المطلوب اليوم العبور نحو «الدولة التنموية». هي الدولة التي تستمدّ شرعيتها من حرصها على إطلاق عجلة تنمية شاملة متكاملة تؤمن أكبر قدر ممكن من الاستقلالية السياسية والاقتصادية عن الخارج، من خلال لعب دور المخطّط والموجّه والمحفّز والمنسّق والمؤطّر والمنظّم للمبادرات الخاصة، وتأمين توزيع عادل للدخل الوطني وخدمات اجتماعية أساسية. بصفتها هذه، لا يمكن أن تكون الدولة التنموية إلا دولة المواطنة المدنية.
كما أن قيام الدولة التنموية يشكل شرطاً ضرورياً للوصول إلى النموذج الاقتصادي الجديد، فإن قيامها يشكل أيضاً شرطاً ضرورياً للنجاح في تنفيذ الخطة الإنقاذية المالية فهل نضجت الظروف التي تتيح قيام مثل هذه الدولة؟
الوقائع التاريخية تكشف بأن الظروف الخارجية شكّلت، منذ ما قبل الاستقلال، العامل الحاسم في تكوين المحطات الرئيسية لتطور لبنان السياسي والاقتصادي والوجهة التي كان يأخذها هذا التطور بين محطة وأخرى. ونقصد بالظروف الخارجية تحديداً: نوع العلاقات السياسية والاقتصادية التي كانت تقوم بين المنطقة العربية المحيطة بلبنان والبلدان الغربية الرأسمالية المتقدمة، وداخل كل من هذين الطرفين. ونكتفي بالقول، إن الاجتماع اللبناني حافظ، عبر جميع المحطات والأزمات التي مر بها، ولا سيما على الصعيد السياسي، ومنذ أواسط القرن التاسع عشر إلى الآن، على طابعه الطائفي سياسياً، والريعي غير المنتج اقتصادياً. إعادة إنتاج هذا الطابع، ارتبطت ارتباطاً وثيقاً باستمرار لبنان في لعب دور وظيفي إقليمي حدّده له الغرب الرأسمالي، كمرتكز لإحكام نفوذه السياسي والاقتصادي على الداخل العربي.
تفاعل هذه المرتكزات الثلاثة (الدور الوظيفي الإقليمي، الطائفية السياسية والاقتصاد الريعي غير المنتج) أفقدت لبنان القدرة على توليد قوّة ذاتية دافعة لتغيير بنيوي في انتظامه السياسي والاقتصادي، ما عرّضه لأزمات حادة (1958، 1975، 2005) جاءت متلازمة مع متغيرات في التوازنات الدولية الإقليمية. وانحصرت هذه الأزمات، بشكل رئيسي في النطاق السياسي فيما كان محورها، دائماً، الصراع بين مراكز القوى السياسية الطائفية على المواقع في السلطة تزامناً مع صراع على موقع لبنان في الاصطفافات الدولية والإقليمية.
ما استجدّ هو أن الأزمة المالية التي بدأت منذ أواخر التسعينيات، تحوّلت في الوقت الحاضر إلى أزمة اقتصادية عامة، في ظل أزمة سياسية أخذت تعتمل منذ نهاية الوصاية السورية في عام 2005. لذا ثمة ضرورة للإجابة على سؤال آخر: هل الاجتماع اللبناني أصبح يتمتع بقوة ذاتية دافعة لقيام مثل هذه الدولة؟
هذا يتطلب في الحالة اللبنانية، من حيث المبدأ، تشكّل كتلة اجتماعية وازنة عابرة للمناطق والطوائف، تجمعها المصلحة في قيام الدولة المنشودة، وتحظى بقيادة سياسية فاعلة ذات كفاءة، قادرة على الوصول بها إلى هذا الهدف. وهذا ما لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها وإنما يأتي نتيجة مسار طويل نسبياً وشاقّ لا يمكن اختصاره إلا بتوافر ظروف خارجية مؤاتية.
