، يقول لنا سبينوزا: علاوة على هذين الجنسين من المعرفة، هناك جنس ثالث.
 
وانطلاقا من هاته الصيغة نفسها، نشعر أن هاته المعرفة لم تعد، كما هو الأمر في الرسالة القصيرة، وكما في رسالة في إصلاح الفهم، مقابلة للمعرفة بالعقل. لم يعد لها امتياز إدراك الحقيقة والخلاص. بل إننا سنرى أنه غالبا ما سيكون من الصعب الآن تمييزها عن معرفة الجنس الثاني. إن المشكل في كتاب الإيتيقا، هو مشكل الاختلاف بين معرفة الجنس الثاني ومعرفة الجنس الثالث، في حين أنه من البديهي أن التمييز قد كان، في رسالة في إصلاح الفهم، وفي الرسالة القصيرة، تمييزا واضحا، ولم ين يطرح مشكلا.
 
وهكذا، ومن أجل فهم كم هو صعب هذا التمييز، لنواصل قراءتنا. ستعلن القضيتان 41 و42 من الكتاب الثاني للإيتيقا، أن معرفة الجنس الثاني والثالث هي معرفة حقيقية بالضرورة. أركز على الأمر التالي، وهو كون الفعل على صيغة المفرد: “هي حقيقية بالضرورة”. إنها تُعلمنا، يقول أيضا سبينوزا، تمييز الحق عن الباطل.
 
يتم هنا إذن الجمع بين معرفة الجنس الثاني ومعرفة الجنس الثالث، وأعيد، بأن المشكل هو فهم ما هو الاختلاف القائم بينهما. ولم تكن، مع ذلك، تلك هي المسألة التي كنت أود معالجتها اليوم. ذلك أن الأمر الذي كان علينا إبرازه هو تغير مرتبة المعرفة العقلية عند سبينوزا.
 
لكن يبدو وكأن العقلانية المقالية لم تكن عند سبينوزا نقطة انطلاق، وإنما كانت نقطة وصول. يحدث كل شيء (وقد هدف هذان الدرسان إلى إثبات ذلك قبل كل شيء) وكأن سبينوزا قد انطلق من حدس محايثي ما، حدس طبيعي وواحدي، وكأنه لم يعمل على رفع توجهه الرياضي إلى مستوى هذا الحدس إلا تدريجيا. وقد سمح له ذلك، أعيد، من الانتقال من توجه طبيعي صوفي ودينامي إلى توجه طبيعي رياضي بشكل خالص. لا أريد الادعاء مع ذلك أن معرفة الجنس الثالث هي معرفة موجودة في كتاب الإيتيقا كبقايا للماضي. إنها تحتفظ برتبة خاصة. لكن الأمر الأكيد هو أن عرض الرسالة القصيرة يقدمها كمعرفة مستقلة عن المعرفة بواسطة العقل، في حين أنها، في كتاب الإيتيقا، تتعلق بها وتقتصر على تتويجها. ربما أنه ما كان لها أن تتمتع بمعنى بدونها. ومن ثمة، فهناك بالتأكيد تطور في فكر سبينوزا وتقدم للمعرفة بواسطة العقل.
 
ما الأمر -وهو السؤال الأخير الذي سأطرحه هذا المساء- إذن الذي سمح لسبينوزا بجعل المعرفة بواسطة العقل تمر إلى جانب الحقيقة الخالصة، بل وإلى جانب الخلاص؟ إنه حسب اعتقادي، بلورة نظرية المعاني المشتركة، واختلافها الجذري عن الأفكار العامة.
 
ولو أننا نظرنا، بالفعل، في نصوص الرسالة القصيرة ونصوص رسالة في إصلاح الفهم، للاحظنا أن الفرق بين المعاني المشتركة والأفكار العامة لم يكن أبدا فرقا واضحا، في حين أن هذا الفرق في كتاب الإيتيقا هو فرق واضح للغاية.
 
وأنتم تعرفون أن كلمة المعنى المشترك هي كلمة مأخوذة من أقليدس. إنها تشير إلى المسلمات والمبادئ العقلية. غير أن سبينوزا، في هاته الكتابات الأولى، كان يميز بشكل سيء بين هذه المعاني المشتركة والأفكار العامة. لقد كان يأبه بالخصوص بالطابع “المقالي” للاستدلال، الذي كان يجعله مقابلا للطابع “المباشر” للحدس.
 
