الكاتبة سحر سليمان_ طقوس المرأة
صباحاً استيقظت على صوت عصفوري الرائع ...
هذا الأمير الصغير المغرور، بمعطفه الملون . وحركاته الرعناء وأجنحته الصغيرة القزحية، رمشت بأهدابي فتداخلت الصور، وظل صوت الكناري يملأ كل ما حولي، ثم تمطيت وأنا أرفع رأسي وجذعي عالياً أريد أن أطير مثل فراشة باتجاه الضوء والفرات، كي أترك فرصة للنوم، يتسلل من مسامي وأعصابي كلص فاجأه نور الصباح فأسرع بالهرب خوف افتضاح أمره.
- صباح الخير يا سفير العصافير
صحت بالعصفور، فتحرك داخل القفص بصخب، وكأنه يرد على تحيتي الصباحية بحركاته الاعتباطية تلك، دون أن يكف عن تغريده، أو ينتظر يقظتي الكاملة .
- صباح الخير يا أشجار السرو والحور والكينا .
صحت بالأشجار التي تطل بقاماتها السامقة من نافذة غرفتي في الطابق الثاني حيث يمتد أمامي منظر المنتزه الذي كان يوماً مقبرة موحشة فحولته البلدية إلى وضعه الحالي.
- صباح الخير أيها الموتى الذين رحلوا وظلت رائحتهم تسكن التراب والشجر .
صحت من مكاني وأنا أحاول أن أركز ما تبعثر مني والملم أجزائي المتباعدة بعد موتنا الليلي الذي نسميه النوم .
- صباح الخير يا وجهي العاري الحزين .
همست لنفسي، ثم مددت رجلي الحافية اتلمس بأصابعي وبر البساط الصوفي فأغرق في متعة تتسرب عبر أصابعي إلى مفرق رأسي، متعة عاشقة لا يدرك لغة عشقها غير الأصابع.
أصابع امرأة صغيرة ومحاصرة بالحزن والفراغ والخيبة في قرية كبيرة، تستريح على خاصرة الفرات في الجزيرة .
هذا الفرات الذي كان يقول عنه أبي بحزن وعشق :
- الفرات ...؟
يهز رأسه ريثما يرشف من قهوته .. ثم يتابع :
- كان حياتنا ووجعنا، يعطينا الحياة والمواسم بيد، ويسرق أطفالنا وأفراحنا باليد الاخرى، .. كان جبارا وطاغية .
وتقول أمي:
- هذا النهر مثل الرجال، خائن وغدار.
ومع هذا كنت أجد هذا النهر قريباً من قلبي، فهو الوحيد القادر على فك أسرار جسدي حين أرميه عاريا في أحضانه، فيدس أصابعه الطرية المرحة في كل جزء منه، وكأنه عاشق مفتون، لا سفاح مشهور.
- كلانا مهزوم يا فرات . أنت هزمتك الشيخوخة والسدود وأنا هزمتني سنوات الحزن والخيبة .
قلت ثم تحركت، وقفت وسط الغرفة، كان كل شيء هادئاً،
فواجهتني بقايا طعام العشاء التي تركناها، والصحون التي لم تغسل بعد، فمددت يدي إلى ( ركوة ) القهوة، غسلتها ثم ملاتها وانصرفت إلى طقسي الجديد، أعداد القهوة أشعلت نار الغاز فشعت بزرقتها الصافية، وتركت الركوة فوقها ريثما أعددت الصينية وفنجانين نظيفين وفارغين . ترتفع قامة كل منهما في الصينية بترفع وكأنهما جنرالان يتفاوضان في ساحة خالية في غبش الفجر ومع أنتهائي من أعداد كل شيء حملت الركوة بيد وباليد الأخرى الصينية، ثم توجهت إلى الشرفة . وضعت حلمي بعد أن تركت فرصة للقهوة، لتصفو خلال دقائق . غسلت وجهي، ورتبت شعري على عجل حتى لا أفسد خلوتي مع عزيزتي القهوة، وسرقت من حقيبتي علبة الدخان والقداحة وعدت إلى الشرفة. كانت منازل الحارة تمتد أمامي.
حين تحركت يدي ترفع الركوة، وتدلق القهوة الحارة في الفنجان الأول، فالثاني، فمن عادتي أن أسكب في فنجانين، واحد لي والآخر أزعمه لرجل يشاركني قهوة الصباح .
- تفضل يا عزيزي
قلت وأنا أضع الفنجان الأول جانباً، ثم تناولت فنجاني أرشف منه بلذة ومتعة ودخان لفافتي يتصاعد في حلقات زرقاء يشكل تاجا حول رأسي.
- ما رأيك بقليل من القهوة يا أميري المغرور.
خاطبت عصفوري ضاحكة . ثم سكبت قليلاً منها في أصيص صبارتي الشوكية وأنا أشعر بخدر ممتع
بعد الفنجان الأول، امتدت أصابعي تقطف زهرة حمراء وتزرعها في شعري بينما كانت القهوة الباردة في الفنجان الآخر تنتظر أصابع صاحبها الذي لن يحضر، ذاك الذي قال لي يوماً :
- لا يستسلم إلا اثنان، العاشق أو المغلوب، وأنا عاشق.
وتابعت ارتشاف قهوتي وقد بدأت الحركة تدب في البيت، طالعني وجه أمي، ثم أختي و...و...شعرت بالحصار فلبست قناعي المعتاد بعد أن أطفات لفا فتي وشربت آخر ما في قعر الفنجان حتى المرارة .
قال أخي:
- ما رأيك لو شاركتنا فطور اليوم ..؟
- شكراً . شربت القهوة
قالت أمي :
- هذه البنت مجنونة . قهوة ودخان وكتب أكلها وشربها
ولم أعقب، انطلقت برشاقة فمدرستي بعيدة، وأنا احتاج إلى مدة طويلة للوصول إليها، فهي تجاوز النهر من الطرف الآخر، حيث الحياة لها طعم آخر أيضاً.
في الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً تماماً انتهى الدوام اليومي، وقد اخترت في هذا اليوم أن أعود وحيدة منفردة أباري ضفة النهر لا لسبب واضح، وإنما رغبة نبعت في داخلي فجأة، رغبة عرشت مثل دوالي اللبلاب، ترتفع عالياً .
وقفت بمهابة أمام النهر، لأن عيني تنظران إلى ما تبقى منه، هذا العجوز الباقي الخالد يتدفق بعسر، كأنما يشكو من أمراض غير وافدة .
- يا فرات ...... يافرات ...
صحت مثل طير خائف يريد أن يحتمي بأي ساتر خوفا من بنادق الصيادين، ثم تابعت المسير والجوع بدأ يدق جدران معدتي الخاوية التي لا تعرف الطعام قبل الظهر.
تابعت مسيري بإصرار وعناد، رأيت أمامي سلحفاة تختبيء في درعها، حملتها بين يدي ومضيت، ولم أفق إلا وماء النهر بدأ يبلل قدمي، ثم ساقي، فارتعشت ثم جمدت، رميت بالسلحفاة في الماء فغاصت، ثم أفردت ذراعي ورفعت عيني حدقت بزرقة السماء الصافية فهالني عمقها، فتصلبت مثل شجرة صفصاف عارية ووحيدة، بينما كانت رفوف العصافير تملا الفضاء بزقزقاتها.
المراجع
syrianstory.com
التصانيف
الادب الآداب