حتى انتفاضة17 تشرين الأول، لم تكن تتوافر فيها هذه الشروط لقيام الدولة التنموية. فالنظام السياسي الطائفي بعد اتفاق الطائف أصبح متعدّد الرؤوس. كما أن الطائفية زادت توغلاً في لبنان وصار لكل طائفة مؤسساتها الخاصة في هذه المجالات. وصار التمثيل الطائفي هو الأساس في المراتب القيادية للنقابات والتجمعات المهنية والجمعيات على المستوى الوطني. ورغم أن لبنان فقد دوره الوظيفي كوسيط في العلاقات الاقتصادية بين الداخل العربي والغرب الرأسمالي فإنه في المقابل حافظ على دوره الوظيفي الجيوسياسي. لا بل يمكن القول بأن دوره كساحة للصراعات المباشرة وغير المباشرة بين المحاور الدولية الإقليمية أصبح أكثر أهمية بعد صعود المقاومة الإسلامية المتمثّلة بحزب الله.
في هذا السياق لم تواجه الأوليغارشية سوى بعض التحركات الاحتجاجية قامت بها مجموعات نخبوية وتناولت قضايا، هي في معظم الأحيان، قطاعية أو فئوية، لم تؤدّ إلى نتائج ملموسة على الأرض.
وجاءت انتفاضة 17 تشرين الأول، مختلفة عن تلك الاحتجاجات لناحية الأعداد الكبيرة للذين نزلوا، في الأيام الأولى، إلى الساحات، من مختلف المناطق والطوائف والفئات الاجتماعية. غير أنها بقيت، لاختلاف، إن لم نقل تناقض مصالح وتوجهات مكوّناتها الاجتماعية، عاجزة عن تحريك كتلة اجتماعية متماسكة ووازنة، تحمل برنامجاً واضح المعالم للتغيير الفعلي على الصعيدين السياسي والاقتصادي الاجتماعي، بما يقتضيه ذلك من اعتماد الأدوات السياسية والتنظيمية التي تتيح إخراج هذا البرنامج إلى حيّز الواقع. لذلك لم تجد المجموعات الكثيرة المكوّنة للانتفاضة ما يوحّدها سوى شعار إسقاط الطبقة السياسية «الفاسدة» وإقامة دولة القانون والمؤسسات، عبر إجراء انتخابات نيابية مبكرة «نزيهة»، تجريها «حكومة تكنوقراط مستقلة» عليها أن تحظى بثقة مجلس نواب ينخره الفساد. كأن المشكلة الرئيسية التي يعاني منها لبنان في الوقت الحاضر هي «فساد» طبقته السياسية فحسب، وليست فساد نظامه الطائفي السياسي والاقتصادي ككل.
لذا أخذت الانتفاضة تفقد شيئاً فشيئاً، زخمها وتخرج من دائرة التأثير المباشر على مجريات الأمور. وأخذت القوى السياسية تستعيد، شيئاً فشيئاً، زمام الأمور داخل طوائفها. ويبدو هذا الأمر واضحاً في استغلالها لتداعيات وباء «كورونا». ومع ذلك كان للانتفاضة الفضل في العمل على تعميق أزمة النظام بشقّيه الاقتصادي والسياسي. فظهر إلى العلن إفلاسه المالي والمصرفي، وأصبحت الأزمة المعيشية تشكل تهديداً خطيراً للاستقرار الاجتماعي.
وعلى الصعيد السياسي انفرط عقد التسوية التي جاءت بالعماد عون إلى رئاسة الجمهورية. وأزيحت التوافقية والميثاقية جانباً مع تشكيل الحكومة الحالية. وصار كل طرف من الأطراف السياسية يتهرّب من مسؤوليته عن الأوضاع التي وصلنا إليها، ويلقيها على الآخر. والحال هو نفسه في ما يتعلق بأطراف الأوليغارشية: القوى السياسية، المصارف، حاكم مصرف لبنان وأصحاب الاحتكارات.
في المحصلة، لا يبدو أن هنالك إمكانية لقيام الدولة التنموية الكفيلة بإجراء عملية التغيير الاقتصادي الاجتماعي المنشود في لبنان من دون زوال الشق الثاني من الدور الوظيفي الإقليمي لهذا البلد، أي دوره على الصعيد الجيوسياسي. وهذا يرتبط بانتهاء الصراعات في المنطقة وعليها، وتمكنها بالتالي، من تقرير مصيرها بنفسها.