إن القطيعة الحقيقية، في رسالة في إصلاح الفهم وفي الرسالة القصيرة، هي إذن قطيعة بين ما هو مباشر وما هو مقالي. إن الأمر الحقيقي، هو الأمر المباشر، والأمر الحق هو الأمر الحاضر حقيقة أمام الذهن، هو الوجود الحاضر أمام الذهن. وما هو مقالي، مهما كانت طريقة هاته المقالية، إن أمكن القول، يمكنه أن يكون حقا، ويمكنه أن يكن يقينا، لكنه مهما كان الأمر هو يقين غير مطابق، وبالتالي، فإن ذلك لا يقود إلى الخلاص.
 
لكن شيئا فشيئا أخذ الانفصال، أو القطيعة، يندس في مكان آخر. إنه يتموضع بين الأفكار العامة والمعاني المشتركة. لقد تم رد المعاني الكلية، والأفكار العامة إلى معرفة الجنس الأول، إلى الرأي وإلى المخيلة. لا يهم إن كانت هاته الأفكار عامة. فهي تحصل للجسم بشكل انفعالي شأنها في ذلك شأن الإحساسات، وهي اعتباطية مثلها، وجائزة مثلها. لا لأن قوانين الطبيعة، حسب سبينوزا، هي قوانين الجواز، لأنه لا وجود لشيء جائز. لكنها تبدو جائزة في حدود كونها مكتشفة بكيفية استقرائية. في حدود كوني أستخلص قانونا انطلاقا من عدد معين من الحالات، وفي حدود كوني أعمم، وأستخلص فكرة صنف امطلاقا من عدد معين من الموجودات التي ألاحظها، وفي هاته الحالة لا أعمل سوى على تعميم حدث ما. إن ذهني منفعل، ولا أدرك الحقيقة.
 
لكن سبينوزا سيحقق، بصدد هاته النقطة، تجديدا كليا. وبالفعل، فقد كان من التقليدي، في الفلسفة القروسطوية وفي الفلسفة الأرسطية، جعل الفعل الذي بواسطته يجرد الذهن المفهوم، ويعممه ويشكله، فعلا مقابلا للمحسوس. فالموضع الذي كان يرى فيه أرسطو نشاطا للذهن، لا يرى فيه سبينوزا إلا انفعالا، ولُبْسَ الانطباعات، واختلاط البصمات الدماغية، وعدم القدرة على التفكير في كل غنى الجزئي والعالم.
 
إن الأفكار العامة تُفَسَّرُ باللبس الخالص. فالجسم الإنساني محدود، وهو متناه. ولا يمكنه، بالتالي، أن يشكل في الآن الواحد إلا عددا معينا من الصور. وإذا تم تجاوز هذا العدد، فإن هاته الصور تختلط فيما بينها، وتتخيل النفسُ بدون تمييز. وهكذا تتشكل هاته الأفكار العامة التي هي، مثلا، فكرة الإنسان، أو الحصان أو الكلب.
 
وأيضا، إن تغير المحسوس، عند أرسطو يقابله ثبات المفاهيم. لا يرى سبينوزا في الأفكار العامة، على العكس من ذلك، إلا مجرد عادات، وبالتالي فهي عادات تتنوع من إنسان إلى إنسان. ومن ثمة، فالأفكار العامة، بالمعنى الأرسطي، والمفاهيم المتعالية، كما يقول سبينوزا، مثل “موجود”، و”شيء”، إلخ، هي أفكار ومفاهيم مرفوضة رفضا مطلقا.
 
غير أن سبينوزا يقابل هاته المعاني العامة، المرتبطة بمعرفة الجنس الأول، بما يسميه بالمعاني المشتركة هنا، يتم التفكير في الأجسام داخل الأمر المشترك فيما بينها، وليس داخل خاصية مشتركة قد تكون مجردة من الأجسام، وإنما داخل أمر “مشترك” يكون، على العكس من ذلك، معطى لنا قبل الأجسام، داخل اشتراك يسبق وجودُه وجودَ الأجسام. يتم التفكير في الأجسام، بالفعل، انطلاقا من صفة الامتداد، أي انطلاقا من ماهيتها الهندسية. وأيضا، المعاني المشتركة هي مشتركة بين كل الأذهان، إنها فطرية.
 
إن المعاني المشتركة هي إذن المعاني التي تنطلق، من جهة، من الصفة كي تصل إلى الحال، والتي تكون، من جهة أخرى، مشتركة بين كل الأذهان. إنها تسمح إذن بالتفكير، في الآن الواحد، وفق الوجود، مادام أن الامتداد هو أساسا صفة لله، وتسمح بالتفكير بواسطة فعل حر ومؤسس للفكر.
 
وهاته المعاني المشتركة هي بذلك الأسس الحقيقية لاستدلالنا. وتعليق القضية 40 يعلن ذلك. وهو يقول إن المعاني المشتركة هي مبادئ استدلالنا.
 
إذن، فالمعاني المشتركة التي هي مبادئ الاستنباط باستقلال عن التجربة، ومن هناك باستقلال عن صدفة الالتقاءات، والصدف، والكلمات، والعلامات، تسمح للفكر بتأسيس ماهية بماهية أخرى، دون أن تستقبل أبدا شيئا من الخارج، وتسمح ببلورة القوة الطبيعية للذهن. إنها ليست في أية درجة من الدرجات أجناسا. إنها تعبر عن طبيعة النفس ذاتها. وهي تسمح باكتشاف كل الأشياء انطلاقا من مبادئها الحقيقية.
 
وانطلاقا من ذلك، يبدو أن سبينوزا اعتقد منح العقل ذاته هاته القوة المتمثلة في الاتصال المطلق مع الوجود التي كان يطلبها أولا من الحدس وحده. وهذا الاتصال، كما نعرف ذلك، كان سبينوزا دائم البحث عنه. لقد تصوره أولا كاتصال انفعالي، وهو أمر لا يدعو إلى الشك، مادام أن الرسالة القصيرة، كما ذَكَّرت بذلك قبل قليل، تتصور المعرفة كمعرفة انفعالية، وتقول لنا إن الشيء يؤثر فينا. والسؤال الوحيد عندئذ هو معرفة ما إذا كان الشيء يؤثر فينا بكامله، أو ما إذا كان يؤثر فينا بشكل جزئي. وهذا الاتصال، بحث عنه سبينوزا، عبثا، بعد ذلك ومرة أخرى، في رسالة في إصلاح الفهم. والآن، يدرك أنه لم يعد من الممكن العثور عنه في حدس يكون فيه الذهن منفعلا، وإنما لا يمكن العثور عنه إلا داخل فعل ذهن، لا يكون هو نفسه إلا حالا ما للفكر. وذلك أمر ممكن، لأن المنهج الرياضي، كما قلت لكم ذلك، يبين أن المعاني يمكنها أن تتولد بعضها عن بعض، وأيضا لأننا نعرف أن الفكر، شأنه شأن الامتداد، صفة ما لجوهر فريد. بحيث أنه في الطابع الفاعل والمستقل أساسا للفكر سيُعَبِّرُ الجوهر تحديدا عن ذاته. إننا نبحث دائما، في ذلك، عن تحقيق وحدة مع الوجود. غير أن هاته الوحدة مع الوجود، التي كنا قد تصورناها، أولا، بكيفية انفعالية، ندرك أنه لا يمكنها أن توجد حقيقة إلا إذا كنا فاعلين. فالوجود ذاته فاعل، ولن نستطيع التوحد معه إلا إذا استطعنا أن نحقق بصدد ذواتنا ما يحققه هو بصدد ذاته، أو، إذا -وهو أمر أكثر صوابا- تركنا الوجود يفكر فينا.
 
من الآن نعرف، فعلا، أن المعرفة يمكنها أن تكون فاعلة ومقالية دون أن تكون مع ذلك ذاتية، كما كنا نخشى ذلك، وأنه يمكنها أن تتبع بشكل كامل نظام الوجود، الذي هو، في الآن الواحد، كما رأينا ذلك، نظام الأشياء ونظام العقل.
 
ذلك هو السبب الذي من أجله يتبلور الكتاب الأول من الإيتيقا بكامله انطلاقا من فكرة الموجود الأول، ومن الموجود الذي هو علة ذاته، ومن الجوهر الذي هو علة ذاته. سندرس الآن هذا الكتاب الأول. لكن الأمر الذي كنت أود أن أبينه لكم، هو كون هذا الكتاب يترتب هو نفسه على تركيب تحقق باكرا -مادام أنه تحقق في حوالي 1661- بين مصدرين كبيرين: التوجه الرياضي من جهة، والتوجه الطبيعي من جهة أخرى. هل هذا التركيب بين الحدس الطبيعي والاستدلال الرياضي، الذي عنه نتج الكتاب الأول للإيتيقا، سيسمح للنسق بالذهاب إلى أقصى مدى؟ إن تلك قصة أخرى؛ وستبرز مشاكل أخرى.

المراجع

مدارات فلسفية

التصانيف

أبحاث