إلى ذلك الحين ماذا ينتظرنا في لبنان؟
في المدى المنظور، لا يبدو أن أيّاً من القوى السياسية الفاعلة، سواء الموجود منها حالياً في الحكم أو خارجه، تحمل مشروعاً للخروج من هذه الأزمة، من غير إطار النظام السياسي الطائفي. وفي ما يتعلق بالأزمة الاقتصادية الاجتماعية تحديداً، فإن جميع الأطراف تقريباً، لا ترى مخرجاً منها، خارج إطار الليبرالية اللبنانية المعهودة (مع أن الكثير من الإجراءات التي اتُّخذت، منذ عام 1993، وخصوصاً المتخذ أخيراً في المجال المصرفي، تشكل خروجاً صارخاً منه). وجميعها لا تجد مفرّاً من الاعتماد على التمويل الخارجي وإعلان استعدادها للتقيّد بتوصيات / وصفات مؤسّسات التمويل الدولية. مع تحفّظ البعض منها، أو معارضته للمندرجات التي قد تتسبب بأذى مباشر لقواعده الشعبية.
في هذا السياق، تقوم حكومة الرئيس دياب بإعداد خطة «إنقاذ اقتصادي». ويبدو من «المسودة»، أنها تسعى لإقامة نوعاً من التوازن بين الخارج والداخل في توزيع الأكلاف المترتبة على الإنقاذ. فيكون مطلوباً من المساعدات الخارجية أن تموّل مشاريع البنى التحتية (سيدر) والعجز في ميزان المدفوعات (صندوق النقد الدولي). أما الداخل فمطلوب منه أن يتحمل أعباء معالجة الخسائر في الموازنة العامة وموازنات مصرف لبنان والمصارف التجارية.
كما يبدو من توزيع الأعباء المترتبة على الداخل، أن الحكومة تحاول تجنّب تحميل الفئات الفقيرة وذوي الدخل المحدود ضرائب غير مباشرة ثقيلة. وفي الوقت نفسه تبدي بعض التردّد لناحية الالتزام الكامل بالبرنامج الإصلاحي النيو ليبرالي لمؤسّسات التمويل الدولية.
من الواضح أن الحكومة أعدّت هذه الخطّة على عجل. على أساس أن ما تضمّنته من توجهات عامة، يكفي لاستعادة ثقة الدائنين ومؤسسات التمويل الدولية وصندوق النقد الدولي. لم تذكر فيها الإجراءات التي تنوي الحكومة اتخاذها من أجل التحول الى الاقتصاد المنتج. ولم يأت توزيع الخسائر على قدر مسؤولية كل طرف عن الأزمة. كذلك، لم تأخذ في الاعتبار الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية (بطالة ، فقر…) للأرقام والنسب التي تتضمنها. هكذا طغى الطابع المحاسبي على الخطة إلى حد أنها أغفلت الإشارة إلى أن معظم الودائع بالدولار لم يعد لها وجود فعلي. وشطبت نصف مستحقات المودعين «الكبار» من دون تمييز بين فئاتهم المختلفة لجهة حجم الفوائد المحصّلة أو المساهمة الشخصية في الانهيار المالي.
من أبرز بنود الخطة التي تواجه معارضة واسعة النطاق، ولأسباب مختلفة، الهيركات على الودائع. والمعارضة الشرسة للخطة تأتي من قبل الأوليغارشية المالية والسياسية بمختلف أطرافها، معتبرة أن الحكومة، بتعرّضها للودائع والمصارف، تقوم، ويا للعار! بالمسّ بقدس الأقداس المتمثّل بالحريّة الاقتصادية، وتعمل على تغيير الهوية الاقتصادية التي فُطر عليها لبنان. وتطالب بالمزيد من الإجراءات النيوليبرالية التي تحفّز الجهات المموّلة الخارجية وخصوصاً صندوق النقد الدولي، على المزيد من الكرم في تقديم المساعدة لنا: بيع أملاك الدولة، خصخصة المرافق العامة تحت مسمى التشركة، «إصلاح» إداري يحجّم عدد الموظفين والمتعاقدين ويخفّض الأجور ومعاشات التعاقد ويخصخص التأمينات / التقديمات الاجتماعية...
من هنا الى أين؟
الجواب يتحدّد في ضوء ما تريد الدول التي تقف وراء مؤسّسات التمويل الدولية، أن يكون عليه الوضع السياسي في لبنان في المدى المنظور. بهذا الخصوص، لا يسع المرء إلا أن يبقى في دائرة الكلام على احتمالات/ سيناريوهات ممكنة.
إذا بقي مدّ لبنان بالمساعدة مشروطاً بتنفيذه لجميع مندرجات البرنامج النيوليبرالي المعهود، بما فيها التي تؤدّي إلى المزيد من الانخفاض في مستويات معيشة معظم الفئات الاجتماعية، التي هبطت أصلاً إلى أكثر من النصف خلال الشهور القليلة الماضية؛ عندها قد ندخل في مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية والفوضى العارمة. وقد نصل، في حال كان لبعض هذه المندرجات أبعاد سياسية، إلى حرب أهلية. لا أحد يعرف طبيعة النظام السياسي والاقتصادي الذي ستأتي به التسويات الدولية والإقليمية. علماً بأن هذين الاحتمالين يبقيان واردين في حال أدى الصراع بين القوى السياسية المحليّة إلى شلل الحكومة الحالية أو استقالتها.
أما إذا أُريد للبنان أن يُحظى ببعض الاستقرار السياسي والاجتماعي، فمن المحتمل أن تبدي الجهات الخارجية المموّلة بعض المرونة في فرض شروطها (سبق أن أبدت مرونة في مؤتمرات باريس المتعاقبة)، ولا سيما تلك التي تتسبب بمزيد من الأذى للفئات الفقيرة وذوي الدخل المحدود. عندها يمكن للحكومة (الحالية أو التي قد تخلفها)، أن تتقدّم بصيغة جديدة للخطة الإنقاذية تراعي، إلى هذا الحد أو ذاك، الحساسيات المختلفة للقوى النافذة، فنرى مثلاً، زيادة في نسب الضرائب على المداخيل العالية والثروات، وحفاظاً على مستوى الضرائب الحالي والرسوم غير المباشرة، وتحجيماً مقبولاً لعدد الموظفين في الإدارات الحكومية ومستوى التقديمات الاجتماعية العائدة لهم. مقابل«تشريك» عدد من مؤسسات القطاع العام وحتى بيع بعض أملاك الدولة. والتغاضي عملياً عن استعادة الأموال المنهوبة، والاكتفاء بمعاقبة بعض صغار «الفاسدين».
كلّ ذلك لا يمكن أن ينتج عنه سوى بعض التوازن في المالية العامة، الذي لا يؤدي، بحد ذاته، إلى نموّ الناتج المحلي وخفض ملموس في المستويات المرتفعة لعجز الحساب الجاري والبطالة والفقر، ما يُبقي احتمال قيام اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق وارداً. هذا ما يستدعي بعض التوسع في برامج «مكافحة» الفقر. وأن تُضمّن الحكومة الخطة الجديدة عدداً من الإجراءات التي من شأنها إعطاء بعض الدفع لقطاعات الإنتاج بما فيها قطاعا الزراعة والصناعة.
وفي انتظار نضوج الظروف الداخلية والخارجية التي تفتح الأفق أمام قيام الدولة التنموية القادرة على قيادة عملية التحول إلى الاقتصاد المنتج والعادل، ومن دون الأخذ في الحسبان ما يمكن أن تجرّه من مستجدات في أوضاع لبنان، المتغيرات الاقتصادية والسياسية التي ستسفر عنها جائحة كورونا على الصعيد الدولي، فمن غير المستبعد، في حال اكتشف مخزون غازي/نفطي يُعتدّ به، أن يتحوّل لبنان إلى نموذج اقتصادي ريعي جديد شبيه بالنموذج الخليجي في ظل نظام سياسي طائفي أيضاً بحلة جديدة.